قضايا وطنية

تعدّدت الأسباب والوجهات...

نينا عقل خليل

 

«السفر قصتنا... السفر غصّتنا»

يفقد لبنان نخبة من شبابه وأدمغته، وهو ينوء تحت ثقل اقتصاده المتدهور، وتشهد البلاد بألم خسارة كفاءاتها الأساسية في كلّ القطاعات. فدرجات اليأس المتقدمة، وانسداد الأفق، وكذلك مشقّة الوصول إلى الخدمات العامة والمُلحّة وإلى الأموال المودعة في المصارف وتبخّر قيمة الأجور، تسببت بتشتيت شبابنا في مختلف أصقاع الأرض بحثًا عن آفاق جديدة، وفرص عمل، واستقرار لم يعد متوافرًا في لبنان.

 

«نهاجر لنؤمّن مستقبلنا بعیدًا عن هذا المستنقع»، بهذه الكلمات عبّر الطبيب جان ف. الذي كان یعمل كطبیب جراح في أحد مستشفیات العاصمة عن خيبته، معلنًا أنّه ینوي السفر إلى فرنسا لیكمل عمله هناك على أمل أن یحصل على الجنسیة الفرنسیة. فبعد انفجار الرابع من آب قرّر «مغادرة البلاد إلى غیر رجعة...» بالطبع هو واحد من أطباء كُثُر اتخذوا هذا القرار، لكن الهجرة باتت مطلب غالبية الشباب في القطاعات المختلفة.

منال. ح (صاحبة صيدلية) هي الأخرى خطّطت لمغادرة البلاد بسبب الأزمة الاقتصادية وإغلاق العديد من الصيدليات أبوابها في السنتين الماضيتين. وهي تبدو متأكدة أنّها ستجد العديد من الفرص المتاحة في الخارج.

إيلي خ. (٥٥ عامًا) رب عائلة لديه ولدان (١٧ و٢٠ عامًا)، زوجته ممرضة في أحد مستشفيات العاصمة، ضاقت الأحوال بهما، فدقّا أبواب السفارة البلجيكية طلبًا للهجرة إليها مع ولديهما، فالأقساط هنا باتت «تكسر الظهر»، على حدّ قولهما.

 

الشباب مُحبَطون

بدورها، توضح منى م. (٢٣ عامًا – طالبة حقوق) أنّ السبب الكامن وراء سفرها إلى لندن هو «عدم تقدير كفاءة الشباب العلمية بعد التخرّج ما يضطرهم إلى العمل في وظائف دون مستواهم الأكاديمي كي يتمكنوا من تأمين لقمة العيش». والسبب نفسه دفع مصمّمة الأزياء مابيل ح. (٢٥ عامًا) إلى طلب الهجرة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى طالب الهندسة المعمارية جو خ. (٢٣ عامًا)، الذي يتحدث عن انعدام العدالة في توزيع فرص العمل. ومحمد ع. (٣٠ عامًا) الذي لم تسعفه شهادته في إدارة الأعمال في تأمين فرصة عمل، يتحدث عن استحالة تحقيق الآمال والطموحات في لبنان حاليًا، والحل بنظره هو الهجرة. ماريا ص. (٢٠ عامًا)، طالبة في قسم الرياضيات في الجامعة اللبنانية، تخشى أن تزداد الأوضاع الاجتماعية والأمنية سوءًا، لذا قدّمت منذ مدّة طلب إكمال الدراسة في فرنسا وكانت النتيجة إيجابية، ومن المتوقع أن تنتقل للعيش هناك قريبًا.

 

الهجرة الثانية

تقول نانسي ف. التي كانت قد عادت وعائلتها إلى لبنان في العام ٢٠١٥ بعد أن أمضت وزوجها سنوات طويلة في قطر: «الغلاء بات فاحشًا، ليس فقط بالنسبة إلينا، بل بالنسبة إلى الجميع. لم نعد قادرين على تأمين الأساسيات لأولادنا». وتضيف: «في السنوات الثلاث الأخيرة التي أمضيتها في لبنان رأيت الويلات واكتشفت أني غير قادرة على العيش هنا». وها هي تستعد اليوم للهجرة مجددًا، لكن هذه المرة إلى كندا.

هذه النظرة السلبية تكاد تختصر واقع حال اللبنانيين في ظل أوضاع يعتقد معظمهم أنّها لن تتغير وهي تتجه نحو الأسوأ.

 

موجات متتالية

شهد لبنان على مرّ التاريخ موجات متعددة من الهجرة بدءًا من أيام العثمانيين عندما كان الكثيرون يركبون البواخر وينتهون في دول غير الدول التي اعتقدوا أنهم ذاهبون إليها. حينذاك كان الفقر هو ما يدفع الناس إلى الهجرة. وشهد لبنان هجرة كبيرة في أواخر القرن التاسع عشر امتدادًا حتى فترة الحرب العالمية الأولى (١٨٦٥ - ١٩١٦) حيث يُقدّر أنّ ٣٣٠ ألف شخص هاجروا من جبل لبنان آنذاك. كما شهد موجة كبيرة أخرى خلال الحرب الأهلية اللبنانية (١٩٧٥ -١٩٩٠)، حيث تُقدّر أعداد المهاجرين في تلك الفترة بحوالى ٩٩٠ ألف شخص.

لكنّ كثيرين ممن عايشوا الحرب يقولون إنّه على الرغم من أهوالها لم يكن هناك ضيق اقتصادي بحجم الضيق الذي يمر به لبنان حاليًا. فما تشهده دولة لبنان اليوم في ذكرى المئة سنة على تأسيسها هو أكبر أزمة مالية واقتصادية ومصرفية في تاريخها.

 

أرقام مخيفة

تشير الأرقام التي نشرتها «الشركة الدولية للمعلومات» إلى أنّ عدد اللبنانيين الذين سافروا في العام ٢٠١٩ ولم يعودوا وصل إلى ٦١,٩٢٤ لبنانيًا مقارنة مع ٤١,٧٦٦ لبنانيًا خلال الفترة ذاتها من العام ٢٠١٨، أي بزيادة ٢٠,١٥٨ مواطنًا وما نسبته ٤٢٪. إلّا أنّه في العامين ٢٠٢٠ و٢٠٢١، تزايد عدد المغادرين بنسبة تفوق الـ٤٠٪. ولوحظ تسارع وتيرة هجرة الشباب الذين سارعوا إلى تقديم طلبات الهجرة واللجوء إلى كندا وفرنسا وأستراليا والولايات المتحدة الأميركية وبعض دول أوروبا، مرورًا بتركيا وقبرص واليونان. كما تشير التوقعات إلى أنّ لبنان سيكون أمام موجات جديدة من الهجرة نتيجة تسارع وتيرة الانهيار المالي، وفي ظل غياب الاستقرار السياسي والقلق الأمني. تُضاف إلى كل ذلك، حالات التهريب والهجرة السريّة بواسطة القوارب للهروب بحرًا في اتجاه قبرص وتركيا واليونان.

 

مؤشرات مقلقة

نبّهت دراسة صادرة عن «مرصد الأزمة» في الجامعة الأميركية في بيروت (٣١/٨/٢٠٢١) إلى أنّ الأزمة اللبنانية وتداعياتها على كل جوانب العيش، تُنذر بعواقب طويلة الأمد من خلال الهجرة الكثيفة المتوقعة. وأشار التقرير إلى أنّ «لبنان يشهد منذ أشهر ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات الهجرة والساعين إليها».

وذكر التقرير وجود مؤشرات الهجرة الكثيفة للمتخصصين والمهنيين، وبخاصة من العاملين والعاملات في القطاع الصحي كأطباء وممرضين (تراوح أعمارهم ما بين الـ٣٥ و٥٥ عامًا، وفق نقابة أطباء لبنان في بيروت). كذلك، أشارت نقابة الممرضات والممرضين إلى هجرة ١٦٠٠ ممرض وممرضة منذ ٢٠١٩. ولا يختلف الوضع في القطاع التعليمي الذي هاجر المئات من العاملين فيه إلى دول الخليج وشمال أميركا. ففي الجامعة الأميركية في بيروت وحدها، على سبيل المثال، سُجل خلال سنة رحيل ١٩٠ أستاذًا يشكلون حوالى ١٥ في المئة من الجسم التعليمي. وعلى صعيد قطاع الهندسة، يقول التقرير بأنّ أرقام نقابة المهندسين تشير إلى أنّ متوسط عدد المهندسين الذين يَوَدّون الحصول على إفادات تخوّلهم العمل في الخارج ارتفع ليراوح ما بين الخمسة والستة مهندسين يوميًا.

 

الخسارة الفادحة

تلخّص مجلة «فورين بوليسي» الأميركية انعكاسات الهجرة التي تزايدت مع استفحال الأزمة في لبنان، بخسارة المهنيين الذين يقدمون الخدمات الأساسية، مثل: الأطباء، والممرضات، والمهندسين، وكذلك الأكاديميين ورجال الأعمال، الذين كانوا من المغادرين الأوائل للبنان بعد أن تلقّوا عروض عمل تؤمن لهم ولعائلاتهم حياة لائقة.

في إطار مماثل، حذّر البنك الدولي من أن هجرة الأدمغة أصبحت خيارًا يائسًا بشكلٍ متزايد في لبنان، مشيرًا إلى أنّ التدهور الحاد في الخدمات الأساسية سيؤدي إلى تداعيات طويلة الأمد، بما في ذلك الهجرة الجماعية. وسيكون من الصعب للغاية إصلاح الضرر الدائم الذي يلحق برأس المال البشري.

وفي السياق ذاته، يقول خبراء أميركيون أنّ الطفرة الحالية في هجرة العقول، سيكون لها تأثير دائم على بلد يعاني من عدد كبير من الأزمات، مضيفين أنّ هروب رأس المال البشري سيؤدي إلى تفاقم انهيار الاقتصاد المنهك بالفعل ويعيق انتعاشه.

 

الانعكاسات النفسية للهجرة

في أطروحتها «صدمة الهوية غير المكتملة» التي بحثت في الانعكاسات النفسية للهجرة، تناولت الدكتورة والأستاذة الجامعية والمعالجة النفسية المتخصصة بعلاج النفس العيادي الدكتورة ماري-أنج نهرا مرعي، مفهوم الهجرة في علم النفس، واعتبرت أنّه كسر الارتباط مع البلد الأم. فالإنسان عندما ينتقل من بلد لآخر لا يغيّر فقط جغرافية المكان، بل يغيّر أيضًا الكثير من الأشياء في ركائز شخصيته، ويكون وقع ذلك مؤذيًا جدًا على أجيال وأجيال.

وتضيف: عند مغادرة الوطن، يشعر الفرد بالحماسة، ويتسلّح بالجرأة وإن كان لا يعلم ما ينتظره، وتكون لديه القدرة على التأقلم. وهذه سمة تميّز الإنسان اللبناني، المستعد لتحمّل كل الصعاب أينما وجد. ولكن الانكسار يكون عند العودة. فمَن يمكنه الانتماء إلى أي بلد في العالم يكون انتماؤه الوطني ضعيفًا، وثقافته في الأساس هشّة. فهو يترك بلده سعيًا وراء المال، أي المادة، ولكنّه لا يدرك ما يخسره معنويًا وأسريًا وعاطفيًا واجتماعيًا...

أما عن النواحي الإيجابية للهجرة، فتلخصها الدكتورة مرعي بالقدرة على التأقلم، والسعي وراء الحلم، والثبات وتحقيق الرغبات والأحلام، فمن اللبنانيين مَن أصبحوا في مراكز قيادية، لديهم القدرة على الإبداع. ولكن على الرغم من كل النجاحات يُصدَم المهاجر يومًا ما بأنّه حقق كل شي بعيدًا عن بلده ومجتمعه.

وفي تناولها موضوع العودة وتأثيراتها، تطرح الدكتورة مرعي السؤال الأهم: لو عاد الفرد المهاجر فهل سيعود بالعقلية نفسها التي غادر بها؟ وتجيب: عند العودة سوف يعتقد أنّ البلد لم يتغير ولكن هو من تغيّر. فعقارب الساعة توقفت عند زمن المغادرة وهنا يصطدم بواقع مختلف كليًا عن الذي يتخيّله بعقله. فيرى بالتالي فرقًا شاسعًا بين تخيّلاته والواقع الأليم الذي يكتشفه، من هنا تولّد العودة الشعور بخيبة الأمل، خصوصًا وأنّ الشخص يكون قد خسر معتقداته القديمة ولكنّه في الوقت نفسه غير مقتنع بمعتقداته الجديدة، ولم يتبنَّ شيئًا منها أصلًا. وتستمر الخيبة عندما يبحث في خياراته المهنية في بلده ويجد أنّ المجتمع لا يعطيه الفرص التي أعطاه إياها الخارج، ويلمس وجود بُعد شاسع بين تخيّلاته والواقع الأليم الذي يكتشفه. الشعور بالخيبة يترافق مع الشعور بضياع في الهوية. فالمهاجر يتخلى عن هويته الأولى ويتمسك بالهوية الثانية، وعندما يعود يحاول استعادة الأولى التي لم تعد موجودة، فيصبح بالتالي كأنّه في الأرض القاحلة. وهذا ما يشكل خطرًا على الشعور بالانتماء، فالمغترب عند عودته يشعر بالحيرة بين الانتماء إلى وطنه الأم ووطنه الثاني، ما يسبب اضطرابًا في الهوية.

وعن تأثيرات الهجرة إلى الدول الأبعد جغرافيًا، تؤكد الدكتورة مرعي أنّه « عندما تبعد المسافات جغرافيًا تبتعد بالتالي نفسيًا، وتصبح العودة صعبة. كما أنّ ثقافة البلدان البعيدة عنا مختلفة عن ثقافتنا ولا توجد قواسم مشتركة بيننا وبينها، لذلك تبقى الهجرة إلى البلدان العربية أسهل بكثير.

 

أجمل الأوطان!

يُضاف إلى ما تقدّم لعبة الوقت التي تخلق عند المهاجر عقدة تضخيم الماضي، فيرى الوطن في غربته أجمل الأوطان... وعندما يعود إليه يكتشف واقع الأمور وتكون صدمته كبيرة جدًا. في هذا الإطار تشير الدكتورة مرعي إلى أنّ العديد من الأشخاص تمّت معالجتهم نفسيًا بعد أن خاب ظنّهم بالبلد، فاختفت علاقة الحب مع الوطن التي شعروا بها عندما كانوا بعيدين عنه.

وتشيـر الدكتورة مرعي إلى أنّ هنـاك سلّـة من المفاهيم الجديدة يحملها المهاجر معه عند العودة تتناقض تمامًا مع المفاهيم التي ترعرع عليها، فالقناعات تختلـف. وهـذا ما يؤدي إلى زعزعـة قناعـات الوطن الأم ويغيّـر حبكة المجتمع الداخلية، ويصيبها بالتخلخل.

 

هل من حلول؟

ترى الدكتورة مرعي أنّ الحلول تقع على مستويَين وطني واجتماعي. في الشق الوطني، على الدولة اعتماد سياسة عامة في مختلف وزارات الدولة لتحفيز الشباب من خلال المناهج الدراسية على التعلق بوطنهم وترسيخ انتمائهم إليه. ومن جهة ثانية يجب الاهتمام بمؤهلات الشباب من خلال توفير بعض الامتيازات كوسائل النقل والمسكن والتأمين الصحي... وفي الشق الاجتماعي، يمكن تقديم المساعدات المادية واللوجستية لهؤلاء الشباب لحثّهم على البقاء في أرضهم، وتوفير فرص العمل واستثمار بعض المشاريع المنتجة في بلدهم، فضلًا عن القضاء على المحسوبية وتحقيق مبدأ المساواة والعدل ... والقوانين قد تسهّل تحقيق الانتماء الوطني والاندماج في العمل داخل المجتمع أو تزيد من صعوبة هذه العملية. وأخيرًا، كمعالجة نفسية متخصصة بعلاج النفس العيادي وكمرشدة اجتماعية، أقترح دائمًا تنمية الروح الوطنية عند الإنسان منذ الصغر، كي يتكون لديه حس المواطنة السليمة، ويترسخ حبه لبلده مهما كانت الظروف صعبة، فالتمسك بالوطن أمر ضروري، فهو الذي يحضن الأهل والأجداد.

هل تبقى الهجرة قدَرًا لنا نحن اللبنانيين؟ هل يتحول وطننا إلى مأوى لكبار السن الذين أفنوا عمرهم لتأمين مستقبل لأولادهم فإذ بهم في شيخوختهم أسرى الوحدة والشوق لأبناء باتوا خلف البحار البعيدة؟ السؤال صعب والجواب أصعب. فإذا لم تقم في هذا الوطن دولة عصرية عادلة قادرة على توفير فرص العيش بكرامة لمواطنيها، من المستحيل أن يشعر أبناؤنا بأنّ لهم وطنًا يجب أن يتمسكوا به. لكن في المقابل فإنّ بقاء هذا الوطن رغم كل المحن التي مر بها هو نتيجة وجود من يناضلون لأجله من أبنائه، هنا وهناك في كل أصقاع العالم...

 

تداعيات الهجرة

تعدّد الدكتورة ماري-أنج مرعي، أبرز تداعيات الهجرة وهي: الخلل الديموغرافي، خسارة العنصر الشبابي، تفريغ العديد من المناطق من سكانها، زعزعة الاقتصاد الوطني، وغياب العديد من المشاريع الصناعية والزراعية مع رحيل الكفاءات والأدمغة، أضف إلى ذلك التفكك الأسري مع ترك الأبناء لوالديهم، وأخيرًا الفصام في المجتمع اللبناني بين المقيمين والمهاجرين إذ تختفي اللُّحمة وتحلّ الطبقية بفعل تدهور العملة الوطنية.