ملف

ترميم أبنية بيروت التراثية: واجب وطني وإنساني وحضاري
إعداد: جان دارك أبي ياغي

كم كنا نستمتع بالسير بمحاذاة تلك المباني الجميلة، وبتأمل واجهاتها وقناطرها المختبئة خلف عطر الياسمين. مبانٍ من الطراز العثماني وأخرى، من أيام الانتداب الفرنسي، تشكل جزءًا مهمًا من تراث بيروت المعماري، ومن ذاكرتها وتاريخها وهويتها، بعضها فتكت به الحرب، وبعضها اختفى لتقوم مكانه أبنية تجارية، ثم أتت كارثة انفجار 4 آب الماضي لتكمل على ما تبقى من تلك الثروة الوطنية، ومن الإرث المعماري الغني.

ما العمل اليوم؟ هل يستسلم تراث بيروت المعماري الجميل للخراب؟ هل يستغل البعض الوضع الكارثي للقضاء على بيوت يعجز أصحابها عن إعادة ترميمها، فيعمدون إلى شرائها وإقامة العمارات الشاهقة مكانها؟

ثمة العديد من الأسئلة على الرغم من المبادرات الكثيرة، فما هو الواقع حاليًا؟ وما هي حظوظ استعادة بيروت لما فقدته من تراثها المعماري بسبب الانفجار؟

 

الجميزة ومار مخايل نسيج حضري

تاريخيًا، منطقتا الجميزة ومار مخايل هما من المناطق الأولى التي نشأت خارج سور المدينة القديم عندما بدأت بالتمدد والتوسع، ولذلك فهما تحتضنان الكثير من الأبنية التراثية. صمدت المنطقتان أمام الحرب اللبنانية وتمكنتا من الحفاظ على طابعهما القديم في مواجهة زحف العمارة الحديثة في بيروت، الذي أدى إلى تدمير العديد من المباني العتيقة وتقطيع أوصال الكثير من المناطق التاريخية. وعلى عكس ما هي الحال في باقي أنحاء بيروت حيث تنتشر بيوت من الحقبة العثمانية وأخرى من أيام الانتداب بين العمارات الحديثة الشاهقة، نجد في مار مخايل والجميزة نسيجًا حضريًا متكاملًا ظل سليمًا ومتماسكًا إلى أن حصل الانفجار.

انهارت مبان عديدة، وشوّهت الكارثة واجهات المنازل مطيحة بالجدران والأسقف. ولم يتبق من الشرفات المزينة بالحديد المطروق سوى قضبان معوجة، بينما تحولت مصاريع النوافذ الخشبية الملونة الرائعة إلى شظايا قاتلة.

تضم المنطقتان الأبنية العثمانية التي يعود بناؤها إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مثل البيوت المكونة من طابقَين يزين أسقفها القرميد الأحمر. ومبان أخرى تعود إلى حقبة الانتداب الفرنسي ما بين العامين 1920 و1945. صُممت هذه المباني على غرار الطراز المعماري في باريس، لكنها تحمل بعض عناصر العمارة العثمانية، إذ تتكون من ثلاثة أو أربعة طوابق، وكلها متلاصقة مع بعضها، وشرفاتها مزينة بالحديد المطروق.

كانت الأبنية العثمانية الأكثر تأثرًا بالانفجار لأنّها تتضمن ردهة فسيحة وثلاثة أقواس تقسم الواجهة إلى قسمين، وترتكز الواجهة بأكملها على عواميد رخامية دقيقة ورفيعة. أما النوافذ في هذه المباني المليئة بالفراغات فكبيرة، وهي تضفي مظهرًا رائعًا لكنها في الوقت نفسه تجعل المبنى هشًا، لا يتحمل انفجارات بهذه القوة.

في المحصلة، ثمة أبنية مدمرة كليًا، وهذه لا يمكن هدمها وإقامة بناء حديث بمواصفاتٍ قديمة مكانها. أما المدمرة جزئيًا فهناك إجماع ما بين التنظيم المُدني ووزارة الثقافة ونقابة المهندسين ونقابة المقاولين وبلدية بيروت على الإبقاء عليها وترميمها، للحفاظ على الطابع التراثي لبيروت.

 

تراث بيروت العمراني... ذاكرة برسم الترميم

يوضح مدير عام الآثار المهندس المعماري سركيس خوري أنّ المديرية العامة للآثار ليست مسؤولة عن الحفريات الأثرية فقط، وإنّما أيضًا عن الأبنية التاريخية. لذا عملت منذ لحظة وقوع الانفجار على حماية ممتلكاتها، ومن ضمنها المتحف الوطني الذي لحقت الأضرار بهيكله الخارجي.

في اليوم الثاني لانفجار المرفأ، توجه فريق من المديرية العامة للآثار إلى المدينة التاريخية والأحياء التراثية لمعاينة ما لحقها من أضرار، وكان المشهد مروعًا. تولّت المديرية مهمة المسح للأبنية التراثية المتضرّرة بالتعاون مع فريق من قسم الترميم في الجامعة اللبنانية، إذ تطوّع 40 مهندسًا من خبراء الترميم للعمل في هذه المهمة، إضافة إلى لجنة الأبنية التراثية وموظفين من مديرية الآثار ومهندسيها، و«الأونيسكو»، و«إيكوموس»، و«إيكروم»، و«أبساد»، و«الدرع الأزرق»، وتشكلت من هذه الجهات خلية أزمة لإنقاذ التراث العمراني في بيروت. يقول خوري: في العاشر من آب الماضي، أنجز الفريق مسحًا أوّليًا تبين من خلاله تضرّر أكثر من 640 مبنى تراثيًا، تقدّر كلفة إصلاحها وترميمها بحوالى 300 مليون دولار، من ضمنها الأبنية الحديثة المبنية قبل العام 1971. يبقى هذا الرقم تقديريًا، ويمكن أن يتضاعف أو ينقص مع الوقت في نظر مدير عام الآثار الذي لا ينكر أنّ المهمة شاقة وطويلة، خصوصًا بالنسبة إلى الأبنية التراثية التي تتطلب مواد محددة وعملًا دقيقًا في الترميم.

تتفاوت الأضرار بين مبانٍ وأخرى، وقد تم التركيز بدرجة أولى على حماية الأبنية المهددة بالسقوط.

بدأ الفريق بتدعيمٍ هيكلي مؤقت لعددٍ من هذه الأبنية كخطوةٍ أولى، قبل البدء بالترميم وإحصاء المواد التي تحتاج إليها هذه العملية. ثمّة تحديات كثيرة تواجهها رحلة الترميم وإعادة البناء، رغم أن المهندسين العاملين على الأرض يتمسكون بأمل إعادة الأبنية والناس إلى ما كانت عليه في السابق. فمنذ إطلاق المبادرة، لم يتوقف الفريق عن العمل وفق خوري. وهو يشير إلى أنّ العمل يتطلب ما بين السنتَين والثلاث سنوات في حال توافر الأموال اللازمة والدعم في مواد البناء، وإلا فنحن أمام مشكلة كبيرة.

لم تتمكن المديرية في السابق من القيام بجردة أو بإعداد لائحة للمباني التراثية بسبب ضآلة الميزانية، وهذا ما يقوم به الفريق الآن، إذ يعمل على توثيق هذه المباني بالصور والبيانات والمعلومات، عبر تقسيمها إلى قسمَين: الأول يمتد من الفترة العثمانية إلى فترة الانتداب الفرنسي، والثاني يشمل الأبنية الحديثة منذ الأربعينيات إلى سنة 1971. هذه الخطوة تُعدّ سابقة في التعامل مع الإرث الحديث في البلاد وتجاربه الكثيرة التي تتوزّع في كل أحياء بيروت، خصوصًا في تلك التي نالت القسط الأكبر من الدمار.

بالنسبة إلى مدير عام الآثار، هي رحلة الألف ميل من أجل إرجاع ما تبقّى من التراث الحي وعاداته وتقاليده، وهو في هذا السياق يشير إلى أهمية حماية النسيج العمراني وقاطنيه في الوقت نفسه، مع ما يقتضيه ذلك من الحفاظ على أصحاب الحرف والمهن والمحال التجارية المتنوعة في المناطق المنكوبة. فلا قيمة للهيكل العمراني من دون سكّانه. من هنا أطلق نداء عبر مجلة «الجيش» إلى كل اللبنانيين للتضامن والمشاركة كلٌ بحسب مقدرته لإنقاذ تراث لبنان، مؤكدًا أنّ في الاتحاد قوة.

 

تصنيف الأبنية التراثية

ما هي المعايير التي تمنح مبنى ما قيمته العمرانية؟ بالطبع لا يقتصر الأمر على الهيكل والتصميم الخارجيَين لكل مبنى بمفرده، رغم أنّ هذا الأمر هو أحد الشروط التي تتّبعها المديرية العامة للآثار في تصنيف الأبنية. ويعدد المهندس خوري مجموعة معايير تحدد القيمة العمرانية للمباني ومنها: جمالية المبنى ونمطه المعماري وعمره، إضافة إلى أهمية الأشخاص الذين سكنوه. بيت السيدة فيروز في زقاق البلاط الذي يعود إلى الحقبة العثمانية يشكّل نموذجًا في هذا المجال، وهو مدرج على لائحة الجرد العام للأبنية التاريخية، بانتظار تحويله إلى متحف عندما يتوافر التمويل المطلوب. من المعايير الأخرى وفق خوري، أن يكون المبنى قد شهد حدثًا تاريخيًا، والنسيج العمراني المحيط، أي مجموعة الأبنية التي تشكّل طابعًا معينًا وتتمثل قيمتها العمرانية في كونها متجاورة، لا في قيمتها كمبانٍ منفردة.

 

بانتظار المساعدات

المشكلة الأساسية التي تعرقل إعادة تأهيل المباني التراثية هي إيجاد الجهة التي ستتولى تمويل الترميم. فهل ستكون على عاتق شركات التأمين أم على هيئات الإغاثة أم عبر مساعدات من الخارج أو الجمعيات غير الحكومية؟ بالإضافة إلى التمويل ينبغي وجود التعاون بين مختلف الجمعيات اللبنانية المهتمة بالآثار والتراث، لأنّ إصلاح منازل بيروت التراثية وترميمها يتطلب تقنيات خاصة.

في هذا الإطار، تعهدت منظمة «الأونيسكو» قيادة الجهود الدولية لترميم المباني الأثرية، وقدّرت التكلفة الإجمالية لترميمها بنحو 300 مليون دولار. فخلال زيارة المديرة العامة للأونيسكو إلى لبنان برفقة مدراء من المنظمة وبعد جولة قاموا بها في أرجاء البيوت التراثية، أطلقت حملة تبرعات بعنوان «لبيروت» لإعادة ترميمها، كما التزمت تدعيم مبنيَيْن من مجموعة أبنية بالتنسيق مع مديرية الآثار في منطقة الجميزة مقابل شركة كهرباء لبنان.

وقدّمت منظمة «أليف» (هي عبارة عن تحالف يضم حوالى 20 مؤسسة دولية، وتتمركز في سويسرا) اعتمادًا بقيمة 5 ملايين دولار مخصصة لترميم المتحف الوطني (200 ألف دولار دُفعت بواسطة متحف اللوفر في باريس بحكم الشراكة)، و100 ألف دولار لترميم كاتدرائية مار جرجس للروم الأرثوذكس في وسط بيروت، و500 ألف دولار لترميم متحف سرسق، و120 ألف دولار لترميم حوالى 10 أبنية تراثية وتغطيتها وتدعيمها في منطقة الانفجار.

كما أصدرت مؤسسات دولية تُعنى بحماية التراث الثقافي بيانًا تضامنيًا مع لبنان، وأعلنت استعدادها للمساعدة في معالجة الأبنية التراثية المتضررة من انفجار مرفأ بيروت.

يُذكر أنّ انفجار المرفأ أدى إلى تضرر الكثير من البيوت التراثية في المنطقة المحاذية لمكان الانفجار، ومنها فيلا ليندا سرسق وقصر بسترس التراثي حيث وزارة الخارجية.

 

التراث المعماري وهوية بيروت

يشير نقيب المهندسين في بيروت جاد تابت إلى أنّ النقابة تتعاون مع المديرية العامة للآثار في مجال المحافظة على تراث البيوت اللبنانية لأنّها تحمل تاريخًا عريقًا لماضي لبنان. ويقول: هذه المباني هي جزء من هوية بيروت، وتذكّرنا بالأيام التي بلغت فيها العاصمة أوج ازدهارها. وشدد على أنّنا لا نرمم فقط الحجر إنّما نعيد الحياة لأحياء تاريخية ما زالت تسكنها الذكريات. مع العلم أنّ هذه الأحياء تطورت عبر الزمن عندما دخلت إليها المطاعم والمقاهي والنشاطات الثقافية والفنية، فأصبحت مع الوقت أحياء ديناميكية امتزج فيها التراث مع الحداثة، وهذا عامل إيجابي.

لهذه الغاية، تم إنشاء لجنة محلية تحت غطاء نقابة المهندسين تضم خبراء واختصاصيين وإنشائيين للاهتمام بترميم منازل بيروت التراثية، مع الحرص على عدم هدم أي مبنى من هذه المباني. لكن يخشى متخصصون من أن تضيع تلك البيوت العتيقة في «عجقة الازدحام» من خلال إهمال ترميمها أو معاملتها معاملة المباني العادية من دون «حس تراثي» يراعي تاريخها وخصوصيتها.

ويوضح تابت: بعد إجراء المسح الضروري، أرسلت مديرية الآثار إلى نقابة المهندسين لائحة بالأبنية التراثية التي تضررت بفعل الانفجار في مناطق الجميزة، مار مخايل، الكرنتينا، الجعيتاوي، الرميل، الحكمه، مار نقولا، الصيفي، الأشرفية، والباشورة. في هذه البقعة فقط يوجد حوالى 500 مبنًى تراثي، من بينها 120 تضررت بشكلٍ كبير، وهي مبانٍ مهددة إما بالانهيار الكامل أو الجزئي. أما أضرار البقية فاقتصرت على الزجاج المحطم والواجهات والقناطر وتكنة القرميد والسقوفية... قامت نقابة المهندسين بالتنسيق مع مديرية الآثار بتدعيم الأبنية المهددة بالانهيار في المرحلة الأولى، وعمدت إلى تغطية مؤقتة للأسقف لتفادي دخول الأمطار إلى البيوت. في المرحلة الثانية، بدأ العمل على كيفية إعادة الترميم من قبل مهندسي مديرية الآثار إلى جانب مهندسين إنشائيين من نقابة المهندسين لتنفيذ هذه المهمة بطريقةٍ فنية وهندسية، ولمواجهة المخاطر المحتملة، وإعادة البيوت التراثية أقوى مما كانت عليه تحسبًا لأي عامل جديد قد يطرأ في المستقبل كحدوث زلزال مثلًا.

من جهة أخرى، يقول النقيب تابت بأنّ النقابة تهدف من خلال عملها إلى المحافظة على النسيج التراثي لمدينة بيروت وعدم السماح بتشويهه من خلال منع تشييد أبراج عالية. لذا سارعت إلى وضع هذه المنطقة تحت الدرس بقرارٍ صدر عن المجلس الأعلى للتنظيم المُدُني. ماذا يعني ذلك؟ يعني تجميد عملية الضم والفرز (منع بيع عقارات وضمها لإنشاء أبنية جديدة) بانتظار أن يصدر عن بلدية بيروت مرسوم يُمكّن المعنيين من إجراء دراسة شاملة للمنطقة، إلى حين البتّ بالقانون الخاص الذي يحمي الأبنية التراثية، وهو عالق في أدراج مجلس النواب منذ ثلاث سنوات. و«هذا يطمئننا بأنّه ستتم المحافظة على معالم المنطقة وتاريخ بيروت الثقافي».

يؤكد النقيب تابت أنّ المشكلة التي تعترض العمل تتمثل في غياب الدعم المادي في ظل الأوضاع الراهنة. من هنا، أجرى سلسلة اتصالات بعدة مؤسسات دولية، ومن بينها منظمة الأونيسكو، لترميم مبانٍ رسمية كوزارة الخارجية (مبنى تراثي قديم)، وشركة كهرباء لبنان التي تُعد من التراث الحديث الذي يعود إلى فترة الستينيات. كما شملت محادثاته مجموعة دول للغاية ذاتها.

الوقت الذي يتطلبه الترميم مرتبط بالأموال الموعودة التي لم نحصل إلا على القليل منها لغاية اليوم وفق ما يقول تابت، وهو يشير إلى «المبادرة الوطنية للتراث» التي تتلقى مساعدات عبر حسابها المصرفي، وهي تضم المؤسسة الوطنية للتراث، الأبساد، الجامعة اللبنانية- قسم الآثار، منظمة إيكوموس، ونقابة المهندسين، وتعمل بالتنسيق مع محافظ مدينة بيروت وأصحاب المباني التراثية والجيش اللبناني، وتحت إشراف مديرية الآثار.

في الختام، تمنى النقيب تابت النجاح في حماية التراث وتطويره، على أمل أن يمتد إلى أحياء أخرى في بيروت (كحي الباشورة، رأس النبع، وزقاق البلاط).

 

مزيد من المحاولات

بما أنها «أقدم جمعية في بيروت تُعنى بالتراث والمباني التراثية»، وضعت الأبساد مكتبها الذي تضرر بجزءٍ كبير منه بتصرف فريق عمل من المهندسين المتطوّعين خريجي مركز الترميم في الجامعة اللبنانية، وذلك لدعم الجهود المبذولة في إطار إعادة ترميم الأبنية التراثية المتضررة.

وتشير مديرة مركز الترميم المهندسة المعمارية الدكتورة ياسمين معكرون (اختصاصية في علم الآثار وترميم المباني والمواقع الأثرية، وعضو في الأبساد) إلى أنّ «الأبساد» تعمل حاليًا على توسيع نشاطاتها وإعادة إحياء قدراتها لتؤدي دورًا مهمًا في مجال المحافظة على التراث المعماري في بيروت. وهي تسعى عبر معارفها إلى الحصول على تمويل ومساعدات لتدعيم المباني التراثية المهددة بالسقوط وإنقاذها.

 

الجيش وتنسيق الجهود

تشارك غرفة الطوارئ المتقدمة في الجيش في لجنة «المبادرة الوطنية للتراث» ممثلة بشخص رئيس قسم العمليات في الغرفة ومنسق أعمال الترميم وتصليح الأضرار المقدم الركن نظام بو فخر الدين. أما المهمة التي تتولاها فتقضي بتعميم المسح الذي أجرته مديرية الآثار على الجمعيات التي تُسهم في إعادة الإعمار، لمساعدتها في تصنيف البيوت التي تود ترميمها. ففي حال كانت تراثية، يكون الجيش صلة الوصل بين الجمعية والمديرية العامة للآثار التي تُرسل مهندسًا من قبلها لمواكبة الأعمال. عادة، يقتصر عمل الجمعيات على الأضرار الطفيفة التي تستطيع معالجتها وفق ميزانيتها، أو من خلال دعم مادي حصلت عليه من جهة ما وتود أن تستثمره في ترميم البيوت التراثية. ويوضح المقدم الركن بو فخر الدين أنّ حماية الأبنية التراثية وضمان عدم تعرّضها للسرقة أو للتخريب هي من مهمة مديرية الآثار الموجودة في كل المباني التراثية. كما يشير إلى أنّ للمديرية الحق في تأمين الاتصال بالجهات المانحة، وتلزيم التدعيم، ووضع آلية العمل، وتوزيع المهمات على الأرض وتنسيقها فقط.

 

«بيروت في منازل الذاكرة»

هي مبادرة أطلقتها مؤسسة هبة قواس الدولية، برعاية وزارة الثقافة - مديرية الآثار وبالتعاون مع المجلس اللبناني- الألماني للثقافة والآثار ومينتور العربية ومجموعة اليافي الدولية، متمثّلة في مشروع ثقافي موسيقي عمراني، يهدف إلى ترميم اثني عشر مبنًى تراثيًّا متضرّرًا من محيط الانفجار الجغرافي، أي مناطق الجميزة، مار مخايل، الرميل، الأشرفية، وهي المناطق التي تحتضن معظم الأبنية التراثية في بيروت التي يشكّل طرازها العمراني الفريد هوية بيروت الثقافية التراثية، وذاكرتها التاريخية والإنسانية.

تُركز المبادرة على عدة مهمات أساسية منها:

ربط المشروع العمراني ببرنامجٍ ثقافي موسيقي، وإقامة حفلات في لبنان والخارج، يُخصص ريعها بالكامل لمستلزمات الترميم والمتطلبات العمرانية، وإطلاق حملات إعلامية ترويجية على صعيد لبنان والعالم لتوفير الهبات...

 

قصر الليدي كوكرن... تاريخ عريق جرفه انفجار بيروت

يُعدّ «قصر سرسق» المعروف بـ«قصر الليدي كوكرن» في شارع السراسقة بمنطقة الأشرفية متحفًا قائمًا بذاته، لما يتضمن من قطع فنية تاريخية نادرة تعود إلى القرنَين السادس عشر والسابع عشر.

يسجل القصر اليوم خسائر فادحة على الصعيدَين التراثي والفني معًا لم يسبق أن شهد مثلها حتى في أيام الحرب بعدما طاله انفجار مرفأ بيروت في 4 آب الماضي، إذ تعرّض القصر ومقتنياته لخسائر مادية كبيرة خصوصًا في الطابقَين اللذين يتألف منهما إضافة إلى حديقته الغنّاء التي تضررت بشكل كبير.

لم يجر إحصاء الخسائر في الحديقة حتى الآن إذ يتطلب ذلك دراسة دقيقة، ولا سيما أنّ بعض موجوداته القيّمة تاريخيًا لا يمكن تعويضها ماديًا.

بدوره، أصبح القصر منكوبًا تمامًا كما مدينة بيروت التي تحتضنه. فالإصابات الجسيمة طالت باحاته الخارجية كما الداخلية. لوحاته الزيتية كما التحف وجدارياته الأثرية وثرياته النادرة، إضافة إلى أبوابه الحديدية والنحاسية.

كانت الليدي إيفون سرسق كوكرن تسكن في الطابق الأرضي من القصر، فيما يشغل ابنها رودريغ وعائلته الطابق الثاني منه. وفي لحظة الانفجار كانت الليدي كوكرن تجلس في إحدى صالات القصر، فتعرضت إلى إصابة مباشرة تسببت في نقلها إلى المستشفى لكنّها ما لبثت أن فارقت الحياة عن عمر يناهز الـ 98 عامًا متأثرة بجروحها. حتى الآن لا يمكننا تحديد التكلفة المتوقعة لترميم القصر لأنّها شاملة وكبيرة، لكنّها بالتأكيد تتجاوز المليون دولار.

تعدّ حديقة القصر الأكبر من نوعها بين قصور بيروت، وهي مزروعة بنحو 80 نوعًا من الزهور وأشجار السرو والنخيل والجاكاندرا وغيرها. كما تتوسطها أجران رخامية وبركة مياه كبيرة. في هذه الحديقة، أنشدت السيدة فيروز تراتيل خاصة بالجمعة العظيمة وأحد القيامة. كما جرى فيها تصوير لقطات من أفلام سينمائية وكليبات غنائية وشهدت عروض أزياء عالمية. في الخطة المستقبلية، ينوي السيد رودريغ كوكرن نجل الليدي كوكرن البدء بترميم الباحة الخارجية للقصر، أي الحديقة والتماثيل والمنحوتات الموجودة فيه لإعادة الحياة إلى القصر.

تنحدر الليدي إيفون كوكرن من جذور أوروبية نسبة إلى والدتها دونا ماريا الإيطالية الأصل. أما القصر فقد شُيّد في العام 1860 على يد موسى سرسق جدّ الليدي كوكرن. وكانت قد تزوجت من لورد إيرلندي من آل كوكرن فحملت كنيته. وكونها الإبنة الوحيدة لوالدها ألفرد كوكرن، ورثت عنه القصر الذي كانت لا تزال تعيش فيه حتى وقوع الانفجار.

 

متحف سرسق صمد في الحروب ودمّره انفجار بيروت

يُعد «متحف نقولا سرسق» الذي تحوّل منذ افتتاحه الجديد في العام 2015 بعد إعادة ترميمه وتوسعته وزيادة طوابق وأجنحة إليه، تحفة معمارية في جماليته، هذا عدا مقتنياته الثمينة التي تعرضت لأضرارٍ بالغة.

فقد عصف الانفجار بالنوافذ والأبواب المشغولة بعنايةٍ فائقة، وبالزجاج الملون الذي كان يمنحه سحرًا خاصًا في الليل. أما الصالون الشرقي المميز في هذا القصر القديم الذي يعود بناؤه إلى العام 1912 فقد تحوّل إلى حطام، ونجا السقف من الكارثة.

عندما وقع الانفجار، تضرر حوالى 70 قطعة فنية كانت معروضة، وبعضها تُلف ولا يمكن ترميمه.

في مستودعات المتحف مجموعة فنية ثمينة، ترصد حركة الفن اللبناني الحديث في القرنَين التاسع عشر والعشرين. ولحسن الحظ، فإنّ المقتنيات لم تُصب بأذى، وهي عبارة عن مئات اللوحات والمنحوتات والأدوات الفنية، إضافة إلى مقتنيات أثرية. إحدى اللوحات التي خسرها المتحف، ومُزقت بالكامل، بورتريه بريشة الفنان الهولندي الشهير كيس فاندانجن تعود لصاحب القصر نقولا سرسق حيث كانت معلقة في الغرفة التي تضم مكتبه ومقتنياته.

وكان نقولا سرسق قد وهب قصره لوقف بلدية بيروت ليكون معرضًا لأعمالٍ فنية. وفي العام 1961، تحوّل إلى متحف قبل أن يقضي الانفجار على سنوات من العمل الدقيق والشاق.

أول ما فعله القيّمون على المتحف بعد الانفجار هو لملمة القطع الفنية، ونقل المجموعات ووضعها في مكان آمن لحمايتها. وهم يؤكدون أنّ المتحف سيعود إلى ما كان عليه، والاتصالات تتوالى من مختلف أنحاء العالم منذ انتشر خبر الأضرار الجسيمة التي حلّت به لعرض المساعدة والمساهمة في التمويل.

 

البيت الأصفر لم يسلم أيضًا

من بين المباني التراثية المتضررة ما يُعرف بـ«البيت الأصفر» أو «مبنى بركات» الواقع في منطقة السوديكو المحاذية لمنطقة الأشرفية، والذي لحقت به أضرار محدودة في المنشآت ولا سيما في النوافذ والأبواب إضافة إلى الألواح الخشبية المثبتة في محيطه.

يُعد هذا المبنى من أبرز المباني الأثرية في بيروت وأهمها، إذ يعود تشييده إلى العام 1924 على يد المهندس المعماري اللبناني يوسف أفندي أفطيموس الذي كان حريصًا على أن يترك فراغًا في وسطه. ثم أضيف إليه طابقان بناهما المهندس المعماري فؤاد قزح الذي استعمل الباطون كدلالةٍ على تطور العمارة من الحجر الرملي إلى الباطون في عشرينيات القرن الماضي. وبعد انتهاء الحرب الأهلية في العام 1990، استملكت بلدية بيروت هذا المبنى ليتحوّل إلى متحف لذاكرة مدينة بيروت بما فيها سنين الحرب الـخمس عشرة.

 

مشروع قانون

كان مجلس الوزراء قد أقر مشروع قانون لحماية المواقع والأبنية التراثية في لبنان في العام 2017، وتم تحويله إلى اللجان المختصة في مجلس النواب مطلع العام 2018 لدراسته، تمهيدًا لإحالته إلى الهيئة العامة وإقراره.