ملف العدد

تعزيز انتشار الجيش جنوبًا زراعة الأمل في أرض أحرقها العدوان
إعداد: د إلهام نصر تابت

شق الجيش اللبناني طريقه جنوبًا بين جبال الركام وأهوال الدمار، وتابع تعزيز انتشاره وسط نيران العدو الإسرائيلي الذي واصل انتهاك اتفاق وقف إطلاق النار. ففي حين كان يفترض أن ينسحب تدريجًا من المناطق التي احتلها، حاولت دباباته وجرافاته التقدم على بعض المحاور، واستهدفت نيرانه عدة بلدات وقرى، ونسفت متفجراته ما تبقى من منازل وأبنية في مناطق فقدت كل معالم الحياة. بلغت هذه الانتهاكات ذروتها مع رفض العدو الانسحاب إلى ما وراء الخط الأزرق وفق اتفاق وقف إطلاق النار مع حلول الموعد المقرر في فجر 26 كانون الثاني الماضي. وإذ قرر  الأهالي العودة إلى البلدات والقرى الحدودية الجنوبية واستعادة الأرض التي تحتضن أبناءهم الشهداء وبيوتهم التي تحوّلت إلى ركام، وجدوا الجيش اللبناني إلى جانبهم.

 

تعزيز الانتشار

كان الجيش قد بدأ تعزيز انتشاره جنوبًا فور إعلان وقف إطلاق النار معلنًا جهوزيته الكاملة لأداء مهمته تنفيذًا للقرار 1701 بجميع مندرجاته وفق التزامات الحكومة اللبنانية. وهو إذ أكّد احترامه لآليات تنفيذ القرار، أكد في المقابل جهوزيته، وهذا ما دفعه إلى تعزيز انتشاره في مواجهة قوات إسرائيلية توغلت في وادي الحجير والقنطرة، لينتهي الأمر بانسحاب القوة المعتدية، بالتنسيق مع اليونيفيل واللجنة الخماسية للإشراف على اتفاق وقف إطلاق النار Mechanism. الأمر نفسه تكرر لاحقًا في منطقة الطيبة - مرجعيون حيث أقدم العدو على إغلاق ثلاثة طرق بسواتر ترابية، لكن دورية من الجيش توجهت إلى المكان وأعادت فتح الطرقات بالتنسيق مع اللجنة الخماسية.

 

العدو يماطل

مع اقتراب موعد مهلة الستين يومًا التي حددها الاتفاق لانسحابه، تصاعدت وتيرة مماطلة العدو الذي راح يعيث مزيدًا من الدمار والخراب في مناطق واسعة، بهدف جعلها مساحات غير قابلة للحياة، كما عمد إلى عزلها عن باقي القرى مقيمًا السواتر الترابية على مداخلها. في المقابل كان الجيش يواصل تقدمه وسط النيران ملتزمًا موجبات اتفاق وقف إطلاق النار. وعشية الموعد المحدد أعلن أنّ وحداته تستكمل انتشارها في القطاعين الغربي والأوسط بعد انسحاب العدو الإسرائيلي، وذلك بالتنسيق مع اللجنة الخماسية للإشراف على اتفاق وقف إطلاق النار واليونيفيل. وفي بيان أصدرته يوم السبت 25/1/2025 أكدت قيادة الجيش أنّ «الوحدات العسكرية تعمل باستمرار على إنجاز المسح الهندسي وفتح الطرقات ومعالجة الذخائر غير المنفجرة، وتُتابع الوضع العملاني بدقةٍ ولا سيما لناحية الخروقات المستمرة للاتفاق والاعتداءات على سيادة لبنان، إضافة إلى تدمير البنية التحتية وعمليات نسف المنازل وحرقها في القرى الحدودية من جانب العدو الإسرائيلي». وإذ دعت المواطنين إلى التريّث في التوجّه إلى المناطق الحدودية الجنوبية، نظرًا لوجود الألغام والأجسام المشبوهة، قالت: «يواصل الجيش تطبيق خطة عمليات تعزيز الانتشار في منطقة جنوب الليطاني بتكليفٍ من مجلس الوزراء، منذ اليوم الأول لدخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، وفق مراحل متتالية ومحددة... وقد حدث تأخير في عدد من المراحل نتيجة المماطلة في الانسحاب من جانب العدو الإسرائيلي، ما يعقّد مهمة انتشار الجيش، مع الإشارة إلى أنّه يحافظ على الجهوزيّة لاستكمال انتشاره فور انسحاب العدو الإسرائيلي».

في اليوم التالي ومع اندفاع المواطنين والأهالي العائدين إلى بلداتهم، واكبهم الجيش إلى القرى والبلدات الحدودية الجنوبية، معلنًا وقوفه إلى جانبهم في مواجهة العدو الإسرائيلي، انطلاقًا من واجبه الوطني. وذلك في ظل إصرار العدو على استهداف العسكريين والأهالي موقعًا عددًا كبيرًا من الشهداء والجرحى، ورفضه السافر لالتزام اتفاق وقف إطلاق النار، والانسحاب من الأراضي اللبنانية.

 

الدعم اللوجستي والطبي
تولى اللواء اللوجستي تأمين الدعم اللوجستي المباشر للوحدات التي شاركت في تعزيز الانتشار، وتلك التي كانت منتشرة أصلً. يُذكر في هذا السياق نقل الآليات  الثقيلة وعمليات إخلء وتموين وتعهد وصيانة ومساعفة آليات، بالإضافة إلى تأمين المحروقات والمياه.
من ناحية أخرى، عملت الطبابة العسكرية على تفعيل عمل المستوصفات وزيادة قدراتها، بالإضافة إلى العمل على تفعيل دور مستشفى عين إبل، ووضع مفارز طبية متحركة مع الوحدات الأمامية.

 

القوى المشاركة في تعزيز الانتشار جنوبًا

في استجابة فورية أثبتت جهوزيته رغم صعوبة الأوضاع التي يعانيها منذ سنوات، بدأ الجيش تعزيز انتشاره جنوبًا مع إعلان وقف إطلاق النار. وبالإضافة إلى القوى المنتشرة في قطاع جنوب الليطاني، تمّ تعزيز القطاع بوحدات إضافية مؤلفة من: فوج التدخل الثاني،  وحدات من فوج المغاوير وفوج الهندسة، مجموعة من فوج الأشغال المستقل، ومجموعة من الشرطة العسكرية الأدلة الجنائية.

كذلك شاركت في المهمة مجموعات من مديرية التعاون العسكري المدني والمركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام.

 

المهمات

في ما يتعلّق بالمهمات الموكلة إلى الجيش جنوبًا، فهي حُددت وفق الآتي:

- تعزيز انتشار الوحدات في قطاع جنوب الليطاني.

- التصدي للاعتداءات الإسرائيلية.

- تطبيق القرار 1701 بالتنسيق مع قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان.

- تسهيل العودة الآمنة للنازحين إلى قراهم.

- المحافظة على الأمن وبسط سلطة الدولة في القطاع.

- ضبط المخيمات الفلسطينية ومخيمات النازحين السوريين المنتشرة في القطاع.

- مكافحة أعمال التهريب والتسلل عبر الشاطئ بالتنسيق مع القوات البحرية، وعلى طول الحدود الجنوبية والشرقية ضمن القطاع.

 

منذ اليوم الأول

يوضح قائد قطاع جنوب الليطاني العميد الركن إدغار لاوندس أنّ مديرية العمليات في الجيش اللبناني وضعت بالتنسيق مع قيادة القطاع، خطة استجابة لتعزيز الانتشار الفوري للجيش جنوب نهر الليطاني، وذلك بالاستناد إلى عدة عوامل أُخذت بالاعتبار. ويتم التنفيذ وفق الخطة، إذ تمكّن الجيش اللبناني من إدخال جميع الوحدات الإضافية إلى مسرح العمليات، وهي باشرت بتنفيذ مهماتها منذ اليوم الأول لإعلان وقف إطلاق النار. ولكن الجيش يواجه عددًا من المعوقات في التنفيذ، أبرزها استمرار العدو الإسرائيلي باحتلال عدد من القرى اللبنانية واستخدامه كل الوسائل للمماطلة في الانسحاب إلى ما وراء الخط الأزرق، وعدم التزامه بنود الاتفاقية وإمعانه بخرقها بشكلٍ يومي.

 

الجهوزية

كيف استطاع الجيش تحقيق الجهوزية بسرعة والانطلاق الفوري في تنفيذ المهمة رغم الحاجات الكبيرة على مستويات مختلفة (العديد، التجهيز، اللوجستية...)؟

يجيب قائد قطاع جنوب الليطاني عن هذا السؤال قائلًا: كما سبق وذكرنا، فإنّ الجيش اللبناني وضع خطة تعزيز الانتشار كاستجابة سريعة منه لإعلان وقف إطلاق النار، وقد عملت قيادة الجيش على تأمين الدعم اللوجستي اللازم واختارت الوحدات التي تتمتع بحركية عالية وقدرة على المناورة للانتشار في بقعة العمليات. وعلى الرغم من الحاجات الكبيرة على المستويات المختلفة، عمدت قيادة الجيش إلى تذليل هذه الصعوبات عبر نشر قوى عملانية جاهزة لتنفيذ المهمة، كفوج التدخل الثاني الذي انتقل إلى بقعة العمليات بوحداته العضوية واللوجستية مما سهل عملية تمركزه. من جهة أخرى، كان الجيش قد عمل على إعادة نشر وحداته بالعمق بما يتناسب مع طبيعة عمله، ولكنّه حافظ على انتشاره داخل قطاع جنوب الليطاني واستمر بتنفيذ المهمات العملانية والإنسانية طوال فترة الحرب. من هذا المنطلق كانت وحدات الجيش العاملة ضمن بقعة العمليات على جهوزية تامة لإعادة التمركز. إلى ذلك، لا توفّر قيادة الجيش جهدًا في تأمين الدعم اللوجستي للوحدات وذلك من خلال التنسيق المستمر مع المجتمع الدولي والدول المانحة.

ماذا عن معنويات العسكريين من خلال أدائهم لمهماتهم في ظل واقع صعب (دمار هائل، خروقات العدو المستمرة، أوضاع المواطنين العائدين وما عانوه بسبب الحرب، والأوضاع المعيشية للعسكريين...)؟

يؤكد العميد لاوندس أنّ العسكريين وعلى الرغم من كل الصعاب حافظوا على رباطة الجأش واستمروا بتنفيذ المهمات الموكلة إليهم وسط النيران والدمار، وهم دفعوا ضريبة الدم أسوة بالمواطنين، وظلوا على جهوزية تامة لإعادة الانتشار والتمركز حتى في مراكزهم التي تعرضت للقصف والتدمير.

 

الصعوبات

وفي ما يتعلّق بالصعوبات والمعوقات التي يواجهها الجيش في انتشاره جنوبًا وكيفية تعامله معها، يقول قائد قطاع جنوب الليطاني:

كما ذكرنا سابقًا، تتمثل أبرز المعوقات بإقدام العدو الإسرائيلي على انتهاك اتفاق وقف إطلاق النار في تنفيذه الانسحاب إلى ما وراء الخط الأزرق وفق ما نصّ عليه الاتفاق وضمن المهلة المحددة، وذلك بهدف تحقيق أهداف لم يتمكن من تحقيقها خلال الحرب.

 

أما الصعوبات الأخرى فهي:

- وجود قنابل عنقودية وأعداد كبيرة من الأجسام غير المنفجرة، من مخلفات العدو الإسرائيلي.

- وضع الطرقات والمسالك في المناطق المدمرة.

- حجم الدمار الكبير، لا سيما في القرى الأمامية.

 

مستقبل أفضل وأكثر أماناً
ضمن إطار خطة تعزيز انتشار الجيش اللبناني في الجنوب، تتبنى مديرية التعاون العسكري-المدني استراتيجية جديدة لتعزيز حضورها في قطاع جنوب الليطاني. لتحقيق هذا الهدف، تمّ إنشاء مركز متقدم لها في مدينة صور وتعزيز دور القسم الإقليمي في مرجعيون، بالإضافة إلى إنشاء قسم إقليمي جديد في بلدة عين إبل.
ستكون هذه المراكز الجديدة ركيزة أساسية في التفاعل مع الحاجات الملحة للبيئة المدنية، إذ إنّها تتولى مهمات تخطيط المشاريع الملائمة وتنفيذها لمساعدة السكان على العودة الآمنة إلى مدنهم وقراهم.
بفضل هذه المبادرات، سيتم توفير سبل العيش الكريم للمواطنين المتضررين، مما يسهم بشكل كبير في تحقيق استقرار طويل الأمد وتخفيف معاناتهم.
هذه الخطوة تمثل التزام الجيش اللبناني بمواصلة مساعيه لتعزيز التواصل مع المجتمع المدني وتقديم الدعم اللازم للمساهمة في بناء مستقبل أفضل وأكثر أماناً واستقراراً لجميع السكان.

 

نعمل ليلاً ونهارًا

يضع الجيش مساعدة المواطنين على العودة الآمنة إلى بلداتهم وقراهم في سلم أولوياته، وتعمل وحداته (فوج الأشغال المستقل، فوج الهندسة وسرايا الهندسة في الوحدات المنتشرة) ليلًا ونهارًا على فتح الطرقات وتنظيف المناطق من الذخائر غير المنفجرة لضمان سلامة السكان العائدين. وينسّق الجيش مع البلديات والسلطات المحلية لتنظيم عودة السكان بشكل لا يعيق المهمات العملانية ويضمن أمن المواطنين وسلامتهم. وهو إذ يعاهد أهله بأن يكون إلى جانبهم دائمًا، يؤكد أنّ علاقة الثقة والاحترام القائمة بينه وبينهم ستساعده في تنفيذ المهمات الموكلة إليه.

إذا كان تعزيز الانتشار جنوبًا هو العملية الأبرز على صعيد جهود الجيش في المرحلة الراهنة، فإنّ مهماته في الضاحية الجنوبية والبقاع وصولًا إلى الحدود الشرقية والشمالية تندرج جميعها في إطار بسط سلطة الدولة وسيادتها في مختلف المناطق وحفظ الأمن.

في هذا السياق، تسلّم الجيش مراكز عسكرية كانت تشغلها تنظيمات فلسطينية في البقاعين الغربي والأوسط عند الحدود الشرقية، والناعمة وفي جوار مخيم البداوي - طرابلس، وصادر كميات من الأسلحة والذخائر والأعتدة العسكرية.

وفي الإطار نفسه شدد إجراءاته على الحدود الشرقية والشمالية لمنع التهريب وضبط حركة العبور، وهذه مهمة دونها الكثير من الصعوبات، لكن العمل مستمر على معالجتها بشكلٍ حازم. هنا تشكّل حادثة معربون مثالًا، ففي أثناء عمل وحدة من الجيش على إغلاق معبر غير شرعي على الحدود اللبنانية السورية في منطقة معربون – بعلبك، حاول أشخاص سوريون فتح المعبر بواسطة جرافة، فأطلق عناصر الجيش نيرانًا تحذيرية في الهواء، لكنّ المسلحين السوريين عمدوا إلى إطلاق النار على الجيش ما أدى إلى إصابة عناصر من الجيش ووقوع اشتباك بين الجانبين.

من الجنوب إلى ضاحية بيروت الجنوبية والبقاع وصولًا إلى الحدود الشرقية - الشمالية، تنتشر وحدات جيشنا لتمسح الدمار وتُعيد دورة الحياة إلى طبيعتها. ورغم هول الخسائر وعمق الجراح، ثمة تصميم على زراعة أمل جديد في أحشاء تراب أحرقته نيران العدو، وبين ركام منازل دمرها، والأهم في قلوب أدمتها خسارة أحبّة...