مواقع في بلادي

تعنايل
إعداد: باسكال معوض بو مارون

بَرَكة المونة و«قوس قزح» تعيد الماضي الى الحاضر

 

إنها الذبيحة التي قدّمها الله كفّارة عن الإنسان، وهي العودة الى أصالة خشينا أن نفقدها مع مرور الزمن، وهي أيضاً بَرَكَة المونة حين كان أهلنا ينعمون بالخير من أرضهم المباركة: إنها تعنايل البقاعية.
تقع تعنايل في قلب البقاع الأوسط وتحديداً في قضاء زحلة، ترتفع عن سطح البحر 850 م، وتتميز بمناخ معتدل طوال السنة. إسمها مشتق من اللاتينية «Ta‘Enil» ويعني حامل الإله أو حمل الله، لكنه يحمل ايضاً تفسيرات أخرى.
البلدة الغنية بخيراتها وطيبة أهلها المضيافين تحتفظ في قلبها بالكثير من الحنين الى ماضي قرانا، بما عرفته من أنماط عيش تقوم على البساطة.
تعنايل كانت محطة سياحتنا في هذا العدد، وقد رافقنا فيها الأستاذ سبع الحوراني مضيئاً على تاريخ البلدة وواقعها.

 

دير تعنايل
العام 1833 وصل الى البقاع ثلاثة آباء يسوعيين وبدأوا ببناء دير لهم في بلدة المعلّقة - زحلة، على أرض تبرّع بها لهم الأمير بشير الثاني الكبير الذي اهتم بإنماء المناطق كافة من خلال الإرساليات الأجنبية.
وبعد وقت غير طويل، حصلت حرب 1860 التي تخلّلتها مجازر في مختلف مناطق لبنان، وخلّفت وراءها الشقاء والدمار، ومن بين جرائم تلك الحرب واحدة ارتكبها الأتراك بحق عدد من الرهبان اليسوعيين في زحلة ودير القمر.
بعد نحو ثلاث سنوات ونتيجة لاحتجاج الرهبنة اليسوعية وفرنسا، سلّمت تركيا لليسوعيين بواسطة الدولة الفرنسية أراض في خراج تعنايل تبلغ مساحتها نحو 230 هكتاراً بمثابة فدية عن اليسوعيين الستة. معظم تلك الأراضي كانت تغطيها مستنقعات غير صحية وغير صالحة للزراعة أو للسكن، لكن بفضل جهود أحد الأخوة اليسوعيين تمّ تجفيف تلك المستنقعات وزرعها بآلاف الأشجار من مختلف الأنواع، وبني دير صغير مع كنيسة صغيرة بالقرب منه.
مع بداية الحرب العالمية الأولى احتلّ الجيش التركي الدير وأخلاه من الآباء اليسوعيين، الذين أنقذ واحد منهم صورة  للعذراء من الكنيسة أخذها معه الى دمشق حيث هرب وإخوانه من همجية الاحتلال. أمّا الدير فقد تعرّض للنهب والحريق.

 

عودة ونهضة
بعد نهاية الحرب عاد الآباء اليسوعيون الى دير تعنايل وتابعوا اهتمامهم بمدارس الضيع ودار المعلمين. ثم رمّموا الدير الذي استعاد دوره الحيوي في المنطقة ككل.
بعد ذلك أسس اليسوعيون مستوصفاً صغيراً لعمّال الدير ما لبث أن نما واتّسع ليصبح مركزاً طبياً مرموقاً، قصده الكثيرون من سكان المنطقة. وفي الثمانينيات أبدل المستوصف بمدرسة مهنية مختلطة (متوسطة وعالية) تخرّج كل سنة عدداً من الشبان والشابات الذين ينطلقون الى العمل في المصارف والشركات والمحلات التجارية والمدارس. والمدرسة ما زالت قائمة ومزدهرة حتى اليوم.
اشتهر دير تعنايل بمزرعته النموذجية حيث تعتمد الطرق الفنية في صناعة الألبان والأجبان وتربية الأبقار واستصلاح الأراضي الزراعية، إضافة الى نصب الأشجار المثمرة والبرية، وزراعة الكروم. ولريّ المزروعات في الأراضي المحيطة بالدير، حفرت بحيرة كبيرة تتجمّع فيها المياه.

 

الماضي... في الحاضر
ما إن تطأ قدماك أرض الضيعة حتى تعود مئات السنين الى الوراء. وما إن يفتح «ترباس» الباب الخشبي حتى تلج عالماً يشدّك اليه الحنين.
ساحة كبيرة تنتشر حولها الغرف الطينية ذات السقف المرتكز على الدعائم الخشبية. وفي داخلها افترش الأرض ديوان تغطيه البسط الملونة وتحيط به المساند «المجدلية» من كل جانب، وفي الحائط «يوك» مليء بالفرشات واللحف. أما على رف في الزاوية فقد وضع قنديل الكاز الذي كان يستعمل قديماً للإنارة. ولم ينسَ المصمّمون الحجر الذي كان يسند باب البيت ويمنعه من الانغلاق عند كل هبة ريح، والمحدلة التي تسرع مع بداية الشتاء الى إصلاح الطين على سطح المنزل.
بين الغرف «سطيحة» يجتمع فيها الأهل لشرب القهوة عند الصباح وفي العصر. أما «المصطبة» الحجرية فيستريح عليها أهل المنزل. المطبخ على الطراز القديم يحتوي على «كوارة» مليئة بمختلف أنواع الحبوب، و«نملية للمونة»، وبابور وموقدة للطبخ وأدوات فخارية ونحاسية، كما كان الحال أيام جدودنا.
الى جانب المطبخ فرن تنور مصنوع من المواد الأولية المعتمدة قديماً، و«قن» الدجاج وزريبة صغيرة فيها بقرة حلوب وبضعة أغنام، وكلب، وهرة تسرح داخل المنزل وخارجه.
هذه القرية النموذجية الصغيرة التي تضم 6 غرف تقليدية مع «منافعها» التراثية مطروحة للإيجار، وهي تستقبل الراغبين في الابتعاد لفترة عن الحضارة وضجيجها.
عائدات إيجار هذه الغرف تعود الى المعوّقين والفقراء الذين تهتم بهم جمعية «قوس قزح» (Arc en ciel)، التي بادرت الى إطلاق المشروع.


قوس قزح في البلدة
أقامت جمعية «قوس قزح» (العام 2002) في تعنايل مركزاً ونادياً لمساعدة المعوّقين في منطقة البقاع الأوسط. الجمعية مؤسسة للتنمية المستدامة وتعمل مع ولصالح كل إنسان محتاج؛ تأسست العام 1980، شعارها «مساعدة الشخص المحتاج ليساعد نفسه». وقد أقامت مراكز لها في مناطق مختلفة.
في تعنايل أقيم مركز للجمعية وبقربه المجمع القروي المؤلف من بيوت التراب ذات الطابع التقليدي اللبناني. ويضم المركز قاعة محاضرات ومكتبة وغرفة إنترنت ومغسلاً للثياب، الى نادٍ رياضي.
أمّا المركز الخاص فيضم مشغلاً للنجارة والحدادة يعمل فيه ذوو الاحتياجات الخاصة، وعيادات لأطباء من مختلف الاختصاصات يزورون المركز تباعاً لمعاينة المحتاجين لذلك من أبناء البلدة والجوار (معوّقين وأصحاء)، الى عيادة للعلاج الفيزيائي ودار حضانة تستوعب 150 طفلاً.
والجدير بالذكر أن هذه الخدمات هي للمعوّقين أساساً ولكنها أيضاً للراغبين من الأصحاء، وهي مجانية أو مقابل بدل مالي رمزي.
تستقي تعنايل مياه الشفة من نبع جديتا. أمّا مياه الري فمن نبع شتورا الذي يغذي أراضيها الزراعية التي تنتج الخضار والحبوب والفاكهة.
الى ذلك، البلدة صناعية بامتياز إذ تكثر فيها المعامل على مختلف أنواعها: فمن الحجارة والباطون والرخام والزفت، الى السجاد والبلاستيك، والسبائك المعدنية، والمولدات الكهربائية وصولاً الى الصناعات الغذائية من عرق ونبيذ وحلاوة وطحينة وألبان وأجبان.
وفي البلدة مستشفى عام، ومستوصف ومؤسسات تعليمية منها جامعة القديس يوسف - كلية الهندسة الزراعية، والمعهد المهني والتقني للراهبات اليسوعيات، ومدرسة لراهبات القلبين الأقدسين.


عائلات تعنايل
يبلغ عدد سكان تعنايل حوالى 1700 نسمة يتوزعون على العائلات الآتية: شربل، فركوح، الحاج موسى، أبو عبود، ملحم، صوايا، خزّاقة، هندي.

 

الله استجاب
من التفسيرات الشائعة بين الأهالي حول إسم بلدتهم أنه يعني «الله استجاب». ويرون أن صورة سيدة التعزية التي وصلت الى كنيسة البلدة العام 1881، حملت معها الخيرات والبركات الى المنطقة بكاملها. والصورة هي نسخة عن أخرى أصلية كانت وما زالت موضع تكريم في مدينة تورينو (إيطاليا) منذ القرون الوسطى، وقد اشتهرت بعطفها وعجائبها.


تصوير: طلال عامر