سياحة في الوطن

تنورين
إعداد: باسكال معوض بو مارون
تصوير: روبير مرقص

بين التنّور والنور
أرز وهياكل و«جنّات عَ مدّ النظر»...

«جنّات عَ مدّ النظر» هي تنورين التي تجمع الماضي العريق في آثارها اليونانية والصليبية وارزاتها المعمّرة، بالحاضر الجميل في لوحاتها الطبيعية ومغاورها الساحرة و«بواليعها» الآخذة بتلابيب العقول.

 

بين التنّور والنور

لفظة تنورين سريانية، وهي جمع «تنورو» اي تنّور. ونون تنّورين الأولى غير مشددة اصلاً، ولا يوجد شدة في السريانية لذا فتنّورين هي اصلاً تنورين (Tanourine).
أما باللغة العربية فهي مضارع فعل أنار اي أضاء، فإذا اعتمدنا السريانية، اشبعت تنورين الجوع بأرغفتها وخيراتها، وفي العربية، أنارت النظر والعقل.
تحتلّ تنورين موقعاً مركزياً بالنسبة لمحيطها وعلى مساحة جغرافية توازي 3 في المئة من مساحة لبنان. ففي الشمال تمتدّ من دوما وجبل فغري الى حدود اليمونة، ومن حدود العاقورة الى حدود بشرّي وحدث الجبّة.
وتقع البلدة بين واديين في لبنان، وادي القديسين ووادي نهر ابراهيم (نهر ادونيس) وبين أفقا وأرز الرب.
وهذا الموقع المميّز يؤهلها لأن تكون مركزاً سياحياً ومحطة انطلاق وتجمّع بالنسبة الى زوار المنطقة بأكملها. كما انها تشكّل مركزاً ثقافياً تلتقي فيه الهيئات الفكرية والأدبية والفنية من مختلف القرى والمناطق المحيطة.
وتقسم تنورين الى قسمين، الفوقى والتحتى، يتباين فيها العلو وعدد السكان، فتنورين الفوقى مصيف، أما التحتى فمشتى ومصيف في آن واحد وتقع بين نهرين.
وتضمّ تنورين عدة قرى صغيرة: حوب ووطى حوب التي تشكل منتزهاً للبلدة يلتقي فيه الشباب والصبايا، تحت السنديانة العيقة. وكلمة حوب تعني الحب بالسريانية، وهي ايضاً الدير مثوى الراهب المنقطع الى الله، أما كلمة وطى فمعناها الأرض المنخفضة، أما شاتين فتعني الدوالي، وبلعا (مصيف شاتين) يعبر عنها اسمها فهي تحوي الكثير من البواليع.
ومن قرى تنورين ايضاً، الحريصة، والاسم كلمة عربية فصحى تعني الحرص والحراسة، ووادي الجرد الذي يزخر ببساتين الفاكهة وحقول الخضار. ويبقى اللقلوق، المنطقة المشهورة بالسياحة الشتوية حيث تمارس فيها رياضة التزلج وسط المناظر الخلاّبة.
تنورين جنّة مثمرة تنتج أطيب الفاكهة ومنها التفاح والكرز والإجاص والدراقن، ومن الخضار تنتج البلدة البندورة، والكوسى، واللوبياء، والملفوف، وأنواع الحبوب الخضراء كافة.
وتنورين حديقة ملوّنة بأجمل الزهور، ففيها الورد والياسمين والبيلسان والبنفسج والفلّ والمنتور والقرنفل والزنبق والاضاليا وبخور مريم والخزامي وكثير من الزهور المستوردة.  
تتعدد مصادر المياه في تنورين من ينابيع وعيون وخزّانات ترابية. ففي منطقة حوب وعين الراحة وبلعا تكثر الينابيع، اما اكثر الخزّانات فتقع في اللقلوق. كما تشتهر المنطقة بمياه معدنية تحمل اسم البلدة وتنبع من واديها.

 

آثار العصور القديمة

في تنورين آثار كثيرة، ففي وطى حوب، بالقرب من مزار للسيدة العذراء منحوتة قديمة تمثّل رجلاً واقفاً بين صغيرين، ويصف الباحث رينان هذه المنحوتة لكنه لا يعيدها الى حقبة معينة.
وتضم البلدة هيكلين يونانيين الأول في تنورين الفوقى والآخر في اللقلوق.
هيكل زوش في تنورين الفوقى ذكره الخورأسقف يوسف داغر في كتابه قائلاً: «منذ سنتين (اي العام 1936) نبش الفعلة قرب بيت الخوري سمعان مطر، بقايا هيكل فيها الحجارة المتقنة النحت وجرن كبير في وسط فسحة مبلّطة حولها مقاعد من حجر. ووجدت بين الأنقاض ايقونات منها ما نقش عليه اسم الاسكندر ورمز الإله المشتري في يمناه رمز الصاعقة، وفي يسراه صولجان. ومنها ما كتب عليه: اسكندر الملك، والإله، والأب العطوف... ومنها ما نقش عليه اسم سلوقس، ورأس متوج، وأبولون عريان قابض على حربة، ومنها ما كتب عليه اسم انطيوخس، المكلل بالغار، والمشتري، ومنها ما صوّر عليه إله الحظ نافخاً البوق...».
وحسب هذا النص وما تحمله الأيقونات من اسماء ورموز فالهيكل يوناني وشيد في ذلك العهد.
وفي اللقلوق معبد يطلق عليه اسم سيدة زويلة، وهي كلمة اعجمية مركبة من جذرين: الأول يوناني "Zoe" اي الحياة، والثاني فينيقي «إيله» وهو مؤنث إيل، الإله الفينيقي. فزويلة تعني إلهة الحياة أي عشتروت المعبودة في أفقا، وسيدة زويلة هي عشتروت نفسها، فعشتروت، لدى اليونان تطابق الإلهة افروديت. وقد رأى الفاتح اليوناني ان يبني معبداً لعشتروت وأفروديت معاً، لأنهما إلهة واحدة، فاستنبط كلمة يونانية - فينيقية تجسّد هذه الوحدة. اما الدافع لذلك فهو تكريم الالهة واستيعاب اهل البلد.

 

مرقب يرصد اعداء الطبيعة

بنى الرومان في لبنان معابد كثيرة إلاّ ان ما تركوه في تنورين كان اثرين ليس بينهما معبد: الأول هو مرقب عيتموت الذي يقول الخورأسقف داغر عنه: «في غيمون، شمالي دير حوب، سور كبير يطوّق القمة، وفوق القمّة آثار مرقب لم يزل قسم من جدرانه قائماً، وركام الحصن المتهدّم يغطي سفح الجبل والحجارة منحوتة، وهناك عتبة عليها رسم بشريّ، وحجر عليه اسم ادريانوس قيصر، وقد ذكر رينان، في كتابه (بعثة فينيقية)، قلعة غيمون».
كان هذا البناء على ما يبدو مرقباً يطل على ما يجري في منطقة تنورين ويتصدّى لمن يقدم على قطع اشجار محرّمة، لا حصناً يرد هجمات الأعداء.
وفي منطقة تنورين، عدد غير قليل من هذه الكتابات (وادي تنورين، ومنطقة حوب، وحزريتا، وعين الحمرا، وسهلة غيمون والحريصة).
وفي اللقلوق، وراء مدخل القبور صخرة ضخمة كتب عليها ما ترجمته بالعربية: «ملك الامبراطور ادريانوس اغسطس في سنة ملكه العشرين، هوكايوس، وكيل اغسطس المنادى به امبراطوراً للمرّة الثانية، الذي حفر هذه الكتابة».
وثمة كتابة اخرى موجودة في اماكن متعددة كاملة أو ناقصة، وترجمتها بالعربية: «أربعة انواع من الشجر، والأنواع الأخرى للأفراد». اي يمنع قطع اربعة انواع من الأشجار بينما يجوز قطع الأنواع الأخرى. ولا يوجد في الكتابات ذكر لأنواع الأشجار الأربعة التي تمّ تحريم قطعها.

 

الحصن الحصين

عن رابية الحصين في اللقلوق تحدث الخورأسقف داغر قائلاً: «فوق رابية الحصين تجد حجارة ركام منحوتة، وبعض مداميك قائمة، وترى لجهة الشمال، بوابة تدخل منها الى ممشى على جانبيه بقايا غرف متعددة، وينتهي هذا الممشى أمام صخر تعلوه آثار البرج. ولقينا في الأنقاض ايقونة عليها اسم الالهة ايزيس، ولها قرنان، وفي يدها شراع نفخته الريح. وقرأنا ايضاً فيها كلمة بيبلوس مدوّنة بالأحرف اللاتينية. وثمة حوض يجري إليه الماء من محل بعيد وكان هذا الحصن ممتداً الى السهل المجاور لكن الفلاحين هدموه».
اليوم تبعثرت حجارة الحصن المنحوتة على جوانب الطرقات المستحدثة. ومن المرجّح ان هذا الحصن كان مرقباً شبيهاً بمرقب غيمون، يطلّ على منطقة اللقلوق ويتصدّى لمن يحاول قطع الأشجار الأربعة المحرّمة.
ومن الحقبة الصليبية، كنيسة تنورين على اسم القديس شليطا والتي ما زالت قائمة (في تنورين الفوقى)، وهي على طراز تلك الحقبة، لها بابان ومذبحان، احد المذبحين لمار شليطا والآخر لمار جرجس.
وفي تنورين كنائس واديار كثيرة وهي تتوزع على أنحاء البلدة والقرى التابعة لها. ويكاد العدد يصل الى 25 بين كنيسة رعائية واخرى صغيرة او مهجورة. ففي تنورين التحتى كنيسة رعائية على اسم القديس مار انطونيوس الكبير. وفي الوادي كنيسة مار يعقوب الجديدة، وفي وطى حوب كنيسة مار ضوميط الرعائية وكنيسة سيدة الحارة الحديثة، وهنالك كنيسة سيدة البشارة في شاتين وكنيسة مار سركيس الجديدة في بلعا، وكنيسة على اسم سيدة الانتقال في تنورين الفوقى.
وفي منطقة حوب دير كبير على اسم القديس انطونيوس الكبير يعود تاريخ بنائه الى ما قبل العام 1500، وكان حينها على اسم السيدة العذراء (سيدة العفصة). وبعد فترة طويلة أتى ثلاثة رهبان، واقترحوا نظاماً لرهبانية جديدة فأقاموا في الدير القديم، واضافوا اليه غرفاً جديدة وكبّروه واصبح على اسم مار انطونيوس الكبير وذلك في العام 1787.

 

مغاور في البلدة

تزخر تنورين بكمية كبيرة من المغاور والبواليع، التي اثارت اهتمام المنقبين الجوفيين فأجروا دراسات حولها. وأهم مغاور تنورين:
- مغارة الرهوة وهي كبرى مغاور تنّورين، تعلو عن سطح البحر حوالى 2155 متراً، من مدخلها يخرج نبع (مصدره عمقها). يستعصي اجتياز المغارة على غير المحترفين، وصخورها ذات تعقدات متنوعة وجميلة.
- مغارة اللقلوق او مغارة مفيد تقع في منطقة تدعى «تمّ القبور»، وعلى مدخل المغارة قوس طبيعي نصف دائري يعلو حوالى متر، يلي المدخل سرداب بطول 55 متراً يبدأ بارتفاع 20 متراً، لينتهي بارتفاع متر واحد. في نهاية السرداب قاعة بطول 15 متراً وعرض 15 متراً وعلو 10 امتار، وتنحدر المغارة من اولها الى آخرها بزاوية 30 متراً وبطول 130 متراً وفي داخلها تعقدات وهوابط مزخرفة وجميلة.
- مغارة نبع الشيخ، تبدأ بسرداب طوله 30 متراً وتليه مسافة بطول 25 متراً وعرض مترين ونصف المرة، وتحتوي كمثيلاتها على تعقيدات وصواعد وهوابط جميلة.

 

بواليع تنورين

أهمّ البواليع وأضخمها، بالوع بعتاره الذي يبلغ عمقه 255 متراً ويقسم الى أربعة أقسام، أولها (وهو الأعلى) 90 متراً، وهو عبارة عن 3 جسور مركبة. وتتوالى الأقسام الباقية مؤلفة برك ماء وسراديب وهوّات وقاعات.
بالوع المحبسة عمقه 60 متراً (تابع لبالوع بعتاره)، سمي كذلك لأنه يشبه المحبسة وفيه سرداب وهوّتان ومقعران.
ويقع شمال بالوع بعتاره على مسافة حوالى 300 متر منه بالوع آخر يدعى بالوع جورة العبد، عمقه الاجمالي 244 متراً يتميز بسعته وكثرة تعقداته الكلسية وجمال المناظر في داخله.
بالوع المغراق ذو الهوة الواسعة عمقه 55 متراً وله منحدر بطول 100 متر، وهوة صغيرة بعمق 25 متراً وسرداب بطول 70 متراً.
آخر البواليع عين رومة التي كانت تدعى عين الرامة وهي مستنقع يتجمع فيه الماء. وقد اعتبرت هذه العين عجائبية في وقت من الاوقات. وحقيقة الأمر ان هوّة صغيرة تجاور حوض ماء وتتصل به عبر فتحة صغيرة. فإذا ما استخرج منها الماء، ملأها مجدداً الحوض المجاور.

 

عائلات تنورين

يبلغ عدد سكان تنّورين حوالى 40 ألف نسمة يتوزعون على العائلات التالية: حرب، مراد، الشاعر، يونس، طربيه، داغر، مطر، غوش، رعيدي، يعقوب، كرم، قمير، فضّول، بكاسيني، عقيقي، فاضل سركيس، ابي عبدو روفايل، أبي خليل، الهاشم، بشاره، خوري، عاقوري، عزيز ابراهيم، الجميل، تنكسوري، زغيب.

 

أرز تنورين

غابة أرز تنورين قديمة قدم لبنان، ويراوح علوها عن سطح البحر بين 1500م و1800 متر، وتبلغ مساحتها حوالى 620 هكتاراً، وهي الأكبر بين مثيلاتها، اذ يقارب عدد أشجارها الستين ألفاً، بينها المعمّرة منذ الف سنة. وثمة ارزتان عمرهما حوالى 3 آلاف سنة. لكن الغابة بالمقابل تفتقر الى اشجار يانعة وفتية.
في 14 تشرين الاول من العام 1996 اصدر وزير الزراعة الأسبق المرحوم شوقي فاخوري قراراً اعلن بموجبه «غابة أرز تنورين» محمية طبيعية، لأنها تضمّ مئات الأنواع من الأعشاب والأزهار والحيوانات والطيور البريّة.

 

إنجازات البلدية

في البلدة كنا على موعد مع عضو البلدية الصحافي نبيل حرب الذي حدّثنا عن المجلس البلدي وانجازاته. قال:
حقق المجلس البلدي المؤلف من 18 عضواً برئاسة الدكتور عصام طربيه انجازات كثيرة في خلال السنتين الاخيرتين، بهدف إنماء البلدة بقطاعاتها كافة.
بداية اهتمت البلدية بتلبية الحاجات الأساسية وابرزها إنشاء أقنية للماء، وتأمين النظافة العامة وشقّ طرق زراعية وتعبيد الطرقات الداخلية وإنارتها وإقامة حيطان الدعم والأرصفة وزرعها بالأشجار، وتنظيف قنوات المياه، مع السهر شتاء على عدم انقطاع الطرقات بالثلوج. كذلك اهتم المجلس البلدي بالترويج السياحي للبلدة عبر إقامة مهرجانات غنائية ضخمة تكريماً لكبار الفنانين وإحياء سهرات فولكلورية مع عشاء قروي، وإقامة المسيرات السياحية والبيئية والدورات الرياضية.
وساهمت البلدية في دعم الأنشطة الثقافية من محاضرات ومهرجانات شعرية كبيرة، وإقامة مسرح للأطفال، إلى تعزيز التواصل مع أبناء البلدة المغتربين في كل أقطار العالم والذين قدموا مساهمات كبيرة في تنمية بلدتهم ووطنهم.
وبالتعاون مع الهيئة اللبنانية للتخطيط والإنماء ينظّم المجلس البلدي احتفالاً بعيد الجيش في كل عام تقديراً منه للجهود التي تبذلها المؤسسة العسكرية، في سبيل الوطن وابنائه.
ولم يغفل المجلس البلدي تحقيق اي نشاط ثقافي، او ديني او اجتماعي، او سياحي، او رياضي، او تنموي من شأنه تحسين البلدة وجعلها بلدة نموذجية بكل ما للكلمة من معنى، خصوصاً ان الله حباها بمناظر طبيعية خلاّبة وبأرض مباركة وهواء بعيد كل البعد عن التلوث من اي نوع كان...».
تنّورين العريقة بقيت عالقة بأذهاننا بمناظرها الخلاّبة وطبيعتها القاسية في انحاء، والغنّاء في انحاء اخرى. هذا المزيج الرائع من الألوان والتناقضات جعل البلدة ذائعة الصيت على أكثر من صعيد في الوطن وفي العالم كله.

مرجع: مدينتي تنورين - يوحنا قمير