تربية وطفولة

تطوّر الطفل العاطفي في الأشهر الأولى من عمره
إعداد: ماري الأشقر
اختصاصية في علم النفس

يتعرّف الطفل إلى أمه من خلال الرضاعة والعناية التي تقدّمها له. تتحوّل الرضاعة من رد فعلٍ طبيعي إلى عنصر عاطفي يؤمّن الشعور بالراحة، وعلى أثرها يبدو الطفل متيقّظًا ويحاول أحيانًا أن يبتسم. ابتسامته هذه تتحوّل إلى ضحكةٍ حقيقية تعبّر عن فرحٍ داخلي عميق بين الأسبوعين الرابع والثامن من عمره.

 

لمن يضحك؟
من المؤكّد أنّه لا يضحك لأمه ولا للعالم الذي يحيط به. لكن ما يؤمّن له هذا الشعور بالراحة، هو وجه يراه أو ضحكة أو صوت أو لمسة أو حركة من الرأس.
بعدها يبدأ الطفل باكتشاف كل ما يحيط به، يتعرّف إلى أجزاء أمه المختلفة: الثدي، الذراع، الوجه، والصوت... يرى كل قسم بمفرده كما يرى يده، أو الضوء، أو حافة السرير... من دون أن يفرّق بين ما هو له وما هو خارج عنه.

 

الطعام
هو أهمّ فعل في حياة الرضيع وأول تجربة إيجابية لديه... خلالها يسترجع اتّحاده مع أمه لبضع دقائق ليعيش في نعيمٍ كامل. خلال الرضاعة، يشارك الطفل بكل حواسه، يعرق، يتغيّر لونه، يشد قبضته عند صدره، وأحيانًا يتوقف، يبدو عليه التعب، تترنّح عيناه وكأنه سيغرق في النوم. لكن إذا سحبنا طرف الثدي من فمه سيعاود الرضاعة، وبسرعة، حتى ينهي وجبته. عندما يرتاح، يغمض عينيه. قد يشعر بضيقٍ بسيط (لأسباب معوية أو لأنه فقد اتصاله بأمه) وأحيانًا يبقى ساكنًا وصاحيًا، نظره ثابت ومبهم.

 

الوضع النفسي للرضيع
في أسابيعه الأولى يكون الطفل في حال نفسية غامضة، لا يفهم شيئًا مما يحيط به، ليس لديه أي معرفة بالوقت والمكان، يعيش في الحاضر فقط، لا يتذكر ولا يتوقّع. يلزمه الكثير من الوقت ليتعرّف إلى أجزاء جسمه المختلفة ويعلم أنّها خاصّته، ويكون عرضة لمشاعر تؤمّن له الراحة أو تشعره بالضيق. هو في حالٍ من «كل شيء أو لا شيء».
يصعب عليه غالبًا التخلّص بمفرده من أحاسيس الضيق فيتّكل بذلك على أمه. هدفه الوحيد في هذا العمر هو تلقّي ما يشعره بالأمان والسعادة. الطفل الذي يبكي كثيرًا، يأكل القليل وينام نادرًا، هو طفل يتعذب، ولا بدّ للأم أن تحاول تهدئة توتّره.

 

طفلك يعي الحياة
في الأيام الأولى، تكون فترات الرقاد طويلة، ثم تبدأ أوقات التوتّر والتشنّج والبكاء بالحلول مكانها شيئًا فشيئًا. طفلك يتحرك أكثر فأكثر من دون أن تفارقه حالة «الفراغ»، إلى أن يبدأ بملاحظة ما يدور حوله: تشدّ انتباهه بعض الأشياء، يكتشف نفسه ومحيطه، ويتعلم الفصل بين عناصر مختلفة، أما الرضاعة التي تعود بانتظام وفي أوقات محددة، فيبدأ بالتعرّف إليها وتوقّعها قبل لحظات من حصولها. وفي عمر 8 أسابيع يسكت عندما نُنزل قضبان السرير، ويبدو متيقّظًا وكأنّه واعٍ لما سيحصل وللشعور السعيد الذي ينتظره.
في عمر 3 أشهر ومع رؤيته لزجاجة الحليب، تلمع عيناه ويفتح فمه. وفي عمر 4 أشهر يرفع رأسه ليصل إلى زجاجة الرضاعة، أمّا في شهره الخامس، فهو يميل بجسمه نحوها ويحاول الإمساك بها... متعة الغذاء تضاف إليها متعة الاتّصال الوثيق بالأم. تتركّز عينا الطفل على وجه أمه وتترقّبان التعابير التي تضحكهما. من الصعب هنا الفصل بين مشاعر الولد ومشاعر الأم، وكأنّ نوعًا من اللعب أمام المرآة يجري بينهما.
الأم تثير وتعطي والطفل يتلقّى، يستوعب ويعبّر عن فرحه. هذا التبادل الكثيف بين الطرفين يشكّل مصدر تقدّم وتطوّر، يشدّ الطفل ويزيده تعلّقًا باكتشاف ما يحيطه.
ومع تقدّم الصغير تزداد ساعات الصحو وتزداد أهميتها. الأمان الذي تولّده عناية الأهل، وتكرار التجارب والنضوج العصبي، عوامل تساعده على إدراك العالم الذي يكتنفه.

 

التطوّر الحركي – النفسي
في أسابيعه الأولى يتحرّك الطفل من دون أن يعي حركاته، وذلك بسبب عدم نضوج النظام العصبي لديه. ولكن بسرعة يصبح بإمكانه التحديق بانتباه إلى السقف، والوجوه أو سواها من الأشياء، إلى أن يستطيع التحكّم بثبات وضعيته ليهدأ وينام. هذا الثبات سيساعده على إيجاد وضعية النوم التي تريحه ليعتمدها.
ما بين الشهرين الثاني والثالث يدرك الطفل قدرته على الحركة ويتمتّع بها. ويبدأ اهتمامه بالأشياء مع شهره الثالث، خصوصًا وأنّ باستطاعته الآن التحكّم بنظره وتحويله نحو أيّ شيء في نطاق بصره.
قبل الثلاثة أشهر لن يستطيع التمتّع بالقدرة على الإمساك بالأشياء، في حين أنّه في الشهر الرابع يعي ما يحمل في يديه ويحرّكه بالاتجاه الذي يريد. ومع بداية الشهر الخامس سيستطيع إمساك ما قد نقدّمه إليه.
بين الشهرين السادس والسابع، يتم الاتّحاد بين العين واليد والفم: كل ما يراه الطفل يمسكه فورًا بيديه ويحمله إلى فمه. وهو يكتشف في الشهر السادس أيضًا رجليه ويعرف أنّه قادر على تحريكهما كيفما يريد. وتصبح اللعبة الثابتة لديه: التمرين على النظر، الإمساك، الحمل إلى الفم، المصّ، العضّ، الأخذ، الرد، البحث والإيجاد.

 

تطوّر الوضعيات
حال التصلّب التي كانت مسيطرة عند الولادة تخفّ تدريجًا. ويمكن للطفل وهو في سريره أن يتّخذ بعفوية الوضعية التي تضاعف إمكانات الحركة لديه، ثم يصبح قادرًا على التنقّل في السرير في كل الاتجاهات.
في الوقت نفسه يكتشف وضعية الجلوس إذا ساندناه (بين 4 و5 أشهر)، ثم يجلس بمفرده (بين 6 و7 أشهر)، إلى أن تصبح وضعية الجلوس طبيعية للغاية بالنسبة إليه تمامًا كالنوم (بين 8 و9 أشهر).
مع نهاية الشهر الرابع، لا بدّ وأن يبدأ طفلك بالتمتّع بوضعية الوقوف على رجليه، لكن الأمر لن يصبح جديًا قبل بداية الشهر العاشر.

 

تطوّر النطق
تصدر عنه أصوات رغمًا منه، يبدأ بالاهتمام بها شيئًا فشيئًا ويتمتّع بسماعها، إلى حين يستطيع، وبفرحٍ كبير، أن يصدرها بإرادته وبحسب حاجاته. أصوات تختلف بأشكالها، نغماتها وحدّتها، يعبّر بها عن حالات مختلفة: فرح، انزعاج، ضيق أو احتجاج.

 

البكاء، الانزعاج والغضب
خلال الأشهر الأولى، تكون المتعة التي يحصل عليها الطفل مؤقتة، إذ قد يعاوده الشعور بالانزعاج خلال لحظات قصيرة، فيبحث عن الأمان في وضعية النوم ويخفق في التوصل إليها، وعندها يبدأ بالصراخ. سرعان ما يتحوّل هذا الصراخ إلى بكاءٍ قوي وعنيف، فهو لم يبلغ بعد مرحلة القدرة على التوقّع أو التذكّر، لكنّه سيتعلم تدريجًا التعوّد على نمط معين وتسلية نفسه بنفسه.
في الشهر الثالث لن يكون البكاء نتيجة انزعاج فحسب، بل نتيجة فقدان الطفل ما يحبه وما يشعره بالمتعة. بعد انتهاء الرضاعة مثلًا سيُصدر صراخًا قويًا تعبيرًا عن خيبة أمله. كذلك، يبكي عندما تتركه أمه أو تكفّ عن الاهتمام به. بين الشهرين الثالث والخامس يخفّف الطفل من البكاء، فهو قد تعلّم كيفية اللعب بمفرده إلى أن يضجر، فيعاود البكاء من جديد وبقوة مطلقًا إشارة تقول إنه بحاجة إلى أمه. وابتداءً من الشهر السادس يصبح أكثر نشاطًا ووعيًا في طريقة استخدامه للبكاء لطلب الآخرين.

 

الهرب من الانزعاج والبحث عن المتعة
في بداية حياته، يربط الطفل بين المتعة والطعام، ويحاول الهرب من التوتّر من خلال النوم أو مصّ إصبعه.
لاحقًا ينمّي شغفه وفرحه بكل ما يراه فيشعر بالسعادة والراحة، ويغضب من كل ما يرتبط بالضيق والانزعاج.
يشكل وجود الأم عنصرًا أساسًا في تطوّر الوعي لدى الطفل ونمو شخصيته واتّجاهاته. ودورها مهم في تطوير تجارب ولدها إيجابًا من خلال محاولتها قدر الإمكان إزالة الاضطرابات التي يعانيها كل رضيع.

 

الشروط الضرورية للنضوج
شروط ثلاثة تضمن تفتّح الوعي لدى الطفل:
1- التكامل العضوي: نقطة بديهية ومعروفة لا لزوم للتوقّف عندها، مع التذكير بأنّ كلّ تشوّه جسدي يربك بعمق إدراك الطفل، ويمكن أن يسبّب تأخّرًا واضطرابات في تطوّر وضعه العاطفي في حال لم تتوصّل الأم إلى إيجاد أساليب التعويض عن آلامه أو عجزه.
2- تلبية الرغبات: يتطلّب ذلك انتباهًا شديدًا لفهم نوع احتياجات الرضيع المتعدّدة وكيفية تلبيتها. فالبكاء أو الاضطرابات هي في الواقع شاهدة على ضيق ما، والطفل يتّكل كليًا على أهله لمواساته. من ناحية الغذاء، لا بدّ من روتين معين يساعد الأم على تنظيم حياتها، كما يساعد الطفل في إدراك مفهوم المدة والوقت وتعلّم الانتظار.
الرضاعة تشكّل أيضًا مصدر متعة وراحة للطفل، إضافة طبعًا إلى مصّ إصبعه أو المصّاصة التي تؤمّن له أمانًا وسلامًا.
كما يحتاج الطفل إلى اتّصال مباشر بالآخرين، يحملونه، يدللونه، يحضنونه، ويلاعبونه. هذه الحاجة تختلف من طفلٍ إلى آخر، لكنّ الأطفال جميعهم يتمتّعون بحنان من يحبهم.
3- الجو العاطفي: يتكوّن هذا الجوّ من مشاعر الراشدين حيال الطفل، وهي مسؤولة عن نوعية تصرفاته. وتشير الدراسات إلى العلاقة المحتملة بين شخصية الطفل والاضطرابات العميقة في الاتّصال مع أمه. ففي بعض الحالات يصعب على الأم أن تخلق جوًا عاطفيًا مناسبًا لتطوّر طفلها، وأسباب هذه المصاعب متعددة: مادية، اجتماعية، صحية، نفسية، أو عاطفية... هذه الأمور كلّها يمكن أن تكون مصدرًا للشعور بالخوف، والإثم والتوتر وتنعكس رفضًا للطفل، ما قد يؤدّي إلى عدم القدرة على معرفة حاجاته وخلق الجو العاطفي الملائم للتفاعل معه.