- En
- Fr
- عربي
تكنولوجيا الإتصالات والإيديولوجيا الخفية
يشهد العالم ثورة في تكنولوجيا الإتصالات والمعلوماتية لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية كماً ونوعاً. وهذه التكنولوجيا تشكل العامل الأساسي في تطوير المجتمع العالمي ونقله من حال الى أخرى محدثة تحولاً جذرياً في بنائه المادي وبنائه الثقافي العام. إذ أنه لكي يحدث التطوير في البناء المادي والإجتماعي، لا بد من أن يصاحبه تغيير في الذهنيات والعقليات وفي البنية الثقافية ككل حتى يتم التأقلم مع الأوضاع الجديدة. وتدلنا القراءة التاريخية للمجتمعات أن كل عصر من العصور قد خضع لسيادة نمط فكري عكس التجربة الإقتصادية والسياسية والإجتماعية الواقعية. وإن كل نمط إنتاج قد ولد أفكاراً موقعية اقتصادية وأشكالاً من الإيديولوجيات، ذلك لأن كل ما يطرأ على قوى الإنتاج وعلاقاته من تغيير يتطلب نوعاً من التوصيف الإيديولوجي للذوات الإقتصادية الفاعلة. وبالمقابل كل ما يطرأ من تبدلات قيمية أو مفاهيمية يحدث تغييراً في الممارسات الإجتماعية والإقتصادية تؤثر جدلياً في البناء المادي للمجتمع. فلكل بنية اقتصادية اجتماعية، بعلاقاتها ومناشطها وتعقيداتها، بنية معرفية/عقلية مواكبة لها، والرباط بين البنيتين رباط جدلي وثيق.
لكن اللافت والمهم في تكنولوجيا الإتصالات والمعلوماتية هو أنها تشكل البنية التحتية للإقتصاد الجديد أي أنها عوامل إنتاج مادي، وهي في الوقت نفسه البنية التحتية لصياغة ونشر ثقافة تفرض قيمها ومفاهيمها وإيديولوجياتها بهدف ضبط السلوك الإنساني بما يتلاءم مع النظام السياسي والإقتصادي العالمي الجديد، أي عوامل إنتاج معرفي. هي النقطة المحورية التي ترتكز عليها البنية الإجتماعية والبنية المعرفية المواكبة لها.
ما نهدف إليه في هذا البحث هو الإضاءة على جانب مهم من استخدامات تكنولوجيا الإتصالات، على الوظيفة الإيديولوجية والمعرفية لها التي تبغي في نهاية المطاف إخضاع العالم لسياسة القيّمين عليها ولسلطانهم الإقتصادي. ولا يعنينا في هذا المقام مسألة الإيديولوجيات المختلفة بين الطبقات أو بين المجتمعات، بل الإيديولوجيا العامة التي تتوجه إلى مختلف الطبقات ومختلف المجتمعات سواءً أكانت محافظة أو ليبرالية، دينية أو علمانية، إشتراكية أو رأسمالية، إيديولوجيا المسيطرين على وسائل الإتصال الحديثة التي تقصد كل هؤلاء وتتوجه إلى الغني والفقير، الكبير والصغير، الجاهل والمثقف. وبما أن أساسها اقتصادي فهي تحاول أن تحقق حولها حالة استقطاب كلي لأن كل إنسان هو في النهاية فاعل إقتصادي وله مصلحة إقتصادية.
فكيف تستخدم هذه التقنيات في نشر مفاهيم وتصورات جديدة للكون؟ وكيف تتجلى الإيديولوجيا في مضامين البرامج التلفزيونية وفي ثقافة الإنترنت؟ ما هي الأفكار التي تبثها والنماذج التي تحاول تعميمها من أجل قولبة العقول وتشكيل أنماط حياة معينة أي عولمة الثقافة والإقتصاد؟ كيف تتسلل هذه الأفكار إلى اللاوعي الفردي والجماعي فتدفع بالناس نحو تصرفات يتوهمون أنها صادرة عن قناعاتهم الشخصية؟
تقتضي الإجابة على هذه التساؤلات توضيح المفاهيم الأساسية التي ينهض عليها البحث وهي الإيديولوجيا والثقافة والعولمة، ثم التعريف السريع بالإعلام وتقنيات الإتصال الحديثة. أما التركيز فسيكون على الأكثرها تأثيراً وفاعلية وهي التلفزة والإنترنت معتمدين في تجميع المادة العلمية نظرياً على ما كتب حول الموضوع، على ندرته، من المصادر والمراجع والدراسات السابقة، وميدانياً على مراقبة برامج الفضائيات التلفزيونية وتحليل مضامينها.
مفهوم الإيديولوجيا:
إن أول من استعمل كلمة إيديولوجيا هو الفيلسوف الفرنسي ديستوف دي تراسي وعنى بها “علم الأفكار” وهي في قاموس وبستر الإنكليزي علم المعاني وأصل الأفكار وطبيعتها. إنها منظومة من الأفكار التي تعنى بالظواهر، خاصة تلك التي تتعلق بالحياة الإجتماعية، وهي أسلوب التفكير الذي يميز الفرد أو الطبقة والطريقة التي يرى بها الإنسان الواقع.
والإيديولوجيا حسب ريمون آرون نظام شامل لتفسير العالم التاريخي والسياسي.
حسب التوسير، الإيديولوجيا نظام له منطقه ودقته الخاصين من التمثلات (صور- أساطير- أفكار - مفاهيم) ذو وجود ودور تـاريخي في داخل مجتمع معين.([1])
والتصورات الإيديولوجية حسب ناصيف نصار هي المضامين التي تحملها الألفاظ الإسمية الداخلة في تكوين الإيديولوجيا من حيث هي بناء فكري مميز... والمعيار الأساسي لتمييز إيديولوجيا عن أخرى في الواقع العيني هو الجماعة التي يرتبط التفكير بوجودها ومصالحها ومصيرها. وبدون جماعة تاريخية معينة مقصودة في ذاتها وفي علاقاتها مع جماعات النوع البشري، لا يقوم بناء إيديولوجي، أو جزء من بناء إيديولوجي.([2])
يتبين مما سبق أن مفهوم الإيديولوجيا الذي قصد به لغوياً علم الأفكار، لم يحتفظ بالمعنى اللغوي بل ارتدى مضامين أخرى وعلى يد الألمان بالذات، حتى أنه لما عاد إلى الفرنسية بدا وكأنه دخيل على اللغة الأصلية التي انطلق منها. واتخذت الإيديولوجيا بعداً أوسع وأشمل فاعتبرت طريقة تفكير تميّز جماعة أو طبقة، وتصورات تعكس وجودها التاريخي والإجتماعي. إنها نظام أفكار مرتبط بالتصور أكثر من ارتباطه بالواقع الفعلي، ومجموع الإتجاهات والسمات التي تسود في جماعة معينة أو طبقة. وللأفكار الإيديولوجية صفة تبريرية أكثر منها تفسيرية وهي في تفسيرها لا تبرز حقائق بل تسترها أو تحرفها وفق أهواء ومصالح الجماعة.
يناقش عبد الله العروي مفهوم الإيديولوجيا ويعرض نظريات مختلفة، اجتماعية واقتصادية ونفسية تناولت هذا المفهوم، كل من زاوية، وذلك في كتابه “مفهوم الإيديولوجيا” فيقول: نقول أن الحزب الفلاني يحمل أدلوجة ونعني بها مجموع القيم والأخلاق والأهداف التي ينوي تحقيقها... ويكتسي هذا الحكم صيغة إيجابية لأن الحزب الذي لا يملك أدلوجة هو حزب انتهازي، ظرفي، لا يهمه سوى استغلال النفوذ والسلطة... ندرس أدلوجة عصر النهضة ونعني بها النظرة التي كان يلقيها رجل النهضة إلى الكون والمجتمع والفرد... أدلوجة عصر من العصور هي إذن الأفق الذهني الذي كان يحد فكر إنسان ذلك العصر.
عندما نقول أن فلاناً ينظر إلى الأشياء نظرة إيديولوجية نعني أنه يتخير الأشياء ويؤول الوقائع بكيفية تظهرها دائماً مطابقة لما يعتقد أنه الحق. أي أنها ليست بالضرورة مطابقة للحق لكن هو يعتقد ذلك. وهكذا يتعارض الفكر الإيديولوجي مع الفكر الموضوعي الذي يخضع للمحيط الخارجي ويتشبع بقوانينه. يرى المتكلم أدلوجته الخاصة عقيدة تعبر عن الوفاء والتضحية والتسامي، ويرى في أدلوجة الخصوم أقنعة تتستر وراءها نوايا خفية لا واعية يحجبها أصحابها حتى عن أنفسهم. كل إيديولوجيا لكي تكتسب المؤيدين وتكون فعالة ترى في ذاتها حقيقة مطلقة وترى منافستها غلطاً وزوراً. لذلك، عندما يستعمل مفهوم الإيديولوجيا في ميدان السياسة، فمن الطبيعي حينئذ أن يرتدي صيغة سلبية أو إيجابية حسب هوية المستعمل.([3])
على سبيل المثال: تسيطر إيديولوجيا الرأسمالية على جميع نواحي التفكير الإجتماعي في الولايات المتحدة واليابان. هذه الإيديولوجيا هي جزء من النظام الرأسمالي أو لنقل حسب تعبير ماركس بنيته الفوقية التي تسعى بكل الوسائل والطرق والأساليب إلى تدجين أو تجميد أو حتى إلغاء كل ما يعارض أهدافها وأفكارها التي تركز على الفعالية والإنتاج والربح المادي والإستمتاع الحسي والجدوى الإقتصادية لكل نشاط. بالنسبة للمجتمعات الرأسمالية ترتدي هذه الإيديولوجيا صيغة إيجابية في حين ترتدي صيغة سلبية في نظر المجتمعات الأخرى التي ترى فيها السيطرة والتسلط والإحتكار. أما الوحدة الأوروبية التي تشكل فكرة ومشروعاً إيديولوجياً فقد هدفت إلى تجميع القوى الأوروبية من أجل مواجهة الغزو والسيطرة الأميركية على العالم واتخاذ موقع مناسب قوي وثابت في معركة التقدم. هذا المشروع الإيديولوجي يكتسي صيغة إيجابية في نظر الأوروبيين.
بالنسبة للمفكرين الذين تناولوا مفهوم الإيديولوجيا في القرنين الماضيين، نلاحظ أن البعض لم يشر إليه صراحة كهيغل، والبعض الآخر ركز على ناحية دون أخرى، إلى أن استقر توضيحاً وتفسيراً على يدي كارل ماركس الذي وقف من آراء الآخرين ومن الفكر الإيديولوجي وقفة وصفية نقدية فطوّر مفهوم الإيديولوجيا كمجموعة أوهام تعتم على العقل وتمنعه من إدراك حقيقة الواقع.
هيغل لم يتحدث عن الإيديولوجيا لكنه لمح إليها عندما تحدث عن روح العصر. فلكل حقبة تاريخية حسب هيغل روح عامة تحدد أفق أفكار ذلك العصر، وإطاره الذهني، والمنطق العام الكامن وراء كل إنتاجاته المادية والفلسفية والقانونية والفنية. فالآثار والأعمال التي تخلفها الدول إنما هي الروح الموضوعي لها تتجسد في ماديات لا نستطيع فهمها ولا إدراك معناها إلا إذا أدركنا روح الحقبة التاريخية التي تمت خلالها تلك الإنجازات والأعمال. وفي هذا الطرح إشارة واضحة إلى الأفكار السائدة في حقبة تاريخية معينة والتي توجه الأعمال المادية والفنية مما يعني أن الإنسان يعيش ويفكر ويعمل طبقاً لما تمليه عليه أفكار العصر ويستعيد قوالب تفكيره وملامحه العقلية منها. ففكر أي فرد في حقبة معينة يندرج تحت تصور عام يميز الحقبة كلها.([4])
علماء النفس اتخذوا منحى آخر في تفسير الفكر الإيديولوجي حيث أنهم يتوجهون دائماً إلى معرفة الدوافع الحيوانية التي تسير الإنسان من وراء العقل الواعي. فالعقل أداة طيعة تخدم دوافع خفية. يرى فرويد أن الحياة تهدف إلى الإستمرار. هذا هو قانونها الإسمي، ولكي تستمر تستعمل الرغبة، أصل التلاحم والتنادي والتزاوج. إن العقل كغيره من الموجودات تحت تصرف الرغبة، والتركيبات الذهنية على جميع مستوياتها وفي كل صورها ليست سوى أقنعة تختفي وراءها أهداف الرغبة... وإذا أردنا أن نفهم الأفكار والأنظمة الإجتماعية والمذاهب، فلا بد من الغوص في ما يتحكم في العقل ويستخدمه. إن القوة التي تستخدم العقل لتنفيذ أغراضها بأساليب ملتوية هي الرغبة المكبوتة وراء الوعي. وما الأفكار سوى أوهام تخدعنا بها الرغبة الإنسانية لتصل إلى أهدافها.([5])
وهكذا يرى فرويد في كل فكرة أو مؤسسة أو مذهب أو عمل فني أو ظاهرة أو نظام اجتماعي رموزاً تشير إلى نزوات الرغبة التي عندما تكبت، تتسامى فتجد لها متنفساً في أفكار سامية تتجلى في أعمال ومبتكرات وإبداعات جديدة. ويحاول فرويد أن يظهر التناقض الدائم بين العمل ومبدأ الواقعية من جهة وبين الرغبة ومبدأ اللذة من جهة ثانية، بين انضباط الإنسان في نطاق العمل والخضوع لقيوده، وبين رغباته خارج هذا النطاق. وهذه هي القيمة الحقيقية للإكتشاف الفرويدي الثوري والتحرري الذي إذا تحول إلى مصالحة العمل مع الرغبة يفقد صبغته. وسنرى لاحقاً كيف وظفت الإيديولوجيا الرأسمالية الجزء الذي يناسبها من هذه النظرية متوجهة نحو الرغبة، متجاهلة قيود العمل.
أما كارل ماركس فقد رأى أن الإيديولوجيا وعي كاذب وفكر مروج للأضاليل في حين أن الأفكار تصورات مرتبطة أصلاً بالوجود الإجتماعي، بالشروط الإجتماعية وتستند إلى أصول اقتصادية. فالإيديولوجيا قناع يستر مصلحة الطبقة المسيطرة ووهم خادع يتميز بالثبات النسبي والعمومية. ويرجع ماركس الأفكار كلها إلى أساس مادي، فأشكال الوجدان هي في الواقع نتائج محتومة لظروف مادية. وكل حقبة تاريخية تدور داخل معطيات مادية معينة جغرافية واقتصادية وديموغرافية وتقنية والفئة التي تبدع الإنتاج الفكري والثقافي في حقبة تاريخية معينة تتحرك في إطار خاص تحدده العلاقات المادية. أما العلاقات المادية فهي علاقات إنسانية تدور حول إنتاج المواد التي بها يعيش الإنسان ويستمر في الحياة. لذلك فإن فهم الفن والقانون والفلسفة والأخلاق في حقبة معينة يقتضي الكشف لا عن روح الحقبة كما يرى هيغل بل عن شكل نظام الإنتاج فيها. والمسيطرون على الإنتاج الفكري هم أنفسهم المسيطرون على الإنتاج المادي. هم الذين ينظمون أفكار عصرهم ويعملون على نشرها وتوزيعها. والطبقة التي تملك وسائل الإنتاج المادي تملك في الوقت نفـسه الإشراف على وسائل الإنتاج الفكري.([6])
أما كارل مانهايم فقد قصد بالإيديولوجيا تلك التفسيرات لوضع قائم وهذه التفسيرات ليست نتاج تجارب لكنها معرفة محرفة لتلك التجارب تبغي إخفاء الوضع الحقيقي وتؤثر على الفرد بما لها من صفة الضغط. وفي كتابه “الإيديولوجيا واليوتوبيا” سمى المنظومات الفكرية الفعالة في الحقل السياسي إيديولوجيا بالمعنى الضيق وتلك التي تسيطر على أذهان منتجي الثقافة إيديولوجيا بالمعنى الواسع. ورأى أن الإيديولوجيات السياسية ترتبط مباشرة بمصالح الفئات المتصارعة على السلطة السياسية.([7])
أخيراً يرى مايكل مان أن الإيديولوجيا مصدر أساسي من مصادر السلطة الإجتماعية ولها القدرة على تنظيم عدد كبير من الناس للإنخراط في تعاون ثابت.
يتبين من العرض السابق للمعاني التي يتضمنها مفهوم الإيديولوجيا أنها منظومة فكرية اعتقادية تسود في حقبة تاريخية، كجزء من السلطة السياسية والإقتصادية وأداة رئيسية من أدواتها. لذلك فإن ارتباطاتها ذات مضمون سياسي وعقائدي رسمي. وكونها تتعلق بالفكر والإعتقاد الذي يصل إلى حد الإيمان فإن لها صفة الإلزام والضغط لكنها ليست من النوع الذي يأمر. فهي لا تتضمن أوامر ولا تطلب الطاعة الصريحة بل التفهم والإقتناع. مثال على ذلك الإيديولوجيا الرأسمالية العالمية المسيطرة الآن والتي تستخدم كل أساليب الإقناع لإنتاج ممارسات اجتماعية مرتبطة بالسلع الإستهلاكية التي تريد ترويجها. وللإيديولوجيا القدرة على إنتاج خطابات نوعية، وتملك آليات دفاع وإقناع غير خطابية. وبهذه الخطابات والآليات تعطي توجيهات صريحة وخفية للعمل الفردي والجماعي وتعين العلاقة مع الآخر وكيفية إدراكه وتؤهل الناس للأدوار المعطاة إليهم. فالمخاطبات الإيديولوجية تكوِّن وتعيد تكوين ما نحن فيه. تختفي وراء السلوك كدوافع وقيم وتدور عادة حول موضوعات تكون ذات جاذبية للناس فتدفعهم من غير أن يشعروا لسلوك معين، وتؤثر لا كأكذوبة بل كحقيقة، من وراء الوعي حسب ماركس ونيتشيه.
أما زمام المبادرة والطرح والصياغة فهو بأيدي القادة، قادة الطبقة، والنخبة المثقفة، وحالياً هم كبار الرأسماليين العالميين بالتنسيق مع علماء النفس والإجتماع. وإذا كان الرأسمالي البورجوازي يعمل وفق دفع الإيديولوجيا الرأسمالية عن اقتناع ويستبطن تصوراتها ورؤياها للكون، للمجتمع، للإنسان فإن الإنسان العادي يتجاوب مع الأفكار الإيحائية عن طريق التقليد متوهماً أن نمط الحياة المطروح هو المثالي والأفضل وهو الذي يقربه من الطبقة العليا.
بقي أن نشير إلى أن استعمالنا لكلمة إيديولوجيا في هذا البحث يتضمن المعاني التي وردت في سياق توضيح المفهوم مع التركيز على تصور الكون، الفكر الزائف والقناع الذي يستر مصلحة خفية.
الثقافة والعولمة:
كلمة ثقافة بمعنى الخدمة والدراية والتهذيب قديمة في اللغة العربية ومن معانيها الغالبة التسوية والتقويم ولهذا تسمى الأداة التي تقوم الرماح الثقاف...([8])
والثقافة هي مجموعة الآراء والمعتقدات والمعارف والقيم والأخلاق والعادات التي يكتسبها الفرد من جراء انتمائه لمجتمع معين. وهي تهذيب وتثقيف للطبيعة البشرية وعامل دمج ولحمة إجتماعية وهي الأساس لخلق هوية قومية. وبقدر ما تدمج جماعة معينة، تخلق تمايزهم عن جماعات أخرى يعيشون في إطار اجتماعي آخر. فالإطار الإجتماعي المختلف يفرز ثقافة مختلفة. لذلك فإن لكل شعب خصوصية ثقافية ترجع إلى المحيط الجغرافي والإجتماعي وإلى التاريخ الخاص بتلك الثقافة و الذي يحمل معه تصورات وآراء وعقائد وطرائق في التفكير تتراكم عبر الزمن وتعطي للجماعة خصوصيتها الفكرية والإجتماعية. لكن هذا التمايز لكل منظومة ثقافية لا يعني استقلالها كلياً، فهي تخضع لتطور الثقافات المجاورة مما يفقدها استقلالها الكامل. وهناك عنصر كوني في كل ثقافة بقدر ما هناك تاريخ كوني للإنسان... وكل ثقافة هي محاولة للتوفيق بين الإتصال التاريخي للأمم والإتصال الجغرافي بالأمم الأخرى.([9])
يحدد بيتريم سوروكين الثقافة في كتابه “المجتمع والثقافة والشخصية” بأنها مجموعة المعاني والقيم والمقاييس التي يتميز بها الأفراد في حالة تفاعل متبادل ومجموعة المؤسسات التي تموضع وتكيف إجتماعياً وتنقل هذه المعاني... فالثقافة عند سوروكين ليست فقط مجموعة آراء ومعاني بل مؤسـسـات تنقل هذه المعاني.([10]) ويحدد وسائل نقل الثقافة بأنها جميع الأعمال القائمة حسياً وجميع الأشياء المادية وجميع الأساليب والقوى الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية التي يلجأ إليها في عمليات الإظهار والموضعة والتأطير الإجتماعي للمعاني الثقافية... وميزة هذه الوسائل أنها في حركة داخلية وتحولها يؤثر في المضامين الثقافية فتتحول نسبياً بفعل تحول الوسائل.([11])
وهنا تكمن أهمية تطور الوسط الحامل العضوي للرسالة والناقل لها، أي ماديات الثقافة، في تطور الثقافة وتحولها وفي نوعية إنتاجها المعرفي ومضمونها القيمي. فتأثير الرسالة المنقولة شفهياً يختلف سرعة وديمومة عن الرسالة المنقولة خطياً عن الرسالة المنقولة صورياً. لذلك تحولت الأنظمة الثقافية على مر العصور مع اختلاف وسائط النقل وأبعادها. فالثقافة في عصر المطبوعة اتخذت بعداً قومياً وفي عصر الراديو اتخذت بعداً قارياً وفي عصر التلفزة والإنترنت أصبح بعدها كونياً. ليس هذا فحسب بل إنّ تطور ماديات الثقافة اتجه بالثقافة وجهة مادية. إنه عصر الثقافة المادية التي أنتجتها ماديات الثقافة كما سنرى لاحقاً.
وفي هذا الإطار يرى جورج ديهاميل أحد كبار كتاب فرنسا المعاصرين “إن ثقافتنا الحديثة قد أخذت تتجه وجهة علمية.فالإنسانيات في تقهقر والعلوم في تقدم”. وفي هذا ما يهول ديهاميل. فهو يعلن أن الرياضة العقلية التي تحققها دراسة العلوم لم يثبت أنها تعادل تلك التي وجدها بسكال وديكارت في تحليل الجمل اليونانية واللاتينيه وهو بعد رجل إنساني روحي لا يعدل بمعرفتنا للإنسان وفهمنا له شيئاً. والعلوم تساعدنا على فهم المادة واستنباط قوانينها لكنها قليلة العناية بالإنسان. إنها تسعى لأغراض مادية بل كثيراً ما تصبح أداة للتدمير بدلاً من السمو بحياتنا.([12])
وحيث أن الثقافة مكتسبة وغير مسجلة في الميراث البيولوجي للإنسان، فإن كل شيء فيها قابل للتغيير. لكن المهم أن يوازن هذا التغيير بين الإنساني والمادي، بين الداخلي والخارجي. فالتغيير الذي ترسمه قوى خارجية يهدف إلى إخضاع المجتمع لمصالح تلك القوى. وإذا كان تقوقع الثقافة يعني الجمود والترهل فإن إنفتاحها المنفلش يعني الذوبان في ثقافة الآخرين أو التدمير النهائي وذلك عكس الإنفتاح المتزن الذي يؤدي إلى الإغناء الحضاري. في هذا المضمار لا بد لنا من التوقف سريعاً على مسألة العولمة التي تحمل مفهوماً شمولياً للثقافة، ثقافة بلا حدود. فالعولمة نمط سياسي إقتصادي ثقافي لنموذج غربي متطور ونظام عالمي يشمل المال والإقتصاد والإتصال والفكر والإيديولوجيا، خرج بتجربته عن حدوده لعولمة الآخر بهدف تحقيق غايات فرضها التطور المعاصر.... جوهر عملية العولمة يتمثل في سهولة حركة الناس والمعلومات والسلع بين الدول على النطاق الكوني... وفي المجال الثقافي والإجتماعي تعني إنتقالاً للأفكار والمباديء وغيرها...([13]) أدوات نشر العولمة إقتصادية وثقافية وتقنية تستخدمها لفرض النمط السياسي والإقتصادي والثقافي الغربي على كافة شعوب الأرض، أي إنها تعكس إرادة إيديولوجيا الهيمنة على العالم. وأبرز أدوات العولمة الإقتصادية والثقافية هي الشركات المتعددة الجنسيات، (عابرة القارات - متعددة القوميات) والتي لها إمتدادات في بلدان العالم لكن رباطها الأساسي هو بالدولة الأم حيث تصاغ الأهداف وترسم الخطط وتحدد منهجية التنفيذ. فالإنتشار دولي لكن الدماغ في نيويورك أو لندن أو باريس؛ تعتمد على السوق بلا حدود وتسيطر على تكنولوجيا الإنتاج والتسويق الإقتصادي والإعلامي؛ وتتخطى الحدود السياسية إما باستبدال الرؤساء والحكومات أو بتشكيل كتل ضاغطة لتوجيه السياسات والتشريعات والقوانين وفق مصالحها. وبالمقابل تضغط الدولة على تلك الشركات من أجل الإلتزام بالتوجه السياسي العام للدولة وتحاول استخدامها لخدمة مصلحة الدولة وإعادة إنتاج أفكارها وإيديولوجيتها (حوالي 300 شركة كونية تسيطر على 80 % من الممتلكات الإنتاجية في العالم). وتستثمر العولمة مكتسبات العلوم والتكنولوجيا في ميدان الإتصال لا سيما التلفزيون والإنترنيت التي تشكل بنيتها التحتية الأساسية، لصياغة ثقافة تروج للإيديولوجيا الرأسمالية المسيطرة ونشرها عالمياً. إنها غزو ثقافي جديد يعمل على تأطير عقل الإنسان ويحاول طمس ثقافته المحلية وإضعاف مخيلته الخلاقة المبدعة عن طريق تقديم نماذج جديدة جذابة، وإيقاعه في استلاب عقلي، فكري، معرفي وعقائدي في محاولة حثيثة للوصول إلى مجتمع عالمي متشابه الأفكار والعقائد والميول والمعرفة والقيم والإتجاهات والسلوك.([14]) لذلك فقد كثر في الآونة الأخيرة ترداد تعابير وتسميات مثل المجتمع الدولي- المنظمات الدولية- الجماعات الدولية- الإقتصاد العالمي- السلام العالمي في مختلف وسائل الإعلام تأكيداً لنظام العولمة. والجدير بالذكر إن صناعة الثقافة تتزعمها اليوم الولايات المتحدة الأميركية وتتوجه بها إلى الشباب لتؤثر في تفكيرهم وأذواقهم وسلوكياتهم عبر تكنولوجيا الإتصالات التي هي رائدة في تطويرها واستثمارها عالياً، توجه من خلالها حركة الناس والأفكار والسلع. وهذا ما يبرر المخاوف التي تظهر في أدبيات الثقافة محذرة من الغزو الثقافي، وتدمير الهوية القومية والخصوصية الثقافية.
الإعلام وتكنولوجيا الإتصالات
الإعلام وسيلة من وسائل الضبط الإجتماعي وهو بتعريف بسيط كل ما من شأنه أن يعد أو يوصل معلومات الى المواطن.
وللإعلام عدة وظائف وأهداف أهمها: إنبائية وهي نقل وتوصيل المعلومات الى الآخرين، ومعرفية تثقيفية وهي نقل المعرفة وإغناء البنى المعرفية ومحاولة التأثير في تشكيل الأفكار والتصورات، وترفيهية وهي التسلية والترفيه، ونفسية وهي تخفيف العبء والتوتر عن العقول والنفوس. هذه الأهداف تتشابك وتتفاعل فيما بينها، لكن الدول في اعتمادها على الإعلام تقدم هدفاً على آخر وفقاً لسياستها العامة.
في مرحلته الأولى اعتمد الإعلام على السمع، وفي التخزين على الذاكرة، وانحصر في الوحدات الإجتماعية الأولية كالعائلة والعشيرة والقبيلة والتجمعات البدائية كالحي والقرية. وفي مرحلة الكتابة اعتمد على البصر، وفي الحفظ والتخزين على الكتابة وانحصر بالنخب التي تستطيع القراءة والكتابة. وفي مرحلة الطباعة أصبح الإعلام جماهيرياً. أما في مرحلة ثورة ألإتصالات لاسيما مع انتشار الراديو والتلفزيون فقد أصبح عالمياً ومعمماً على جميع الفئات الإجتماعية، الأمية والمتعلمة، الفقيرة والغنية، ومن مختلف الأعمار.([15])
وفي كل مرحلة كان الإتصال يزداد حجماً وتتسع دوائره ويتراجع البعد الحميمي الإنساني. يعيد الإعلام تنشئة الإنسان باستمرار على الصعيد الفكري والعاطفي وتعديل الإتجاهات ووجهات النظر والآراء ويؤثر في السلوك الإقتصادي حيث يخلق، عن طريق الإعلان والدعاية، الحاجات والضروريات عند الإنسان. يرتبط الإعلام ببناء المجتمع ويتأثر بالأنساق الإيديولوجية السائدة وبأوضاعه الثقافية والإجتماعية ويقدم التجارب الثقافية والقيم والمعايير الواحدة للجمهور فيعمل بشكل أو بآخر على الإلتصاق الإجتماعي واللحمة الإجتماعية. ويمثل الإعلام أحد أهم وظائف الإتصال أو التواصل بين الناس. والإتصال تعبير عن حاجة الإنسان إلى التعاطي مع الآخرين، إلى إقامة علاقة مع الآخر، وهو حالة مناقضة للعزلة والهجر ومنتوجاتها: القلق والتوتر والعدوانية والإضطراب النفسي إلخ... إنه الإجراء الذي يتم به تبادل الفهم بين الكائنات البشرية وتبادل الأخبار والأفكار ونقل المعاني والمشاركة والإعلام والإطلاع. في البدء اعتمد الإنسان في تواصله مع الناس على حواسه، فاستخدم الإشارات والأصوات. ومع ظهور اللغة واختراع الحروف الهجائية شهد الإتصال والإعلام تطوراً نوعياً وكمياً. ثم اخترع الإنسان الدولاب وكرت بعدها سبحة الإختراعات التقنية. وتلازم تطور وسائل النقل مع تطور وسائل الإتصالات والإعلام. فبعد استخدام الحمام الزاجل والحصان في نقل رسائله استخدم الإنسان الباخرة والقطار. ومع اختراع الكهرباء اعتمد عليالأسلاك (التلغراف والتليفون والتلكس) إلى أن شهدت تكنولوجيا الإتصال والإعلام في القرن العشرين لاسيما في النصف الثاني منه، ثورة لا مثيل لها في تاريخ البشرية من حيث سرعة التطوير وشمولية التأثير وذلك باختراع الراديو فالتلفزة فالحاسوب الإلكتروني والإنترنت لنقل المعلومات عبر الأسلاك والموجات القصيرة والأقمار الصناعية إلى جميع أنحاء العالم. وقد شكل تطوير الإلكترونيات والكمبيوتر وتكنولوجيا الإتصالات نقطة إلتقاء في تكنولوجيا واحدة قوية هي تكنولوجيا الإتصال والمعلومات، مهمتها الأساسية إنتاج وتقديم المعلومات وتحليلها وتجميع مختلف أجزائها وتغيير بنيتها مما يسمح بتكوين الإستنتاجات واتخاذ القرارات.
لقد استأثرت تكنولوجيا الإتصالات الحديثة باهتمام العالم لجهة استخداماتها الإقتصادية والسياسية والإعلامية ومفاعيلها الإجتماعية والتربوية والثقافية، الأمر الذي يضيق هذا المقام عن مناقشته. لكن موضع اهتمامنا هو الإستخدام الإعلامي لها وتسخير مختلف الوسائل والمؤسسات لإنتاج إعلام عالمي مسيطر، إعلام الدول الرأسمالية الكبرى التي تنفق الأموال الطائلة على الأبحاث العلمية وتطوير تكنولوجيا الإعلام مما يكشف النوايا والأهداف البعيدة وهي تعميم وهيمنة وسيادة إيديولوجيا الأقوى لاستتباع إرادة وتفكير الأضعف. ويعزز قولنا هذا ما أدلى به رئيس الولايات المتحدة الأميركية السابق بيل كلينتون بأن الإعلام هو وسيلة فعالة لتطوير الحياة اليومية. فهو يؤدي إلى تغييرات على المستوى الإقتصادي والإجتماعي لذلك فإن تطوير التكنولوجيا والإعلام هو أولوية حكومية، لأن الدولة التي تستطيع أن تتحكم في الإعلام تتحكم في العالم.([16])
أن تكنولوجيا الإعلام هي جزء من التكنولوجيا العامة وظيفتها المساهمة في إنتاج وتطوير وسائل الإعلام الجماهيرية المعروفة. فما هي أهم وسائل الإعلام الحالية وما هي خصائصها؟
يجب التفرقة أولاً بين الإعلام كعملية نشر معلومات وثقافة وإنباء وبين الوسائل الإعلامية المحصورة بالتقنيات، تقنيات البث أو الإتصال بالناس أي الوسائط التي تصبح بها الفكرة قوة مادية. فوسائل الإعلام حسب ريجيس دوبريه هي “المجموع المادي المحدد تقنياً، لمرتكزات وعلاقات ووسائل نقل تؤمن للفكر في كل عصر وجوده الإجتماعي”... ومع تغيير الوسط التقني بإمكاننا أن نرى الوسائل الإعلامية تؤثر مباشرة على أنواع من الأفكار الحية محددة مجالات حركتها ومغيرة نسبة توالدها. فكل نوع من الأفكار له متطلباته البيئية ووسطه الملائم هو غالباً الوسط الذي ولد فيه والوسط الذي يحمله، إذ لا وجود أصلاً لأفكار ناقلة دون جسم ناقل. ويصف دوبريه القرن الواحد والعشرين بأنه قرن الوسائط التكنو- ثقافية، ذلك لأنه يرى أن الإختراعات التقنية وإن كانت تشكل منظومة إلا أن المنظومة لا تقتصر على كونها تقنية إنما تقنية ثقافية. من هنا فإن الهيمنة الفكرية والإيديولوجية لا تمارس فقط بواسطة محتوى الرسائل وإنما بواسطة التقنية التي تحملها وتبثها وترتب أشكال فرضها وتلقينها.
واضح أن دوبريه يربط بين الفكر ووسائط نقله برباط جدلي وثيق بل إنه يعطي للوسط الناقل التأثير الأهم في بناء الثقافة والمعرفة وفي تصور الكون كله. ويرى أن العالم ليس نفسه إذا كان محمولاً من قبل الورق أو السلولويد أو شريط التسجيل أو الموجات الهرتزية أو المعطيات الرقمية([17])، فالمعنى الذي تحمله الرسالة وانعكاساتها الإجتماعية يختلف باختلاف الوسيط الحامل لها.
إن المجال الوسائطي جو فكري وأخلاقي. وتكمن أهميته البالغة في عصرنا الراهن في ضخامة الإمكانيات التي تمتلكها الوسائط الإعلامية والتي بها تستطيع أن تصل الى كل بقاع الأرض محدثة ثورة إعلامية ثقافية، مؤسسة قواسم مشتركة لقوالب جديدة من التفكير ونسق جديد من القيم وأشكال معينة من السلوك. لقد أصبحت أهم الصور التي نرسمها في عقولنا وأهم الأفكار التي نشكلها عن الناس والأشياء والأنظمة والمجتمعات مأخوذة عن تكنولوجيا الإتصالات الحديثة. فالوسيط الثقافي وسيط تأسيسي أيضاً ينتج الأفكار ويمركزها ويديرها في فلكه وينظمها. الأمر إذاً لا يتعلق ببنية ثقافية بل ببنية تقنية ومؤسسية في الوقت نفسه. التقنية في خدمة المؤسسة. بالإضافة الى ذلك فإن الأفكار تنشط مع سرعة وسيلة نقلها. فأفكار الإنسان الذي يتنقل ماشياً ليست كأفكار الإنسان المتنقل على ظهر حصان أو على متن الطائرة. إن سرعة إنتاج الأفكار ومدى إنتشارها يتناسب طرداً مع وسيلة النقل المادي ووسيلة النقل الفكري. لذلك فمن المؤكد أن الإنفجار الإتصالي مع انتشار الركائز والمعلومات يثير في حياتنا اليومية تلك الإزدحامات في التفكير، ذلك الإحساس المبهم بسوء التفكير شأن الإحساس بسوء الكينونة المرتبطة بفقدان شيء ما من جراء كثرته وبالقحط من جراء الإحتقان، هذا الشعور الذي نحس به جميعاً، كلٌّ حسب طريقته.([18])
إن تكنولوجيا الإعلام تفكر، ووسائل الإعلام الحديثة أصبحت سيدة التفكير العام كما يصفها البابا بولس السادس. وقد اتهم المفكر تشاكوتين وسائل الإعلام الحديثة في كتابه “اغتصاب الجماهير” بالسطو على أفكار الناس وعواطفهم وغسل أدمغتهم وحشوها بالأفكار التي تتناسب مع ايديولوجيتها ومبادئها...إنها تتوجه الى الغرائز وتدغدغ العواطف وتؤثر في المشاعر([19]). وكلما تقدم التجديد والتوسط الإعلاميان كلما ازداد تفكير وسائل الإعلام بالنيابة عنا، وكلما أصبحت فكرة وسيلة الإعلام المسيطرة فكرة مسيطرة في العصر. ويكون مسيطراً بالنسبة لوسائل الإعلام السابقة الوسيط الأكثر تقدماً، الوسيط الذي يغطي بشكل أوسع وأسرع وبكلفة أقل بالنسبة للمرسل ومجهود أقل بالنسبة للاّقط([20]) وهكذا اختطفت التقنيات المادية الحديثة الأضواء من وسائل نشر الثقافة التقليدية. ومع تراجع العلاقات الإجتماعية بسبب ضغط الحياة وانشغال الناس بالأمور الحياتية وجد الإنسان في وسائل الإعلام الحديثة الحلقة التي تربطه بالمجتمع وتشده إليه، فيتحول بانخراطه الوهمي بأخبار المجتمع وأحداثه ووقائعه عن العلاقات الفعلية التي فقدها، ويجد نفسه بأقل جهد على اتصال مع الغير، مع العالم. وبما أنها تسهل تحرير بضع غرائز فإنها تفسح له المجال بالتنفيس عن المكبوت بشكل بسيط، وهمي لكنه مريح.
إن هذه السمات المميزة لوسائل الإعلام، وأهمية السيطرة للوسيط الأكثر تقدماً قد أدركتها الدول الرأسمالية ذات التكنولوجيا المتطورة وراحت تتسابق فيما بينها على تطوير تكنولوجيا الإتصالات واستثمارها في تحقيق سيطرة ايديولوجية تخدم أهداف السيطرة الإقتصادية على العالم.
وفي استعراضنا لأهم المؤسسات الإعلامية في العالم يتبين لنا أن الدول الرأسمالية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية تمثل ثلث سكان العالم لكنها تحتكر أكثر من 80 % من الصحف اليومية والكتب، ويقارب هذه النسبة من التوزيع وأجهزة التواصل والإعلام الأخرى. كما أنها تملك وتسيطر على 95 % من التكنولوجيا، من ضمنها تكنولوجيا الإعلام. وفي مجال التلفزة تعتبر الولايات المتحدة أول دولة تسيطر على أوسع شبكات البث في العالم.([21])
وبالنسبة للشركات الإعلامية العالمية وهي المؤسسات التي تشرف على أكثر من وسيلة إعلامية من صحف وإذاعة وتلفزة فهي أيضاً تنتمي إلى الدول الرأسمالية الكبرى. نذكر منها على سبيل المثال محطتين إعلاميتين هما: صوت أميركا والـBBC وصوت أميركا إذاعة حكومية يعمل فيها أكثر من 2300 موظف ومستخدم، تبث بحوالي 50 لغة، تتضمن برامجها الأخبار والتعليقات السياسية فضلاً عن حملات دعائية ضد القوى المناهضة للولايات المتحدة. ومؤسسة الـBBC التي تأسست عام 1922 ويقدر عدد الموظفين فيها ب 22 ألف موظف وقيمة مبيعاتها 2.25 مليار دولار سنوياً، وتشرف على محطات البث الإذاعي في بريطانيا وعلى الجزء الأكبر من البث التلفزيوني. وتبث برامجها بـ 38 لغة([22]) وهي مع سائر الإذاعات الأجنبية تعتمد اللغة العربية عندما تتوجه إلى الجمهور العربي.
ومن المؤسسات الإعلامية التي تتصدر الأهمية في العالم أيضاً شركة NBC وهي الأولى في تقديم الخدمات الإعلامية في الولايات المتحدة الأميركية، تنتج برامج إذاعية وتلفزيونية. وشركة CNN ذات الدور القائد في الإتصالات وهي شبكة أخبار يتبعها شركات أخرى تتعاطى البث التلفزيوني والنشر والبرمجة والرياضة والتسلية فضلاً عن البث الإذاعي الكابلي. وهناك مؤسسة والت ديزني الأميركية وهاشيت الفرنسية ونيويورك تايمز وريدرز دايجست وواشنطن بوست وجميعها مؤسسات اقتصادية إعلامية بارزة.
أما وكالات الأنباء فتنتشر في أكثر من 100 دولة في العالم وعددها الحالي يفوق 174 وكالة تنحصر الرئيسية منها بعشرين وكالة تتصدرها خمس وكالات كبرى تتمتع بدور عالمي بسبب ضخامة رساميلها وحجم وقوة تكنولوجيتها في جمع الأنباء وتوزيعها بلغات عديدة في أنحاء العالم. وكل منها يصدر أنباءه إلى الوكالات القومية والصحف والإذاعات والتلفزيونات المحلية في أكثر من مئة دولة على مدار 24 ساعة في اليوم. إن وكالات الأنباء الرأسمالية الأربع الضخمة التي تسيطر على سوق الأنباء العالمية هي: أسوشيتد برس - يونايتد برس - رويترز- فرنس برس - ووكالة اشتراكية خامسة هي تاس. وهي تستخدم الإمكانات الضخمة التي تمتلكها من أجل صياغة ونقل وتغطية الخبر بأسرع ما يمكن حتى أنه أحياناً لا يفصل بين وقوع الحدث ونشره بالصوت والصورة أكثر من دقائق معدودة. هذه الوكالات تتولى إنتاج 80 % من الأنباء الموزعة يومياً في العالم ولا تنسى أن تقوم أحياناً بدور الواعظ السياسي والإيديولوجي حتى للفئات الحاكمة في بلدها وبلدان العالم.
إلى جانب المؤسسات الإعلامية ووكالات الأنباء هناك أيضاً مؤسسات صناعية عالمية معنية أيضاً بشكل مباشر أو غير مباشر بالإعلام. فنظراً لحاجة المؤسسات الصناعية والإقتصادية الكبرى إلى وسائل الإعلام للإعلان عن منتوجاتها وتسويق سلعها، أصبحت تتعاطى إنتاج الوسائل وامتلاك المؤسسات الإعلانية. ميزة هذه المؤسسات تنوع الإنتاج وعالمية التوزيع وكثافة العاملين وضخامة الرساميل والإيرادات التي تصل إلى مليارات الدولارات سنوياً. وهكذا يصبح الإعلام بمؤسساته الإعلامية والإعلانية مرتبطاً بالصناعات الحديثة والرائجة كالإلكترونيات- إتصالات سلكية ولاسلكية - تلفزيونات- حواسيب، وبالمناشط الأخرى من تجارة وزراعة وخدمات.
هذه الصناعات تخترق البلد الأم بشركاتها التابعة والفرعية وتؤثر في وسائل الإعلام وتوجه سياساتها، بل أكثر من ذلك فإن تأثيرها، شأن المؤسسات الإعلامية ووكالات الأنباء الكبرى يطال سياسات الدول والمنظمات.
تجدر الإشارة إلى أن صناعة وسائل الإعلام هي صناعة أميركية تنافسها فيها اليابان وألمانيا في حين أن مؤسسات الإعلام والترفيه يسيطر عليها اللون الأميركي. وهذه المؤسسات تعود ملكيتها إلى عدد من المساهمين لكن قرارها محصور بقلة من كبار المساهمين وهؤلاء هم منتجو الإيديولوجيا ومروّجوها.
يتبين لنا مما تقدم أن الإعلام مرتبط بالتكنولوجيا الأحدث والأعقد والأسرع نمواً، وإن مجموعة محدودة من المؤسسات الإعلامية ووكالات الأنباء هي المسيطرة على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في العالم وهي التي تزودها بالأنباء والوقائع والبرامج الترفيهية والسياسية. هؤلاء يمثلون رأس الأخطبوط الإقتصادي الممتدة أيديه إلى مختلف بلدان العالم وهم رأس الإنتاج الإيديولوجي. فالمؤسسات الإعلامية والصناعية الكبرى ذات طبيعة مزدوجة. هي مؤسسات اقتصادية تعمل وفق النظام الإقتصادي الحر بكل قواعده وأساليبه ومفاعيله وتبغي الربح الفاحش، وهي من جهة أخرى مؤسسات ثقافية تنتج العناصر الثقافية والأفكار والقيم والتصورات وتنشرها في العالم. هي فاعل إقتصادي تهيئ لنفسها كل الظروف الموضوعية الملائمة للإنتاج المكثف، وفاعل إيديولوجي تهيئ لنفسها الظروف الذاتية المناسبة لتصريف الإنتاج عن طريق خلق قيم وصور جديدة للحياة ونماذج سلوكيات تفترض استهلاك منتوجاتها. بقي أن نتعرف على الأقنية الأكثر فعالية التي تعبر خلالها الإيديولوجيا الرأسمالية الأم بتصوراتها الكونية وأفكارها المقنعة.
التلفزيون والإنترنت:
التلفزيون أو الإذاعة المرئية هي نقل الصوت والصورة في وقت واحد بطريقة الدفع الكهربائي، وهو أحد وسائل الإعلام التي ابتكرت في أوائل القرن العشرين وبدأ انتشاره الحقيقي اعتباراً من النصف الثاني منه. وقد شهد في الآونة الأخيرة تطوراً ملحوظاً على مستوى صناعة الأجهزة وعلى مستوى الإستخدام.
والتلفزيون وسيلة سمعية بصرية للإتصال بالجماهير عن طريق بث برامج معينة وله خصائص وسمات لا نجدها في وسيلة إعلامية أخرى. أولى مميزاته أن الثقافة في التلفزيون تتمحور حول الجسد: الصوت والصورة. باستخدام الصوت المتحد بالجسد يفرض التلفزيون تأثيره على المشاهد ولا يكترث للأثر الراجع. فالجسد في الثقافة التلفزيونية يمثل أحد ركائزها المادية.
من مميزات التلفزيون إلزامية الحضور الكامل مجبراً الفرد على استخدام حاستي البصر والسمع ومفاعيلهما في الذاكرة. وحيث أنه لا يتطلب أي جهد عقلي ويتميز بجاذبية العرض والإثارة وآنية الحدث وتوفير الراحة النفسية للمشاهد، فإنه يملك كل مستلزمات الإقناع والتفاعل والنفاذ إلى لا وعي الإنسان. إنه يخدر الأعصاب المتعبة ويساعد على تنفيس المكبوت في اللاوعي ويثير الكثير من العمليات العقلية الشعورية واللاشعورية مثل الوهم والخيال وروح التماهي. ويتوجه إلى العقل فيجمده عند إيحاءات معينة ولا يترك له الوقت للوقوف عند المعلومة أو التمحيص أو النقد نظراً للسيل الجارف من المعلومات والصور المنهالة على المشاهد. ويرى ريجيس دوبريه أنه مع يسر استقبالاتنا وسهولة الرحلات، فإن الآنية في الصور والأصوات والمعطيات التي تنتقل بسرعة الضوء توهن العزم في طلب المعنى وتحدث تراخياً في توتر حالات الإنتظار.([23])
وقد ذكرت مجلةNoun الفرنسية في عددها الخامس الصادر في شباط عام 1998 أن أبحاثاً قد جرت في جامعة أوستراليا الوطنية أكدت أنه بعد عشرين دقيقة من المشاهدة يصبح المشاهد وكأنه خاضع للتنويم المغناطيسي. ذلك أن الموجات Alpha للدماغ، الوسيطة بين حالات الإستيقاظ والنعاس، تعمل على حساب الموجات Beta الخاصة بالحركة. وكلما نظر الإنسان إلى الشاشة انخفضت همته لدرجة أنه يتكاسل أحياناً عن إطفاء الجهاز.
والتلفزيون وسيلة ترفيهية تثقيفية مريحة، يقوم بتغطية إعلامية كونية مما يجعله وسيلة تقارب وتفاهم بين الشعوب. يساهم في ترسيخ القيم والمعايير والتقاليد السائدة في المجتمع أو تغييرها تدريجياً حسب إرادة وإيديولوجيا الجهة المرسلة. لذلك فهو أحد أدوات التغيير الإجتماعي. إنه يوحد أفكار الناس واتجاهاتهم ويعمل على صهر العادات ويساهم في إقامة وحدة من المفاهيم والإهتمامات والتطلعات فيعمل على دمج الأذواق وتجانسها من جراء التعرض للمؤثرات نفسها. ويشكل السلوكيات من طريق تقديم قوالب سلوكية جاهزة، يقلدها المشاهد أو يتماهى بها. ويحطم التلفزيون الحواجز الطبقية لأنه يتوجه إلى مختلف الخلفيات التعليمية والإجتماعية والإقتصادية والعرقية وإلى كل الفئات العمرية. إنه ينشر ثقافة الكتلة التي تفرض نفسها على جميع السكان وتتحول إلى حس عام يتجلى في السلوك العملي.
وإذا كان التلفزيون مصدراً أساسياً للتثقيف واكتساب المعارف والمعلومات، إلا أن ليس كل ما يبثه هو الحقيقة المجردة المحايدة. إن المعرفة التلفزيونية معرفة مؤدلجة لها مدلولات وأبعاد. ولا يجب أن ننخدع بالصورة على أنها الحقيقة الموضوعية. إنها الحقيقة التي تريد أن تبرزها الجهة المرسلة أو ما تريد أن تصوره على أنه الحقيقة، فاختيار المشاهد واللقطات والزوايا، تضخيم مشهد وتصغير آخر، نقاط التركيز وخلفيات الصورة، كل ذلك يتم بأبعاد إيديولوجية معينة.
أما الرسالة التلفزيونية فهي سريعة سطحية، لأن تدفق الرسائل لا يتيح المجال لعرضها بتأن وعمق ومن جميع جوانبها. لذلك فإن الثقافة التي نكتسبها من التلفزيون هي ثقافة سطحية مفرغة من أبعادها الإنسانية. فالثقافة الحقة هي اختيار ومجهود. لكن الإختيار ضعيف لأن البرامج مفروضة من قبل الجهة المرسلة وأهدافها وهو كاختيار العبد بين عبوديته لسيد أو لآخر. والمجهود الذي يبذل في قراءة كتاب، والتمعن بمعاني كل كلمة لا يحدث بمشاهدة التلفزيون الذي يتدفق منه كل شيء تاركاً وراءه إنساناً يلهث لإلتقاط المشاهد الزئبقية. فالسريع والمضغوط والمركز وتصغير الأحجام هي اليوم ضرورات لوجستية من أجل شق طريق التغلغل. هناك منطق للإختصار يختص به السمعي البصري. صحيح أن الثقافة قد تموت من الثبات، من جمود الناس والرسائل، لكن الهيجان والإختصار قد يكون قاتلاً أيضاً. إن المجال الوسائطي الذي يجعل من السريع مرادفاً للأفضل يمكن أن يكتشف في فترة معينة بأن السريع الزائد مرادف للأسوأ... فهناك أزمان لا يمكن ضغطها في نظام الإعداد المهني والتعلم والإستيعاب والإختمار والنضج، وتقصير الزمن الحقيقي لها يعرض للخطر ديمومة الأثر وترميزه أو استمرار الرفاهية التي هي في قلب كل ثقافة.([24])
إذاً كيف يعمل أهل الإيديولوجيا لتمرير محتواها الفكري وكيف يثبتون نماذجهم وتصوراتهم في عقول المشاهدين؟ وما هي البرامج المفضلة التي تطل عبرها فيكون لها التأثير الأمثل؟
إن أهل الصورة يستعينون بمختلف المتخصصين، فهم في مقامهم الأرفع يوظفون حشداً من الكتاب والفنيين والمؤلفين وكتاب السيناريو والسينمائيين ومدبجي الخطب والصحافيين والمبدعين والأساتذة وعلماء النفس والإجتماع.
والإنسان كائن عاقل لا يهدأ. يناضل من أجل الحصول على مسرات الحياة. ومن أجل تحقيق أهدافه يحركه في ذلك ما يسميه المنظرون الإجتماعيون والنفسانيون بدوافع محركة للإنسان والمجتمع مثل دوافع الجنس، الصحة، الحركة الفيزيائية، الإبداع، الثروة والتملك، المكانة، القوة، السلطة والنفوذ. من هذا المنطلق يسعى منتجو الإيديولوجيا لاستخدام كل أساليب وتقنيات علم النفس والإجتماع من أجل تحليل الدوافع الإنسانية واكتشاف الضعف الإنساني. وقد أنشئت في أميركا مراكز للبحث في الدوافع. والبحث في الدوافع علم شـق طـريقه بجدية في أواخر الأربعينات وبدايـة الخمـسينات على يـد أرنـست ديتـشر رئيس مجلس إدارة الـ Motivational Research Center ولويـس تشسكن مديـر الـ Color Research Institute of America وهو نوع من الأبحاث ينشد أن يتعرف على ما يحرك الناس في اتخاذ خياراتهم. ويستخدم الباحثون في هذا العلم تقنيات مصممة أو معتمدة للوصول إلى ما دون الوعي أو اللاوعي لأن الأفضليات والأولويات في الإختيار هي بصورة عامة محددة بعوامل لا يعيها الفرد. ففي حالة الشراء مثلاًيستجيب المستهلك عاطفياً ولا واعياً للصور والنماذج التي ترتبط في لا وعيه بالسلعة المعروضة.
ويتحدث هؤلاء الباحثون في الدوافع عن ثلاث مستويات لوعي الفرد: المستوى الأول هو الوعي والإدراك حيث يدرك الفرد تماماً ما يحدث حوله ويستطيع تفسيره. المستوى الثاني هو مستوى ما دون الوعي حيث يدرك الفرد ما يحصل على مستوى مشاعره وأحاسيسه وسبب تصرفاته لكنه لا يرغب في تفسير أسبابه كالخوف والتعصب والتحيز والغيرة وغيرها... أما المستوى الثالث فهو المستوى الذي لا يعي فيه الفرد حقيقة مشاعره أو دوافع تصرفاته ولا يرغب في مناقشتها. المستويان الثاني والثالث هما موضوع العلم الجديد، علم التحليل أو البحث في الدوافع. ([25]) ويسمي الباحثون في هذا الحقل أنفسهم بالمعالجين البارعين أو المتلاعبين “Manipulators”. وهم الأخصائيون أو القياديون الذين يديرون الإنتاج الإيديولوجي السياسي والإقتصادي والإعلاني فيكيفون النفس البشرية ويهندسون الأفكار ويشرطون ردود الأفعال ويثيرون رغبات وميول ويكبتون أخرى. يبيعون الأمن العاطفي، والتأكيد على القيمة، وإشباع الأنا، والإحساس بالقوة والحب والإهتمام والأهمية والتفوق. في التدجين السياسي يعتمدون على نظرية بافلوف والتشريط. في الإقتصاد يستخدمون نظرية فرويد متوجهين مباشرة نحو الرغبة ومستخدمين صورة الأب الرحيم. يقول البروفسور ميللر: “كلنا مخلوقات تخضع ردود أفعالنا للتشريط”. ويرى أن عمل المحفزين المستترين هو تطوير الأفعال المشروطة والمكيفة باستخدام الكلمات والرموز وتقديم النماذج السلوكية([26]) أما الفرويدية فقد وظفت من قبل المتلاعبين لا لتحرير الإنسان من عبودية العمل بل لإشباع الرغبة من دون المس بمردودية العمل. فالعمل ضروري لزيادة القوة الشرائية للفرد وامتلاكه ما يمكنه من شراء السلع المعروضة دافعين الفرد الى إنفاق ما يملك أو لا يملك لشراء ما لا يحتاج إليه. وهكذا، باستكشاف المحركات الخفية للسلوك والرغبات، يبذل المتلاعبون البارعون كل جهد لتقنين العادات والتصرفات والأفعال اليومية والقرارات الشرائية لكي يبيعوا كل منتوجات الدول الرأسمالية الغربية ولا سيما الأميركية منها من سلع وأفكار وسلوكيات وتصورات. فالهدف الأساسي ليس التأثير في العادات الأستهلاكية فحسب بل في الأفكار والعلاقات السياسية والإقتصادية أيضاً فيعملون على هندسة العقول لتستجيب لرغباتهم وأهدافهم. وقد أصبحت قيادة حملات الحث والتحفيز والتوجيه في أساس صناعات رأسمالها ملايين الدولارات. بهذه المنهجية تتسلل الإيديولوجيات الى العقول. أما وسيلة التسلل المفضلة فهي التلفزيون حيث لكل برنامج وظيفة في تمرير وجهٍ من وجوه الإيديولوجيا. وبمتابعة كافة أنواع البرامج تتجلى للمشاهد الواعي والناقد المنظومة الإيديولوجية الكاملة. وسنورد أمثلة من خلال اطلالة سريعة على البرامج الإخبارية والسياسية، والأفلام والمسلسلات والمنوعات، والبرامج الإعلانية. فلكل برنامج شحنة دعائية تدور في فلك الإيديولوجيا الليبرالية الرأسمالية الأم. تجدر الإشارة الى أن الإيديولوجيات سترصد من خلال ما هو عام ومعمم من برامج القنوات الفضائية. فمحتوى القنوات العربية لا يختلف كثيراً عن محتوى القنوات الأجنبية كون مصدرها جميعاً واحد. وقد بين تقرير الأونيسكو لعام 1987 أن75 % من البرامج التلفزيونية التي تبث في العالم مصدرها الولايات المتحدة الأميركية.([27]) بالنسبة للدول العربية فإن 70 % من البرامج التي تستوردها مصدرها غير عربي. هذا بالإضافة الى أن العالم العربي والعالم الثالث عموماً قد أغرقا بعشرات المحطات الفضائية الأجنبية التي تبث وكل العرب يلتقطون ويشاهدون ويتأثرون ويقلدون.
نبدأ بالبرامج الإخبارية. لقد ركزت مصانع الأخبار في العالم الرأسمالي في أيديها إنتاج الأخبار بكميات هائلة وخنقت أية منافسة لها في سوق الأنباء ونصبت نفسها المصدر الأول لكل نبأ فتحولت حرية الأنباء الى احتكار لها، وأخذت تغرق العالم بالأخبار التي تخدم أهدافها السياسية والتسويقية. فهي التي تزود الوكالات الوطنية بالأخبار وتغطي حتى الأحداث الداخلية في بلادهم. تنظر الى الأمور من زاويتها ووفق ايديولوجيتها،فتحذف وتروج وتتجاهل وتضخم وتحجم وتبرز وتخفي.
تقدم النشرات الأخبارية الوقائع اليومية.أما التعليق فيطرح وجهة نظر الجهة المرسلة. وقد اعتمد في السنوات الأخيرة أسلوب جديد في تقديم الأخبار لا سيما في التلفزيونات الكبرى حيث استعاضوا عن المذيع بصحافيين ماهرين محترفين مدربين يقدمون الأخبار ويقومون بتفسيرها والتعليق عليها،مؤسسين بذلك لنظام عبادة النجم.
والنجم في الوسائط السمعية البصرية هو أسطورة التماهي بعد أن كان البطل في المجال الوسائطي الخطي والقديس في المجال الوسائطي الكلامي([28]) . وعن طريق هؤلاء النجوم الذين يدلون بآرائهم الشخصية تنشر الإيديولوجيا الليبرالية الرأسمالية البورجوازية. ويقدر رؤساء وكالات الأنباء العملاقة عدم تجانس الجمهور ويحسبون حساب التنوع والتباينات الثقافية والدينية والإجتماعية للشعوب لذلك فهم يلطفون النقاط الحساسة ويبدون المرونة التي تراعي مختلف النفسيات. وهم غالباً ما يطوفون فوق سطح الأحداث ولا يغوصون في الأعماق، فيؤكدون على الجانب الخاص للحدث ويخفون الجانب الجوهري، حسب أهدافهم. ويفعلون ذلك بأساليب تضليلية غير مباشرة وغير مكشوفة حتى لا يفقدوا ثقة الناس بهم. وتراعي نشرات الأخبار طبيعة الجمهور فتكون النشرات الصباحية مقتضبة لأن المشاهد يريد أن يتوجه الى عمله. أما النشرات المسائية فتختلف من حيث الوقت والديناميكية، حيث الإسهاب والريبورتاجات وتسجيلات الفيديو. ومن أجل تثبيت الحدث والنبأ يعاد تكراره بموجزات اخبارية تبث كل ساعة وعلى مدار اليوم. وتحتفظ وكالات الأنباء الكبرى التي تمتلك محطات تلفزيونية بحق الأسبقية في بث الخبر العاجل أو الحدث المثير.وفي أحيان كثيرة تبث محطة الـCNN الخبر قبل أن تذيعه الدولة صاحبة الشأن.
أما البرامج الحوارية السياسية فلا تشذ عن النهج المتبع في البرامج الأخبارية. تبدو تلك البرامج وكأنها صممت خصيصاً لفرض وجهة نظر المحاورين وإقناع الجمهور بصوابيتها. أما المقاربات التي تعالج عبرها الأحداث فهي مقاربات القيمين على المؤسسة وتعكس آراءهم واهتماماتهم وهمومهم.
تستضيف المحطة عادة أشخاصاً من قادة الرأي في المجتمع ومن مختلف الإختصاصات وتوجه الحوار بالشكل الذي يدفع بالضيف الى تبني وجهة نظرها وشرحها للناس فيصبح الضيف كحامل الرسالة وموصلها. وتتوقف القدرة على اقناع الناس على شخصية الضيف وسمعته ومصداقيته ومكانته الإجتماعية. لذلك فهي تختار الضيوف بتأن. وتفتح هذه البرامج المجال لمشاركة الجمهور. وتبدو أهداف هذه المشاركة وكأنها فقط لإيهام الناس بديمقراطية المحطة المرسلة. فالمتصل من أجل الإدلاء برأي أو مداخلة أو سؤال يجرى استعجاله وتهديده بقطع المكالمة لأن الوقت، أو موعد الإعلان قد داهم المذيع. وهذا الوقت المحشور دائماً هو نفسه الذي يمنع المشاهد من التدقيق في الآراء والمعلومات وهذا هو المطلوب. وتلعب شخصية المذيع / النجم ومدى ثقة الناس به دوراً في توجيه الحوار وتمرير الإيديولوجيات وتثبيتها.
إن الأخبار والبرامج السياسية هي البرامج الأساسية التي تعكس إيديولوجيا الدولة ومواقفها، لكن كون المؤسسات الإعلامية الكبرى هي المسيطرة على صناعة الأخبار وضخها تبقى الأخبار المحلية والعالمية ملونة بلون تلك المؤسسات.
بالإنتقال إلى المسلسلات والأفلام وبرامج المنوعات فإنها تشكل الحقل الأول لفرض نمط معين من الحياة يتجلى في النموذج الغربي لاسيما الأميركي، وأسلوب المعيشة والعادات والقيم وأشكال السلوكيات وأسلوب التفكير ومعالجة الأمور.
وهذه المسلسلات هي مرتع ومسرح لرجال الأعمال وعوائلهم المترفة تقدم من خلالها أنماط الحياة / الحلم حيث مظاهر الثراء الفاحش وعادات الأكل والأزياء والترفيه وأسلوب العمل. وتتربع القوة على رأس سلم القيم التي تمجد السلطة والجنس والإباحية والنزعة الفردية والتحرر اللامسؤول وتفوق الأقوى وتبرز علاقات العنف والسيطرة والسادية والتفكك العائلي والسلوك الإنحرافي بطريقة تشويقية مثيرة وكأنها دعوة ضمنية للأخذ بها. والكوميديات العائلية هي أكثر ما يبرز نمط الحياة الأميركية وأساليب التربية وطرق مواجهة المشاكل الحياتية اليومية وهي تستهوي بصورة خاصة الناشئة والشباب. والسمة المميزة لها هي غرس النزعة الإستهلاكية وإثارة الرغبة في اقتناء الأشياء التي يراها المشاهد على الشاشة.
ولا تحيد برامج التسلية والمنوعات عن الخط المرسوم نفسه. فبرامج الموسيقى والرقص والغناء والحفلات الشبابية الصاخبة توجه جانباً آخر من حياة الإنسان، الجانب الفني والترفيهي. وبرامج المسابقات ذات المردود المالي والعيني تؤسس لذهنية الربح السهل والسريع.
نصل أخيراً إلى البرامج الإعلانية الحاضرة بكثافة في جميع البرامج سابقة الذكر. ونلفت إلى أن المؤسسات الإعلانية هي جزء من بنية الإعلام المعاصر. فالإرتباط وثيق والإعتماد متبادل بينها وبين المؤسسات الإعلامية، حيث تعتمد مؤسسات الإعلان على المؤسسات الإعلامية لنشر إعلاناتها وتعتمد هذه الأخيرة على الإعلان في توفير الموارد المالية. في البدء كان دور المؤسسة الإعلانية يقتصر على دور الوسيط بين المنتج ووسيلة الإعلان. ومع التطورات الإتصاليه والإقتصادية تحولت من وسيط إلى منتج للإعلان وناشر له، وإلى باحث في السوق الإقتصادية المحلية والعالمية تستطلع الآراء وتدرس الميول السيكولوجية، وتأثير الإعلان على المستهلك. ثم وسعت نشاطاتها فأخذت تقدم خدمات أخرى من إعلان على الطرقات وإصدار الكراريس والمجلات الإعلانية وتزيين واجهات المخازن وغيره. وقد تطورت من شركات ووكالات صغيرة إلى وكالات كبرى تواكب حركة الشركات الإقتصادية الكبرى وحركة المؤسسات الإعلامية وتطور تكنولوجيا الإتصالات. ولا يتجاوز عدد الوكالات الإعلانية الكبرى 25 وكالة في العالم تتمركز خمسة منها بأيدي أميركية وتستأثر بثلث العمليات الإعلانية.([29]) وقد تزايد دور الإعلان كوسيلة جبارة للتداول في الإقتصاد الرأسمالي وشكل إحدى القنوات الرئيسية لتثبيت أفكار وتصورات الإيديولوجيا الرأسمالية ووسيلة هامة من وسائل تحقيق أهدافها المعلنة والمستترة. فالإعلان يروج للأفكار والإستهلاك ونمط الحياة المطلوب ويسوق البضائع. ويرمي الإعلان إلى أن يتخلص الجمهور من عقدة الطهرمن طريق تعزيز ثلاث إغراءات أساسية للتسويق: الرغبة في الراحة - الرغبة في الرفاهية - الرغبة في إحراز المكانة الإجتماعية.([30]) ويقوم على مبدأ اجعله يعتقد أنه حقيقة. ويكون تأثير الإعلان أفضل إذا ركز على الشيئ المشترك بين الناس لذلك فهو يتوجه إلى الغرائز والعواطف مستخدماً شتى طرق الترغيب لتحريك الرغبة بالإستهلاك متوسلاً كل طرق التأثير: الجنس، الموسيقى، الصورة المثيرة، الدعوة، القوة. يساهم في تغيير أنشطة الناس وتكثيف عملهم من أجل رفع قدراتهم الشرائية بغية اقتناء سلع ممتازة تروجها الإعلانات. إن الإعلان يقلب سلم الحاجات وما يكون كمالياً يصبح ضرورياً بالإضافة إلى أنه يخلق حاجات جديدة. والهدف المركزي للخطة التسويقية والإعلان اليومي هو الإيعاز للإنسان بأن له الحق بالتمتع بحرية تامة بدون حدود أو قيود وله الحق بإحاطة نفسه بسلع ومنتوجات تغني حياته وتسعده، وترتفع به إلى مصاف الإنسان العصري. وهو لن يكون “عصرياً” إلا إذا استهلك نوعاً معيناً من السلع وامتلك موادَ وأشياء معظمها مستورد من الدول الرأسمالية. ويصبح كل الموروث عادات قديمة وتقاليد بالية متحجرة، وكل المستورد المادي والفكري عصري وديناميكي. وهكذا يتلازم المسار الفكري مع المسار المادي للإيديولوجيا الرأسمالية التي لا تشير إلى الحالة الواقعية بل تصف السلوك والعمل والحركة المفضلة. لا تقول بما هو كائن بل تأمر بما يجب أن يكون. لا تذكر للعامل بأن العمل الذي تدعو إليه متعب بل تأمره بشرب هذا الكوب من اللبن وأكل هذا النوع من الطعام وتدخين هذا النوع من السجائر لكي لا يحس بالتعب. لا تقول للمرأة بأن الجمال جذاب بل تأمرها باستخدام نوع معين من المساحيق لكي تجذب الرجال. لا تقول أن الأسنان تنخر إذا لم تنظف بل تقول بأن تنظيف الأسنان أمر عصري واحد سبل الحب بين الجنسين. لا تقول بأن النظافة أساسية للصحة بل تأمر ربة المنزل باستعمال المسحوق الفلاني للتنظيف من أجل كسب قلب زوجها. وهكذا يملأالإعلان الأذهان بالصور التي تعرقل نمو المفاهيم العقلية ليصبح الإنسان أداة تنفذ ما تأمره به الصورة.
وإذا كانت الإيديولوجيا الخفية لا تطرح نفسها كدعاية صريحة ولا تروج لنفسها علناً في سائر البرامج بل تتسلل بهدوء وسلاسة ومرونة، وبالتكرار والإثارة وطرح النماذج والمفاهيم تأخذ طريقها إلى العقل والحياة العملية ويجري الإقتناع بها، فإنها في البرامج الإعلانية تأمر. وهنا يسهل تقبل الأمر لأن الإقتناع قد مهد له.
إن الإعلان يتوجه إلى عموم الناس والفئات لكن هناك بعض الخصوصية من أجل فاعلية أكبر ومردود أفضل. فالإعلانات عن المواد الغذائية والتجهيزات المنزلية ومساحيق التنظيف وأدوات التجميل والأزياء موجهة للمرأة كونها الموجه للإستهلاك العائلي. والإعلانات عن السجائر والسيارات والكحول والتأمين موجهة للرجل. والإعلانات عن الجينز والأغاني الجديدة والوجبات السريعة والمشروبات الغازية موجهة إلى المراهقين والشباب. لكن في كل إعلان تتصدر المرأة والفتاة الصورة كرمز لإثارة الرغبات والشهوات. ومن أجل التسويق الكوني وتوحيد الأذواق والعادات الإستهلاكية، وبدلاً من أن تبث دعايات مختلفة لكل مجتمع، يبث إعلان واحد عن السلعة لجميع المستهلكين في العالم بلغات مختلفة. فالإعلان نفسه يبث بلغة البلد المستهدف، ويبث في وسائل إعلام أخرى كالراديو مثلاً. وهذه المنهجية هي مفتاح السوق العالمي.
كلمة أخيرة في ما يتعلق بالبرامج الإعلانية. إن رسالة أي مؤسسة إعلامية تتوافق حتماً مع إيديولوجيا التمويل ومشاريعها. ومن يتحكم بالإعلان يتحكم بمضمون البرامج. لقد دفع بيل غايتس مليار دولار لإطلاق Window 95 وتنفق شركة جنرال موتورز 556 مليون دولار سنوياً على الإعلانات([31]). فكيف لا يكون لهذه الجهات رأياً في الرسالة الإعلامية؟
نستنتج من هذا العرض السريع لمضامين البرامج التلفزيونية الرئيسية والمعممة على أنحاء المعمورة عبر الفضائيات أنها الأقنية التي تتسلل عبرها الإيديولوجيا الرأسمالية بتكتيكاتها الإعلامية لتحول الناس إلى نماذج استهلاكية من الدرجة الأولى. فثقافة الإستهلاك بكل عناصرها البنيوية التي تروجها وتغذيها التلفزة تضمن السوق لإنتاج الدول الكبرى. يقول شيللر: إن ثقافة الإعلام الأميركي المسيطرة هي أداة مثلى لنظام التجارة العالمي.([32]) فمن خلال التدفق الحر للمعلومات الذي يتجه من الدول المتقدمة إلى الدول النامية تنشر قيم النظام الرأسمالي عبر البرامج المتنوعة، وترسخ قيم الإمتثالية، وتقضي على التنوع الثقافي الحضاري الذي يميز مختلف المجتمعات، وتكرس النمطية والمعيارية بحيث يصبح مشاهد المحطات يفكر التفكير نفسه ويحمل القناعات ذاتها ويسلك سلوكاً شبه موحد. والخوف كل الخوف من أن تصبح عقليتنا كعقلية القطيع من جراء تعرضنا للمؤثرات المتكررة نفسها وإبعادنا عن الوسائل الثقافية الأخرى المتنوعة التي تحمل مضموناً أكثر عمقاً. وهذه الثقافة ما كان لها أن تحقق وجودها الإجتماعي العالمي من غير تكنولوجيات الإتصال الحديثة، وهي بقدر ما أغنت معلومات الشعوب ووصلتها بمصادر الثقافات الأخرى مما أكسبها وعياً بظروف تخلفها، بقدر ما حملت إليها قيماً لا عهد لها بها وأضفت عليها نوعاً من المشروعية والقوة بواسطة الترداد والتعميم. ميزة هذه الثقافة أنها تخفي جشع الجهات الإقتصادية المسيطرة والمنساقة وراء الربح المادي من غير أي اعتبار لتقدم الإنسان الأخلاقي والروحي. إنها تفرغ حتى الحب من مضمونه ومعناه الإنساني والتراحمي وتحوله إلى رغبة آنية عابرة. هي تتوجه إلى الغرائز. فالمشاهد تثير الغرائز والدعاية تتوجه إلى الغرائز. والخطورة تقع على البسطاء من الناس وأنصاف المتعلمين والأطفال الذين يبتلعون الخليط الذي ينهال عليهم فينصرفون عن طلب المعنى أو التثقيف إلى المتعة والتقليد. والأخطر من كل ذلك أن ثقافة الإيديولوجيا الرأسمالية تغيب الحافز الإبداعي لدى الإنسان. فعندما تغدق على الجسد ما يفيض عن حاجته وتحقق الإشباع الكامل، الوهمي أو الحقيقي لطاقة الحياة فإن الروح الإبداعية الخلاقة تتراجع. لقد انتهى عهد الكبت وأصبح الإنسان بغير حاجة إلى التسامي للتعبير عن رغباته الدفينة أو تلبيتها. أصبح إشباع كل الرغبات البشرية متيسراً بسبب غزارة المنتوجات الصناعية المتجددة وتحولت الرغبة إلى عامل من عوامل الإنتاج. وبهذا التدني عوض التسامي الفرويدي استطاع النظام الرأسمالي المتقدم أن يخمد القوة التفجيرية الإبداعية الكامنة في الإنسان.([33]) وهذا أيضاً هدف استراتيجي من أهداف الإيديولوجيا في عصر المعلوماتية والتكنولوجيا الحديثة فليس مطلوباً أن يكون الناس مبدعين. فالمبدعون فقط هم المنتجون والمطورون للتكنولوجيا الحديثة التي يصار بها الى السيطرة على العالم. والمبتغى هو قلة تخترع وتبدع وتنتج وكثرة تستهلك السلع وتبتلع الأفكار وتقلد النماذج.
وبتصرف هذه القلة من العلماء والمهندسين والفنيين وضعت مراكز الأبحاث العلمية والمختبرات والتجهيزات ومليارات الدولارات من أجل تطوير التكنولوجيا لا سيما تلك المعنية بالإتصالات. وإذا كان اختراع الأقمار الصناعية والحواسيب قد شكل تحولاً في ميدان الإتصال فإن تطوير الحواسيب الكبيرة والنظام الرقمي، والتقاء التلفون والتلفزيون والمعلوماتية متمثلاً في مزج بين الصوت والصورة والنص المكتوب قد شكل ثورة اذ أدى الى ولادة الطريق السريع للمعلومات، الإنترنت. وهي شبكة اتصال لا مركزية عالمية للمعلومات تتكون من عدة شبكات وأجهزة حواسيب متصل بعضها ببعض. انها شبكة من المواقع الفعلية فرضت نفسها على الأمكنة الحقيقية، مؤمنة النقل السريع للمعلومة والصورة والنص والصوت مما يؤهلها لتكون الطريق السريع الأساسي للنمو الإقثصادي. وتربط الإنترنت أي فرد يملك حاسوباً وآلة وصل بالعالم وتمكنه من أن يتجول في فضائها الواسع ويصل الى مصادر المعلومات. وتوفر الإنترنت للمستخدم فرص التعبير عن ذاته والتحرر من الحواجز التقليدية للزمان والمكان حيث ينعزل الفرد عن محيطه الفيزيائي ويعيش ضمن جماعة وهمية داخل مساحة اتصالاتية تحتويه. فعبر هذا الوسيط تزول الحدود بين الحقيقي الوهمي، بين المادي وغير المادي، بين الطبيعي والمصطنع، بين القريب والبعيد، بين الأجسام والتكنولوجيات.([34]) وقوة شبكة الإنترنت تكمن في أنها تربط الطاقات الفكرية بالوسائل التكنولوجية وتربط الفرد أينما كان بكل شيء وبالآخرين. وقد ساهمت في تحويل الصرخات الفردية الى مبادرات جريئة لفتح الحوار والنقاش بين الناس. فجمهور التلفزيون سلبي ومتلقي أما جمهور الإنترنيت فمتفاعل لأن الإنترنيت توفر منتدى حيث الجمهور يستطيع أن يعبر عن نفسه.
يتعرف الإنسان عبر الإنترنت على نظام قيم ومعتقدات الآخرين فتتأثر قناعاته الشخصية. ومن خلال المناقشات والمناظرات العامة والألعاب تعيد الإنترنت تأطير التجارب الإجتماعية للفرد. وينتج عن التواصل والإنفتاح على ثقافات لا يربط بينها الا القليل من العناصر المشتركة ثقافة جديدة هي ثقافة الإنترنت العالمية. لكن عولمة الثقافة ليست كتجانسها، ولا يمكن أن تحقق الإنترنت وايديولوجيات المسيطرين عليها ثقافة عالمية ذات عناصر متجانسة كلياً أو متماسكة كما هي الحال في بنية الثقافة المحلية. لكن العولمة تستخدم الإنترنت لنشر بعض عناصر التجانس كتقنيات الإعلان واللغة والأزياء وعادات الطعام ووسائل الترفيه كي تشكل قواسم مشتركة بين مختلف ثقافات العالم وهذه القواسم كما نلاحظ، ذات أبعاد اقتصادية تلبي تطلعات وأهداف المسيطرين.
والإنترنت في هذا المجال تستكمل وظيفة التلفزة في تشكيل الجمهور بل هي أخطر كونها تستهوي الناشئة الذين يستخدمونها للدردشة والتسلية المغرية وتبادل البريد الإلكتروني والدخول الى عوالم ومواقع يعبرون من خلالهاالى عالم الكبار مبكراً. ويعيشون في واقع من صنع أرباب العولمة.
لكن مفاعيل الإنترنيت لا تقف عند وظيفة تشكيل بنية ثقافية عالمية تضم تحت لوائها مختلف شعوب الأرض. هذه الوظيفة وإن كانت ذات أبعاد اقتصادية غير مباشرة الا أن للإنترنت وظيفة اقتصادية مباشرة. فهي البنية التحتية الأساسية للاقتصاد العالمي الجديد. وهي بذلك عامل انتاج ثقافي وعامل انتاج مادي. فبربطهاالأمكنة عالمياً حققت شكلاً جديداً من التبادل الاقتصادي ومثلت وسطاً اتصالاتياً وفي الوقت نفسه وسيلة نقل، حيث تنتقل البضائع عبر فضاء كبير لا وجود للمسافة فيه، والمكان والامتداد مستبدلان بحركة صرفة. هذا الفضاء هو نتيجة تكنولوجيا الاتصالات التي تطورت في سياق الرأسمالية وهو وسيلة نقل مكنت الرأسمالية من الإنتشار الإقليمي أو المناطقي ومن إعادة التمركز في مراكز الشركات العابرة للقومية، في البلد الأم. أي انها مكنتها من القيام بحركتين: حركة انبساط وانفتاح على بلدان العالم متجاوزة الجغرافيا، وحركة انقباض نحو المركز. وكلما اتسعت حركة انبساط تلك الشركات العملاقة كلما دعمتها بيروقراطية الحكومات المحلية بالتشريعات والقوانين التي تسهل حركة الانقباض، حركة تجميع ما جنته من أرباح في البلد الأم. و الإنترنت موقع توالد وتكاثر رأس المال الذي يسعى دائماً الى تخفيض زمن الحركة من مكان لآخر. وكلما نما وتطور واتسعت الأسواق التي تشكل محور دورانه كلما ناضل من أجل توسيع سوق التداول وتخفيض الوقت اللازم لتحركه عبر الأمكنة المختلفة....
إن توسيع الاقتصاد الرأسمالي يتطلب أماكن جغرافية جديدة للحصول على المواد الأولية واليد العاملة الرخيصة والاسواق الجديدة. ومن مصلحته أن يجتاز الأماكن بأسرع وقت وقد وفرت له الإنترنت هذا الحلم. فالاسواق المتعددة تتوحد عبر الشبكة في سوق عملاقة واحدة حيث يتم تبادل المعلومات والصفقات، وهي أيضاً سوق مالية مثالية حيث أصبحت النقود اعتباراً من السبعينات من القرن الماضي كأية بضاعة أخرى تباع وتشترى.([35]) تستخدم الإنترنت إذاً في القطاع المالي والمصرفي، وقطاع التجارة والتجارة الإلكترونية، والإعلان والبريد الإلكتروني واستفتاءات الرأي والأجهزة الحكومية والتحكم بالآلات عن بعد وهي بذلك تعني لرجال الصناعة والتجارة والاعمال وأصحاب الأموال الوصول الى الموارد والأسواق من دون اعتبار المسافة أو الحدود، وتعني استنهاض القدرات والمعارف القادرة على دمج المعلومات ورؤوس الاموال والأسواق من أجل تحقيق أكبر قدر من الأرباح والمنافسة والسيطرة الاقتصادية.
وتبذل الولايات المتحدة جهوداً حثيثة لتطوير بنية تحتية عالمية للمعلومات. وقد أعلن آل غور ، نائب رئيس الولايات المتحدة الأميركية عام 1994في خطاب له في اليابان ان الجهود المبذولة لبناء هذه البنية التحتية العالمية للمعلومات ستحقق الفائدة لجميع مواطني بلدينا لأننا سنستخدم هذه البنية لمساعدة الاقتصاد، وتعزيز الصحة والتعليم وحماية البيئة والديموقراطية”. وفي ذلك تأكيد على ثنائية الاهداف الاقتصادية والسياسية. فما هو مخفي في اعلان الجور عن البنية التحتية العالمية للمعلومات هو ان الإيديولوجيا الاميركية المستندة الى القيم الاوروبية في عصر الانوار ستشكل اسس التجانس الثقافي لمجتمع الإنترنت. هذه القيم كحقوق الانسان والفردية والديموقراطية تسير جنباً الى جنب مع اهتمام آل جور غير المعلن في نشر الرأسمالية([36]). وقد تطورت بالفعل واتسعت هذه البنية التي تحدث عنها آل غور عام 1994. فعدد الصفحات على شبكة “ويب” الآن يبلغ 1.3مليار صفحة وهي أقل من 20% من قدرة استيعاب المواقع([37]).
بقي أن نشير الى أن ما يعزز الإرتباط بين الإقتصاد والإنترنت هي خمسة مباديء أساسية تبناها الإتحاد العالمي للإتصالات من أجل بناء واستخدام البنية العالمية للمعلومات: التوظيف الخاص- منافسة مساعدة للتسويق- أنظمة مرنة- مدخل الى اللاعنصرية- خدمة عالمية. المبادئ الثلاثة الأولى تؤكد على الشكل الرأسمالي للملكية والتشغيل والبناء. أما المبدآن الرابع والخامس فيتعلقان بالجمهور. فالفكرة/ الحلم هي تحويل سكان العالم أجمع الى جمهور واحد تسيطر الجهة مالكة وسائل الإنتاج والقرار الإقتصادي على قراره السياسي والإقتصادي/ الإجتماعي.
نستخلص من سياق هذا البحث أن الإيديولوجيا الليبرالية الرأسمالية تقوم بسعي حثيث الى عولمة الكوكب الأرضي،الى تفكيك النظام الفكري السائد في المجتمعات المحلية أو حتى الى تدمير نظامها الثقافي ودمج الجمهور في نظام فكري وقيمي ومعرفي يشكل أرضية صالحة لتقبل الوارد من الجهة المرسلة، مستخدمة في ذلك أحدث تكنولوجيا الإتصالات والكيانات الإقتصادية العملاقة المالكة في الوقت نفسه للأمبراطوريات الإعلامية الكبرى، مضفية على المفاهيم مضامين ومحمولات معرفية جديدة وعلى تصور الكون رداءً شفافاً لا يحجب نواياه الخفية عن العين الناقدة. فالبرامج التلفزيونية تؤدي وظائف تتعدى وظائفها الظاهرة، التثقيفية والترفيهية. والمواد الإعلامية المؤدلجة تتناغم في ما بينها لتصيغ عالم الأحلام والأوهام معتمدة على ميل الإنسان الى النمطية، أي السلوك والتفكير كما يفعل غيره. ويدافع المحفزون المستترون عن عملهم بالقول أنهم يعطون الناس ما يرغبون فيه ويلبون احتياجاتهم ويحققون لهم السعادة والرفاهية. وترد برنس ألين من جامعة اوهايو قائلةً: “ليس لدينا أي برهان أن زيادة البضائع والسلع والآلات والسيارات والأدوات والأجهزة قد جعلت الإنسان أسعد حالاً. في الواقع فإن الشواهد تشير الى عكس ذلك”.([38]) ومن المنطلق نفسه نتساءل: ماذا يعني بالنسبة لروح الأمة وأخلاقياتها أن تكون محكومة بحفنة من المتنفذين الأقوياء، المؤثرين والمكيفين لسلوك المجتمع؟ من يملك الحق في تغيير شخصية الإنسان والسيطرة على مصيره وخياراته؟ وأين هي الحرية التي يحملون رايتها؟ أين هي الأخلاق في عرض الأحاسيس والرغبات الجنسية العميقة لأهداف تجارية وأين هي الفضيلة في اللعب على نقاط الضعف الخفية لدى الفرد وفي تشكيل الطفل والشاب طبقاً لهوى جهات غريبة لا تمت إليه بصلة إجتماعية أو ثقافية؟ وهل يدركون خطورة التحفيز المستمر لكافة الناس والمجتمعات؟
إن البث التلفزيوني لا يخلو من البرامج الوثائقية والتراثية والعلمية والإجتماعية القيمة والعاملة على إغناء المعرفة الإنسانية إما عبر محطات متخصصة أو محطات عامة لكن هذه البرامج لا تفلت من السيطرة الإيديولوجية بكلمة من هنا وتعليق من هناك وإعلان من هنالك. يضاف الى ذلك أن هذه البرامج، وفق معظم الدراسات الميدانية ومنها ثلاثة قمنا بها شخصياً على مراحل، تستأثر بنسبة أقل من المشاهدين مقارنة بالبرامج الأخبارية وبرامج التسلية والترفيه والمنوعات التي ينجذب إليها المشاهدون بقوة لا سيما من فئة الأطفال والمراهقين والشباب.
وإذا كان التلفزيون موجوداً في كل بيت ويطال تأثيره كل فرد من كافة الفئات الإجتماعية والعمرية والتعليمية بدون استثناء، فإن استخدام الإنترنت يشترط حداً أدنى من التعليم والمستوى الإقتصادي. ومع ذلك فإن مفاعيلها ستنعكس على اقتصاديات المجتمع وثقافته المحلية مثلما تركت ثقافة السينما والتليفزيون بصماتها على التجربة اليومية للمشاهد وغير المشاهد على حد سواء. وهكذا فإن الثقافة المرتبطة بالإنتاج المعلوماتي وعلاقاته وقيمه لا بد من أن تطال كل المجتمعات التي لن تستطيع إغلاق الباب على نفسها أمام سيادة الإقتصاد الجديد خاصة بوجود الأقمار الاصطناعية وشبكة الإنترنت التي سيزداد الإعتماد عليها في تلبية الكثير من حاجات الإنسان. وستتراجع العلاقات الإجتماعية الفيزيائية لصالح العلاقات الإجتماعية القائمة في المتحدات الفضائية الإفتراضية. ففي الإنترنت دعوة الى الإنعتاق من الجسد ومن المكان. ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك سلباً على البناء الثقافي المحلي لأن فضاء الإنترنت، عندما يلغي الحيز الجغرافي الذي يشكل أحد ركائز الدولة، يهز الإنتماء الى ثقافة قومية محلية ويحجم الإحساس بالإنتماء الى المكان، الى بلد ذي مجال جغرافي محدد. وهذا مطلب حيوي. فالعولمة الأميركية تريدنا بلا حدود حتى يسهل عليها جعلنا بلا وجود.([39])
إن ما يسمى بحوار الثقافات المفترض أن يغني الثقافة المحلية والعالمية هو حوار غير متكافئ حتى الآن. إنه حوار تسلطي تقوده الدول الرأسمالية الغربية المهيمنة التي تفرض مفاهيمها ومعاييرها ونماذجها على الثقافات الأخرى. لذلك فإننا لم نسمع بعد بأي أميركي اشتكى أو توجس خيفة من غزو ثقافي للمجتمع الأميركي. ما هو واضح حتى الآن أن هناك بوادر لهيمنة حضارة عالمية تغرب المواطن عن وطنه وتسيطر رأسياً وأفقياً، أرضياً وفضائياً بآلات تكنولوجية وآليات ذهنية وتنظيمية تعيد بها الإنتاج الإيديولوجي والإقتصادي- الإجتماعي. ويلزمنا بعض الوقت لكي نتبين ما إذا كانت السيطرة الرأسمالية الغربية على هندسة الفضاء ستستمر أم أن مساحة أخرى ممكن أن تستحدث حيث يكون للغات أخرى وثقافات واهتمامات إنسانية معنوية غير إقتصادية مكاناً مميزاً في الفضاء.
يبشر أهل العولمة شعوب الأرض بأن المستقبل سيكون مضموناً في أيدي الذين سيحققون اندماج الأسواق ورفاهية الناس وأمن المجتمعات. وقد شهدنا حتى الآن عكس ذلك. فالأزمات الإقتصادية متلاحقة وأخبار النزعات الداخلية والحروب الأهلية تتصدر الإعلام المقروء والمسموع والمشهود. وقد شاهد العقد الأخير من القرن العشرين تفتيتاً وتقطيعاً في الدول لم يشهد التاريخ له مثيلاً، من حيث العدد. ففي أقل من عشر سنوات خرجت أكثر من عشرين دولة من أرحام دول كانت قائمة ومستقرة ومحترمة، وانهارت إقتصاديات وأنظمة دولية كانت تنمو وتتقدم بوتيرة لافتة بخططها الإنمائية الذاتية. فالعولمة إن غضبت نشبت الحروب وقامت النزعات وإن عاقبت تشرد الملايين وانهار الإقتصاد. وبفلسفة التركيز على الفرد بدل الجماعة، وعلى الأثنيات المشرذمة بدل الأمة الواحدة، وعلى الإختلاف بدل الإئتلاف والوحدة، تحكم الدول المهيمنة قبضتها على الدول المستهدفة. والمفارقة المضحكة المبكية إنها هي نفسها تهرع إلى حل النزاعات التي تكون قد أذكتها (طبعاً تحلها بالطريقة التي تناسبها) ثم تغدق الهبات والمساعدات على الشعوب المنكوبة.
إن نقض الإيديولوجية الليبرالية الرأسمالية الغربية والتصدي للعولمة والغزو الثقافي والإقتصادي لا يكون بالشكوى والتذمر واجترار السلبيات. والعالم ما زال مليئاً بالثقافات التي تدرك مدى الإختلاف مع الآخر لكنها تسعى لعولمة إنسانية تعترف بالآخر ولاتحاول ابتلاعه أو تدجينه أو استبعاده. وبالنسبة لنا كمحيط عربي ممكن الإفادة من مفاهيم الحرية والعدالة والديموقراطية التي تطرحها العولمة بقوة. فتحرير الإنسان وعقله وفكره وسيادة العدالة الإجتماعية هو ما يدفع به لأن يكون فاعلاً كونياً في الثقافة العالمية ونظام العولمة الإقتصادي. والمجتمع المتحرر من العوائق والقيود هو القادر على أن يؤهل المواطن والمثقف ويهتم بالمبدع والمخترع الذي يستطيع أن يعبر عن إبداعاته بكل أشكال التعبير المتاحة. إن الفاعل الثقافي هو الكفيل برد الهجمة الغربية وبإحلال التوازن بين الخصوصية والعالمية وتحصين الذاتية الثقافية برؤية واسعة منفتحة على الثقافات الأخرى بحيث تكون المشاركة سبيلاً إلى الإثراء الثقافي ذي النكهة المحلية والعالمية. ويكون التفاعل جدلياً ويكون التعامل الحضاري سمة عالم الغد.
أما المواجهة الإقتصادية فتكون بالتضامن العربي والتفاوض مع الغرب كوحدة أسوة بما يحدث مع أوروبا. فعندما يفاوض الفاعلون الإقتصاديون أوروبا فإنهم يفاوضون “الإتحاد الأوروبي”. وعندما يتفاوضون مع العرب فينفردون بكل دولة على حده. وهناك ضرورة للتنسيق بين الحاجات والإمكانات الإقتصادية المحلية وبين حركة السوق العالمية. حينئذ تكون التنمية ممكنة والمشاركة ممكنة والتقدم ممكن. وقد آن الأوان لكي ندرك أن مواجهة التكتل الرأسمالي الغربي قد أصبح شبه مستحيل بدون تكتل عربي يستنفر كل الإمكانات المادية والطاقات البشرية لكي يحمي مواردنا من الإستنزاف واقتصادنا من التبعية وثقافتنا من الإنزلاق أو الوقوع فريسة الإختراق والإستلاب. وعلى صعيد الشعوب، لا بديل عن التسلح بالعلم والمعرفة، والإمتلاء بالثقافة المحلية والتراث البناء، ومن تطوير الوعي السالب تجاه السلطة الإيديولوجية العالمية المهيمنة. ففي طريق هذا الوعي الناقد والناقض والرافض تتعرى الإيديولوجية التي ترى نفسها حقيقة مطلقة.
لائحة المراجع
1- أشتي فارس- الإعلام العالمي- بيروت- دار أمواج- 1996
2- إيكن هنري- عصر الإيديولوجيا- ترجمة محي الدين صبحي وعبد الحميد حسن- بيروت- دار الطليعة- 1928
3- أمين أسامة والخولي- العرب والعولمة- بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت- دراسات الوحدة العربية- الطبعة الثانية- 2000
4- بدوي فاطمة- تقنيات الإتصال الحديثة- مقاربة ثقافية/ سوسيولوجية- بيروت- دار مكتبة الجامعة اللبنانية- 1999
5- ثربورن جوران- إيديولوجية السلطة وسلطة الإيديولوجيا- ترجمة إلياس مرقص- بيروت- دار الوحدة- 1928
6- الجابري محمد عابد- الإيديولوجية- المشروع النهضوي العربي/ مراجعة نقدية- بيروت- مركز دراسات الوحدة العربية- 1996
7- جيتس بيل- المعلوماتية بعد الإنترنيت- ترجمة عبد السلام رضوان- عالم المعرفة- الكويت- مارس/ آذار- 1998
8- دوبريه ريجيس- علم الإعــلام العــام/ الميديولوجـيا- ترجــمة فــؤاد شاهــين وجورجيت حـــداد- مراجعة د. فردريك معتوق- دار الطليعة- 1996
9- سكري رفيق- مدخل في الرأي العام والإعلان والدعاية- طرابلس- جروس برس- 1984
10- سنومي العبد الله- الإتصال في عصر العولمة- بيروت- الدار الجامعية- 1999
11- شرف عبد العزيز- وسائل الإعلام ومشكلة الثقافة- بيروت- دار الجيل- 1993
12- شرف عبد العزيز- دراسات تطبيقية حول التفسير الإعلامي الحديث- بيروت- دار الجيل- 1991
13- شرف عبد العزيز- العالم عام 2013- بيروت- دار الجيل- 1993
14- العروي عبد الله- مفهوم الإيديولوجيا- الدار البيضاء- المركز الثقافي العربي- 1980
15- عبد الباسط عبد المعطي- العولمة والتحولات المجتمعية في الوطن العربي- ندوة مركز البحوث العربية- القاهرة- مكتبة مدبولي- 1999
16- غليون برهان- مجتمع النخبة- بيروت- معهد الإنماء العربي- 1986
17- فادية ميشيل- الإيديولوجية- ترجمة د. أمينة البحراوي- بيروت- دار التنوير للطباعة والنشر- 1928
18- قباري محمد اسماعيل- علم الإجتماع والإيديولوجيات- الإسكندرية- الهيئة المصرية العامة للكتاب- 1979
19- معتوق فريدريك- تطور علم اجتماع المعرفة- بيروت- دار الطليعة- 1928
20- مبروك عباس- الإعلام العلمي والجمهور- تونس- المنطقة العربية للتربية والثقافة والعلوم- 1994
21- مجموعة من الباحثين السوفيات- الأخطبوط الإعلامي الدعائي- ترجمة حسين حبش- بيروت- دار الفارابي- 1976
22- المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم- الثورة التكنولوجية ووسائل الإتصال العربية- تونس- 1991
23- نصار ناصيف- الإيديولوجيا على المحك- بيروت دار الطليعة- 1994
مجلات
1- أوراق جامعية- رابطة الأساتذة في الجامعة اللبنانية- السنة الثامنة- العدد 21- 2000
2- مجلة الدفاع الوطني- تشرين الأول- 2000
3- مجلة العربي- العدد 484- مارس 1999
4- مجلة العلوم الإجتماعية- مركز الأبحاث في معهد العلوم الإجتماعية في الجامعة اللبنانية- العدد السابع- أيار- 2001
5- مجلة إنترنيت والعالم العربي- دبي- السنة الرابعة- العدد الرابع- شباط 2001
6- جريدة الحياة- 2 تشرين الثاني- 1999
المراجع الأجنبية
1- Cronkhite Gary- Communication and Awareness- U.S.A. California- 1976
2- Leach Edmund- Culture and Communication- London- Cambridge University Press- 1976
3- Leigh Star Susan- The Cultures of Computing- Blackwell Publishers- T.J. Press LTD- England
4- Mann Michael- The sources of Social Power- Cambridge University Press- London
5- Mannheim Karl- Ideology and Utopia- Routledge and Kegan Paul- London- 1979
6- Morks Greenfielt Patricia- Mind and Media- London Fontana Books- 1984
7- Porter David- Internet Culture- Routledge- N.Y. and London- 1996
8- Packard Vance- The Hidden Persuaders- David Mckay Company- Inc. New York- 19th printing- 1965
9- Ruthven Kenneth- Society and the New Technology- Cambridge- N.Y.- London- Cambridge University Press- 1986
10- Schields Rob- Cultures of Internet- Sage Publication - London - 1996
11- Smith, Cherry, Weiner - Communication and Culture - Winston -N.Y. 1966
12- Scheller Herbert- Mass Communications and American Empire- West View Press- Oxford-1992
13- Unctad - World Investment Report 1995 - U.N. New York - Geneva - 1995
[1] أنظر ميشال فاديه- الإيديولوجيا- صفحة 22-23
[2] ناصيف نصار- الإيديولوجيا على المحك- صفحة 10
[3] أنظر عبد الله العروي- مفهوم الإيديولوجيا- صفحة 9-10
[4] أنظر المرجع السابق- صفحة 29- 54- 73
[5] أنظر المرجع نفسه- صفحة 40- 42
[6] أنظر المرجع نفسه- صفحة 61- 63 والإيديولوجيا الألمانية لكارل ماركس- الطبعة الثانية- 1976
[7] أنظر كتاب كارل مانهايم- الإيديولوجيا واليوتوبيا
[8] عبد العزيز شرف- وسائل الإعلام ومشكلة الثقافة- صفحة 61
[9] برهان غليون- مجتمع النخبة- صفحة 86- 87
[10] فريدريك معتوق- تطور علم اجتماع المعرفة- صفحة 81- 82
[11] المرجع نفسه صفحة 98
[12] عبد العزيز شرف- وسائل الإعلام ومشكلة الثقافة- صفحة 13- 16
[13] أنظر أسامة أمين والخولي- العرب والعولمة- صفحة 27-28
[14] لمزيد من التفاصيل أنظر كتابنا- تقنيات الإتصال الحديثة، مقاربة ثقافية/ سوسيولوجية.
[15] أنظر فارس أشتي- الإعلام العالمي- صفحة 13
[16] علي رمال- الإعلام الفضائي العربي وإشكالية المؤثرات الإقليمية- مجلة أوراق جامعية- صفحة 68
[17] أنظر ريجيس دوبريه- علم الإعلام العام- صفحة 14- 15 وصفحات 146 وما بعد.
[18] المصدر نفسه صفحة 124
[19] أنيس مسلم- وسائل الإعلام- صفحة 177
[20] ريجيس دوبريه- مصدر سابق- صفحة 192
[21] رفيق سكري- مدخل في الرأي العام والإعلام والدعاية- صفحة 111
[22] فارس أشتي- نقلاً عن محمد خيري الوادي- دليل أجهزة الإعلام في العالم- صفحة 111- 243
[23] ريجيس دوبريه- مصدر سابق- صفحة 244
[24] أنظر المصدر نفسه صفحة 154- 155
[25] Vance Packard- The Hidden Persuaders- P.25
[26] Ibid- P.24
[27] رضا النجار- التكوين والتدريب وإعادة التأهيل في مجال تكنولوجيا الإتصالات الحديثة- المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم- صفحة 361
[28] أنظر ريجيس دوبريه صفحة 249
[29] أنظر فارس أشتي- مصدر سابق- صفحة 63- 76
[30] The Hidden Persuaders- P.263
[31] علي رمال- مصدر سابق- صفحة 82
[32] Scheller Herbert- Mass Communication and American
[33] Empire- P.30
[34] عبد الله العروي- مفهوم الإيديولوجيا- صفحة 111- 112
[35] Look Rob Sheilds- Cultures of Internet- P.7
[36] Ibid- P.260- 272
[37] مجلة إنترنت والعالم العربي- شباط 2001 صفحة 10
[38] Vance Packard- The Hidden Persuaders- P.261
[39] خليل أحمد خليل- ثقافتنا وثقافتهم بلا مواربة- مجلة العلوم الإجتماعية- صفحة 64