قصة قصيرة

تكريم شاعر
إعداد: العميد الركن المتقاعد إميل منذر

قال الشاعر:
يا ليل لملمْ نجومَكَ وارتحلْ
يا أيها الليلُ الثقيلْ
عشنا دهورًا في الظلامِ،
نضلُّ لا نجدُ السبيلْ
كانتِ لنـا أحلى المنى
وكلّها الدنيا لنا
كان حلوًا شرقُنا
أينَ ذا الشرقُ الجميلْ؟
كلُّ الجمالِ قدِ ارتحلْ
إني أناشدُكَ الرحيلْ.ُ
* * *
حتّـامَ تجعـلُ سجنَكَ ما بينَ قضبانِ الصدورْ!
وإلامَ تسكبُ لونَكَ بعروقِ تيجانِ الزهور!
يـا ليـــــلُ لا طلعَ القمرْ ولا جلى أُفْقًا سَحَرْ
فنحنُ لا نهوى الســهرْ بلْ نعشقُ النومَ الطويلْ
كلُّ الجمالِ قدِ ارتحَلْ إنــــــــي أناشدكَ الرحيلْ.
* * *
كُفّي أيا عينُ الدموعَ، فليسَ يُجدينا العويلْ
ما قد توارى لــــن يعودْ
هل عادَ من موتٍ قتيلْ!
أسلافُنا يـا سعدَهم
عنهم ورثْنــا مجدَهم
ومــا رعينا بعدهم
غيرَ أوزانِ الخليلْ
كلُّ الجمالِ قدِ ارتحلْ
إني أناشدُكَ الرحيلْ.
وما أتمّ الشاعر قصيدته حتى دوّى التصفيق في القاعة استحسانًا. وقبل أن يغادر في ختام الأمسية الشعرية، نهض من وسط الجمهور شابّ أنيق الملبس، تحجب عينيه نظّارتان قاتمتان بلون لحيته القصيرة، واندفع نحو الشاعر وصافحه بحرارة، وهنّأه على قصيدته الرائعة، وأكّد له أن الوطن يحتاج إلى مَن يناضلون بالكلمة حاجته إلى المناضلين بالبندقية، وأعرب عن إيمانه بأن حرية التعبير عن الرأي هي حجر الأساس في بناء دولة متقدّمة وقوية؛ فشكر الشاعرُ الشابَّ، وقد أعجبه منه حماسته وأفكاره التقدّمية النيّرة.
* * *
صبيحة اليوم التالي كانوا أربعةً جالسين حول طاولة مستديرة، وكلٌّ منهم ينظر صامتًا إلى ورقة أمامه وقد أسند مرفقيه إلى الطاولة وجعل رأسه بين كفّيه.
قال الأوّل من غير أن يرفع بصره عن الورقة: عشنا... دهورًا... في الظلام. بربّكم اسمعوا هذا الكلام. إن فيه إهانة للنظام. لقد عاشت بلادنا في الظلام دهورًا، هذا صحيح. لكن الفجر انبلج والنور أشرق مع حركتنا الانقلابية المباركة. والأماني التي اضمحلّت في العهود السابقة- لا أعادها الله- عادت لتعمر بها النفوس مع تسلُّم زعيمنا مقاليد الحكم واضطلاعه بمسؤولية النهوض بالوطن. كان حريًّا بشاعرنا العزيز أن يفخر بالحاضر لا أن يندب الماضي ويرثيه. أن يفرّق بين ما كان وما هو الآن.
ثم تولّى الكلام الثاني فقال منقّلًا إصبعه من كلمة إلى كلمة: حتّامَ تجعلُ سجنَكَ... بعروق تيجان الزهور. ثم ضرب بقبضته الطاولة: «هذه دعوة مبطّنة إلى الثورة. وعلامَ يريد صاحبنا الشاعر أن يثور؟ على نظام ديموقراطيّ عادل يساوي بين الجميع. على زعيم متسامح ترك للشعب حريّة الإشادة بإنجازات العهد كلٌّ على طريقته من دون حسيب أو رقيب». واسمعوا ما يقول أيضًا: فنحن لا نهوى السهر بل نعشق النوم الطويل. يا لهذا العقوق! ألا يرى كيف يسهر الزعيم على دستور الأمّة، وكيف نسهر نحن على الأمن وراحة الناس!
وانتفض الثالث فقال: وكلام صاحبنا يحمل الناس على اليأس. يقول إن بكاءهم على الماضي الجميل لن يجدي نفعًا؛ فما مات لن يحيا من جديد. صحيح أن العدوّ اغتصب أرضنا ومياهنا منذ عقود من الزمن، لكن الزعيم لا يترك مناسبة إلا يندّد فيها بالعدوان الغاشم. ولا يوفّر جهدًا في إلقاء القبض على العملاء الذين يحاولون عرقلة مسيرة النضال والزجّ بهم في غياهب السجون.
عندئذٍ رفع الرابع بصره وأجاله في عيون الرجال زملائه، وقال وصريف أسنانه يكاد يكون مسموعًا: عليه أن يدفع ثمن تطاوله على السلطة الآن وليس غدًا؛ فيكون عبرة لمَن اعتبر، وإلا تشجّع سواه على الحذو حذوه واقتفاء أثره. لا، لا نستطيع أن نسمح بالفوضى. لا نستطيع أن نرخي الحبل للعملاء والخونة ومضلّلي الشعب. هؤلاء يجب أن نضع حدًّا لهم يقفون عنده.
وكان المتكلّمُ هذا الشابَّ ذا اللحية القصيرة الذي أثنى على الشاعر في الصالة مساء أمس.
* * *
الموسيقى تصدح عاليًا في القصر الكبير، والزينة ضاقت بها الجدران العالية والأعمدة الرخامية في الداخل؛ فخرجت إلى الشرفات والأشجار المنتصبة كالحرّاس عن جانبي الممرّ العريض المؤدّي إلى القصر. إنه يوم عظيم جاء فيه الناس يشاركون الزعيم فرحه بولادة صبيّ له من زوجته الشرعية الثانية لأن الأولى صارت عتيقة ولم تعد تنجب؛ فتركها تتولّى بعض الشؤون السياسية المحليّة، وتدير عددًا من النشاطات الاجتماعية لسيّدات المجتمع المخمليّ.
في هذا اليوم المبارك أطلق الزعيم عشرات السجناء السياسيين تعبيرًا عن فرحه ومحبّته لشعبه، واستقبل المغنّين والراقصين والنافخين بالمزامير والضاربين بالطبول و... بالرمل، لأن هؤلاء أيضًا يعرفون كيف يكذبون.
كلّ الشعراء الذين حضروا أنشدوا الزعيم أجمل ما جادت به قرائحهم وهمسته شياطينهم في آذانهم. هذا وصف كرمه بالبحر الذي لا ساحل له، وذاك أطال في الكلام على تفانيه في خدمة الشعب، وذلك قال في وقارته ومهابته ما لم يقله بطرس كرامة في وقار الأمير بشير الشهابيّ الكبير وهيبته. وجميعهم توسّموا في المولود الجديد كلّ الخير للبلاد لأن نبل دم أبيه يجري في عروقه، والوطنية لا شكّ راضعها مع حليب أمّه.
وبعدما أفرغ الشعراء ما في جعبهم، ودسّوا ما جادت به كفّ الزعيم في جيوبهم، وقف الشابّ ذو اللحية القصيرة، ونظر إلى صاحبه الشاعر، وابتسم ابتسامة ماكرة، وقال: إن في مجلسنا لَشاعرًا مُجيدًا لم يقل كلمة بعد. إذ ذاك انقبض قلب الشاعر، وتمنّى لو ان جنيًّا يختطفه ويقصيه عن هذا المكان الذي دُعي، أو بالأحرى، استُدعي إليه، لكنه تكلّف الابتسامة، ووقف وأنشد:
وطنـي تألّهَ إسمُهُ. إن لا، فكادْ
لا عاشَ خصمٌ إن نوى شرًّا وكادْ
بالدمِّ نكتـــــــــــبُ، لا حبرٌ ولا ورقٌ مَنْ قـالَ إنَّ المجدَ يُكتَبُ بالمدادْ!
في كلِّ مرتفعٍ غرسنا بيرقًا وشهيدًا خالدًا في كلِّ وادْ
يلقى الردى منّا الصبيُّ مهلّلًا
فالموتُ مطلبنا إذا الطغيانُ سادْ
كمْ قد وهبْنا النارَ أجسادًا لنا
وما لبسنا العارَ في يومِ الجهدْ
ثم انتفضنا فلا موتٌ ولا كفنٌ كطائـرِ الفينيـقِ من تحتِ الرمادْ
نأبى المذلّةَ والحياةُ نريدُهـا
وإن أردنا إنما البـاري أرادْ.
هكذا أنهى الشاعر قصيدته من دون أن يقاطعه بالتصفيق أحد لأنه لم يذكر اسم الزعيم في أيّ من أبياته، أما الوطن والشهادة والمجد والحياة العزيزة فهي مفردات قلّما يأبه الناس بها أو يقيمون وزنًا لها. وهكذا لبث الحضور صامتين مقطوعي الأنفاس ينقّلون أبصارهم الحيرى بين الشاعر والزعيم حتى ارتسمت على شفتَي الأخير ابتسامة صفراء؛ فابتسموا و... تنفّسوا. ثم طلب الزعيم من الشاعر أن يقترب ففعل، وأجلسه إلى جانبه وأثنى عليه. وعندما همّ الجميع بالانصراف استبقاه ليحدّثه ويتعرّف أكثر إليه.
- هذه مكافأة صغيرة أرجو أن تقبلها مني، قال الزعيم وهو يمدّ يده نحو الشاعر قابضةً على بضع أوراق نقدية.
- علامَ تكافئني يا سيّدي وأنا لم أقم بعمل يستحقّ المكافأة!
- بلى، لقد فخرتَ بقومك وبلادك.
- هذا أقلّ واجبات مَن لا يستطيعون أن يقدّموا غير الكلمة؛ وكلّ الكلام لا يساوي نقطة دم واحدة يقدّمها جنديّ في ساحة الشرف.
- أحسنتَ قولًا، لذلك أريدك أن تكون في القصر إلى جانبي.
- لا أستطيع يا سيّدي.
- لماذا؟
- لأنني لا أستطيع أن أحبّ أحدًا بقدر ما أحبّ بلادي.
- ألا تستطيع أن تحبّني وتحبّها!
- أخشى ألا يكون قلبي بهذه القدرة يا سيّدي.
- إذًا... قال الزعيم وهو يفرك جبهته برؤوس أصابعه، ثم أردف بعدما لمعت الفكرة في رأسه: ما رأيك لو عُيّنتَ في منصب مرموق تستطيع فيه أن تخدم بلادك التي تحبّها، أكثر؟
- منصب... مرموق؟!
- أجل.
- ما هو؟...أين؟
- مساعد سفير بلادنا في إحدى جمهوريات أوروبّا.
- ولكنني... لا أعرف شيئًا عن العمل الدبلوماسيّ.
إذّاك ضحك الزعيم، ووضع يده على كتف الشاعر: «ليس هذا بمهمّ. مَن ينظم الشعر يستطيع أن يتعلّم أيّ شيء بسرعة. ومَن يدري؟ ربما أصبحتَ سفيرًا في يوم من الأيّام».
- ... كما تريد يا سيّدي. كلمتان لفظهما الشاعر بصوت خافت وهو يعلّل النفس بكسب قليل من المال يؤمّن له حياة كريمة لأن الشعر لا يشتري له رغيف الخبز.
* * *
وأصبح للشاعر وظيفة. لكن العمل الدبلوماسيّ لم يصرفه عن الشعر. الشعر في دمه، في فكره وكلّ أحاسيسه. نظمه في ليالي وحدته محمّلًا إياه حنينه ووجع غربته، وأنشده وعيناه تنظران ناحية الشرق علّ نسمات المساء تنقل كلماته وأنّاته على أجنحتها إلى أهله وبلاده.
ومضت الأيّام والشهور، ووجدان الشاعر نبع لا ينضب، وصفحات دفاتره تحمل ولا تتعب. حتى كان يوم صمّم فيه على العودة إلى وطنه بعدما احترق قلبه شوقًا إليه؛ فاستقلّ الطائرة التي ما عتّمت أن حطّت به، بعد بضع ساعات، على أرض المطار.
هناك استأذن دموعه، وانحنى قبلها يقبّل التراب. ثم التقط حقيبته وسار بها في صفّ طويل من الناس إلى أن انتهى أمام رجل الأمن ينظر في جواز سفره ثم في وجهه بإمعان.
- عفوًا سيّدي. لا أستطيع أن أسمح لك بالدخول. قال الرجل.
- ماذا؟!
- إسمك مدوّن في لائحة الأسماء التي يحظّر على أصحابها دخول البلاد.
- ما هذه الترّهات! دعني أكلّم رئيسك. لا بدّ أن خطأ قد وقع.
- لا فائدة من التحدّث إليه؛ فالأمر ليس صادرًا عنه.
- عمَّن هو صادر إذًا؟
- عفوًا سيّدي. هلّا سمحتَ بالتنحّي؛ فوراءك أناس كثيرون ينتظرون.
- يعني؟
- يعني أنه عليك العودة من حيث أتيت.
- ولكن ما الذنب الذي اقترفته وأنا لا أعلم!
- الإساءة إلى النظام والوطن.
- ... وإلى الزعيم أيضًا. ليسامحه ويسامحكم الله والوطن.
هكذا قال الشاعر تمتمةً، وانحنى يرفع حقيبته، وعاد إلى منفاه يقبض مرتّبه من غير أن توكل إليه أيّ مهمّة، تمامًا كما كانت الحال عليه لسنة خلَت. لكنه ما لبث أن امتنع عن قبول المرتّب الشهريّ، ثم قدّم استقالته، ومضى يبحث عن موضع يسند إليه رأسه، ويستودعه شكواه وشعره.
في بلاد الله الواسعة جمع الشاعر حوله الأصحاب، وأنشدهم في الأمسيات ما أثلج قلوبهم واستدرّ الدموع من مآقيهم، حتى ذاع صيته بين الجاليات العربية في سائر بلدان المهجر، وأصبح اسمه على كلّ شفة ولسان، وتهافتت الصحف والمجلاّت على إجراء مقابلات معه ونشر قصائده. وتسابقت الأندية الثقافية على استضافته وإقامة حفلات التكريم له. لكن الشاعر ظلّ كئيبًا وغريبًا. ناطحات السحاب لم تُنسِه البيت القرويّ الصغير الذي أبصر النور فيه، واستظلّ في الصيف الدالية عند مدخله، وجرف الثلج في الشتاء عن سطحه. حتى النجوم هنا هي غير التي كان يسهر وإياها في العرزال كلّ ليلة على ذكرى حبيبته الغالية. النجوم في سماء قريته أوضح وأكبر و... تفهم عليه أكثر.
وبعدما استبدّ به الشوق إلى وطنه في ليلة صافية قمراء، ذهب الشاعر إلى ضفّة البحيرة. وهناك جلس على صخرة سمعت كثيرًا من الهمسات والحكايت، وأنشد:
يسكنُ الليلُ فيثورُ فيَّ الحنينْ
إلى نسَماتٍ في بلادي
رائحاتٍ عابقاتٍ
بعطرِ الزعترِ والوزّالِ والياسمينْ.
إلى قمرٍ بيتُهُ خلفَ الرُبى
مراهقٍ يحبُّ أن يلعبا
يغازلُ النجومْ
يتأرجحُ فوقَ أذرعةِ الغيومْ.
أينَ ذاكَ القمرْ؟ أينَ اختبا؟
قمرُ السماءِ هنا صغيرٌ بعيدْ
في بلادي كانَ أكبرَ
كانَ أقربا.
يسهرُ كلَّ ليلةٍ في حيّنا
وينسى شالَهُ الفضيَّ على سطحِ بيتنا
وعلى شجراتِ غابةِ الصنوبرِ والشربينْ.
* * *
يسكنُ الليلُ فيثورُ فيَّ الحنينْ
إلى تلكَ الدروبِ بينَ الكرومِ والبساتينْ.
هذهِ ليستْ مرسومةً في مقلتيَّ
أشواكُها لم تعلَقْ بثوبي
ولم تُدْمِ يديَّ
هناكَ كمْ سِرْتُ معَ الضبابِ فجرًا
إلى كرومِ العنبِ واللوزِ والتينْ!
وكمْ أشرقتِ الشمسُ في وسطِ الطريقِ عليَّ!
يا بلادي
هل تسمعينْ
في هَدْأةِ الليلِ كلَّ الأنين
يصعدُ منْ أعماقِ روحي
وينتحرُ عندَ شفتيَّ؟
مَنْ لي بطائرٍ يخْبئني تحتَ جناحيه
ويعيدُني سرًّا إليكِ
فأغفوَ يا أمّي بين ذراعيكِ
وأعودَ صبيًّا، أعودَ صبيّا؟
هذهِ الجداولُ منْ حولي
لا تعرفُ غيرَ الخريرْ
وتلكَ في بلادي جَذْلى تسيرْ
بينَ أشجارِ الصفصافِ تغنّي.
وهنا الفراشاتُ والعصافيرْ
منْ روضٍ إلى روضٍ تطيرْ
لكنها في بلادي ترقصُ وتسألُ عني.
وفي السماءِ نجومٌ لستُ أعرفُها
أسهرُ معها لا أحدّثُها
وتسهرُ معي لا تحدّثُني.
أحدّثُ نفسي
أسامرُ سجني
فأنا هنا سجينٌ. أنا هنا سجينْ.
* * *
يسكنُ الليلُ فيثورُ فيَّ الحنينْ
إلى وطني، إلى أهلي الذينْ
يفتّتونَ الصخرَ
ويزرعونَ الوعرَ
قمحًا وإيمانًا وصبرا
حنى ظهورَهمْ التعبُ وهمُّ السنينْ
وما انحنى لهمُ جبينْ.
حنيني إلى أمٍّ تسهرُ الليلَ وهمّي
بينَ يديها نصفُ طبقٍ من قشٍّ
وسنابلُ منْ قمحٍ وذهبْ.
وفي الجدارِ صورةٌ معلّقهْ
تنظرُ إليها بعينينِ منْ شوقٍ وعتبْ.
مدّي إليَّ يديكِ يا أمّي
مدّيهما بعدُ إليّا
لأحمّلَهما ألفَ سلامٍ وتحيّهْ.
كم أفتقدُ صوتَكِ العذبَ الشجيّا
وأنتِ تروحينَ وتجيئينْ
تغنّينْ
في بيتنا، ذاكَ الذي حيطانُهُ من صخرْ
وسقفُهُ منْ جذوعِ أشجارٍ وطينْ.
بالأمسِ كانَ غناؤكِ نشيدًا جميلًا
فلمَ صارَ اليومَ حزينًا
لماذا هو يا أمّي حزينْ؟
وما أتمّ الشاعر آخر كلماته حتى تدحرجت من عينيه دمعتان حارقتان سقطتا في مياه البحيرة. لكن البحيرة بقيت هادئة. إنها كبيرة جدًا وتتّسع للكثير من الدموع.
ومرّت السنون مثلما تمرّ الأحلام الكبيرة في أخيلة الضعفاء والبائسين، والشاعر لا يكفّ عن طلب السماح له بالعودة إلى بلاده، لكنها كانت تجابَه دائمًا بالرفض. ومات الزعيم وخلفَه ابنه، فظنّ الشاعر أن الحال تغيّرت، لكن لا شيء في الواقع قد تغيّر. العودة ما زالت ممنوعة لأن الكلمة المضلِّلة أشدّ إيذاءً من ضربة السيف. هكذا أكّد الزعيم الصغير الجديد في أكثر من مناسبة.
وهكذا انكفأ الشاعر إلى نفسه ينسج حولها شرنقته، ويحيا مع كتبه التي عمّت العالم. ولم يطُل به الوقت حتى وافته المنيّة وعيناه مشدودتان إلى خريطة وطنه المعلّقة في صدر حائط مكتبه الصغير؛ فنعتْه الصحافة في الأقطار العربية كافّةً، وتألّب إلى دارته خلق كثير من ساسة ومفكّرين ومثقّفين. إذّاك هبّت الدولة، وأعادت رفات الشاعر إلى أرض الوطن، وأقامت له مأتمًا رسميًا عزّ نظيره، وأُلقيت كلمات تأبين وصفت موته بالخسارة الكبيرة للأمّة جمعاء. ثم قلّد وزير الثقافة الشاعرَ أرفع وسام تمنحه الدولة لرجالاتها العظام. وعلى وقع موسيقى الموت وُضع النعش على عربة مدفع، وجرّته أربعة جياد إلى المثوى الأخير.
مات الشاعر. وظنّوا أنّ كلماته ماتت معه. لكنهم سرعان ما أدركوا أنه في موته أبلغ وأخطر عليهم منه في حياته، لأنّ قصائده تحوّلت في كلّ حنجرة نشيدًا ولحنًا، وحبر كتبه صار في كلّ شريان دمًا.