العوافي يا وطن

تقاعد ممنوع من الصرف
إعداد: أسرة التحرير

كان من المفترض أن تكون هذه الصفحة آخر ما يخطّه قلم رئيسة التحرير الزميلة إلهام نصر تابت لمجلة «الجيش»، فكما تقول الأغنية «دايمًا بالآخر في آخر في وقت فراق»...وفي الوظيفة دائمًا هناك محطة يتوقف فيها القطار. محطة يفرضها العمر وتؤكدها قواعد قانون العمل. لكن ماذا لو كان العمل أكثر من مجرد وظيفة؟ ماذا لو كان حبر القلم ورصاصه مسبوكين من تضحيات رجال وعرقهم وسهرهم ودمهم؟

سنوات طويلة، أكثر من ثلاثة عقود وهذا القلم يحاول مواكبة مسيرة جيش مناضل. جيش متأهب دومًا لمقارعة الخطر وحماية وطنه ولو باللحم الحي. جيش يحتضن مواطنيه ويهبّ إلى مساعدتهم في كل مجال وساحة وضائقة أو كارثة. جيش يحمل البندقية بيَد ويعلي مداميك البناء باليد الأخرى. جيش هو بالنسبة للّبنانيين قلب القلب ونبضه ودمه.

على تخوم الجنوب كان لها فرح رؤية طلائع العسكر متجهة إلى المدن والبلدات والقرى، حيث أشرقت خطواتهم فجرًا في أرض اشتاقت إلى طلتهم وسواعدهم. واكبتهم ينزعون الألغام، ويشقون طرقًا في المناطق النائية، ويقدّمون كل مساعدة ممكنة للمواطنين ليظلوا متمسكين بأرضهم.

في الشمال مشت بقلبها على تراب روته دماؤهم في نهر البارد، فصارت أوجاع أحبابهم خبزها والماء الذي يرويها.

في الجرود القاسية، سمعت أصواتهم صرخات أبطال ولمحت ظلالهم تشرق فجرًا يبدد ظلامية الإرهابيين.

في الساحات التي تغلي، رأتهم مثالًا للانضباط ورباطة الجأش والحكمة وسياجًا لحرية التعبير.

في انفجار المرفأ عاينت الغبار يخترق كل خلية في أجسامهم وهم يناضلون للتخفيف من وقع المأساة.

في الأزمة الأخيرة شهدت صلابتهم وصبرهم وإيمانهم وتفاؤلهم.

وفي كل الحالات والأوقات، كانوا المثال الحي للتضحية والوحدة والتماسك في وطن تحكمه المصالح، يسوده الفساد، وتمزّقه الخلافات، وكان قلمها رفيق تعبهم وتضحياتهم وشهادتهم.

رأتهم، سمعتهم، عاشت تعبهم طوال أكثر من ثلاثين عامًا. وبات ما عاشته وهي في هذه المؤسسة وشمًا في دمها. باتت البزة التي يرتدونها جلدها ورداءها. تنتمي إلى عنفوانهم وأوجاعهم، إلى تواضعهم وصلابتهم، إلى إصرارهم وإيمانهم.

حان وقت تقاعدها فيما الضائقة تحاصر الوطن وتلقي بأحمال توازي الأطنان على كاهل العسكريين. هل تسمح لها المؤسسة بالتقاعد؟

التقاعد من هذه المؤسسة ممنوع من الصرف. ممنوع من الصرف بقوة الانتماء وقوة الرجاء أيضًا.

وعليه، سيبقى قلمها بحبره ورصاصه جهدًا متواضعًا في خدمة مؤسسة يتّكئ على صمودها وطننا، وسيبقى في هذا القلم ما يكفي للقول:

العوافي يا جيشنا.

العوافي يا وطن.