تقاطع الإستراتيجيات في حرب غزّة

تقاطع الإستراتيجيات في حرب غزّة
إعداد: أ. د. نسيم الخوري
استاذ دكتور الإعلام السياسي في الجامعة اللبنانية

"الحرب الخفيّة"، أو "الحرب البعيدة عن الأنظار"، أو "الحرب المسروقة والمهرّبة، أو المغلقة"،هي بعض الصفات التي يمكن للباحث أن يطلقها على حرب اسرائيل على غزّة التي بدأتها حصارًا ثمّ حوَّلتها جويّة مقدسة وفقاً للسمت اليهودي، أي فجر نهار السبت (27 كانون الأول/ديسمبر 2008)، حيث غطّت بقذائف طائراتها ثلثي القطاع في أربعة آلاف غارة نفَّذتها ستون طائرة، وتابعتها برًّا وبحرًا، ما أورث سقوط 1400 شهيد و5543 جريحًا ومشوّهًا ومعاقًا، معظمهم من النساء والأطفال، بالإضافة الى التدمير الكامل لـ 4500 وحدة سكنية، وتصدُّع 24000 منزل بفعل القنابل الارتجاجية والحارقة، والخسائر الضخمة غير المسبوقة منذ الحرب العربية الإسرائيلية العام 1967(1). ولقد صمدت المقاومة في غزّة مستمرّة في تكثيف وتيرة إطلاق الصواريخ نحو جنوب إسرائيل، واستسلم أهلها للترسانة الإسرائيلية ولآخر ابتكارات الأسلحة المتطورة، بحيث خرق بعض وسائل الإعلام العربية وغيرها تلك المذبحة القاسية بعرض مشاهدها وصورها المروّعة التي هزّت العالم، ودفعت الشعوب بمئات الألوف في العواصم والمدن العالمية إلى المطالبة بالتحرُّك لوقف هذه الحرب البشعة بجرائمها ومحارقها وكوارثها، وتبدي الدعم والتأييد لنضال الغزّاويين، وتحاول مؤاساتهم في ما حلّ بهم. ولم يتردَّد فنانو العالم والمشاهير من الإنشغال بملحمة غزّة، حتّى أن مغنيًا أميركيًا ذائع الصيت في العالم مثل مايكل هارت راح يغنّي متعاطفًا مع غزّة، ونقلت حفلاته وسائل الإعلام في الدنيا. وهكذا أوقفت إسرائيل مجازرها وعملياتها العسكرية،مستفيدةً من التجاذب والانقسام العربيين، معلنةً أنّ العملية مستمرّة ً"حسب الحاجة". فسحبت قواتها من غزة انصياعًا لخيبتها من تحقيق النصر الشامل، وكذلك للكثير من المبادرات والنداءات التي كانت تتطلّع بعينٍ واحدة وبقلقٍ كبير الى إطلاق صواريخ "حماس" الكثيف نحو الجنوب الإسرائلي، وتجاوبًا مع غضب الرأي العام العالمي وسخطه وضغوطاته على حكوماته.

 

تتوخَّى هذه الدراسة، وهي تواكب محطة مهمة من التحوُّلات الكبرى على مجمل المستويات في الصراع العربي الإسرائيلي، سواء على مستوى الإنقسامات العربية والإقليمية، أو على مستوى التنافر العربي الإيراني، أو على مستوى نظرة الدول العظمى - وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية - الى منطقة الشرق الأوسط،، تتوخَّى الافتراض أن حربي تموز/يوليو 2006 وغزة 2008 ساهمتا مساهمة فاعلة في تلك التحوُّلات، وبات معهما قطاع غزة والجنوب اللبناني نقطتين تتقاطع عبرهما الاستراتيجيات المتجدِّدة التي لا يمكن فصل بعضها عن بعض، كما لا يمكن دراستها منفردة كأن نتناول استراتيجية الإعلام في حرب غزة بمعزلٍ عن استراتيجية إعلام حزب الله في الجنوب، أو بعيدًا عن استراتيجية الأنفاق، أو عن استراتيجية المبادرات والتسويات الكثيرة. ثمة تقاطع وتكامل في تفاصيل الحربين تدفعنا إلى أن ننظر إلى الزمن الذي نحن فيه وكأنه مشابه للعام 1948 الذي درجنا على تسميته بتاريخ ضياع فلسطين، لكن معطى جديدًا بالغ الأهمية يضاف اليه هو المقاومة التي تنمو وتفترق عن الكثير من الأوراق والاستراتيجيات المتكرِّرة منذ ذلك التاريخ، وآخر على جانب كبير من الأهمية هو انخراط العرب، بالمعنى الواسع الداخلي العربي والخارجي العالمي، في الفضاء على المستويات الإعلامية المختلفة، الأمر الذي يندرج في فضائل العولمة وموروثاتها الكبيرة.

في ضوء ما تقدّم، نتناول في هذه التقاطعات الاستراتيجية خمسة عناوين كبرى: الأول استراتيجية الإعلام بين التعتيم وكشف الأغطية، ومن ثمّ استراتيجية الأنفاق وصور الموت في غزة، لننتقل الى البحث في استراتيجيات الحروب والمستوطنات والإنسحابات وألغازها، وبعدها نعمد الى المعنى الاستراتيجي لعودة فلسطين الى فلسطين، لنعمل أخيرًا على تفكيك عناصر الحرب الإعلامية وتفصيلاتها في غزة، وكيفية الإفادة منها في الإضاءة على مستقبل هذا الصراع التاريخي.

 

أوّلاً: إستراتجية التعتيم وكشف الأغطية

يمكن الافتراض أنّ غزّة، كمسألة، لم تكن تملأ العين والوجدان العالميين قبل هذه الحرب التي جاءت حلقة في سلسلة من الحروب التي ارتكبتها اسرائيل طوال العقود الستة من عمرها الحافلة بالحروب والمجازر بحق الفلسطينيين والعرب. وأمام هذه الإشكالية يمكن طرح السؤال: هل يعود الفضل في تحريك الرأي العام إلى وسائل الإعلام التي باتت قادرة على تخطّي معظم الاستراتيجيات العسكرية والإعلامية أو فضحها، أو كشف الكثير من جوانبها ونتائجها، أم أنه يعود إلى حسن توظيف هذه الوسائل واستخدامها ببراعة في قرن العولمة تحديدًا؟ ولو انسحب هذا السؤال على بعض الإعلام العربي، وخصوصًا في ميدان صراع الشاشات،هل يمكن القول بإن العرب، بعدما انخرطوا في الفضاء متسلِّحين ببعض إعلامهم، باتوا أكثر قدرةً وجدارةً على الانتقال الى مكانٍ آخر أكثر جدوىً في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي المشبع بالهزائم والإنحدارات العربية؟

وإذا كان الأمر كذلك، هل يحقّ لنا بأن نعتقد بأنّ السلطات الإعلامية، بمعناها الواسع، وأمام وطأة الحروب والدماء، هي قادرة على خوض الحروب وتحقيق سلطاتها بما يتجاوز السلطات التقليدية المعهودة المسكونة بالخيبات؟ وبالتالي ما هو مستقبل العرب من حيث تعاملهم مع الصورة، وكيف يوفِّقون بين توفيقهم باستعمالها في الحالات الحرجة مع ثقافات استعمالها المغاير لهم في العالم على المستويات الثقافية والقانونية؟ وكيف بالتالي يمكن فهم أن إعلامًا جديدًا يتأسس في مثلّث بغداد لبنان فلسطين المحتلة؟

 

1- الشاشات تسبق السياسات

لنقل أوّلاً، بإنّ استراتيجيات الإعلام، بمعناها التقني المتطوِّر، قد تضاهي، بل تتجاوز في أحيانٍ كثيرة، الاستراتيجيات العسكرية في كسب الرأي العام واستمالته عن طريق صناعة الصورة وصناعة الإعلام بشكلٍ عام يصحبهما شعور بالإنتماء وإخلاص في الأداء، وخصوصًا عندما نراعي بشكلٍ عام مسائل كبرى، مثل التركيز على تركيز المشاهد حول نقطة محدَّدة مع استعمال التحريض والتحفيز والتبرير، وعدم نخل الصور والمشاهد أو تصفيتها وحجبها، وذلك عن طريق ممارسة مهارات التكرار والهزء، أو تحقير الخصم وفنون الحروب والدعايات النفسية في التغطية والكشف، وحسن استخدام العلاقات العامة كعلوم التوجُّه الى الدبلوماسية العالمية، وفي تجنيد الإعلام لغسل الأبصار والأدمغة والاستعانة بخلق الإشاعات والتضليل وقلب الحقائق وتسويق الأوهام، وغيرها من فنون الإعلام أو علومه التي كادت أن تحوط بمجمل الجوانب الذكية والبرّاقة من العلوم الإنسانية كافة. لكنّ الابتعاد عن مسرح المعارك، ووضع الحرب أوزارها والانصراف الى لملمة بقايا المشاهد والصور، يجعلنا أمام مسائل استراتيجية متجدِّدة المساحات، تختلط فيها الموضوعية بشيءٍ من الذاتية يمكن أن تشكِّل، في ما يتعلّق بغزّة أو بفلسطين ومستقبلها تحديدًا، أبوابًا لمجموعة من الاستراتيجيات المشابهة في ملامحها بعض ما حصل في تموز/يوليو 2006 وقبله بكثير في تاريخ الجنوبيين في لبنان، ولتشكّل كلها نظرةً جديدة الى ما نحن فيه اليوم.

ولنقل ثانيًا، إن هذه الصفات التي ألصقناها ببدايات حرب غزّة، قبل تدخُّل العرب إعلاميًا، تكاد تفسّر أو توحي باستراتيجية إعلامية إسرائيلية قوامها التجهيز الكامل للخطط الإعلامية والإعلاميين بما يتناسب مع حدود الحرب المرتقبة وعدتها وتوقيتها وأهدافها السياسية المتوخَّاة منها. ويتمّ عند إعلان هذه الحرب حجب المعلومات والصور التي سترافقها، وتستمرّ اسرائيل بعدها في دفاعات إعلامية متنوعة بتنوع وسائل الإعلام والأشخاص، فتشكّل استراتيجيتها تلك محطةً مهمة تطرح الكثير من الإشكاليات والمتغيِّرات في الصراع العربي – الإسرائيلي، وتتجاوز عملية تغطية الحقائق الدموية والمشاهد العنيفة التي رافقت هذه الحرب إلى مستوى لافت من الانحياز الكبير أو الصمت في هذا المجال لبعض أجهزة الإعلام العربية والعالمية التي يمكن أن تقع في خانة التواطؤ، خصوصًا في هذه المراحل الممهِّدة لنشوبها.

لقد سبقت الشاشات السياسات، حتّى في قلب اسرائيل حيث كان هناك من لم يستطع الصمت عن هول ما حصل، على الرغم من وسائل الردع الصحافي وتأثيراتها الداخلية والخارجية. وقد يكون أفضل مثالٍ نسوقه عرضًا كفتقٍ ظاهر في استراتيجية التعتيم الاسرائيلية، في هذا المجال، تعرّض مذيعة التلفزيون الإسرائيلية الشابة يونيت ليفي من القناة الثانية الاسرائيلية لحملة تحريضٍ شعبية دموية بسبب جملة جاهرت بها خلال البث، وصاحبتها دمعة حملت بعض التعاطف مع صور ضحايا العدوان الإسرائيلي من النساء والأطفال الممزَّقة أجسادهم من جراء الغارات الإسرائيلية في قطاع غزة. هي لم تعبِّر عن موقف معارض للحرب، ولم تنتقد الجيش الاسرائيلي، أو تشكِّك في رواياته عن الحرب - مع أن رواياته العسكرية كانت تثير الكثير من الشكوك والتضليل في المجتمع الإسرائيلي، حتّى أنّ صحيفة هآرتس في 30 كانون الأول/ديسمبر 2008 خرجت بمقالٍ افتتاحي يشكِّك في صدقية المعلومات التي يطلقها هذا الجيش - بل كل ما فعلته هو إطلاق جملة هي: "من الصعب أن نقنع العالم بعدالة موقفنا في هذه الحرب، عندما يكون عدد القتلى الفلسطينيين 350 مقابل قتيل اسرائيلي واحد". وبسبب هذه الجملة، وقَّّع أربعون ألف مواطن اسرائيلي على عريضة تطالب بمعاقبة المذيعة الإسرائيلية التي "ضعف شعورها القومي"، وبإقالتها مع أنها من أنجح المذيعات في إسرائيل إذ أنها تدير نشرة الأخبار وتقابل أبرز الشخصيات السياسية والعسكرية والخبراء، ولا تساير ولا تهادن ولا تجرح ولا تعادي ضيوفها، وقد نجحت في إبقاء القناة الثانية الأكثر مشاهدةً. ولكن هذا كله تبخّر بسبب تلك الجملة الصحيحة والموضوعية والمهنية للغاية لأن أكثر من نصف الضحايا كانوا حقيقةً من النساء والأطفال. وما حصل مع ليفي ينسحب أيضًا على المذيعة أشورات كوتلر في القناة العاشرة الإسرائيلية، عندما ضمّنت نشرتها قولها: "لا بدّ من التفاوض مع "حماس" قبل أن نضحّي بمئات الإسرائيليين على مذبح ذكورة اسرائيل. لا يمكننا في عصر الصورة أن نغطّي الصور في الإنترنت والهواتف المحمولة والشاشات التي تسحر العالم"(2).

 

2- الحروب الخيالية والحروب الواقعية

قد تقود الصفات الإعلامية الخاصة بحرب غزَّة، والتي أشرنا اليها في السطر الأول من هذه الدراسة، طبيعيًا، في مقاربتها ووقعها أو في وظائفها الأفقية، إلى التخفيف من صورة الكوارث والمذابح والتشوُّهات والأهوال التي وقعت، والتي تمّ حجبها، بالإستناد الى مراعاة القوانين الدولية التي وضعت عتبات تفاهم بين ما هو مسموح أو محظّر نشره وبثّه أمام المشاهدين في العالم، بما لا يكسر العين والنفس والمشاعر، وهذه مسألة تختلف من شعبٍ الى آخر، ومن عين إلى أخرى، ومن ثقافةٍ إلى أخرى. لكن كشف الأغطية العربي الفج والصادق فعلاً عمّا حصل في غزّة، يرشدنا إلى زلزالٍ حقيقي ضرب قطاع غزّة، وتنكّب له بعض الشاشات العربية بحماس وشجاعة غير مسبوقة ما أحرج أو "ضرب" الإعلام العربي والعالمي في الصميم بحيث وجد نفسه منقادًا بدوره، في نهاية المطاف، إلى المساهمة ولو الثقيلة أو البطيئة أو المتردِّدة في كشف بعض الأغطية عمّا أورثه هذا الزلزال من مساحات دموية ودمار هائل، خصوصًا بعدما تبدّى المشهد مخيفًا عندما وضعت الحرب أوزارها بعد 22 يومًا من وقوعها. وقد يمكن الإستنتاج، في مسار تحرّك الشاشات العربية، أن تلك المتردِّدة منها أساسًا في نقل الوقائع، كانت تعكس ترددًا وارتباكًا رسميين من قبل مجموعات من الأنظمة التي بانت وكأنها تحرق أصابعها مرّتين: مرّةً حيال عجزها أمام تململ شعوبها وتحرُّكها حيال ما كان يرد من صور عن مجازر غزّة، ومرّة أخرى حيال عجزها عن الاستمرار بثبات في التزاماتها غير المعلنة تجاه الإدارات الغربية، والتزامات الأوراق والأفكار المرسومة المستوردة لقضايا الشرق الأوسط. 

لكن اللافت أن ارتدادات هذا الزلزال في العين العالمية، عبر وسائل الاتصال المتنوِّعة، تجاوزت بكثير ما كان يتمّ بثّه أو حجبه، وحرّكت التظاهرات والاحتجاجات والإرباكات في العالم الى درجة انجذبت اليها الأنظار، بينما كانت الأعين العربية تنجذب الى غزّة كما تتابع، في الوقت نفسه، الانشقاقات الكبرى التي حصلت بين الأنظمة والزعماء والملوك العرب، وتنصرف الى الساحات والمواقف العالمية، وتنتظر وتترقَّب وفق ما أسميناه الزلزال. صحيح أن العين تلتقط اللحظة وتؤبِّدها وتدفع بها نحو العقل والعاطفة والشعور استدرارًا لردود فعلٍ طبيعية أو موقف أو سلوك، لكن الذاكراة سرعان ما ترقد وتذهب إلى نسيان لتنشغل بمدى بصري دائمٍ وغني هو إعلام ما بعد الحروب. وفي هذا المجال، ليست إلا الصورة قادرة على سلخ اللحظة وتجميدها وحقنها بنبض الحياة لتغزو المساحات اللامحدودة، وتحرّض الآخرين على تقاسم ملامحها، خصوصًا عندما تكون تلك اللحظة الملموسة محشوَّة بالدم والأشلاء والصراخ. وعلى الرغم من قوّة الصور ووظائفها الضاغطة على الجماهير في وفرتها وهدأتها، كما على مراكز القرار على السواء، فإنها بالمعنى الحقيقي للكلمة تبقى عاجزة عن نقل تفاصيل الحروب والصراعات بالكامل. نحن نلتقط نتفًا من المشاهد إذن، إلاّ إذا تيسّرت لنا رؤيتها بطريقة بانورامية عبر الأفلام التي قد تلتقطها الأقمار الصناعية، وهنا تبرز مهارة المصورين وحذقهم في التقاط المشاهد، كما تبرز مهارة السرعة في بث الصور الفعالة والتعليقات عليها وتكرارها . يصعب إذن تركيب أو إعادة تركيب المشهد العام في استراتيجيات ترتيب الصور، أو إعادة ترتيبها والخروج منها إلى تفاصيل الصراع بين استراتيجيات المشاهد فوق صحائف الورق وعلى الشاشات.

 وقد تذكّرنا خطّة اسرائيل الإعلامية في غزّة باستراتيجية حرب "عاصفة الصحراء"(3) للتحالف الأميركي الأوّل في الخليج، التي بدت في الخطة الإعلامية "وكأنها لم تقع أو تحصل أصلاً"(4)، وهي جاءت في أعقاب غزو العراق للكويت عبر ما سمّي آنذاك "أوتوستراد الموت"(5) بحيث اعتمدت قوات التحالف،أيضاً، استراتيجية حجب الحقائق وتغطيتها وتقنينها. وكانت الكاميرات لا ترى إلاّ بعيون جنود التحالف. وما كان خروجها عن المسموح به من التقاط صور، أو بثّها، بما يثبط من عزائم الأميركيين أو يرفع من حدّة التظاهر والإحتجاج على الحرب في عواصم العالم، إلاّ مسألة بقيت تحت دوائر الرقابة المشدَّدة. ولأنّ الصور القوية الدموية تولد، في الغالب، ميتةً في ثقافة الغرب، إذ تقع ضحية اعتباراتٍ كثيرة تحول دون نشرها قبل ثلاثة أيامٍ من وقوعها، فإنها تصل غالباً متأخرة، فتُهمل أو تخسر الكثير من قيمتها الخبرية والتأثيرية، بالإضافة إلى عوامل التحيُّز التي تهمل نشر هذا النوع من الصور المدانة سلفًا وأساسًا(6). وقد تستدعي هذه الخطة بالذات، في أذهاننا، صورة القرن الواحد والعشرين، أو صورة نسف برجي مركز التجارة العالمي(7) في واشنطن وسقوطهما، والتي احتلت مراكز الصدارة والاهتمام وما زالت في وسائل الإعلام في العالم، لكن الإدارة الأميركية حجبت عن العين العالمية، منذ لحظة وقوع الاعتداء، مشهد نقطة دم واحدة أو إظهار جثة متشوِّهة، واكتفت، بالرغم من تقديسها للديمقراطية، وهول ما حصل، بتزويد وسائل الإعلام مشهد نسف مئة طابقٍ وطابق أو نصف مليون طن من الجدران المتناثرة بالإضافة إلى صور أربع طائرات مدنية تمّ خطفها واستخدامها في التفجير، وهو الأمر الذي قد كان لا يمكن تلافيه أو حجبه عن أنظار العالم، مهما كانت أبعاده ومراميه وتداعياته. 

 

3- التحولات الإعلامية الاستراتيجية

على الرغم من المسافة الزمنية البسيطة التي تبعدنا عن هذا الزلزال الغزّوي، والذي يحتاج في قراءة تداعياته وعبره ودروسه إلى الكثير من التروِّي توخِّيًا للموضوعية العلمية، واستدرار العبر، فإنّ نقاطًا استراتيجية إعلامية جديدة يمكن إدراجها في هذا المجال:

أ- تحوّلات موقع لبنان الإعلامي

لم يأتِ مثلاً، غياب مصر، "أم الدنيا" وفقاً للتسمية الرسمية المصرِّح بها وزير خارجيتها أحمد أبو الغيط، ومقاطعتها القمة العربية الواحدة والعشرين الأخيرة في قطر، ذات بُعدٍ استراتيجي يصبّ في التنافر القائم بين عرب المقاومة والممانعة وعرب السلام، بقدر ما جاء نابعًا من جرحٍ أحدثته "إمبراطورية الجزيرة" الإعلامية التابعة لقطر في أثناء حرب غزّة والتي أمعنت في تهشيم صورة مصر أمام أعين العرب والعالم(8)، وخصوصاً في مواقف هذه الأخيرة من معضلة فتح معبر رفح. صحيح أن التباينات سياسية واستراتيجية بين العربين، ولو لم تقرّ مصر رسمياً بذلك، لكن الصحيح، أيضًا، أن "الجزيرة" وغيرها من وسائل الإعلام العربية، كانت تصوّب سهامها نحو النظام المصري مباشرةً، أو عبر نقل تصريحات السياسيين التي وصلت إلى حدود التخوين. يكاد المرء يرى لبنان، إعلاميًا، في خضم الأزمات العربية، لكنّه، وللمرة الأولى، استفاد، بشكلٍ غير مقصود، على الرغم من تشظيَّاته أو تعدديته السياسية الإعلامية، من هذا المناخ الإعلامي الجديد. كيف؟

كان لبنان، وإلى زمنٍ قريب، يُعتبَر "الدولة الإعلامية" أو الـ "Media state"،التي كانت تضطلع بدور "المرآة المتورِّطة" التي يمكن أن ينعكس في صفحتها بوضوح وخبث، الكثير من التجاذبات والخلافات العربية السياسية والإيديولوجية، وغيرها من المتناقضات التي غالبًا ما كانت تصل بين العرب الى حدود الإنقسام. وقد وفّرت له طبيعة نظامه السياسي، ومساحات الحرية الواسعة فيه، دورًا إعلاميًا كبيرًا في تاريخ العرب السياسي المعاصر أورثه الكثير من المتاعب والمشاكل التي كانت تصل بدورها الى مستوى شن النزاعات والحروب الداخلية. وقد كان هذا الدور يتجاوز وظيفة الإنعكاس الى وظيفتي المشاركة وإذكاء الصراعات والفتن بين اللبنانيين من ناحية، وبين الأنظمة العربية نفسها كما بينها وبعض الفئات من اللبنانيين من ناحية أخرى(9).

وعلى الرغم من أنّ لبنان لم يفقد بعد هذا الدور المميَّز إعلاميًا، فالعرب، في أقطارهم كافة، قد انخرطوا في الشاشات، مستعينين بالكثير من الخبراء والإعلاميين والإعلانيين اللبنانيين، وراحوا ينفقون الثروات الطائلة على وسائل الإعلام التي فتنوا بها. هكذا تحوّلت هذه الصراعات والتجاذبات والانقسامات في طبيعتها، وتوسَّعت في حدودها إلى أكثر من نقطة ودولة عربية لتصبح ذات طابع عربي وإقليمي بعدما كانت محصورة بلبنان إلى حدٍّ كبير.

بات لبنان جزءًا مهمًا ومتقدمًا، ولكنه ليس وحيداً في تعميم مصطلحي المقاومة مقابل المساومة، أو الإعتدال والممانعة مقابل القتال والدفاع، في المناخ الذي خيّم وما زال يخيّم على المنطقة والعالم في موضوع الصراع العربي - الإسرائيلي.

ب- "السانزورا" وتقاطع حربي لبنان وغزّة

يفترض عدم التردد في المجازفة العلمية وصف الهجومين على لبنان (12 تموز/يوليو 2006) وغزّة (27 كانون الأول/ديسمبر 2008) بالزلزال، والربط بينهما عسكريًا وإعلاميًا مع ما هناك من أوجه شبه وتباين في الشكل والمضمون، لا في النتائج، على مستوى التقديرات العربية التي استمرّت وتستمر في مجموعها نقاط تجاذب استراتيجية بين اللبنانيين والفلسطينيين، كما على المستويات العربية والإقليمية والدولية، مع العلم أن اسرائيل بذاتها إعترفت بعناصر حسيّة لتلك الهزائم، وأشارت اليها "واشنطن بوست" عندما تناولت استراتيجيات الحرب على حركات المقاومة، واستراتيجيات المقاومة في حرب تموز/يوليو التي عدّلت الإستراتيجيات العسكرية في غزة، كما شكّلت مرجعًا لأخذ العبر في استراتيجيات المستقبل كما في عمليات الإنفاق العسكري(10). وقد تكون أخطر التداعيات الناتجة عن هاتين الحربين، في الجنوب اللبناني وغزّة، وخصوصًا ما يتعلّق منها بمعبر رفح، تلك الإتهامات والإتهامات بين حزب الله والنظام المصري التي بدأت في إبّان الحرب، لتبلغ ذروتها مع توقيف المقاتل سامي شهاب ورفاقه من حزب الله بتهمة حيازة اسلحة وذخائر بهدف القيام بتفجيرات في الأراضي المصرية من وجهة النظر المصرية، مقابل اعتراف السيد حسن نصرالله "بانتماء شهاب الى حزب الله، ولكن الأسلحة والذخائر التي ضبطت في حوزته، أتت في إطار المساعدة المعترف بها للفلسطينيين والتي تقتصر على إيصال الأسلحة لرجال حماس، وهو يتحمَّلها سواء أكانت جريمة أو ذنبًا أو تهمة، ولو كان الهدف منها النيل من حزب الله، وتشويه صورته، مع أن حركات المقاومة، كما قال، تحظى باحترامٍ شديد لدى المصريين والشعوب العربية، ولا نيّة في هذا المجال لأي عدائية مع العرب..."(11). ينتج عن تلك التداعيات، بالتحليل الأفقي للأمور، محصلة تساهم في ردم الهوّة المذهبية المتنامية بين السنة والشيعة في موضوع الموقف من المقاومة، وتسويق الخيارات الصدامية المطروحة لمعضلة حل الصراع العربي - الإسرائيلي، والذي تتقدّم فيه إيران بخطوات مباشرة ملحوظة وقوية.

وقد نعزو السبب الجوهري، في الربط بين الحربين، إلى أن الهزيمة المتنازع حول مصطلحها وأحقيتها أو عدمه بين الطرفين الكبيرين في لبنان (8 و14 آذار)، والتي مُنِيَ بها العدو الإسرائيلي في الجنوب اللبناني من قبل رجال المقاومة، سواء في التحرير العام 2000، أو في مقاومة العدو الإسرائيلي وطرده خائبًا من الجنوب في تموز/يوليو 2006، تمّت محاولة تعويضها بمضاعفة بطش اسرائيل العسكري في حرب غزّة بنيّة استعادة هيبة الجيش الإسرائيلي من ناحية، من دون القدرة على تحقيق الإنتصار على الفصائل المقاومة في غزّة وفي طليعتها حماس، ومن ناحية أخرى باللجوء الى تشديد الرقابة وسياسة التعتيم على وسائل الإعلام في إسرائيل والعالم وفق خطّةٍ مدروسة، تعويضًا عن الفوضى الإعلامية العارمة التي شابت حرب تموز/يوليو 2006 إسرائيلياً، والتي يعتبرها الإسرائيلي ثغرة كبرى أورثته قسمًا كبيرًا من إخفاقاته، أو يتذرّع بأنها كانت في أسباب هزيمته الجوهرية.

يقول إلياهو فينوغراد "إن الجيش قد طبَّق في غزّة إعلاميًا دروس حرب لبنان الثانية، ومنع تسريب الصور والمعلومات. ولم يتنافس الصحافيون على تحقيق سبقٍ صحافي، وانخفضت التسريبات والاتصالات من قبل الضباط والجنود، خلافًا لما حصل في حرب لبنان من تسيُّبٍ إعلامي إسرائيلي، حيث كان الجنود والضباط يتكلَّمون في الهواتف من الجبهة، ويخبرون الأهل بأحوالهم، وتبيَّن أن حزب الله كان يرصد المكالمات، ويترجم مضمونها، ويعرف من خلال الذبذبات الصوتية مواقع الجنود الإسرائيليين، ويستفيد من ذلك في إدارة الحرب الى درجةٍ تمكّن فيها من إنزال الهزيمة بجنودنا، إلى تدمير المركز الإعلامي الذي كنا أقمناه في شمال اسرائيل لإدارة حرب تموز/يوليو إعلامياً"(12). لقد تعاطى الإعلام الإسرائيلي في الحرب على غزّة بأساليب مختلفة تمامًا، وبتوجيه وتأييد وتعاطف بارز. ومن يراجع بعض مواد الوسائل الإعلامية الإسرائيلية، يلمس بأنها كانت شريكة فعلية في صنع هذه الحرب كما في قراراتها وعند حدوثها وما بعد انتهائها، وهي شراكة أربكت الجيش الإسرائيلي الذي لم يحترم وسائل الإعلام كثيرًا على بعض مواقفها، لهذا كنا نراه يتشدَّد في فرض القيود على تغطية مجريات الأحداث، بعدما أقفل الأبواب الغزاوية في وجه الصحافة الإسرائيلية والأجنبية محاولاً الإطباق على القطاع، وطمس معالم الحرب الإجرامية، وتشويه أهدافها وصورها ومجراها الحقيقي بما يحمّلها زورًا عدم استهداف المدنيين وتخليصهم من المقاومة القائمة في ما بينهم، وفارضًا لذلك رقابةً عسكرية وإعلامية صارمة، بحيث كان لا يمرّ أو يبث أي تقرير من دون مقص "السانزورا" بالعبرية أو الرقيب بالعربية أي الـ Censure الى درجة التعتيم الكامل(13)، وهو ما يتنافى مع مقتضيات القانون الدولي لحماية حقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني، والقوانين الدولية في حماية الصحافيين.

وإذا كانت الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية رمت الى عزل غزّة بالكامل، والإنقضاض عليها في غفلةٍ من انتباه العين السياسية العالمية، عن طريق حجب الرؤية عمّا يمكن أن تفعله هناك، فإنّ استراتيجية الأنفاق مقاومة في حدّ ذاتها، اعتمدها الفلسطينيون في غزّة لتآلفهم مع الموت، بما حوّل تلك الإستراتيجيات، وعطّل الكثير من مفاعيلها على المستوى العسكري، كما على المستوى الإعلامي وإمكان بث الصور من مواقع كان يستحيل كشفها للعدو الذي يحاصر القطاع ويدكه بالقذائف.

 

ثانياً: استراتيجية الأنفاق وصور الموت:

كانت الأنفاق في غزة وما زالت تعتبر، وأكثر من أي وقت مضى، الشريان الطبيعي الوحيد لحياة الغزّاويين ما لم تفتح المعابر بشكلٍ دائم. وسيبقى العالم يسمع ويرى أكثر من ذي قبل عن الإستمرار في تدمير بعض الأنفاق(14)، وما الفشل الإسرائيلي في غزة وانهيار استراتيجية التعتيم الإعلامية هناك سوى حافز لجذب العين العالمية أكثر فأكثر نحو حياة الأنفاق. ولا يفيد الإختلاف العربي حول المصطلحات ودور الإعلام الذي يراه البعض مساهمًا في تعميق الشروخ بين العرب، بينما يراه البعض الآخر صاحب دورٍ مقاوم يتجاوز المعالجات والسياسات العربية التقليدية لأزماتهم. لهذا كلّه، يفترض منّا عدم المجازفة في الإمعان بوضع بعض الإعلام المحلي والإقليمي أمام المحاسبة، بتهمة السقوط الأخلاقي والمهني القومي في أثناء تغطية الحرب، بل يستحسن المساعدة في إلقاء الأضواء الإعلامية على معاني الأنفاق وأبعادها ومرارات الحصار وأبعاده، وفضح الرضوخ الإعلامي المباشر وغير المباشر للسيطرة الإسرائيلية على وسائل الإعلام الذي ولّد تضليلاً لافتًا على مستوى القراء والمستمعين والمشاهدين والصحافيين وصانعي القرار في العالم. وهذا ما يفترض أن يصبّ في مصلحة وحدة الفلسطينيين والعرب في البحث عن مستقبل مقبول سلمًا أكان هذا المستقبل أم حربًا ومقاومة. ومن المهم جدّاً العمل في زمن الحرب التي لا يفترض الركون إلى مباغتة الخصم مستفيدين من عصر الإتصالات والمخابرات والأقمار الصناعية، لكنّ الأهم هو كيفية العمل المضاعف والمنظّم في زمن السلم والهدوء والنقاش واستلال العبر والدروس.

وهنا نتساءل عن "استراتيجية" الأنفاق التي خرجت إعلاميًّا الى الضوء، ولربما مصادفةً، بفضل وسائل الإعلام التي كانت غير قادرة على الفصل بين المجازر التي طاولت الغزّاويين في الحرب والتي كانت تطاولهم عبر صناعة الأنفاق بأنواع الموت والعذاب شتى، بحيث أنّ رفع الأغطية عن الحياة التي تفوق التصور هناك، كان لا يمكن أو لا يعقل إغفاله أو سلخه عن الكوارث والأمراض والفاقة والعذابات والقهر التي يعانيها مليون ونصف مليون بشري يشكِّلون سكان غزة ويحشرون في واحد وثلاثة وثلاثين بالمئة من مساحة فلسطين التاريخية، أو داخل الأنفاق، ومعظمهم يتحرَّك في 45 كلم مربع هي مساحة مدينة غزّة.

 

1- السلاح قاطع أطراف الأطفال

صورتان شاملتان تسكنان من يدخل في تفاصيل تاريخ غزّة والغزّاويين: الصورة الأولى تمثّل الإنسان هناك يأتي من ترابٍ ليعود اليه بعدما يعيش حياته في قلب الأرض، وهو مشهد يضعنا، في استراتيجية بناء الأنفاق، أمام الأطفال الصغار الذين تراوح أعمارهم بين سن السابعة والخمسة عشرة يمضون ساعات طويلة يحفرون الأنفاق بأيديهم تحت الأرض، وكأنهم تراب طري ينبش في التراب ليبني مدينته ويحصّن حياته ومقاومته. يسميهم الكاتب الفرنسي جورج مالبرونو "أهل "الطفولة البائسة" التي لا تحتمل ولا تنتهي ملامح مشهدها البائس حيث تسعفهم أجسادهم الصغيرة في صناعة الأنفاق إذ يحفرون في الرمل أجيالاً مجبولة بالبؤس التاريخي والمقاومة الطبيعية"(15). وكأن هؤلاء قد اقتبسوا غريزتي النمل والنحل في هموم البقاء والتواصل والتبادل تحت التراب، وهم يتجاوزون، بالطبع، كلّ حبر وقولٍ وتحليل في تثبيت قانون الحياة وقوّة الإنسان. فالأطفال الذين يحفرون الأنفاق بأجسادهم الطرية الصغيرة أقوى من كلّ سلاح، ولو أن المخيَّلة البشرية اخترعت لهم سلاحًا خياليًا استعملته اسرائيل للمرّة الأولى في حرب غزّة الأخيرة، ووظيفته بتر النتؤآت الظاهرة. فقد استعملت اسرائيل في هذه الحرب، قذائف محرّمة دوليًا من الفوسفور الأبيض  JBU-39الشديد الاحتراق، وصنعت مصانع الأسلحة الغربية لأطفال غزّة،تحديدًا، القنبلة المخصَّصة لبتر الأطراف التي عرفت باسم دايم التي تظهر للمرّة الأولى، ويُعتبر استخدامها من جرائم الحرب الكبرى. وتعني DIME، انفجار المعدن المكثّف الصلب أو Dense inert metal exploses (16).

يقول المفكّر الفرنسي جوزف فندريس، إنّ اليدين هما أغلى الأعضاء في جسد الإنسان. وقد بنى حولهما نظرية في خلال بحثه عن العناصر المتشابهة والمتطابقة التي تؤلف عناصر بني البشر، فتوحِّدهم قبل صرخة الولادة وبعد الموت في دائرتين متشابهتين هما الرحم والقبر يبدون فيهما مثل طبقةٍ واحدة يتساوى فيها الناس ملوكًا ومعدومين بشكلٍ كامل، وهم لا يفترقون ويتباينون في الشكل واللون والقامة والذكاء والحظوظ إلاّ في دائرة الحياة التي تتوسَّط الدائرتين المذكورتين. كان فندريس يتوخَّى في بحثه التطلّع إلى إيجاد أو اختراع لغةٍ واحدة يتواصل بواسطتها أبناء البشر الذين لا يعقل، في رأيه، أن تتبلبل ألسنتهم وتنشب الحروب اللامنتهية في ما بينهم طالما بدأ تواصلهم متشابهًا ومشتقًّا من صرخاتهم الأولى. وهو يرى أن هذه الكتل البشرية التي افترقت عن الكائنات الأخرى بنعمة العقل والحوار، افترقت أيضًا عنها بأطرافها الأربعة، فيقترح فرضية التساوي بين نعمة العقل وقوّة الأطراف التي لولاها لما استطاع الإنسان بناء الحضارات وإقامة الصناعات وتطويع حضارتي اليابسة والمياه(17). وهذا الإنسان قادر اليوم على خوض الفضاء وتطويع حضارة الهواء، الأمر الذي لم يكن في زمن فندريس محققًا بعد. بهذا تكتمل استطالات العناصر الثلاثة التي يتألف منها الكائن أي التراب والماء والهواء، أمّا العنصر الرابع فهو النار التي يلهو بها البشر مثل لعبة لا تنتهي حتّى يوم القيامة.

وإذا كانت هناك أيدٍ تعمل وأخرى تبذخ، ففي رفح "يرتاح أصحاب الأنفاق من رجال الأعمال الشبان أو "أغنياء الحرب" الذين جمعوا ثروات طائلة من صناعة أنفاق التهريب باستخدام جيوش من الأيدي العاملة الصغيرة، والعمال العاطلين"(18)، حيث تتحوَّل الأنفاق تجارة هائلة، تجعلنا نمقت أبعاد اللغو السياسي الذي يدور هناك، والجدل في التصريحات والتعميات والأوراق والمبادرات وطمس الحقائق وكلها تتمحور حول مراقبة الأنفاق من قبل لجانٍ أقليمية مطعّمة بمراقبين أوروبيين. إن من يدخل ولو بالصورة والصوت والنص عبر هذه الأنفاق، ومن خلال الشاشات، يدرك معنى تلك التسميات الوحشية التي اخترعتها اسرائيل لغزّة، بتسهيلٍ من الاعتدال العربي، هذا الجبل المشتعل منذ ما قبل الميلاد، كأن يطلقون عليها تسمية "وكر الأفاعي" أو "مستنقع التماسيح" أو "البركان المخيف"(19). ويحلم كلّ مسؤول إسرائيلي بأن يستيقظ يومًا وقد ابتلعها البحر، في الوقت الذي يرتعد فيه بعض المستفيدين من رجال الأعمال العرب من اختفاء هذه الأنفاق الغائرة في عمق الصحراء التي تدرّ عليهم ذهبًا.

 

2- الأجيال الترابية

كان محمد الأسود المعروف بـ "جيفارا غزّة"، واللاجئ من حيفا، مسؤول الجبهة الشعبية في قطاع غزّة، والملاحق من اسرائيل، أحد القادة الأوائل الذين التمسوا، منذ سبعينيات القرن الماضي وبعد ترسيم الحدود بين مصر وفلسطين المحتلة عقب اتفاقية كامب دايفيد، "مهنة الموت" أو أسلوب الأنفاق في نضال الفلسطينيين لتجاوز الحصار الإسرائيلي وكثافة الملاحقة الإسرائيلية(20). وعلى الرغم من أنّ فكرة الأنفاق قد استعملها الفيتناميون بجدارة ضد الولايات المتحدة الأميركية، كما استعملها المقاومون اللبنانيون الجنوبيون في مقاتلتهم إسرائيل العام 2006، فإنّ الأنفاق الغزّاوية أصبحت ظاهرة نادرة متداولة في العالم. بدأ حفرها كممرات سريّة يتنقل المقاومون الفارون من الملاحقة الإسرائيلية بينها بحيث تعجز قوّات الإحتلال عن معرفة أماكن وجودهم. ويعرف الحفّار "بالقطّاع" يتبعه الصغار لتعبئة الرمال وحملها الى الخارج "بالبايلة" الصغيرة الأحجام ثمّ بالبراميل المقصوصة لقاء مئة دولار لكلّ مترٍ يتم حفره.

وتطوَّرت ظاهرة الأنفاق(21) هذه مع بدء الانتفاضة الأولى العام 1987، لتمتد من غزّة المحاصرة، على خط الحدود الى سيناء وأرض مصر أي خارج الأراضي الفلسطينية، ما يجعل النفق يصل بين منزلين متقابلين على جانبي الحدود. ومع قدوم السلطة الفلسطينية العام 1994، وفي إطار تنسيقها الأمني مع قوات الإحتلال، قامت الأخيرة بتدمير آلاف المنازل المحاذية الشريط الحدودي الأمر الذي زاد، مع اندلاع انتفاضة الأقصى، من أهمية صناعة الأنفاق التي باتت أكثر دقّة. فحفرها يتطلَّب شهرين وأكثر، ويبلغ عمقها 13 مترًا وقد يصل إلى ثلاثين مترًا تحت الأرض، ويصل طولها إلى 1000 متر وعرضها إلى مترين. وقد جاهرت إسرائيل بخشيتها، بعد حرب غزّة وتدمير الكثير من الأنفاق، أن يعيد الغزّاويون بناء الأنفاق وتوسيعها عرضًا ما يسمح بتمرير أسلحة لم تكن تصل إليهم قبلاً (22).

تصل كلفة النفق إلى 60 ألف دولار يُدفَع نصفها إلى صاحب البيت الذي يُعتمَد كبداية للنفق أو ذيله كما تشير التسمية، ويخصَّص الباقي للوازم الحفر المعروفة بـ "الأرنب" والحفَّارين الصغار والعمال والمهندسين. وقد يحقّق مالك النفق أرباحًا طائلة قد تصل الى أكثر من خمسين ألف دولار شهرياً. وقد ازدهرت عوالم الأنفاق من حيث كيفية بنائها وتجهيزها بالفتحات اللازمة ما يجعلها أقل عرضة لسهولة الردم أو التهديم، حتى بات يقدَّر عدد الأنفاق بين رفح الفلسطينية والمصرية قبل الحرب الأخيرة على غزة بـ 1200 نفق لها أكثر من 870 مدخلاً في الأراضي المصرية. وقد يقدم كبار التجار على شراء الأنفاق بأسعارٍ قد تصل أحيانًا إلى 150 ألف دولار.

يغضّ مصريو الحدود من البدو ورجال الأمن، الطرف عن حركة الأنفاق، مدفوعين بالرشوة بسبب منابتهم الفقيرة أحيانًا كما لصلات النسب التي تربطهم مع عائلات الفلسطينيين، فيعرف واحدهم بـ "الأمين" بلغة الأنفاق، ويقتصر دوره على السهر على باب النفق أو "رأس الأفعى" باللغة عينها، مقابل حصص مالية وعينية لتأمين المتنقلين في هذه الأنفاق ذهابًا وإيابًا عند الحفر أو عند نقل المواد الغذائية والبضائع والأدوية وقطع غيار السيارات والأجهزة الالكترونية وحتّى المحروقات لسدّ حاجيات أهل غزّة.

وبدءًا من العام 2000، تغيّرت المعطيات، وبدأ الفلسطينيون بنقل الأسلحة والذخائر التي كانت تتدفَّق عبر الأنفاق مع اشتداد الحصار الذي بلغ أعلى وتيرة له مع انسحاب اسرائيل من القطاع صيف العام 2005، وسيطرة حماس عليه في تموز/يوليو 2007، ووصلت الى إدخال الصواريخ الإيرانية والروسية والصواريخ المضادة للطائرات، بالإضافة الى أطنان مادة "تي أن تي" وغيرها من المتفجرات الضرورية لإشعال الصواريخ التي كانت تنقل مفكَّكة قطعًا صغيرة، فتعيد حماس تركيبها وتطلقها على مدن اسرائيل الجنوبية. وأصبحت هذه الأنفاق تستخدم لإدخال الفلسطينيين وغير الفلسطينيين الذين يرغبون في الوصول الى القطاع.

لم يكن الأمر يخلو من أنشطة المهرِّبين الذين كانت مصر تتصدّى لهم فوق أراضيها، أو تشيح الطرف عمّا يفعلونه أو ينقله المناضلون الفلسطينيون. وعلى الرغم من معرفة اسرائيل بالأنفاق، فإنها كانت، قبل انسحابها، أمام فكرتين لم تستطع تحقيقهما للتخلص من هذا الأسلوب النضالي: إمّا بناء جدار يروح في عمق الأرض بين غزّة ومصر، أو إقامة سدٍّ مائي كبير تنهار فيه الأنفاق. ومع سيطرة حماس على غزّة، تحوَّلت طريقة التعاطي المصري مع ظاهرة الأنفاق، وخصوصًا معبر رفح، بين أساليب الفتح والإقفال أو تدمير الأنفاق، وبدت كمادة ضغوط سياسية يمكن استخدامها في العلاقات المتوترة بين غزّة ورام الله حيث يفتح النفق ويغلق بإمكانات الضغوط لفتح الحوارات وانقطاعها.

أمّا الصورة الثانية التي صاحبت مجازر غزٌة فهي التراب يمشي على التراب، أو التراب يطحن التراب. وإنّ أفضل ما يجسّد ملامح هذه الصورة العامّة المجبولة بالموت والعذاب، والتي تتكامل مع الصورة الأولى المطحونة مع القصف والضحايا، هو "أن الموت في غزّة بان جزءًا  حميمًا من حياة الغزّاويين، فإمّا أن تموت قصفًا هناك، أو حصارًا، أو منتظرًا دواءً لن يصل، أو أن تموت صامتًا كحياتك الترابية، تدفن نفسك قبل أن تدفن، تدفن داخل الأنفاق نتيجة الإنهيارات وتشققات التربة في أثناء الحفر، أو تدفن في المكان نفسه إذ تستنشق الغازات السامة التي يمكن أن يضخها رجال الأمن المصريين عند اكتشافها هربًا من العقاب من رؤسائهم لغفلتهم، أو لعدم قبض حصصهم كاملة لقاء غضّ النظر عن أعمال الحفر، وتدفن هناك، بالطبع، في أعقاب التفجيرات الإسرائيلية داخل الأنفاق. لا من ينوح عليك سوى التراب المطبق على حياتك، ولن تجد كفنًا لك سوى التراب. أنت هناك تولد وتموت في التراب"(23).

هاتان الصورتان الشاملتان المأسويتان على صوفيتهما الزائدة في نقل صور الموت يقارع الموت، وحيث جثث الأطفال والنساء، يجعلنا نشعر وكأننا اليوم في مرحلة من الضبابية الكاملة المقتصرة على استهلاك الزمن، مع المزيد من الإستغراق في الدماء والأشلاء والعبثية والإنحياز العالمي المستمر لإسرائيل.

 

ثالثاً- استراتيجية الحروب والمستوطنات والإنسحابات وألغازها

ماذا يعني هذا الكلام وتلك الصور عن غزة، وماذا تعني غزّة استراتيجيًا؟

1- المعنى التاريخي  

تعني غزة الكثير بالمعنى التاريخي. هي بكلمتين بلدة سمِّيت بأرض كنعان. استوطنها العويون ثمّ الكفتاريون ثم العناقيون كما استوطنها المديانيون والأدميون والعموريون قبل أن يهاجر اليها الكنعانيون من الجزيرة العربية ليبنوها على تلٍّ قبل أكثر من 5500 عام. وقد تبدَّل اسمها مع السنين فعرفها الكنعانيون بـ "هزاني"، والأشوريون بـ "عزاتي"، بينما عرفها العبرانيون بـ "عزّة". تعرّضت لسلسلة من المذابح على يد الإسرائيليين بعد احتلالهم لها العام 1965 مثل مجزرة غزّة ومجزرة خان يونس ومجزرة رفح. وسواء أسماها المصريون أو غيرهم من العرب غازاتو، أو غاداتو، أو أسماها حكام إسرائيل بأسماء أكثر بشاعةً سبق ذكرها، فإنها تلة مقاومة اشتعلت في زمن الانطفاء العربي لشدّة نفخها في بوابير الكاز والغاز والحصار، واحتفظت باسمها العربي الذي ما زالت تحمله حتى الآن(24). وهذا يعني أنها قد تشكل حلقة وصل جديدة بين دمائها والدم العربي بمعناه الشعبي والديني الرافض لكل واقع داخلي أو خارجي، بالرغم من المعازل الفلسطينية الكثيرة التي نصبها العدو الإسرائيلي بين النسيج الفلسطيني الواحد، وتجاوزًا للمعازل العربية السياسية الكثيرة القائمة بدفع من الخارج، بين عربٍ وعرب.

2- المعنى الديمقراطي

تعني غزة تاريخيًا أيضًا، وبالمعنى الديمقراطي، أنه منذ ثلاث سنوات بالتحديد أي في كانون الثاني/يناير 2006 حقَّقت حماس انتصارًا ساحقًا في الإنتخابات الديمقراطية التي جرت في غزّة، وباشرت حكومة حماس مهامها بعد شهرفي ظلّ قطع الغرب مساعداته المباشرة لها. ثمّ شنّت إسرائيل في حزيران/يونيومن العام نفسه، هجومًا واسعًا على غزّة عقب اختطاف المقاومين هناك جنديًا إسرائيليًا هو جلعاد شاليط. ودارت موجات عنفٍ بين حركتي فتح وحماس على خلفية محادثات حول قيام حكومة موحَّدة بينهما في تشرين الثاني/أكتوبر من العام نفسه، راحت تقوى وتشتدُّ حينًا لتخفّ أحيانًا أخرى أمام الهجمات الإسرائيلية التي تسبَّبت بقتل المئات.

وبقيت غزّة تترنَّح بين القتال الداخلي والهجوم الخارجي حتى 15 آذار/مارس من العام نفسه، تاريخ الإعلان عن قيام حكومة الوحدة الوطنية الذي بقي متعثرًا بين فتح وحماس، على الرغم من إعلانات وقف إطلاق النار الخمسة التي كانت تُخرق قبل جفاف الحبر، الأمر الذي دفع بالجيش الإسرائيلي إلى اعتقال 33 وجهًا بارزًا من حماس في 24 أيار/مايو 2007، أعقبه قيام الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس بإعلان حالة الطوارئ وإقالة الحكومة كردّ فعلٍ سريعة وغير مبرَّرة على اشتباكات 9 - 15 تموز/يوليو، والذي دفع الجناح العسكري لحماس إلى إعلان سيطرته التامة على قطاع غزّة.

3- لغز الإنسحاب

وتعني غزة ثالثًا بأنّ اللغز، بالمعنى الاستراتيجي، كان ظاهرًا منذ الانسحاب الأحادي لشارون من غزّة العام 2005: تكريس صيغة الانقسام بين فتح وحماس ما يوصل إلى خربطة الطريق، بالباء، بين غزة والضفة لا إلى خريطة الطريق (25/6/2002)، وإعادة الإنتشار انسحابًا لم يكن نهائيًا من غزة ولا استيطانًا نهائيًا في الضفة. الهدف هو فكّ اللحام مع مقتضيات خريطة الطريق الدولية، بما يقود إلى اللامكان حيث الأساس احتواء الصراعات لا إنهائها في غزّة وغير غزّة. مصر تتكفَّل بردم الهوة بين الانسحاب الأحادي والخريطة المذكورة، بما يفرز أرضًا أكثر وعربًا أقل. وهذا يعني مطَّ الوقت وقتله في مشاريع السلام وأوراقه المستحيلة ومشاريعه وإداراته منذ مدريد ( تشرين الثاني/نوفمبر1991) حتى أنابوليس (27 تشرين الثاني/نوفمبر 2008) مرورًا بإتفاقية أوسلو الأولى (13 أيلول/سبتمبر 1993)، وإتفاقية غزّة أريحا (4 أيّار/مايو 1994) وإتفاقية طابا أو أوسلو الثانية (28 أيلول/سبتمبر 1995) ثمّ إتفاق وايت ريفر الأول (15 تشرين الأول/أكتوبر 1998) والثاني في شرم الشيخ (4 أيلول/سبتمبر 1999)، وتقرير جورج ميتشل العام 2001 الذي تمحور حول نقطتين بارزتين لحلّ النزاع هما إيقاف الإستيطان الإسرائيلي وإيقاف العنف من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، ثم جاءت خارطة الطريق عبارة عن خطة سلام أعدتها اللجنة الرباعية التي تضمّ كلاً من الأمم المتحدة والولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي وروسيا، وتتمحور حول إقامة دولتين فلسطينية وإسرائيلية على أن تتم التسوية بحلول العام 2005، وهو ما لم يقع. يضاف إلى هذا كلّه ستون عامًا من القرارات الصادرة عن مجلس الأمن والتي كانت تتجاهلها اسرائيل بالكامل(25).

كان الهدف الإسرائيلي الواضح وما زال، ابتلاع ما تبقى من أراضٍ فلسطينية أو شن الحروب دفعًا للعبء الديمغرافي وخلق التشظيات في ما بين الكتل البشرية الفلسطينية، وتأجيل الحل النهائي إلى ما لا نهاية، وبالتالي إيجاد وقائع غاية في الصعوبة والتعقيد، قد لا يمكن إصلاحها أبدًا، أو تتطلَّب سنيناً مغمورة بالدماء خروجًا من غزة وغيرها ودخولاً إليها وإلى غيرها.

4- حسابات الأرباح والخسائر

تعني هذه الحسابات أنه قد لا يمكن الباحث أن يتردَّد، بعد الذي حصل في غزّة ولبنان وما بينهما، في الافتراض بأنهما، على الرغم من كونهما أصغر بقعتين في مساحة الأرض العربية، قد شكَّلتا المعبر المقلق الحامل متغيِّرات قد تكون مستجدَّة في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي، وبدأت تترسَّخ معهما أهمية المقاومة في كل اتجاه حاملة معها القضية الفلسطينية وقضايا العرب في حملات تعاطف دولي خجول غير رسمي، بالإضافة إلى مجموعة من المتغيِّرات في التوازنات السياسية الإقليمية، وهي أفرزت وستفرز حقائق سياسية وعسكرية جديدة قد تتجاوز بكثير حدود مسرحي المقاومة الجغرافي.

وفي حسابات الأرباح والخسائر، في حرب غزّة، فشلت إسرائيل في تحرير الجندي الأسير جلعاد شاليط المحتجز في القطاع أولاً، كما فشلت في استفراد حماس، وبمعنى آخر في "حفر الأنفاق" النفسية أو خلق الاشتباك والتململ بين حماس والشعب الفلسطيني، أي دفع الفلسطينيين مجددًا إلى التشرذم. وفقدت إسرائيل الكثير من صورتها للمرة الثانية بعدما فقدتها للمرة الأولى في لبنان. ولم تستطع، بالرغم من قدراتها الجوية الهائلة، أن تغطّي محدودية نجاحها السياسي أو تحسم حربها فوق محدودية الرقعة الصغيرة.

"كانت حماس قد باشرت منذ العام 2001 إطلاق صورايخ الغراد والكاتيوشا التي أُحْضِرَت من إيران وكان مداها لا يتجاوز 7 كلم. وبعد الإنسحاب الإسرائيلي العام 2005 من معبر فيلاّدلفي الممتد على طول الحدود التي تفصل قطاع غزّة عن شبه جزيرة سيناء المصرية، تزايدت الهجمات الصاروخية إلى 500%. ولقد تمّ تطوير الصواريخ حتى  وصلت يد حماس، في الحرب الأخيرة، إلى مدنٍ اسرائيلية بعيدة عن غزّة مثل بئر سبع التي تبعد حوالى أربعين كلم عن غزة ومدينتي المجدل وسديروت. وقد طاولت هذه الصواريخ أهدافًا عسكرية حساسة مثل المطارات العسكرية في النقب، وكان بإمكانها ضرب مستودعات الوقود في المجدل وشركة الكهرباء الإسرائيلية وميناء أشدود مع ما تعنيه تلك المناطق من أهمية اقتصادية وسياحية بالنسبة إلى الإسرائيليين"( 26). ولم تتمكَّن "استراتيجية" التدمير والخراب وحمولات الطائرات الهائلة من القنابل المتفجرة فوق رؤوس المدنيين في غزّة، من إحداث أي تغيير، بل زادت من حمولات البنى الفكرية والعقائدية والإسلامية لحماس التي احتفظت بسلاحها، كما قوّت الإسلاموية في الأرجاء العربية والإقليمية، ما زادها تجذرًا وحضورًا وتحدّيًا للغرب وإسرائيل.

صحيح أن إسرائيل كانت تتوخّى سياسة الردع في عمليتها، لكنها خرجت منها وهي تزداد إدراكًا بأنها دخلت زمنًا ما عادت تقاتل فيه جيوشًا تقليدية نظامية. لم تحسم العملية الجوية المعركة، كما أن العملية البريّة المحدودة لم تبدّل أو تغيّر في نتيجة العدوان. وحتى بعدما أطفأت إسرائيل، ومن جانب واحد، "رصاصها السائل أو المصبوب أو المسبوك"، وفقاً للتسمية التي منحتها لعمليتها العسكرية على غزَّة معتبرة بأنها ليست حربًا (بل تحمل الكثير من ملامح "عملية عناقيد الغضب" في لبنان العام 1996، التي أوصلتها إلى تفاهم نيسان المتضمِّن اعترافًا دوليًا غير مباشر بالمقاومة في لبنان، أو الطموح إلى ما شابه القرار 1701 الذي حال دون حزب الله المنتصر من إطلاق صواريخه على إسرائيل)، فإن قرار مجلس الأمن الدولي 1860 (10 كانون الثاني/يناير 2009) القاضي بوقف فوري ودائم لإطلاق النار والإنسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من غزة، أشار في متنه بشكلٍ غير مباشر إلى سيطرة حماس على غزّة للمرّة الأولى منذ كانون الثاني/يناير 2006، عندما حققت انتصارًا ساحقًا في الانتخابات الفلسطينية، وهو مضمون لم يمنع حماس من الاستمرار بإمكان إطلاق صواريخها، كما أشرنا، على المدن الإسرائيلية ما يعني المزيد من احتمالات الخسائر الإسرائيلية في غزة.

السؤال الأكبر المطروح: هل أن غزّة هي معبر عرب الاعتدال نحو المزيد من نزول الدرج في قضايا العرب ومستقبلهم وفي مقدمها قضية فلسطين، أم أن غزّة المفتونة بروح المقاومة في لبنان هي المعبر الذي منه سينفذ عرب المقاومة إلى طلوع الدرج ولو بمستوى نتوء غزّة الجغرافي الذي لا يتجاوز 45 مترًا عن سطح البحر؟

وبسؤالٍ أكثر شجاعة، هل يدفع "الرصاص السائل" المذكور، الدم الفلسطيني والعربي إلى الجريان في مختلف الاتجاهات، ما يفتح المنطقة ككل على مزيد من الاستغراق في الدماء والحروب التي لا بدّ من أن تمسح أو تغيِّر سياسة أميركا التي شاءها الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما عنوانًا له، والذي لم يجد بين يديه سوى خريطة الطريق مجددًا؟

ومع الإدراك الكامل بأنّ عملية غزّة حملت في أبعادها الإستراتيجية نوعًا من ملاقاة الخطاب المعتدل الذي شاب الإدارة الأميركية بعد بوش، أو "القوطبة" عليها استباقًا لتحولات أخرى منتظرة قد لا يراهن عليها كثيرًا، بعدما أدمن العرب والفلسطينيون تلك المتغيِّرات التي لم تكن تترجم على أرض الصراع، فلنقل إن غزّة التي يمكن أن يسمّيها كاتب لبناني بالضاحية الجنوبية أو الجنوب اللبناني، وهو مضطر، في الكتابة عن غزّة دومًا، إلى تذكّر ما حصل ويحصل في لبنان منذ تموز العام 2006، هذه الغزّة التي تتطلَّع مثل غيرها من جماهير العرب وبعض حكامهم إلى تنامي المقاومة وتنخرط فيها، هي ربّما الحلقة الأضعف.

ليس بالضرورة، ربّما هي الحلقة الأقوى في أمكنة أخرى، حيث تجذَّرت حماس في غزة وبدا صاروخها المبتكر، بعد تراجع اسرائيل خاسرة سياسيًا، جاهزًا لمسافات ومناطق لم يصلها من قبل، والانتصار بتدمير ما هو تحت قوائم الطير الإسرائيلي لا يقوى على تدمير البنى الفكرية والجينية للبقاء كما أسلفنا. يضاف إلى ذلك أنّ التناقضات الرسمية بين بعض الأنظمة العربية وإيران تنسحب على المستويين الرسمي والشعبي العربي إلى الجذور الهامشية في عودة إلى الجذور التكوينية التي أفرزت دروسًا وعبرًا أكثر دقة محصلتها أننا ندور في الصراع، وكأننا في زمن فلسطين العام 48، والتناقض الجذري عاد أو يفترض أن يعود وبحدة أكثر إلى ما بين العرب واسرائيل، خصوصًا وأنّ إيران تتقدّم بحلّةٍ قتالية حتى الآن، تبدو فيها وكأنها تحل مكان العرب في صراعهم التاريخي مع إسرائيل.

 

رابعًا: عودة فلسطين استراتيجيًا الى فلسطين

يروي فارس الخوري أنّ أعضاء لجنة تقصّي الحقائق في موضوع فلسطين، في 16 أيلول/سبتمبر 1947، منحوها الإستقلال، لكنهم اختلفوا حول طبيعة هذا الإستقلال وحدوده. وبرزت فكرتان: الأولى تدعو إلى تقسيمها إلى دولتين عربية ويهودية يربطهما اتحاد اقتصادي، وتوضع القدس وبيت لحم وفق مندرجاته تحت الوصاية الدولية وإدارة الأمم المتحدة، وتكون فلسطين تحت إشراف انكلترا لعامين فقط، والثانية كانت رافضةً بالمطلق لهذا التقسيم. وفي 26 تشرين الثاني/نوفمبر 1947 أقرّ التقسيم بأكثرية 23 صوتًا مقابل 13 دولة عارضت المشروع، واستنكفت عشر دول وما غابت سوى دولة واحدة هي سيام. هذا يعني قانونًا أن ثلثي سكان العالم قد رفضوا التقسيم عن طريق الرفض والإستنكاف، بينما وافق ثلث سكان العالم، ينتسب معظمهم إلى دولٍ صغيرة نائية لا اتصال لهم بفلسطين ولا بقارة آسيا ولا حتى بالشرق (27).

ماذا حصل بعد ستة عقود؟

لا شيء. الرأي السائد في العالم وكذلك في العالم العربي، يرى أن الحل الأمثل لقضية فلسطين هو في تبني معادلة الدولتين المتجاورتين. استمرّ النزاع والجدل حول مكان رسم الخط الفاصل بين الدولتين، وإسرائيل دولة لا حدود نهائية لها ولا تريد أن تكون لها حدود نهائية، بل تمعن في سياسات الإستيطان والتوسع، ويتنافر أهلها حول القبول بمشروع الدولتين.ثمّ أن القدس ما زالت معضلة مستعصية، يراها العرب عاصمة للدولة الفلسطينية فيما اسرائيل ترفض ذلك وتواصل قضم المدينة بهدف ابتلاعها كليًا. وهناك معضلة المياه التي تتكالب إسرائيل في الحفاظ على مصادرها حيثما وجدت من دون أي اعتبار لحق عربي أو قراراتٍ دولية.

المفاوضات لا تحلً الإشكالات المتراكمة، وحصيلتها لن تكون لمصلحة العرب، لتفككهم أولاً وتنازع قرارهم على الصعيد الدولي، ولكون إسرائيل غير قابلة للتنازل مدعومة بقوتها العسكرية والإدارة الأميركية وسائر القوى التي تسير في ركبها.

 

1- ماذا أمام مستقبل العرب؟

ليس أمامهم سوى خريطة الطريق التي تتبنَّاها الرباعية بقيادة أميركية، والمبادرة العربية التي تبنَّتها القمة العربية في بيروت (27 - 28 آذار/مارس 2002). كلاهما لا يفي بالغرض، فخريطة الطريق تملي على الفلسطينيين الاعتراف بإسرائيل قبل التفاوض، أي نزع قدرتهم في التفاوض، والمبادرة العربية تطرح تسوية قبل التفاوض قوامها عودة اسرائيل إلى حدود 1967، وهو ما قد يتجاوز التفاوض حول فلسطين المشكلة الأساسية بين العرب واسرائيل. وإن حصل هذا التفاوض فسيفضي حتمًا الى مفاوضة على صيغة المبادرة "فنصل في الختام إلى تسوية على التسوية أي إلى الحل الذي لن يكون مقبولاً لا من الفلسطينيين ولا من العرب"(28).

فمنذ العام 1948 اعترف المجتمع الدولي بإسرائيل، إذن، كدولة بعدما كانت وكالة يهودية، وتحوَّلت الدولة الفلسطينية مع الزمن الى منظمة أي أقل من وكالة. وقد تمّ إرضاء العرب بقرار حق العودة الرقم 194 الذي بقي من دون أية قيمة. وقد غالى الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش في إبراز التماهيات بين التاريخين الأميركي والإسرائيلي ، داعيًا الى الدولة اليهودية الدينية الإسرائيلية، ما ينسف دولة فلسطين من الأوراق كلها، ويجتث فكرة العودة نهائيًا ليكرّس واقع التوطين أي التجاوز الأميركي الواضح لمبادرة السلام العربية التي فقدت رصيدها بعد الرفض الإسرائيلي المباشر لها حيث رآها الإسرائيلي غير مساوية في قيمتها للحبر الذي كتبت به. وإذا كان حقّ العودة اليوم هو جوهر قضية فلسطين، فإنه حق لم يرد أساسًا في مشروع المبادرة العربية(29) لولا إصرار لبنان وسوريا على ذلك، ومعظم العرب يتحدث عن حلٍّ عادل لقضية اللاجئين متجاوزين بذلك حق العودة. ويتجاذب القرار العربي اليوم رأيان: الأوّل سوري يطالب بدفن المبادرة وتسجيلها في عداد الموتى، والثاني سعودي يطالب بإبقاء الورقة السعودية فوق الطاولة ولكن ليس إلى وقتٍ طويل من دون الإنتباه إلى أن استراتيجيات التراب الفلسطيني والعربي قد تتجاوز في استمرراية النضال كلّ ورق مصقول Papers.

 

2- الغليان الإيراني عربياً والمخاطر النووية

أمام استغراق مجمل الحكَّام العرب في معازلهم وتنافرهم، وبعد أن أسقطوا منذ أوسلو(1991) وقبله بكثير الجدارن النفسية وغيرها بينهم وإسرائيل في المنطقة، ووضعوا العالم أمام إمكانات جديدة بالشروط الإسرائيلية، كانت النتيجة الطبيعية لتهاون تلك الأنظمة وتعبها وعجزها تحويل أزماتها صراعًا مع إيران بما يشي بالإنزلاق إلى فتنٍ مذهبية أو قومية، فتتحوَّل إيران الى "عدو" وإسرائيل الى صديق. ولكن النتيجة كانت مختلفة لأن الحقائق الجديدة التي أفرزتها التوازنات الإقليمية الجديدة توصلنا الى أن مجازر الجنوب اللبناني وغزة قوّت النفوذ الإيراني وعزّزته، وأعادت فلسطين إلى فلسطين كمحرك أساسي للوجدان العربي، وردمت جزءًا كبيرًا من الهوة التي تحفرها الدول العظمى ومعها اسرائيل بين السنة والشيعة.

لقد خرجت حماس رابحة في حرب غزّة، كما خرجت إيران الداعمة لها رابحة أيضًا كما من حرب العام 2006. وبات الأصل الصراعي، بالرغم من الأوراق والمبادرات والحلول المائعة المحدودة، العودة الى فلسطين أو عدم الخروج من الموقد الفلسطيني الذي يتفرَّع منه مجمل الحرائق والتحديات والملفات المفتوحة، بما يولّد تصالحًا ملحوظًا بين الماضي والحاضر وخصوصًا حاضر غزّة الذي تجاوز وضعها كلّ حدود. وهذا ما نشهده في المناخ الدولي كما في المناخ الودي التصالحي بين الأنظمة العربية كما حصل في قمتي الكويت الإقتصادية والقمة العربية الواحدة والعشرين في الدوحة.

وقد بات من الضروري التأمل والإنصات الى أسئلة جديدة تطرح في مجال الصراع العربي الإسرائيلي مثل:

كيف يمكن لبعض الأنظمة العربية أن يتّخذ مواقف سلبية من إيران، الدولة المسلمة المنخرطة بحضور لافت سياسي وعسكري واستراتيجي في هذا الصراع إلى جانب القضية الفلسطينية، بعدما كانت قد تعلّقت بأهداب الإتحاد السوفياتي الدولة الملحدة قبل سقوط جدار برلين؟

ألم يبدأ الخط البياني للهبوط الرسمي العربي في الصراع مع إسرائيل من الارتسام نزولاً بعد موت جمال عبد الناصر الذي سرعان ما تلقّف الموقف الإيراني الإيجابي الذي صبَّ يومها في مصلحة العرب من القرار 242، فسارع، بعد وساطة كويتية العام 1969 إلى مبادرة تجاه إيران مصحوبةٍ باعتذارات لم يكملها لغيابه، لكن السادات أعقبها بطرد الخبراء السوفيات من مصر وانفتح كلياً على الغرب بالتشاور مع الشاه(30)، وسارع الخط البياني نزولاً حتى أوسلو وتداعيات غزة وأريحا وقامت القطيعة الدبلوماسية بين مصر وإيران منذ ثلاثين عامًا؟

لماذا التغافل والإصرار على السلام مع إسرائيل التي تلح عبر تاريخها الطويل على رفضه، كما الإشاحة عن عودة هذا الخط البياني صعودًا منذ ما حقَّقته المقاومة في الجنوب اللبناني وغزة؟

ألا تتجاوز الصورة من داخل اسرائيل غزة وحماس وحزب الله إلى إعادة طرح مسائل بالغة الخطورة، كان قد طرحها الكثيرون من غلاة الصهاينة والتي تقول بإن اسرائيل دولة لا تستطيع البقاء في هذه المنطقة، ولا تستطيع العيش فيها بسلام وهدوء طالما استمرت في سياساتها العنفية المتجددة؟(31)

والى أيّ مدى تبقى القوة الإسرائيلية المحتضَنة أميركيًا، هي السور الواقي لإسرائيل المزهوَّة بانتصارها في حرب حزيران/يونيو 1967 التي اندلعت على الرغم من الإنجاز الذي حققته إسرائيل في حرب السويس العام 1956، كما أن حرب الاستنزاف اندلعت بدورها على الرغم من إنجازات إسرائيل العسكرية في حرب حزيران/يونيو، وهو ما ينسحب على حرب العام 1973 وما تلاها من مواجهات وحروب وعمليات مع منظمة التحرير الفلسطينية وحزب الله؟

أليست الوسائل السلمية والاستراتيجية والإنصياع لمبادرات التسوية أنجع من الردع والحسم العسكري، مع العلم أن اتفاقيتي السلام مع مصر والأردن لم تتأتيا حصيلةً للردع الإسرائيلي؟

هل أن امتلاك إسرائيل السلاح النووي يردع أعداءها أو هل أن مسارعتها إلى قصف مفاعل نووي في سوريا (أيلول/سبتمبر 2007) قبل تفعيله، ومباشرة بعد تعميم الإدارة الأميركية على الملأ صور هذا المفاعل، يردع خصومها، كما فعلت في قصف مفاعل العراق العام 1981؟(32).

وسواء كانت الأهداف خنق إمكانات حدوث إشعاعات نووية خطيرة على إسرائيل أو تطويق أي فكرة أو عينٍ تصوب نحو مفاعل ديمونا الإسرائيلي، أليست الصفة النووية التي يعتمدها المقاتلون والأصوليات التي تزداد تجذرًا تقلق إسرائيل والعالم، تمامًا كما تقلقها المفاعل الإيرانية التي قد تكون تعمل؟  

وإذا كانت اسرائيل تتفوَّق على العرب اليوم باقتنائها القنبلة الذَّرية (بفتح الذال)، فالعرب يتفوَّقون عليها بالقنبلة الذُرية ( بضم الذال)، أي بالتناسل، التي تقضي على فكرة الوطن الصهيوني إلى غير رجعة(33).

وعندما تعاد محاولات ترتيب المسألتين المرتبطتين بأفغانستان وطالبان، من قبل الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة باراك أوباما، هل سيعاد فتح ملف إيران النووي التي صنّفها بوش في محور الشر، مع أنّ الدبلوماسية الأميركية تبدو تعدّل وستعدّل استراتيجيتها تجاه إيران في موضوع تخصيب اليورانيوم؟ وهل لهذا الأمر علاقة بإطلاق كوريا الشمالية قمرًا صناعيًا للتصالات في المدار(34)، رأته كوريا الجنوبية واليابان وأميركا محاولة مموَّهة لإطلاق صاروخ طويل المدى قطع مسافة 3200 كلم فوق اليابان، وهو يشكّل انتهاكًا لقرارات الأمم المتحدة، وهو في واقع الأمر اختبار لصاروخ ذاتي الدفع مصمَّم لحمل رأس حربي لمسافةٍ قد تصل الى ولاية ألاسكا الأميركية؟ هل تسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى الرد بحزمٍ على هذا الصاروخ الذي ولّد نقزةً وإرباكًا عالميًا، وخصوصًا لدى الرئيس الأميركي أوباما في زيارته الى تركيا(35)؟ وهل أن الإنقسام في مجلس الأمن حول الرد المحتمل سيبقى قائمًا بعد المناقشات المغلقة في مجلس الأمن التي لم تفض سوى إلى بيان، لأن الصين وروسيا دعتا كوريا إلى ضبط النفس، بينما أعلنت بيونغ يانغ، في المقابل، من أن أي عقوبات تفرضها عليها الأمم المتحدة يجعلها تنسحب نهائيًا من المفاوضات حول نزع الأسلحة النووية من شبه الجزيرة الكورية (بدأت العام 2003) بعدما بلغت الطريق المسدود، حيث جرى، منذ كانون الأول/يناير 2009، تعليق المحادثات السداسية التي تضم الكوريتين والصين واليابان وروسيا والولايات المتحدة بشأن برنامجها النووي ؟(36).

 

3- المثلث التركي الإيراني الفلسطيني

لسنا نجيب عن هذه الأسئلة المطروحة على استراتيجيات المستقبل، والتي قد تحمل أجوبتها في الكثير من صيغها الطويلة المشوبة بالقلق الإسرائيلي والعربي والعالمي على السواء، لكنها أسئلة تستدرجنا بدورها إلى ثلاث علامات استفهام أخرى لها مدلولات استراتيجية غنية، جاءت على لسان الرئيس الأميركي الذي أعلن التغيير هدفًا له في أثناء حملته الانتخابية نحو البيت الأبيض كما في أثناء تسلمه للمكتب البيضوي وبعد وصوله إلى تركيا:

أ - ماذا يعني عيد النوروز؟

النقطة الأولى جاءت بمناسبة مخاطبة الرئيس الأميركي باراك أوباما طهران في عيد النوروز تحديًدً أي "اليوم الجديد"، وهي مخاطبة بانت ودِّيتها مشوبة بالرغبة في الحوار الأميركي مع إيران المتقدمة كدولةً إقليمية عظمى ممانعة تعصى على الانصياع وتتوازى مع تركيا. وتأتي أهميتها بعدما كان الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجّاد قد حدّد العلاقات الإسرائيلية الإيرانية بقوله: "يتعيّن إزالة هذا النظام الإسرائيلي الذي يحتلّ القدس من صفحات التاريخ" الأمر الذي تكرّر على لسان الرئيس الإيراني(37)، وهو التحديد الذي جاء على إيقاعات الضغوط الهائلة والتهديدات الأميركية والإسرائيلية لإيران، ورفع حدّة المنافسة بين إيران واسرائيل التي كانت حامية على نارٍ هادئة طوال خمسة عشر عامًا إلى درجة الغليان. هذا الغليان البارز في الخطاب الإيراني الذي يتمحور حول إنصاف الفلسطينيين وشرف الإسلام، كان وما زال ينطلق من مسلّمات إدانة شهيَّة إسرائيل اللامنتهية في قضم الأراضي العربية، وقمعها التاريخي للفلسطينيين، وضربها بعرض الحائط القرارات الصادرة عن مجلس الأمن، وإهانتها المسلمين بالإستمرار في احتلال القدس، موطن الحرم الشريف، أو قبّة الصخرة، ثالث المواقع المقدسة في الإسلام.

والمعروف أن اختيار أوباما المناسبة النوروزية ذات المغزى الزرادشتي الذي يعود إلى ثلاثة آلاف عام من عمر الحضارة الفارسية، ويحتفل فيه الإيرانيون متجاوزين في عطلته أيّ عيد إسلامي(38) قد يرشد المحلل إلى فصلٍ أميركي واضح ومقصود بين مصالح إيران الإيديولوجية أو الدينية ومصالحها الاستراتيجية. فهل في نظرة أميركا إلى إيران بالمنظار الفارسي محاولة لدغدغةً العرب المسكونين بالقلق من إيران، أم أنها تنظر إليها بالعين الفارسية نفسها موحية بقلقٍ أميركي من تجدُّد التقاء الدولتين، أعني اسرائيل وإيران، على إحباط السياسة الخارجية الأميركية؟ ولماذا يأتي هذا الكلام أكثر دلالةً إذ يُطلَق من تركيا آردوغان التي توشَّحت بالحنين إلى الإسلام تسهيلاً لدخولها إلى العرب المسلمين بعدما استغرقت في العلمنة، وكانت قد حكمت الشرق العربي والإسلامي خمسة قرون قبل أن تستوي على فراشها المريض؟ هل يتجرّأ باحث من السؤال عمّا آلت اليه سياسات التهاون العربي التي ربّما قد تكون آلت إلى وضع القضية الفلسطينية بين أيدي أكبر دولتين إقليميتين هما تركيا وإيران وثالثتهما إسرائيل؟

ب- تركيا وارثة أتاتورك!

النقطة الثانية جاءت من تركيا البلد العلماني/المسلم الذي قام الرئيس الأميركي أوباما بزيارته الأولى إليه، مطالبًا في لقاءٍ مع رجال دين وطلاب "بترسيخ العلاقات بين تركيا وأميركا، وتعزيز رؤية وارث أتاتورك" في إشارةٍ الى التوجه الغربي لتركيا، وكذلك بردم الهوة، التي ورثها من سلفه جورج بوش، بين الغرب والعالم الإسلامي في التأسيس أو إعادة التأسيس للعلاقات الكريهة بين الغرب والشرق، مؤكدًا "أن الولايات المتحدة الأميركية ليست ولن تكون في حربٍ مع الإسلام"(39).

ج- ليس سوى خريطة الطريق

أما النقطة الثالثة فجاءت تؤكّد بأن بلسان أوباما "أنّ عملية أنابوليس وخريطة الطريق تمثِّلان طريق السلام في الشرق الأوسط... وأن السلام ممكن في الشرق الأوسط، إذا استند إلى وجود دولتين فلسطينية وإسرائيلية جنبًا إلى جنب"(40). وهذه نقطة مهمة تأتي في مناخ مشدود صراعي عربي بشأن مستقبل مبادرة السلام العربية ومستقبل تنامي المقاومة في الشرق الأوسط.

وسواء أكانت هذه الدعوة وسيلة ضغط عربية ينتظر العرب مفاعيلها على مستوى المصالحات الفلسطينية وخصوصًا بين فتح وحماس، أو وسيلة ضغط إقليمية ودولية وخصوصًا على إسرائيل في ضوء إيقاعات السياسة اليمينية الجديدة التي تدعو الى سلخ فكرة الدولتين بعد إعلان أفيدغور ليبرمان وزير الخارجية الإسرائيلي أن بلاده غير ملتزمة عملية أنابوليس التي أعادت إطلاق المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين(41) فإنّ صورة البدائل العربية عن المبادرة ليست واضحة على الإطلاق بعد حلول أواخر هذا العام. هل يؤدّي هذا الموقف إلى مزيدٍ من التعثر العربي، أو الوقوع في الفراغ الذي يزيد من فاعليات المقاومة كما من توسيع الهوات القائمة بين الأنظمة العربية وشعوبها، أم أنه سيؤدي حتمًا الى قفز المقاومة فوق كلّ المحاولات الرسمية العربية وغير العربية؟

الأرجح أن الحل يميل إلى المزيد من الصمود والمقاومة المتزايدة من قبل الشعب العربي والفلسطيني، على الرغم من قلق العرب الرسمي. فقد مضت عقود ستة، ولم يستسلم الفلسطينيون. وبعد ثلاثين سنة على توقيع ما عرف بسلام كامب دايفيد، بقي الشعب المصري رافضًا التطبيع مع العدو الإسرائيلي، وهذا ما يقال أيضًا في الشعب الأردني الذي وقَّّع على سلام وادي عربة. فهناك مسافات استراتيجية شاسعة بين تطلُّعات الشعوب ومواقف الأنظمة حيال قضية فلسطين التي تقتضي التمسك بوحدتها وإقامة دولة عربية عاصمتها القدس. ويحفل العقد الأخير بملامح تغذّي الميول إلى المقاومة العسكرية، يسعفها التقدم العربي الحثيث في ميادين الإعلام التي لم يعد يؤثّر فيها غياب الإستراتيجيات العربية الموحَّدة.

هل صحيح هذا القول حول الإعلام يجمع العرب بشكلٍ قد يتجاوز مؤسساتهم التوحيدية بما فيها جامعة الدول العربية؟

هنا لا بدّ من مكاشفة إعلامية حول حرب غزّة.

 

خامساً: مكاشفة حول عناصر الحرب الإعلامية في غزّة

يمكن القول، بخلاصة أولية، أن الحرب على غزّة قد رفعت الأغطية عن تحوُّلات كثيرة طاولت وسائل الإعلام، وألزمتها مواقف سياسية متناقضة في موضوع جوهري عربي هو القضية الفلسطينية. وانعكس هذا التباين في الاستراتيجيات المتعددة كما في طرائق تغطية هذه الأحداث إعلاميًا وفي استعمالات الصور، ومعايير استعمال المصطلحات واستضافة المحلِّلين والمعلِّقين.

وهنا نتساءل: كيف غطّى الإعلام الإسرائيلي والعربي هذه الحرب؟ ما هي المعايير التي استخدمتها وسائل الإعلام في نقل المشاهد المؤلمة للقتل والدمار والتي تلوّنت بتلوّن هذه الوسائل الكثيرة المنتشرة في الفضاء؟

وهل ساهم الإعلام العربي وغيره في تعميق لا بل في ترسيخ الانقسام العربي أو الإجتماع العربي على أكثر من مستوى؟ وكيف يمكننا النظر إلى تقاطع استراتيجيات الإعلام وأدوارها في تحديد مستقبل العرب؟

في الإجابة عن هذه الأسئلة التي تحتلّ مساحاتٍ مميَّزة في الشاشات والجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات العربية والإسرائيلية والأجنبية(42)، يفترض التطرق إلى بعض العناصر والخطط التي هي على ارتباط بخصوصيات وضع قطاع غزة، والتي ساهمت في احتدام المعارك الإعلامية العربية والعالمية، وكشفت مشهد الانقسام العربي الفاضح حول مستقبل فلسطين، بين منطقي السلام والمقاومة.

 

1- سقوط وسائل الإعلام في لعبة التجاذبات

لقد بدت الحرب الإعلامية في غزّة عالمية، لم تتمكن أي وسيلةٍ من التغاضي عنها كلّيًا، مع أن ما كان يميّز بينها كلها هو تاريخ دخولها أو انخراطها فيها، فمنها ما قام بالتغطية منذ الساعة الأولى لوقوعها أو تأخر بدرجات متفاوتة حتّى بعد أن وضعت الحرب أوزارها. وقد كان المشهد العام واضحاً في التشظيات التي أدخلت وسائل الإعلام في لعبة التجاذبات والانقسامات المتعدِّدة بتعدُّد الأنظمة ووجهات النظر المختلفة. عرب المقاومة والممانعة والتحريض لهم وسائلهم وأسلوبهم، وعرب الإعتدال والمساومة لهم مواقفهم  ووسائلهم وأسلوبهم أيضًا، وعرب التوفيق في ما بين النوعين كان لهم وسائلهم وتغطيتهم وموضوعيتهم، وكل هؤلاء مقابل الإعلام الإسرائيلي الذي برع، أساسًا، في حجب المعلومات والتواطؤ والصور والفتك عسكريًا بالقطاع وما فيه وعليه.

كنّا نجد إعلامًا اسرائيليًا خاضعًا بشكلٍ كامل للمراقبة الكاملة، كما كنا نجد إعلامًا غائبًا عن غزّة إلاّ في نشرات الأخبار، وهو لم يبدُ متعاطفًا مع ما يحصل على حساب التغطية، كما كنا نجد إعلامًا ينقل ما يحصل من أحداثٍ بموضوعية مقبولة إلى جانب إعلام رابع ينقل الصور والأحداث بتحيّزٍ كامل. وكان هذا التحيّز يأتي سلبيًا لائمًا حماس وفكرة المقاومة بشكلٍ عام معتمدًا الأسلوب التبريري والإنهزامي، أو يأتي، في المقابل، إيجابيًا مقاومًا، داحضًا الإستسلام، محرّضًا، مقتنعًا بحقوق العرب والفلسطينيين وعاملاً على إقناع المشاهدين بهذه الحقوق والحقائق، فيؤثر بالعدو الإسرائيلي ويكشف غموض ممارساته الإعلامية من ناحية، ويتحمَّس من ناحيةٍ أخرى لفجاجة الصورة ودمويتها التي أربكت الإسرائيلي كما أربكت وسائل الإعلام الأخرى الموضوعية والمحايدة.

وهكذا اختلفت المصطلحات، وتباينت المناخات في فرز الصور والتعليقات وبثها، كما في استضافة المحلِّلين والخبراء العسكريين إلى درجة يمكن اختصارها بأن الأخبار صارت مثل الآراء والتعليقات والمقالات والتوقعات وجهات نظر مختلفة بين وسيلة وأخرى، وتفتقر إلى الموضوعية، الأمر الذي ولّد اختلاطًا لدى المشاهدين، كان لا يمكن الخروج منه أو التخلّص من آثاره، لولا صورة رامتان وقوّة قناة الجزيرة واندفاعتها نحو صدارة القنوات، في استعمالها الجريء والعغوي لكلّ ما التقطته استوديوهاتها عن رامتان.

وقد ساعد حجم القطاع على الشمولية في التغطية التي بان فيها تباين فاضح بين ما كان يحصل في الواقع وما يظهر في الإعلام العالمي. هكذا برزت قنوات أجنبية راحت تنطق بالعربية مثل الفرانس 24، والبي بي سي، والأورو نيوز إلى جانب الفضائيات العربية المعروفة، بالإضافة الى الإذاعات والشاشات العالمية.

صحيح أن هذا المشهد العام يفرز استراتيجية إعلامية اسرائيلية مقابل غياب كامل للاستراتيجيات الأخرى الفلسطينية والعربية، لكنّ الصحيح أيضًا أن العقيدة والإيمان في نقل الحدث الذي قد يشوبه بعض الإرتجالية يمكن أن يبعثر العمل الاستراتيجي للخصم، في مجال صراع الصور، مهما كانت دقته. وفي هذا عِبَرٌ إعلامية ونفسية كثيرة تستحق الدراسة والتأمل في المشاهد الدموية التي يرشح منها ما يتجاوز الكلام المعمم حول صراع الثقافات والتماهيات أو مركبات النقص والعقد النفسية الكبرى في التعامل بالمواد الإعلامية بين عرب الغرب وعرب العرب، بالمعنى السياسي والمجازي للمصطلحين.

 

2-عناصر الاستراتيجية الإعلامية الإسرائيلية

يعني الحديث عن الإعلام الإسرائيلي الإشارة إلى ثلاث صحف كبرى أولها "يديعوت أحرونوت" المنفتحة والأوسع انتشارًا، وتضم العديد من المراسلين الذين يمثّلون التيَّارات السياسية المختلفة، تليها "معاريف" المتطرِّفة يمينيًا مع أنها عرفت بعض الانفتاح نتيجة التغييرات التي طاولت رئاسة تحريرها قبل شهرين من وقوع الحرب. وقد يمكن التكهُّن بأنّ هذا التغيير ربّما جاء استباقًا لتوقُّعات وصول اليمين الإسرائيلي إلى سدّة الحكومة الحالية برئاسة ناتنياهو. وتأتي "هآرتس" بعدهما محافظةً على صدقيتها ورصانتها وضآلة انتشارها وقوة تأثيرها، وخصوصًا على كتلة قرائها من النخب السياسية والإقتصادية في اسرائيل. وهناك ثلاث أقنية تلفزيونية هي الأولى وهي قناة عامة رسمية تتميّز بحريتها المقنَّنة كونها ممولة من ضرائب مباشرة يدفعها الإسرائيليون، والقناتان الثانية والعاشرة الخاصتان اللتان تحظيان بفسحة أوسع من الحرية، بالإضافة إلى إذاعة للجيش وأخرى رسمية، إلى العديد من الإذاعات التابعة في أخبارها لشركة أخبار خاصة تخضع بمجملها لرقابة الجمهور(43).

تعتبر فسحة الحرية في هذه العناصر الإعلامية مقبولة في مراقبتها للحكومة ونقدها الفساد والتقصير، إلى درجة تمكِّنها من إقالة حكومة أو تطيير مسؤول. هذه الصحافة هي التي دفعت حكومة إيهود أولمرت، مثلاً، إلى الإستقالة بسبب تقصيرها في حرب تموز في لبنان كما بسبب الفساد، وهي التي أطاحت دان حالوتس رئيس أركان الجيش وعامير بيرتس وزير الدفاع. لكن تلك الحرية تبقى أسيرة نقطتي ضعف بارزتين في إعلام إسرائيل أولاهما قدسية الأمن القومي والإنصياع بسهولة لمشيئة الجيش ما ينسفها من الأساس، وثانيتهما قدسية القتال والعدائية المطلقة المشوبة بالعنصرية للعرب، وهما مسألتان تظهران أمام الأخطار وعند نشوب الحروب حيث تنقاد الصحافة كليًا، ولو بالترهيب، للقرارات والخطط والأهداف العسكرية.

لقد عمدت إسرائيل إلى تشكيل هيئة الإعلام القومي قبل ستة أشهر من الهجوم على غزّة، حيث راحت وسائل الإعلام تغالي في التركيز على صواريخ حماس خصوصًا في الصحافة المكتوبة التي احتلت عناوين كثيرة باللون الأحمر، واحتلت مانشيتات الأخبار، تحضيرًا للرأي العام. ثم حصرت في سريّة مطلقة المعلومات بالجيش ووزارة الخارجية وراحت تقنن في تسريبها، وأقامت دورات مكثَّفة للمتحدّثين العسكريين باسم الحكومة والوزارات، كان نجمهم في أثناء الحرب أفيخاي أدرعي الذي يتكلّم اللغة العربية بطلاقة لافتة، والذي أطلقت عليه تسمية "بوق الأكاذيب". وأوعزت الى الصحافيين الأجانب بمغادرة القطاع، كما منعت الصحافيين الآخرين من الدخول الى القطاع، بححج واهية مختصرها أن الجنود الإسرائيليين غير ملزمين التضحية بحياتهم من أجل حماية هؤلاء من المخاطر التي تقع كلّ يوم من جرّاء سقوط صواريخ حماس.

ومنذ أن وطأت تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الإسرائيلية في 25 كانون الأول/ديسمبر 2008، أرض القاهرة، وبيدها تقرير مبالغ فيه، رمته فوق مكتب الرئيس المصري حسني مبارك، حول حجم الصواريخ التي تقصف بها حماس جنوب إسرائيل، صارخة في أعقاب زيارتها من على شاشات الأقنية المصرية: "كفى يعني كفى أي الحرب". كان الشرخ العربي يتعمّق مع مصر متّهمًا النظام المصري بالتهاون والتواطؤ مع العدو. وكان ينتظر ضربة جديّة مؤكّدة لقطاع غزّة عبّر عنها رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت الذي قال: "أريد ألاّ ينام أحد الليلة في قطاع غزّة". وفي المقابل، لم تكن حماس تتوقَّع ما حصل على الإطلاق حتى لحظة الهجوم على غزة. وهذا الإعتقاد الخاطئ أدى إلى حالةٍ من الارتخاء العسكري والخسائر الفادحة، خصوصًا في مواقع الشرطة الغزاوية التي خسرت الكثير من قادتها وضباطها وجنودها في إبّان الضربة الجوية الأولى(44). وقد يمكن تبرير هذا التراخي بأسبابٍ منطقية كثيرة، أولها وضع رئيس الحكومة المتلاشي والضعيف والمتهم آنذاك إيهود باراك، ومعضلة التحضير للإنتخابات الإسرائيلية التي ولّدت تجاذبات كبرى في إسرائيل على صعيد تأليف الحكومة، وانشغال العالم بإنتخابات الرئيس الأميركي الجديد، وكلها أمور كانت تقدّم العالم سياسيًا وكأنه مشغول بأمور أخرى، ويمرّ بمرحلة فراغ وإعادة ترتيب، بالإضافة إلى ما علق في الأذهان بعد هزيمة إسرائيل في الجنوب من صعوبة تكابدها اسرائيل لخوض مغامرات عسكرية جديدة غير مضمونة النتائج. ولربما يفترض التفكير بأن العملية جاءت في مرحلة إنتقالية تحمل الكثير من الإستباق للتفكير الأميركي أو للتأثير عليه، وقد جاء حافلاً بالرغبة العارمة لتقديم الحوار على الحرب.

  •  الهدف هو حماس وليس غزّة

قد يكون الفصل بين غزّة وحماس من أهم النقاط التي بنيت عليها استراتيجة إسرائيل الإعلامية في تثبيتٍ سياسة الردع كهدف أساس تتبعه في العملية كما منذ زمن بعيد. كانت حماس هي الهدف، ركّزت عليها اسرائيل إعلاميًا من دون غزّة كهدف عسكري مباشر، مع أنها كانت تقصف المستشفيات والمدارس والجامعات والبنى التحتية من ماء وكهرباء وأطفال ونساء وشوارع ضيِّقة، وكلّها شاءت أن تجمعها إعلاميًا بهدف واحد هو حماس. فكنا نجد في وسائل إعلامها تسميات مثل: مسلحو حماس، مخرِّبو حماس، ميليشيا حماس، عناصر حماس، الإرهابيون. وتكفي قراءة مجمل التصريحات الرسمية الإسرائيلية التي كانت تصاحب الحرب على ألسنة أولمرت وليفني وباراك وأدرعي وكانت تتمحور حول صواريخ حماس في جملةٍ استراتيجية تضليلية مفادها: "نحن لا نحارب الشعب الفلسطيني، نحن نحارب حماس وصواريخ حماس".

وقد حرصت الدعاية الإسرائيلية في إعلامها، في خلال 22 يومًا من الحرب وبتجاهل مقصود، على عدم ذكر أي كلمة أو تفصيل أو تسمية للفصائل الفلسطينية الأخرى في غزّة مثل: كتائب عز الدين القسام، كتائب شهداء الأقصى التابعة لفتح، سرايا القدس التابعة للجهاد الإسلامي، كتائب أبو علي مصطفى التابعة للجبهة الشعبية، كتائب المقاومة الوطنية التابعة للجبهة الديمقراطية، ألوية الناصر صلاح الدين التابعة للجان المقاومة الشعبية التي غيّبها الإعلام الإسرائيلي، وبانت وكأنها غير موجودة أصلاً في الصراع الدائر. ليست سوى حماس هي الهدف الأول الماثل في الإعلام. وهذا الأمر نفسه ينسحب أيضًا على تجاهل تام وعدم  ذكر اسمي عباس هنية أو محمود عبّاس في وسائل الإعلام. وهنا يمكن القول أنّه حتّى حماس نفسها قد انفردت أحيانًا بالقرارات، وتغاضت بدورها عن التشاور مع هذه الفصائل المذكورة، وخصوصًا عند إعلان وقف إطلاق النار من قبل المقاومة، وفي هذا نوع من إهمال الصمود الجماعي الفلسطيني والجهد الوطني العام الذي شاركت فيه تلك الفصائل مع الشيوخ والأطفال والنساء إلى جانب صمود المقاتلين.

وقد حرصت إسرائيل عبر وسائل إعلامها من تضخيم صورة مقاومة حماس والمبالغة بالحديث عن قوتها الصاروخية وصمودها بإشاعة معلومات عن أنّ بحوزتها نسخ معدّلة من صواريخ فجر 3 وفجر 5، وربّما صواريخ سام المضادة للطائرات، وكلّ ذلك بهدف تبرير جرائمها ومجازرها الفظيعة ضد المدنيين الفلسطينيين وتجاه العالم. وقد استفادت من هذه المبالغات بربطها بإيران التي، كما جاء، هي وراء ترسانة صواريخ حماس، وهي التي تستقبل المقاتلين بعد نقلهم من غزّة إلى مصر فطهران حيث يخضعون لتدريبات عسكرية على يد الحرس الثوري الإيراني.

ولو استطلعنا أيضًا مضامين المنشورات التي كانت ترميها الطائرات الإسرائيلية فوق أراضي القطاع، في أثناء العدوان، وتابعنا البيانات التي كانت توزَّع مقنَّنة على المستوى الدولي، لوجدنا وفرة هائلة لكلمة حماس وحيدة في العملية الإعلامية. وعلى الرغم من هذا التركيز الهائل على حماس، فإنه أعطى نتائج عكسية لما هدفت إليه إسرائيل، إذ صبّ في مصلحتها أيضًا، خصوصًا وأننا رحنا نتابع مظاهرات في لندن تنادي بـحماس، وكذلك في باريس (17/1/2009) حيث رفعت لافتات تقول: كلنا حماس باللغة الفرنسية، وكذلك أصوات مناصرة لحماس بالإسم ولأطفال حماس لا لأطفال غزّة. هذا يعني أن إخفاء الإسم جعله طاغيًا وحاضرًا بكثافة في الخارج.

  • الإعتداء على الصحافة

دفع التمسك الإسرائيلي بسياسة التعتيم إلى القيام بردود فعلٍ قاسية على وسائل الإعلام والإعلاميين الذين كانوا يفضحون بصورهم الجرائم الصهيونية في قطاع غزة أمام الرأي العام العالمي، فقصفهم الإسرائيلي وقتل منهم الكثير مساويًا ما بينهم وبين المقاومين والعسكريين، وذلك أمام صمتٍ مطبق لمنظمات الدفاع عن حرية الإعلام التابعة للأمم المتحدة والقوانين الدولية التي تحمي الإعلام في أثناء الحروب، وهو ما اعتادت اسرائيل تجاوزه وعدم الإعتراف به. ولم تتردد القوات الإسرائلية من القصف التحذيري لمبنى الجوهرة الذي كان مركزًا معروفًا للبث، ويضم أغلب أجهزة البث الإعلامية، وهو الأمر الذي كان يعرفه الإسرائيليون جيّدًا بسبب أجهزة الإرسال الواضحة للعيان على سطح المبنى وكذلك الإشارات الإعلامية النافرة مثل press وغيرها من الإشارات وأجهزة الإرسال التي كانت أهدافًا واضحة لآلتها العسكرية. لقد سقطت مجموعة من شهداء الصحافة من بينهم علاء مرتجى من قناة الإخبارية وباسل فرج من تلفزيون الجزائر وإيهاب الوحيدي من تلفزيون فلسطين وأشرف علي الذي كان يصوّر منزل أسرته عندما كان الجيش الإسرائيلي يقوم بجرفه، وعلى الرغم من ذلك استمرّ بعمله(45).

ج- تحرير الصورة أقوى من الحرب

كان تحرير الصورة من العتمة المفروضة عليها في أثناء الحرب وبعدها أقوى من الحرب نفسها، حيث بان التباين الواضح والفاضح، وكشفت الأغطية والحقائق. كيف حصل ذلك؟

لقد تقبَّلت الصحافة الإسرائيلية قرار شراكتها في صنع قرار الحرب ومواكبته باعتماد سياسة التعتيم الإسرائيلية، قبل الحرب وحتى نهاية الأسبوع الأول من نشوبها، لكن الإنتقادات الصحافية وتململ الصحافيين ازداد مع بدء الإجتياح البرّي بعد 12 يومًا، إذ اضطر الجيش الإسرائيلي إلى السماح للمراسلين العسكريين بالدخول الى القطاع، ولكن بصحبة قواته وتحت مراقبتها ما حدّ من تجوُّلهم بحرية لمعاينة عن قرب ماذا يدور، أو لتحديد الأهداف التي تقصف ومدى ضغطها على حماس، وهل هي تشكّل ضربات قاصمة نهائية للمقاومة كما كان يأتي في تقارير المخابرات.

ولم يغيّر الجيش الإسرائيلي هذه السياسة التعتيمية إلاّ بعد مرور 18 يومًا من نشوب الحرب، كان المراسلون الصحافيون يتابعون، مثل العالم كلّه، المشاهد التي كانت تبثها القنوات الفضائية العربية، نقلاً عن شاشة "رامتان" التي ظهرت في أثناء هذه الحرب واضطلعت بدور مميّز، وكذلك شاشة الجزيرة القطرية، حيث كانت الصورة تأتي شمولية وبعيدة يتم بثها من فوق السطوح وليست تفصيلية إلاّ عندما يتم التقاطها من داخل المستشفيات وغرف العمليات الجراحية المرتجلة.

لقد هزّت الشاشات العالم بالصور المريعة الخام لآثار القصف الإسرائيلي، من هدم وتمزيق لجثث الأطفال والنساء، ولجأ الصحافيون الى أهالي القطاع وصحافييه والأطباء في مستشفى الشفاء أو لمسؤولين سابقين في السلطة الفلسطينية أو لبعض رجالات فتح الذين بقوا في القطاع، وكذلك الى هيئات ومؤسسات حقوق الإنسان ووكالة غوث اللاجئين بهدف تعميم الصورة المخنوقة ونشرها على الملأ.

 

3- الشاشات المقاومة

مقابل الإعلام الإسرائيلي وتضليله، كان هناك إعلام عربي يفتقد الخطط الإسترتيجية الموحَّدة، لكنه كان يكتشف أن قوّة الصورة مسألة قيادة مثل قيادة الحروب، وأن الصور التي تبعث على القيء والقرف والغثيان تحوِّل الشاشات إلى وسائل قتالية، وتبقى مثل الجواهر القابلة للإشعاع، كما تبقي كل إمكانات الحجب والتعتيم محاصرة ما يجعل الصورة صفحة مفتوحة شديدة الأهمية. هذه النظرة الصادقة إلى الصورة من دون الأخذ في الإعتبار المشاهدين، قلبت المقاييس إذ كان من المستحيل على المراسلين العرب أن يحجبوا المشاهد التي لم يسبق لهم مشاهدة مثيلاتها سوى في الأفلام ولربّما منذ حرب تموز/يوليو في لبنان 2006. ولولا التماع نجم وكالة رامتان في سماء الفضائيات، لكان ممكنًا طمس المجازر التي ارتكبتها إسرائيل المغطاة بسياستها التعتيمية الإعلامية.

فمن تكون رامتان؟

 

أ- وكالة رامتان

أمام عدم تمكن وسائل الإعلام العالمية من تغطية الكارثة في غزة، والاعتماد على المراسلين المحليين، برزت بشكل لافت للعيان وكالة توحي بالحيادية والإستقلالية هي "رامتان" المحلية، أو كلمة السرّ التي نقلت صورها التلفزيونية كبريات القنوات التلفزيونية الدولية والعربية مثل الفضائيات العربية والعالمية، وخصوصًا بي بي سي والجزيرة والمنار وسي إن إن، وفوكس، وحتّى التلفزيونات الإسرائيلية التي لم يكن أمامها أحيانًا غير خيار نقل بعض وقائع الحرب المنتقاة عبر شاشة رامتان، وأكثر من ذلك كان هناك قناة اسرائيلية تعرض صور رامتان للإسرائيليين على شاشات هواتفهم المحمولة. كان الناس العزّل في غزّة يفرّون من وجه الموت، وكان مصوّرو رامتان يلحقون به، فيصلون إلى الحدث ويبثون صوره قبل وصول الأطباء وسيّارات الإسعاف. لقد نجحت رامتان في توحيد الشاشات العربية عبر تأمينها البث المتواصل والتوثيق الدقيق والحي لحرب غزّة، مع أنّ المعالجات العربية لهذه الصور جاءت متنوِّعة. وهكذا احتلّ اسمها، كحقٍّ حصري، الزاوية اليسرى من معظم هذه القنوات، وكان المشاهدون يتساءلون في ما بينهم عن تلك الشاشة التي ظهرت فجأة لتغطّي هذا الحدث بمهنية عالية. ليست رامتان، في الواقع، فضائية، بل وكالة تبيع البث بعدما تعطي المتعاقد معها الإذن والرقم السرّي لذلك. تقدّم خدماتها إلى الفضائيات التي تستقبل منها ما تحقنه هي من خلال الأقمار الإصطناعية عربسات والقمر الأوروبي واليوتل سات على 24 ساعة، واستخدمت صورها وخدماتها الإنتاجية ما شجّعها من دون أن تتنافس مع أية محطة أخرى. كان لافتًا أنّ صورها كان يشاهدها العالم أجمع.

ورامتان معناها غزالان بالمثنّى حيث تعني الرامة الغزال في اللغة الكنعانية القديمة، والمقصود بهما توحيد غزّة والضفة الغربية اللتين افترقتا بعد احتلال 1967. وهناك تفسير آخر أنها تبثّ الصور من مكانٍ مرتفع لأنّ الرام هو القمة العالية، وبهذا التفسير نفهم التعليقات الإيجابية التي حظيت بها تلك الوكالة باعتبارها مثلاً "النجم المحلّي في سماء الفضائيات العالمية"(46)، أو "العيون والآذان العالمية العالية في حرب غزّة"(47)

تأسست "رامتان" العام 1998، متواضعة، من "ستوديو رامتان" للإنتاج التلفزيوني. وكان لديها كاميرا واحدة وجهاز مونتاج واحد في مكتب متواضع وسط مدينة غزة. واقتصر الهدف في حينها على إنتاج الأفلام الوثائقية. وكان فيلم "العكاز والصبار" أول أفلامها. ومع انطلاق الانتفاضة الثانية العام 2000، بدأت بتوسيع عملها في مجال التغطية الإخبارية، ثم انتقلت إلى خدمة البث المباشر، واقتنت أول جهاز بث مباشر العام 2001، وخرجت إلى العالم من خلال أول بث لها على القمر "يوتلسات". ومع تطور الأحداث الميدانية، كانت، العام 2003، تبث أربع نشرات تلفزيونية إخبارية بشكل يومي تتضمَّن تقارير مصورة. ومن ثم تقرر تغيير اسم "استوديوهات رامتان" إلى "وكالة أنباء رامتان". ومن ثم أنشأت الوكالة في أيار/مايو 2005 موقعًا إخباريًا على شبكة الانترنت. وتوسعت مكاتبها لتشمل الضفة الغربية، وافتتحت مكاتب في مصر والسودان واليمن، ومكتبين في نيويورك وواشنطن في الولايات المتحدة.

أصبحت الوكالة أفضل من يهتم بالإنتاج التلفزيوني الفلسطيني. وكان أول ظهور كبير لها في تغطية حربي "قوس قزح" و"السور الواقي" اللتين شنَّهما الإسرائيليون على الضفة وقطاع غزة هذا العام. تابعت الوكالة، أولا بأول اجتياح جباليا، ورفح، ومعارك الزيتون، وأصيب لها مصورون. وأنتجت فيلمًا وثائقيًا عن مجازر رفح، وقالت إنها الوكالة الوحيدة التي دخلت رفح وغامرت بطواقمها من أجل نقل الحقيقة. وغطت كذلك الانتخابات التشريعية والرئاسية في غزة والضفة العام 2004. واستطاعت تقديم خدمات البث المباشر عبر الأقمار الصناعية من دون وسيط إسرائيلي، وفي ظروف صعبة، تحت القصف والاجتياحات ومنع التجول. وبرزت خلال حرب غزّة بشكل كبير حيث خصَّصت 3 قنوات على الأقمار الصناعية لبث العدوان مباشرة وكان يعمل فيها حوالى 150 بالقطاع، والعشرات في الضفة الغربية وآخرون في مكاتبها بالدول العربية وواشنطن.

أخذت الوكالة موقفًا مغايرًا في أثناء الاقتتال الفلسطيني ـ الفلسطيني، فبعد أن استضافت عشرات المؤتمرات الصحافية في تلك الفترة لجميع الفصائل في الساحة الفلسطينية بالضفة والقطاع، قررت لاحقًا أن توقف استضافة المؤتمرات الصحافية للأطراف المتنازعة تعبيرًا عن احتجاجها على استمرار الاقتتال. وفي خطوة لاحقة، توقفت الوكالة تمامًا عن تغطية الأحداث الداخلية، وقالت إنها بذلك، تريد أن تمارس نوعًا أكبر من الضغط الإعلامي على المتنازعين لوقف الاقتتال الدائر. وطالتها اتهامات بالانحياز من قبل أكثر من طرف، وهاجمها أنصار من فتح على اعتبار أنها منحازة أو بوق لحماس، وقد حدث العكس كذلك، وردت هي بقولها إنها ستبقى على دربها الذي رسمته، وهي أن "الحقيقة مسار واحد" وهو شعار الوكالة. وأطلقت الوكالة، أخيرًا، حملة إعلامية بالتزامن مع الإعلان عن بدء الحوار في القاهرة قبل أن يفشل. وأعلنت عن إطلاق قناة "رامتان مباشر" من مقرها في العاصمة المصرية، القاهرة، للوجود قريبًا من مكان انعقاد الحوار، وبثه للعالم.

يقول زكريا أبو هربيد، مدير التصوير في رامتان "كنا نركز على الحياة في هذه الحرب أكثر من الموت، لأننا نشعر أن الحياة مؤثرة أكثر، وربما أن السر في نجاح رامتان كان أن الوكالة لم تتفاجأ بالحرب. كنا جاهزين (ستاند باي) وسياراتنا جاهزة، وكان لدينا عشرة مصوِّرين بانتظار الضربة الأولى، فكان لدينا نبع من الصور من شمال القطاع إلى جنوبه. هناك قلق كبير، هذه المرة غير كل المرات، لأن عائلات أبيدت بالكامل، وآخر مجزرة قتل فيها أكثر من 30 في مدرسة، مرة واحدة. هناك خوف على حياة الشباب.. فبين الإنسانية والمهنية، لم نعد نميز خطًا فاصلاً إذا لم يوجد أحد لإسعاف الناس. كنّا نصوّر ونسعف أيضًا.. هذه مهنة واحدة، والجريمة يجب أن تصل والضحايا يجب أن يُعالجوا.. نحن مش آلات.. إحنا بشر"(48). وعلى الرغم من الشائعات والإتهامات التي طاولت "رامتان" بعد حرب غزّة مثل وصول الدبابات الإسرائيلية إلى مئة متر من مقرّ المحطة في غزّة ولم تصبها بأذى، إلى التهديدات التي طاولتها من تلك القوّات، وكذلك الخلافات الناشبة بينها والجزيرة(49)، فإنّ استوديوهاتها تحل أسماءً مثل "شهداء الكلمة الحرة"، و"الصحافة المستقلة"، وأسماء صحافيين استشهدوا في أثناء قيامهم بواجبهم الإعلامي مثل نزيه درّوزه وعلي قعدان وفضل شنّاعة وغيرهم(50).

ولو أدركنا أنّ طواقم رامتان التي غطّت حرب غزّة وصلت إلى 18 طاقمًا، بالإضافة إلى 16 نقطة تغطية بث دائمة مباشرة عاشت ونقلت الحدث إلى العالم، فإنّ حرب غزّة جاءت تجربة ناجحة بالنسبة إلى رامتان حفّزتها نحو العمل المتطور على مشروع شبكة ألياف ضوئية يسمح لها في المستقبل من النقل الفوري لأي حدث في الأراضي الفلسطينية(51).

 

ب- المربع الإعلامي الذهبي

مثلما كانت رامتان "الشمس" الإعلامية في حرب غزة، كانت قناتا الجزيرة والعربية "شمس" الغزو الأميركي للعراق (2003)، وقناة المنار والجزيرة "شمس" حرب تموز على المقاومة في لبنان (2006)، وكذلك العربية في أثناء أزمة نهر البارد في شمال لبنان (2007).

وعلى الرغم من أنّ عباس ناصر مراسل الجزيرة بقي اسبوعين أمام معبر رفح، ولم يتمكَّن من الدخول إلى قطاع غزّة، ومنع الإعلامي غسّان بن جدّو المزوّد ترخيصًا رسميَّا قطعًا من الدخول إلى القطاع، إلاّ بعد نهاية الحرب، في 21 كانون الثاني/يناير 2009 لتغطية آثار الحرب، فإن الجزيرة والجزيرة الدولية تمكنتا من كشف المجازر أمام الشعوب بحرفية عالية وبعفوية مطلقة، حيث منعها النقل المباشر من تنبيه مشاهديها لهول المشاهد التي جعلت بعض الخبثاء يستنتجون من خلالها أن الجزيرة هي قناة همّها ترسيخ العجز والمستحيلات والخسائر في الذهن العربي الذي سيبقى مسكونًا بالمجازر طالما بقيت الأنظمة العربية في دوائر عروبة الممكن والمهادنة، وهي باقية. وعلى الرغم أيضًا من استضافتها لتسيبي ليفني وغيرها من مسؤولي إسرائيل على شاشتها ما استفزّ مشاعر الكثيرين، ودفع بعضهم إلى اتهامها من ناحية أخرى بالتواطؤ، إلاّ أنها استطاعت في قناتيها العربية والإنكليزية من التعامل مع صور الشهداء والجرحى بجرأةٍ كبيرة. قلبت الصورة، حيث قدمت صورًا حية ومؤثرة للدمار والمشردين، إلى درجة أنّ جون سنو المذيع الشهير في القناة الرابعة في بريطانيا بيّن في فيلمه الوثائقي النجاح الفذ الذي سجَّلته قناة الجزيرة في تغطية صور الحرب وتأليب الرأي العام العالمي أمام الرسائل والوثائق والمعلومات والصور المضللة التي كانت تقذف بها إسرائيل وسائل الإعلام ومراكز القرار العالمي(52). وقد كان لهول المشاهد التي كانت تبثها قناة الشروق السودانية نقلاً عن الجزيرة، أن انهارت مذيعة الأخبار السودانية خولة حشّاشة، ولم تتمالك نفسها وأجهشت بالبكاء على الهواء، ما ساهم في دفع السودانيين بحمّى غريبة إلى الشوارع. وحصل الأمر ذاته مع المذيعة منى الشاذلي بقناة ريم المصرية عندما حاولت محاورة طفلٍ فقد ثمانية من أهله، وكذلك حصل مع جمال ريّان عند استعراض صور المجازر مع المذيعة ليلي الشايب في أثناء تقديم إحدى نشرات الأخبار.

صحيح أن الجزيرة لم تكن حيادية، لكنها كانت قادرة على تعبئة الجماهير ما جعلها فاعلة لا في صناعة القرار، بل في الضغط القوي على صانعي القرار.

ولقد أدَّت القنوات اللبنانية دورًا مميّزًا في تغطية حرب غزّة، إذ وحّدتها العناوين العامة، لكنها انقسمت في المواقف والتعليقات والمحللين بين فريقي الممانعة والإعتدال على المستويين اللبناني والعربي.

وقد ساعد في ذلك قناة المنار اللبنانية الشريكة الأساسية في فعل المقاومة التي كان لها مراسلون في الضفة والقطاع قدموا تقارير وافية لتغطية ما أسمته العدوان على غزّة، كما كان لها طول الباع في الحرب النفسية على التي كانت تظهراسرائيل في خانة المنكسر والواصلة الى حدّ التفكك، عبر شريط الأخبار العاجلة التي كانت تركز على أعداد الصواريخ التي تسقط على المستوطنات. كان يمكن تسميتها شاشة المقاومة في مواجهة المحور العربي المنحاز إلى أميركا وإسرائيل والساكت أو المحرج أمام قواعده الشعبية. وبرعت في الإعلام المقارن بين وضع العدو ووضع المقاومة، يسعفها في ذلك تمكن فريقها الواسع من اللغة العبرية، ورصد الشاشات العبرية بدقة، بهدف الوصول إلى الحقائق التي يحجبها العدو عن الرأي العام.

وبرزت قناة الجديد NTV، وشعارها "غزّة بطعم العزّة"، في تغطيتها ومقدمات برامجها السياسية ونشرات أخبارها، وكأنها جزء أساسي وحي من المقاومة. كان يسهل سقوط الموضوعية والإعتدال طالما المحطة أمام الإحتلال الإسرائيلي، والمعروف عنها أنها قناة لا يمكن أن تقف على الحياد في القضايا التي يشتمّ منها تخاذلاً عربيًا في موضوع جوهري مثل فلسطين. وهذا ما ينطبق أيضاً على قناة NBN التي جهدت بشكلٍ بارز في التغطية المستمرّة وركّزت على المحللين ما يسعف المقاومة عندما باشر مدير البرامج السياسية فيها الإعلامي عبّاس ضاهر بفتح الهواء بشكلٍ كامل، واستنفار طاقات المحطة معتمدًا بشكلٍ كامل في المرحلة الأولى على صور رامتان التي تمّ توضيبها وإنزالها على الخرائط والوقائع الخاصة بغزّة، مستدعيًا في ذلك الكثير من المحللين السياسيين والعسكريين الذين انخرطوا في عملية غزة الى حدود برزت جيدة أمام جمهورها(53).

وقد وصل إخفاق اسرائيل وانزعاجها في حربها الإعلامية إلى حدود وضع لائحة سوداء تتضمَّن أسماء بعض الخبراء العرب والمحللين، وطالبت بأن يتم حجب آرائهم ومواقفهم عن العديد من الشاشات التي يمون عليها الصهاينة(54).

 

4- شاشات المساومة أو فضائح استعمال" المصطلحات"

أمّا الإعلام المعتدل أو المتساهل فكنّا نجده في مصر حيث بدا طوال 22 يومًا أسير إقفاله التام لمعبر رفح، ومربكًا بغسل أدمغة جماهيره واستنفار عواطفها بمعاداة المقاومة والعرب الذين عرفوا بالممانعين. وقد انهمكت الأقلام المصرية والشاشات، وما زالت، بعدما فاجأت الرأي العام العربي، وفقدت احترامه بالكامل، بأخذ موقف الدفاع عن مصر حيث كلّ من ينتقد السياسة المصرية كان يعتبر عميلاً لإيران وسوريا وقطر، مع أنّ تظاهرات طنطا والدمنهور والقاهرة والكثير من التظاهرات التي كانت تنتفض في القاهرة والمدن المصرية، وتقمع، كانت تؤكد أن النظام في وادٍ وتعاطف المصريين في وادٍ آخر. وقد يكون أفضل ما يعبّر عن هذا الوضع المساوم تلك المانشيت التي تصدّرت إحدى الصحف المصرية بالخط العريض: "فضحتونا"(55).

لم تستعمل وسائل الإعلام المصرية ولا شاشة العربية أي مصطلح يدين إسرائيل، وكان ضحايا القصف قتلى يعدون خارج أي عمل استشهادي. وقد اعترف مدير تحرير العربية ناصر الصرامي بمأزق القناة بعد نهاية العدوان، حيث راحت تستلحق تقصيرها وتدعو مشاهديها لأن يتواصلون مع شعورهم القومي. كانت العربية باردة متردِّدة وحيادية ومتحفظة جدًا في نقل الصور التي تسيء من وجهة نظرها إلى المشاهد، والأرجح أنه لم يكن لها جمهور، أو خسرت جمهورها الذي أشاح بصره عنها بحثًا عن شاشاتٍ أخرى. وينسحب الأمر نفسه على قناة المستقبل الأرضية والفضائية وقناة OTV حيث غابت عنها حرب غزّة ما عدا فترات الأخبار وكانت تتناولها بموضوعية نقلاً عن المحطات الفلسطينية. والمفارقة أن محطة أل بي سي الأرضية كانت تنقل حفلة للفنان اللبناني فارس كرم فيما كانت فضائيتها ثبث مسرحية لبنانية ساخرة عندما كان الجيش الإسرائيلي يباشر بعمليته البريّة على قطاع غزة.

لقد برزت إخبارية المستقبل التي لم تكن قد احتفلت بعيدها الأول متميِّزة في حضورها وجهودها الذي ظهر في فريق عملها الدؤوب والمنتشر في المناطق الفلسطينية، بالإضافة إلى تخصيص برامج لافتة ساهمت بفعالية في الإضاءة على ما كان يحصل في غزة.

لم يكن مستغربًا هذا التحيُّز الفاضح والتباين الواضح في التغطية بين القنوات العربية الأمر الذي جعل المشاهدين يتابعون بعض وسائل الإعلام الغربي بحشرية التعرف على كيفية تغطيتهم للعدوان، والغريب أنهم لاحظوا موضوعية وإنسانية في بعض القنوات الغربية أكثر من بعض القنوات العربية، وذلك لسبب واضح هو غياب المصالح هناك الأمر الذي يتمتع به هذا الإعلام العربي في انقساماته خدمة لأنظمته ولبعض الجهات المعادية للعرب.

ومن أهم مظاهر الإنقسام الذي برز بشكلٍ حاد بين شاشات المقاومة والمساومة في الإعلام العربي، عدم اتفاق الشاشات على مصطلحات متقاربة إن لم نقل موحَّدة. تأتي في طليعة هذه المصطلحات تسمية الضحايا بالشهداء في شاشة ليصبحوا قتلى في شاشةٍ أخرى مع ما هناك من فروقاتٍ بين المصطلحين تعكس مدى الإرتياب الإعلامي العربي الناتج بالطبع عن الإرتباك السياسي الحاد الذي تشهده عروبة القرن الواحد والعشرين. وكان يسهل ملاحظة حرب المصطلحات المستعملة أيضًا بين حماس كحركة تحرير أو مقاومة أو تنظيم إرهابي، أو بين الإنقلابيين والشرعيين أو بين ممثلي الشعب الفلسطيني وسكان المناطق، كما بين الإنسحاب الإسرائيلي كما ورد في خريطة الطريق من غزّة مقابل مصطلح إعادة الإنتشار الإسرائيلي، وبين الحرب أو الهجوم على غزة والحرب في غزة، وبين قصف الأونروا أو قصف المدرسة التي تأوي مقاتلي حماس، وبين الحكومة الفلسطينية مقابل الحكومة الفلسطينية المقالة. وأهمّ ما برز في هذا الإنقسام المبالغة في تضخيم صواريخ حماس وفعاليتها كسببٍ أساسي لما حصل مقابل التغاضي الكامل عن السياسة الإسرائيلية التوسعية المعوفة بعدوانيتها ونبذها التاريخي للسلام. ما هو صارخ في تلك المتناقضات التي كنا نشهدها، في المقارنة بين محاورالعرب المنقسمين بين خاص وعام رسمي أي مقاوم ومهادن، وبين الأول وإعلام الغرب الرسمي والخاص(وهذا حمل بعض إشارات إيجابية)، أنّ بعض الديمقراطيين والليبراليين راح مستسلمًا يلقي تبعات الحرب ومسؤوليتها على المقاومة والضحايا هازئًا من مصطلحات الجهاد والمصطلحات المقاومة الأخرى.

ولا يخفى أن تلك التناقضات بين المصطلحات، كان لها أصداؤها كونها جاءت على إيقاعات محوري الخير والشر اللذين أطلقتهما إدارة الرئيس الأميركي بوش، وتحكمت بأدبيات المنطقة ونصوصها وسياساتها، وما زالت آثارهما تتفاعل بأشكالٍ مختلفة.

 

5- صورة غزة في الإعلام الغربي

كشف الإعلام العربي المقاوم، بفضل نعمة العولمة ومشتقاتها ووسائلها الإعلامية، عن مجازر العدوان الصهيوني على غزة، وما خلّفه من استهداف للمدنيين أكثر منه للمقاومين، وذلك على الرغم من التعتيم الإسرائيلي والإنحياز الغربي وموضوعيته وثقافته التي تحجم عن عرض جثث القتلى وصور الضحايا والأشلاء والمصابين لأسباب على علاقة بحرمة الموت. هكذا خرجت شعوب العالم إلى الشوارع في باريس وكوبنهاغن وأمستردام ولشبونة ومدريد وواشنطن وفنزويلا والبرازيل وتركيا وأندونيسيا والباكستان ومصر وبريطانيا والمغرب وسوريا ولبنان وغيرها، وكلها تتظاهر وتطالب بوقف العدوان وتندد بإسرائيل وجرائمها وحتّى بالدول المؤيدة لها، وهي شعوب ما كانت ستستكين لو أدركت باكرًا هول ما حصل في العدوان المخطوف خطفًا. وقد يقفز إلى العين في خلال إحدى التظاهرات صورة أحد حاخامات إسرائيل وهو يحرق جواز سفره الإسرائيلي، في مقابل الصور التي كان يبثها الإعلام الإسرائيلي، مانحًا عدوانه أبعادًا دينية، مثل صور الجنود الذين يقرأون في التلمود فوق دباباتهم أو يؤدون الطقوس الدينية.

لقد تشوّهت الصور والتحليلات والتعليقات بين الشاشات العربية، كما بين الشاشات وأجهزة الإعلام الغربي. وراح كلّ طرفٍ من طرفي الصراع يلقي المسؤولية على وسائل الإعلام ويتهمها، وخصوصًا في الدول غير المنخرطة مباشرة في الصراع، لكونها تشوّه الحقائق، وتصبّ الزيت على النيران المشتعلة في غزّة. والسبب أن طرفي النزاع لم يعثرا في الإعلام الغربي على عرضٍ يتطابق كلياً مع تصوراته ورغباته لحيثيات الصراع. كان كلّ طرف يشعر بأن قضيته تعرض بشكلٍ غير مناسب مع رجحان الكفة لمصلحة الفلسطينيين والعرب بشكلٍ لافت.

لقد تغاضى الإعلام الغربي عن الحصار وحياة الأنفاق ونسف الإنتخابات الديمقراطية وكلّ ما أسلفنا ذكره من بطش إسرائيل المستمر بغزة، وتناسي تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي الحافل بالمجازر، ملقيًا اللوم على حماس ومؤيّدًا إسرائيل التي بدت أو راحت تزعم أنها مربكة وغير قادرة، حيال هجمة الصورة العربية في تعرية أفعالها، أن تخرج منتصرة في المنافسة على كسب ودِّ المواطنين في الغرب. وقد يكون هذا الإرباك حقيقيًا لأمرين: الخلفية التاريخية الراسخة في مناصرة الغرب لإسرائيل ومعاداة العرب وقضاياهم وفق سياسات غير عادلة، والذي حدّد الرأي العام الغربي بأحكامٍ مسبقة من ناحية، والكره المتنامي للمسلمين في العالم الغربي، بشكلٍ عام، بعد 11 أيلول/سبتمبر 2002. وقد يضاف الى هذين الأمرين فكرة الصورة الأوروبية التي تتميّز بها إسرائيل لدى الرأي العام الغربي بالإضافة إلى صورة أو فكرة حماس التي راح الإعلام الغربي يربطها بحركة طالبان وتنظيم القاعدة وحتي بحزب الله، وخصوصًا بعدما نجحت إسرائيل في إقناع الإتحاد الأوروبي بإدراج حماس ضمن لائحة المنظمات الإرهابية. وهنا أمثلة:

نشر مركز أبحاث "بيو" المتخصِّص بالأبحاث واستطلاعات الرأي المتعلقة بوظائف وسائل الإعلام في دراسة "أن وسائل الإعلام الأميركية والأميركيين كانوا ضئيلي الإهتمام بأوضاع غزة التي لم تخصص لها وسائل الإعلام سوى إثنين بالمئة من تغطيتها الإعلامية التي لم تطل سوى إثنين بالمئة من مشاهديها"(56). واشتكى جون دانيسوفسكي مدير قسم الأخبار العالمية في وكالة اسوشيتدبرس الأميركية التي تنقل أخبارها إلى أكثر من ألف صحيفة وخمسمائة محطة تلفزيونية وإذاعية من منع اسرائيل 400 صحافي من دخول غزة، الأمر الذي لا يعرقل نشر الأخبار المستقلة وحسب، وتقديم وجهة نظر واحدة، بل لا يخدم الرأي العام ولا الحكومة الإسرائيلية ولا الإعلام نفسه (57).

فرنسا في FR2 خلت من صور الشهداء، وأفرطت في التركيز على صور ما خلّفته صواريخ القسام. الفرانس انتر صرخت بلسان أحد مذيعيها: صبر اسرائيل نفذ، وكأن المذيع ضابط اسرائيلي(58). العديد من الصحف الفرنسية وخصوصًا جريدة ليبراسيون أغلقت مواقعها الإلكترونية لكبح ما كان يتدفق عليها من صور مريعة من أبناء العرب.

كنّا نلمس في ألمانيا إشارات إعلامية إيجابية بسيطة جدًأ تعاطفت مع غزة، مثل اعتبار الحرب على غزة "خطأً" أو "وحشية"، أو أن إسرائيل دولة قد "أفرطت في استعمال القوة". وقد غالت الصحافة العربية في إبرازها مشيرةً إلى تغيير ما حصل هناك، لكنها تغاضت عن ألمانيا المسكونة بعقدة الذنب التاريخية الملطّفة بشكلٍ طفيف على مستوى الشباب تجاه اليهود، وكره الألمان للحروب منذ هزيمتهم في الحرب العالمية، وموقفهم العدائي من المسلمين، وكلها مسائل تبقي ألمانيا كما الكثير من الدول الأوروبية في خانة المناصر لإسرائيل. ولا يعني توجيه انتقاد بسيط من مذيع أو محلل، بالمعنى العلمي للظاهرة، أن تعاطفًا إعلاميًا أكيدًا وفاعلاً مع الفلسطينيين بدأ يظهر في الغرب(59).

كانت بي بي سي الإذاعة البريطانية، الأكثر استماعًا في الشرق الأوسط واضحة الإنحياز لإسرائيل تمامًا كما مجمل وسائل الإعلام البريطانية، ومنقادة كالمعتاد، للوبي الرسمي الصهيوني الذي سحب بعض مراسليها من فلسطين المحتلة.

وقد رفضت هيئة الإذاعة البريطانية، بذريعة الحيادية، بث "نداء غزة" الإنساني الذي تقدمت به ثماني عشرة مؤسسة وجمعية بريطانية لجمع التبرعات لضحايا العدوان الإسرائيلي، وبثته القناتان البريطانيتان الرابعة والخامسة و"اي تي في". وكان رد الفعل شجب الصحف البريطانية لهذا الموقف وقيام تظاهرات أمام مبنى الإذاعة البريطانية شارك فيها خمسون نائبًا بريطانيًا باعتبار أن النداء إنساني للإغاثة وليس للحصول على السلاح لحماس(60) .

 

الخلاصة: النهضة العربية الثانية

تتداخل الإستراتيجيات وتتناقض إلى درجة الغموض حيال نقطتين مستقبليتين: مستقبل المقاومة العربية إنطلاقًا من غزة ولبنان أي قدرة العرب على القتال أو إدارة الصراع وجهوزيتهم للسلام مع عدو لا يركض نحو السلام، ومستقبل الصورة العربية، وقدرتهم على الإستمرار في خوض العصر الفضائي وكسب مقدراته ومعاركه. فقد توقفت حرب غزّة لكن ليس بشكلٍ نهائي. قطاع غزّة ما زال محاصرًا، وما زال إمكان سقوط صواريخ حماس ممكنًا فوق الجنوب الإسرائيلي، كما أنّ إمكان تمرير السلاح عبر الأنفاق ممكن أيضًا وناشط بكثافة أكثر قد تقود إلى المزيد من تأزيم الصراعات بين العرب أنفسهم، وبين مصر وإيران، وبين العرب وإيران، ولم يباشر بعد في إعمار ما تهدّم. وقد لا تفضي الحوارات بين حماس والسلطة أي بين الحكومة المقالة أو الحكومة المستقيلة قانونًا إلى مسائل ثابتة وجوهرية. ولم تزل الأمور مفتوحة على الإحتمالات شتى. ومن يغص في تفاصيل ما هو قائم بين هذه الأطراف متفرقة ومجتمعة، يكاد يشعر أنّ ضياعًا كبيرًا يصيب الوطن العربي، ويدخله في أنفاقٍ أين منها أنفاق غزّة. ضياع كامل بين مفاهيم السلام والتسويات والاستسلام والمقاومة. أمسٍ ضاعت فلسطين، واليوم يضيّع العرب أدوارهم الكبرى اليوم، وتنسحب قضاياهم نحو طاولات تركيا وإيران والغرب ومعه إسرائيل. وتبقى المعضلة الكبرى في وحدتهم المشتتة بين عروبة الإمكان وعروبة الإستحالة. فقد وحّدهم الإعلام وقرّبهم بما يتجاوز السياسات والمؤتمرات والجهود المضنية لجامعة الدول العربية منذ تأسيسها. يزداد اهتمام وسائل الإعلام بالصراعات وبث أخبار الحرب وتداعياتها بكثافة ملحوظة. ولقد شغلت غزة العالم شهرًا كاملاً بالأخبار والصور والتقارير والتحليلات، وفشلت مسألة طمس الصور والحقائق، وعرفت نتائج الحرب، وبقيت الآراء على تباين شديد تورث الحيرة والاختلاط والتشتت في تكوين موقف متغيِّر في الغرب أو لدى بعض العرب حيال هذا الصراع. المتغيّر الحقيقي هو ملامح جيّدة لنهضة عربية ثانية إعلامية المظهر، مع نقدنا الكامل لمن يربط النهضة العربية الأولى بحملة نابليون بونابرت إلى مصر(61).

نحن نشهد عربًا يخوضون حروبًا فضائية هائلة بلغات العالم المختلفة، ويحققون خطىً متقدمة، ولو كانوا ما زالوا يتهادون في الفضاء قياسًا الى مقدراتهم لا المهنية بل التقنية المرتبطة بهوامش تحركات الأنظمة في بلادهم المقبلة على الإعلام، وعلى الرغم من تحركات رساميلهم المتعثّرة بسياسات الدول الكبرى ومستقبلها التنموي والنهضوي. وقد نلمس، في المقابل، إخفاقات استراتجية اسرائيلية للخروج بسلام من هزيمتها الإعلامية في غزة كما في جنوب لبنان. يكفي استعادة المشاهد، والأحداث، ومتابعة الجهود الإسرائيلية المضنية المستمرّة، حتى الآن وفي المستقبل، باهتمامٍ كبير،على الأقل، أمام ما يمكن تسميته بـ "معضلة الإعلام"، التي تجعلنا نشهد، مثلاً، الحملات الإسرائيلية المدروسة لتجميل صورة إسرائيل وتنظيفها ممّا لحق بها من جرّاء حربي غزة ولبنان، باعتمادها الغوغل ماب و youtube، و Facebook ومحركات البحث والمدونات والصفحات الإلكترونية الرابطة له وغيرها من وسائل الترويج الحديثة الإلكترونية.

وقد لا يجازف الباحث، أيضًا، في الملاحظة بأن اسرائيل، تعترف وكأنها قد خاضت معارك خاسرة، تحاول إعادة كسبها أو التعويض عنها عبر الإنترنت والمعارك الإلكترونية(62). قد نلمس حضوراً عربيًا شبابيًا وفعّالاً ومناصرًا للعرب منتشرًا في العالم، تمكّن بقدراته التكنولوجية، وكثرة المتدفقين اليه، من مفاجأة الإسرائيلي والقفز فوق مجمل المعضلات التي يكابدها الإعلاميون العرب. فمنذ صورة محمد الدرة مرورًا بحرب لبنان وحروب العراق وحرب غزّة، يتقاتل العرب وإسرائيل على اجتياح المواقع الإلكترونية أو "الهاكرز" لتغيير الصور والتقارير وتحويل ذاكرات البحث ومحوها، لا سيما أن من بين المليار ونصف مشترك بالإنترنت، هناك حضور شبابي عربي لافت لمصلحة كشف الحقائق والصور(63)، قد يتجاوز في أهميته الإخفاق التاريخي العربي في ميدان ترويج هذه الصور والنصوص وغيرها عبر الصحف اليومية أو عبر شاشات التلفزة.

لعلّ أجيال الأبناء والأحفاد تنجح في تحقيق ما عجزت عنه محاولات الآباء والأجداد طوال العقود الستة الغابرة في تلقف هذه المنجزات الإعلامية والعسكرية وتطويرها؟

 

مصادر الدراسة

(1) كان إيهود باراك وزير الدفاع الإسرائيلي، مهندس هذه الحرب الرئيس الذي أمر الجيش الإسرائيلي بالإعداد لهذه العملية العسكرية في القطاع قبل أشهرٍ ستة من وقوعها، وتحديدًا بعدما جرت الاتصالات مع مصر للتوصل إلى تهدئة مع حماس دخلت حيِّز التنفيذ في 19 حزيران/يونيو2009. راجع: فتحي درويش، لا قيمة لهذا الإنتصار دون تحقيق الوحدة، صحيفة النهار، بيروت، 23 كانون الثاني/يناير2009.

(2) حرية الإعلام الإسرائيلي تحت المجهر، الشرق الأوسط، لندن، 31/1/2009

هذه الحرب في 16 كانون الثاني/يناير 1991. قعتو (3)

(4) نسيم الخوري، إنقلاب الصورة في معارك الصورة العربية الأميركية، مجلة الدفاع الوطني ،العدد 45، تموز/يوليو 2003، ص 22

(5) في الثاني من آب/ أغسطس 1990

23/3/2003،www.aljazeeira.net(6)

 (7) في 11 أيلول/سبتمبر 2002.

(8) الصحف ووسائل الإعلام المتلفزة، 4 نيسان/أبريل، 2009.

(9) نسيم الخوري، "الإعلام العربي وانهيار السلطات اللغوية"، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2005، الفصل الرابع: الإعلام في لبنان وانهيارات الحرب والسلام، ص 193-236.

(10) عدد 8 نيسان/أبريل 2009

(11) راجع وقائع المؤتمر الذي أقامه السيد حسن نصرالله، لجلاء مسألة سامي شهاب، في الصحف اللبنانية بتاريخ 11/4/2009، والذي كانت قد بثّته مجمل الفضائيات اللبنانية مساء الجمعة في 10/4/2009، والذي ألهب الصحافة المصرية التي تناولت حزب الله والسيد حسن نصرالله بأقذع النعوت وأقسى العبارات التي لم نشهد مثيلاً لها منذ إنطلاقة المقاومة في لبنان.

12) حرية الإعلام الإسرائيلي تحت المجهر، المصدر نفسه.)

شالوم يروشلمي، استراتيجية التعتيم، يديعوت أحونوت،31/1/2009  (13)

(14) كان الصاروخ الأخير لحماس الذي أعلن عن سقوطه، في أثناء كتابة هذه الدراسة، في 11/4/2009 ، كما  قامت القوّات المصرية بتمير أحد الأنفاق 9/4/2009.

  Georges Malbrunot, le secret des tunnels de Gaza, dans http (15) www.youtube.com

(16) استقينا هذه المعلومات العسكرية من أحد الخبراء العسكريين الذي لم يشأ الإفصاح عن اسمه.

(17) جوزف فندريس، "اللغة"، ترجمة عبد الحميد الدواخلي ومحمد القصّاص، مكتبة الأنجلو-مصرية، القاهرة، 1950، ص.39.

(18) طارق القزيري، أنفاق غزّة بين رغبة الحياة ومكامن الخطر، الشرق الأوسط، لندن، 9/8/2008.

(19) مصباح محجوب، "بيت العنكبوت، تناقضات وصراعات وسلبيات المجتمع الإسرائيلي"، دار الفكر، بيروت، لبنان، 2002، 192.

(20) بلال الحسن، أنفاق غزّة... الإبتكار النضالي الكبير، الشرق الأوسط، لندن، 17 آب/أغسطس، 2008.

(21) راجع بشأن استرتيجية الأنفاق، إضافة الى ما سبق: شيماء مصطفى، أنفاق غزة..تجارة مع الموت، www.islamonline.net  

وأيضاً: جورج مالبرونو، أنفاق غزة المدهشة، السبت 10 كانون الثاني/يناير 2009. مترجم عن الفيغارو الفرنسية.

(22) إذاعة اسرائيل، 8 نيسان/أبريل 2009.

(23) شيماء مصطفى، المرجع نفسه.

(24) مصباح محجوب، المرجع نفسه، ص 190

(25) لمزيدٍ من التفاصيل، راجع الملف الذي أعدته إيمان التوني، مجلس الأمن .. 60 عاماً من القرارات تتجاهلها اسرائيل، google .

(26) مصطفى اللبّاد، قراءة أولية في حرب غزّة، كلاوزفيتس يعلن هزيمة اسرائيل، صحيفة النهار، بيروت، الثلاثاء 20 كانون الثاني/يناير 2009. ص 9، وأيضًا فتحي درويش، المرجع نفسه.

(27) حنا خبّاز والدكتور جورج حدّاد، فارس الخوري، حياته وعصره، مطابع صادر ريحاني، بيروت، 1952، ص: 186- 232، والجدير ذكره أنّ فارس الخوري مندوب سوريا إلى مجلس الأمن، كان رئساً لمجلس الأمن الدولي في تلك الدورة التي تمّ فيها تقسيم فلسطين، ولم يتمكن من القفز فوقها. وتحفل مذكراته في هذا المجال، بالكثير من الأسرار والمعلومات والنضالات لمصلحة القضية الفلسطينية، خصوصًا وأن زوجته أسماء جبرائيل كانت فلسطينية الأصل.

(28) لمزيدٍ من التفاصيل حول هذا التاريخ الطويل، راجع الدكتور سليم الحص، عودة الى فلسطين، السفير، 31/3/2009.

(29) يروي الكاتب الأميركي توم فريدمان، أنّ الملك السعودي عبدالله بن عبد العزيز، عندما أراد أن ينشر مبادرته السلمية العام 2002، استدعاه الى مقابلة خاصةٍ معه في الرياض جرت في كانون الثاني/يناير 2002، وحدّثه بأحد أكبر الكشوف الصحافية في حياته المهنية، أي عن مبادرة سلمية جديدة، ستوقع الدول العربية في إطارها على إتفاق سلام، مع تطبيعٍ كامل، مقابل انسحاب إسرائيلي إلى خطوط 1967، بعد ذلك تبنت الجامعة العربية في بيروت المبادرة السعودية، بعد أن اضيفت إليها المادة التي نسفتها وأصبحت نقطة الخلاف الأساسية، ألا وهي طلب حل عادل لمشكلة اللاجئين، والذي رأته اسرائيل محاولةً لتقديم حق العودة. من مقابلة أجراها معه نوعام شيزاف،ملحق معاريف، 18/5/2007.

(30) تريتا بارزي، "حلف المصالح المشتركة"، ترجمه عن الإنكليزية أمين الأيوبي، الدار العربية للعلوم، ناشرون، الطبعة الأولى، 2008، ص 41-53.

(31) ناحوم غولدمان، "إسرائيل الى أين؟" ترجمة الدكتور نسيم الخوري، دار المشرق العربي الكبير، بيروت دمشق، 1985، وفيه يرى بأنه سيكون لإسرائيل، هذه الجزيرة الضائعة وسط العالم العربي، حظ ضئيل في البقاء.

(32) انطوان شلحت، الصورة من داخل اسرائيل، أبعد من غزّة وحماس، صحيفة النهار، بيروت، الثلاثاء 20 كانون الثاني/يناير 2009. ص 9.

(33) سليم الحص، المصدر نفسه.

(34) في 5 نيسان/ابريل 2009.

(35) وصل الرئيس الأميركي في زيارته الخارجية الأولى الى تركيا في 6 نيسان/أبريل 2009 بعدما شارك بقمة العشرين الإقتصادية، ثمّ قام بزيارة مفاجئة الى بغداد التي وصلها في 7 نيسان/ابريل 2009. وكان أوباما قد حدّد في 27 شباط/فبراير تاريخًا مهمًا هو 31 آب/أغسطس 2010 كموعد لإنهاء العمليات القتالية الأميركية في العراق، وقال بإنه يعتزم سحب جميع القوات الأميركية من العراق بشكل تام في نهاية العام 2011. الصحف، 8 نيسان/أبريل 2009.

(36) راجع الصحف، 10 نيسان/أبريل 2009.

(37) وكالات الأنباء والصحف في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2006. وقد ألقى الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجّاد من على منبر منصة المؤتمر الدولي ضد العنصرية (الإثنين 20/4/2009)، في جنيف بسويسرا، خطابًا وصف فيه اسرائيل بأنها حكومة عنصرية الأمر الذي دفع ممثلي 23 دولة من أعضاء الإتحاد الأوروبي المشاركة في المؤتمر إلى الإنسحاب من القاعة والتنديد بخطاب الرئيس الإيراني المعادي لإسرائيل. راجع الصحف ووكالات الأنباء 21-22-23/4/2009.

(38) تريتا بارزي، المرجع نفسه، ص 23.

(39) الصحف ووكالات الأنباء، 7 و8 نيسان/أبريل،2009.

(40) المصدر السابق، التاريخ نفسه.

(41) جريدة البلد، الثلاثاء 7 نيسان/أبريل2009.

 (42) كان آخر الندوات العلمية حول إعلام غزّة تلك التي دعا اليها المنتدى الإعلامي في دبي بعنوان: "غزّة: مكاشفة إعلامية"، في الثاني عشر من أيّار/مايو 2009، طارحًا مجمل هذه الأسئلة، وشارك فيها الدكتور نبيل الخطيب، رئيس تحرير قناة العربية، أحمد الشيخ رئيس تحرير قناة الجزيرة، البروفسور نسيم الخوري، كاتب هذه الدراسة، صلاح نجم مدير بي بي سي العربية، الدكتور عبد المنعم سعيد رئيس مركز الدراسات الإستراتيجية والسياسية بالأهرام، بحضور خمسمائة من رجال الإعلام والصحافيين العرب والأجانب.

.( www.google.com (43 مفتاح: الإعلام الإسرائيلي.

 (44) فتحي درويش، المصدر نفسه.

 (45) معتصم أبو جابر، حول إعلام حرب غزّة، المركز العربي الدولي للدراسات الإعلامية، 31/1/2009، غوغل.

(46) كفاح زبون، نجم محلي في سماء الفضائيات العربية، الشرق الأوسط،14/1/2009.

(47) فرج اسماعيل، كلمة سر البث المباشرلحرب غزّة طوال 22 يومًا،العربية، دبي، الأحد 18 كانون الثاني/يناير 2009

(48) أسس رامتان الدكتور خالد قاسم كفارنة وهو فلسطيني يحمل الجنسية الأميركية، وهناك من يرى بأن شراكةً جمعت بين رامتان وقناة الجزيرة في قطر، بالإضافة الى أسهم لحماس قد تصل إلى 60 بالمئة. للمزيد من التفاصيل، راجع على سبيل المثال، حيدر محمد، وكالة رامتان في دائرة المديح الإعلامي، الوسط، منتدى الناقد الإعلامي، 16/1/2009، وكذلك راجع أيضًا موقع وكالة رامتان على الانترنت : http://www.ramattan.net/ramattan/.

(49) أثارت وسائل الإعلام قصصاً عن خلافات كبرى دارت بين الجزيرة ورامتان في أعقاب حرب غزّة آلت الى النزاعات القضائية، وخروج الجزيرة من عقدها مع رامتان والتعاقد مع وكالة اسرائيلية تزودها الصور. والسبب في الخلاف هو رفض رامتان تزويد الجزيرة مشاهد قصف مدرسة الفاخورة، شمال قطاع غزة، التي أثارت ضجة كبرى. وكذلك بسبب خلاف على إدخال معدات جديدة إلى رامتان بطلبٍ من أصحابها، واستعدادًا للحرب الصهيونية على القطاع، الأمر الذي رفضته الجزيرة، مع أنها كانت تنقل صور رامتان منذ الساعات الأولى لوقوع الهجوم الجوي على غزة. راجع: أحمد أبو عامر، انتهاء الشراكة بين وكالة رامتان وقناة الجزيرة، صحيفة الرسالة، غزة،5/3/2009.

(50) رانيا غانم، رامتان...اسم استثنائي في عالم وكالات الأخبار، العرب، الدوحة،14/1/2009

(51) فرج اسماعيل، المصدر نفسه.

(52) عبد الباري عطوان، إعلام غزّة، باب google (عربي)، 13/1/2009

(53) من مقابلات أجراها طلاب كلية الإعلام مع عبّاس ضاهر(أن بي أن) وعلي قصير (المنار)، 16/4/2009

(54) نشرت صحيفة "الجويش كرونيكل" الناطقة باسم الجالية اليهودية قائمة بمن أسمتهم المحللين المعادين لإسرائيل ومن بينهم عبد الباري عطوان، والدكتور ريتشارد فولك منسق الأمم المتحدة في قطاع غزة، والدكتور النروجي مادس غيلبرت الذي أجرى الكثير من العمليات الجراحية لضحايا العدوان الإسرائيلي في مستشفى الشفاء في قطاع غزة. عبد الباري عطوان،المصدر نفسه.

(55) المصدر السابق.

(56) باسل النيرب، البيان، 26/3/2009

(57) محمد علي صالح، كارثة غزة تثير جدلية الحيادية والإنحياز..، الشرق الأوسط، لندن،8 كانون الثاني/يناير 2009.

(58) 2/1/2009

(59) شتيفان فايدنر، الإلمان وحرب غزّة. نعم حصل تغيير، صحيفة الأخبار، بيروت، 9/3/2009.

(60) عبد الباري عطوان، المصدر نفسه.

(61) Nassim khoury, Introduction à la modernité Arabe, ed. Alhadatha,beyrouth.1986, pp.33

(62)  حتى أنّ التايم ماغازين عنونت: إسرائيل خسرت الحرب الإعلامية بسبب منع الصحافيين من دخول غزة، مما خلق تعاطفًا معها وارتد سلبًا عليها. 16/4/2009

(63) أفضل مثالٍ نسوقه، في هذا الميدان، استيلاء مجموعة من الشباب المغاربة على 86 موقعًا إسرائيليًا في أثناء حرب غزة، ووضع صور أشلاء الأطفال على تلك المواقع، وهي الحرب التي تستمرّ من دون توقف: الصراع العربي الإسرائيلي الإلكتروني، برنامج خاص بإعلام حرب غزة، محطة الجزيرة الفضائية، 7/3/2009، الساعة السادسة مساءً.

.

The intersection of strategies in the war of Gaza.

The Israeli war on Gaza first started with a complete siege around the strip followed by an attach launched from the air and soon became a war on land, in the air and at sea. The resistance withstood in Gaza and persisted in intensifying the pattern of launching missiles towards thousand Israel. However, Israel committed many massacres during this war which was covered by a number of media corporations which diffused some horrible videos and photos. This led Israel to stop its massacres and halt its military operations. However, Israel benefited from the Arabic country’s divisions and affinities and declared that the operation “will be resumed when necessary”.

This study aims to suppose that the wars of July 2006 and 2008 on Gaza effectively contributed in inducing great changes. The study also tackles these great changes on all the levels on the arab-israeli conflict, weither on the level of Arab and regional division, the arab-iranian discord or on the level of the perspective of Great Powers especially the United States of America with regard to the Middle East. Accordingly, the strip of Gaza and south Lebanon became two intersection points for renewed strategies, which can never be separated. These strategies cannot be analyzed separately. For instance, one cannot tackle the media strategy during the war on Gaza apart from the strategy of Hizbullah’s media in southern Lebanon or isolated from the strategy of tunnels or the strategy of initiatives and compromises.

In the light of the mentioned facts we can tackle five main headlines in the strategic intersections: first of all, the media strategy that varies between suppression and revealing facts and afterwards the strategy of tunnels and pictures of death in Gaza. The study  shifts later so analyze the strategies of wars, settlements, pullouts and their mysteries and moves forward to handle the strategic significance of “the return of Palestine to the Palestinians”.

Finally, the study will endeavor to dismantle the elements of the media war and its details in Gaza in addition to the manner which can be used to benefit from this war in shedding light upon the future of this historic conflict.

L’entrecroisement des stratégies dans la guerre de Gaza.

 

La guerre israélienne menée contre Gaza a commencé par un blocus aérien le Samedi 27 Décembre 2009, pour ensuite se propager à tous les niveaux, entraînant la mort de plusieurs milliers de personnes et la destruction de l’infrastructure.

Malgré ces attaques, la résistance n’a pas baissé les bras, poursuivant sa défense en lançant les bombes vers le Sud d’Israël.

Par la suite, le monde entier s’est révolté, exigeant le retrait de cette guerre et soutenant la lutte des palestiniens. Israël a alors arrêté ses opérations militaires.

 

Cette étude vise en premier lieu, à s’approfondir sur les différentes mutations enregistrées, conséquentes au conflit israélo-arabe, ensuite elle met en relief la stratégie médiatique adoptée ainsi qu’une comparaison avec la guerre médiatique menée par le Hezbollah.

 

Donc l’auteur étudie cinq grands titres :

-La stratégie médiatique entre obscurcissement et révélation.

-Les stratégies des tunnels et les faces de la mort à Gaza.

-Les stratégies des guerres, des implantations et des retraits.

-La définition stratégique pour extirper la Palestine des mains sionistes et la rendre à ses citoyens.

-Délimiter les facteurs de la guerre médiatique et ses détails à Gaza, ainsi que les moyens d’en profiter, en mettant en évidence l’avenir de ce conflit historique.