متقاعد يتذكر

توفيق أبو عسلي
إعداد: جان دارك أبي ياغي


الخيل وميادين الفروسية والمالكية تعرفه... ولخبرته أجيال تشهد
بقامة ممشوقة وأناقة تعكس شخصية عسكرية رزينة، أطلّ حاملًا على منكبيه أربعة وتسعين عامًا، بذكرياتها وأحداثها التي ما زالت حاضرة مشرقة تنساب على لسانه صورًا وحكايات، وكأن الماضي بضعة أيام وليس عدة عقود...
إنه المعاون أول المتقاعد توفيق أبو عسلي الذي تدين لأياديه البيضاء مئات الخيول التي عالجها على مدى عشرات السنين، والذي ما زال الكثيرون في أوساط الفروسية اللبنانية يستشيرونه للإفادة من خبرته الطويلة في هذا المجال، ناهيك عن إسهامه في ظهور العديد من نوادي الفروسية في لبنان.


هويته
هو من مواليد 21 حزيران العام 1921 في قرية مجدل شمس في الجولان المحتل. في العام 1925 قامت ثورة سلطان باشا الأطرش ضدّ الفرنسيين وامتدت إلى مجدل شمس، فحمله شقيقه الأكبر مع شقيقته الصغرى، وكان له يومها من العمر أربع سنوات. قصدوا قرية اسمها جبانة الزيت مع كثيرين نزحوا إليها ثم تفرقوا. بعضهم قصد شبعا وبعضهم توجّه إلى القنيطرة أو الشام أو مرجعيون أو إلى بيروت. وبيروت كانت وجهة أبو عسلي وإخوته في العام 1932. سكنوا في منطقة المصيطبة ثم حصلوا على الجنسية اللبنانية واستقروا في لبنان.

 

البدايات
تطوّع توفيق أبو عسلي في الجيش العام 1939 أيام الإنتداب الفرنسي، وكان من بين المتطوّعين اللبنانيين العشرة (إلى جانب عشرة من السوريين)، الذين اختارتهم مديرية الطب البيطري في الجيش الفرنسي لتدريبهم نظرًا إلى حاجتها لعناصر يتولون معالجة الخيل والبغال في فرق الجيش. وقد تعلّموا أصول هذا الطب خلال فترة ستة أشهر.
كانت المدفعية آنذاك تجرّ على ظهر البغال لأن الشاحنات والسيارات كانت نادرة جدًا. في مرحلة لاحقة التحق ورفاقه بمستشفى الطب البيطري حيث تدرّبوا عمليًا على كيفية معالجة الخيول المصابة بالأمراض المعدية وغير المعدية، خصوصًا في فترة الحروب. وبعد ثلاثة أشهر من التدريب خضع لامتحان ورقي إلى رتبة brigadier (أي عريف اليوم)، وبعد أربعة أشهر رقي إلى رتبة marechal des logis (أي رقيب) بعد أن نجح في امتحان آخر.

 

أبرز المحطات العسكرية
في العام 1940، شُكّل إلى فوج القناصة الثالث اللبناني الذي كان يتمركز في انطلياس. ومن ثم عاد إلى مستشفى الطب البيطري في بيروت ومنه إلى كتيبة الخيالة الثالثة في حمص، فإلى القصير حيث مستودع الخيول.
عندما دخلت قوات من الجيشين البريطاني والأسترالي إلى دمشق وبدأت بالتقدم نحو حمص، جاءت الأوامر بالإنسحاب مع الجياد إلى ثكنة بعلبك، وعندما وصلها أصابه المرض فنقله الطبيب البيطري الفرنسي في سيارة صحية إلى مستشفى شتورة الميداني حيث كانت تعالج الحالات الطارئة، بينما ترسل المستعصية منها إلى بيروت، وهذا ما حصل له بعد أيام. نقل توفيق أبو عسلي إلى المستشفى العسكري في بيروت (مكان السفارة الفرنسية اليوم)، حيث مكث فيها أربعة أيام. وعندما تماثل إلى الشفاء زار مستشفى الطب البيطري في بيروت وطلب العودة إلى ثكنة بعلبك، فتمنوا عليه البقاء في المستشفى لحاجتهم الماسة إلى خبرته في معالجة البغال والجياد التي كانت تصل من الجبهة الجنوبية مصابة بشظايا نتيجة المعارك. في تلك الأثناء، أعيد تشكيل القطع اللبنانية ضمن الجيش الفرنسي وطلب من الجميع الإلتحاق بالتجمّع الذي أقيم في منطقة الشياح حيث تمّت عملية الفرز وتشكّلت قطع جديدة. على أثر ذلك، شكّل توفيق أبو عسلي إلى مستشفى الطب البيطري في دمشق، ثم نقل إلى حماه حيث التحق بالفوج السابع لجيوش المشرق لفترة قصيرة، عاد بعدها إلى مستشفى الطب البيطري في دمشق.
في العام 1943، قدّر له أن يعود إلى الفوج السابع الذي انتقل من حماه إلى بيروت في مهمة أمنية بسبب انشغال القطع اللبنانية بتنفيذ مناورات في عين الصحة وضهر البيدر وحمانا وقبيع والجبل...

 

معركة المالكية
في محطة أخرى من حياته، رافق توفيق أبو عسلي أفواج القناصة وفرق الخيالة التي كانت متوجهة لإجراء مناورة في فلسطين بقيادة المقدم الفارس حبيب سمعان. وهو يروي أن الموكب انطلق من الميه وميه قرب صيدا إلى النبطيه فمرجعيون والمطلّة ثم حولا، ليمضي الليل في فرّاديا (قرية فلسطينية قرب صفد). ومن شدة التعب، أصيب حوالى 14 من الجياد بالمرض المعروف باسم الإحمرار – التشبيكة (forbure)، الذي يصيب عادة القوائم الأمامية للجواد فلا يعود قادرًا على الاستمرار في المشي. يومها عالج الجياد بسحب الدم وبِحقن وضادة للحساسية (لم تعد تستعمل اليوم)، ثم جعلها تمشي في مياه نهر صغير لتبريد قوائمها. وقد نجحت المعالجة وشفيت الخيول خلال 72 ساعة وشاركت في المناورة.
ويتذكر أبو عسلي معركة المالكية (1948) التي شارك فيها الفوج الثالث بقيادة الزعيم الحسامي وكان في عداد المشاركين العميد فرانسوا جنادري (كان يومها تلميذ ضابط). جنادري كان شجاعًا لا يهاب الموت يقول أبو عسلي، ويضيف: في أحد الأيام طلب مني استخدام البغال لتحميل الذخيرة، وقد كان قراره مبنيًا على المعطيات الميدانية. يومها عادت وحدات الجيش اللبناني منتصرة من المالكية ونالت ميدالية فلسطين من قيادة الجيش.

 

فوج النقل وفريق الفروسية
بعد عودته النهائية إلى بيروت، شارك في مناورة في سد القرعون (البقاع الغربي) كطبيب بيطري مسؤول عن الطبابة ومراقبة جودة اللحوم. ثم عاد إلى بيروت ومنها إلى طرابلس حيث تمركز فوج القناصة الثاني في خان العسكر مكان فوج جيش المشرق الذي انسحب إلى سوريا. وعندما انسحب الجيش الفرنسي من ثكنة القبة أخذ مكانه الجيش اللبناني، هناك خدم أبو عسلي أربع سنوات، انتقل بعدها إلى ثكنة إميل الحلو في بيروت حيث كانت تتمركز سرايا النقل الجبلي وحيث كان يوجد اسطبل للبغال. كانت البغال في تلك الفترة تستعمل للنقل البري، وقد سميت في ما بعد فوج النقل الذي كان بقيادة الزعيم غطاس لبكي (الزعيم كان برتبة عميد)...
في العام 1959، ألغت قيادة الجيش استعمال البغال وراحت تبيعها تباعًا. في هذه الأثناء، تأسس فريق فروسية في الجيش وتمركز في المدينة الرياضية (كانت تضم ملعب كرة قدم، ومسابح، وملعب فروسية). كان أبو عسلي الطبيب البيطري المشرف على الخيول والمسؤول أيضًا عن العناصر الذين يخدمون في هذا المركز (كونه حائزًا شهادة آمر فصيلة)، الذي بقي فيه لغاية العام 1974.
بين مطلع الستينيات ومنتصف السبعينيات واكب أبو عسلي أكثر المراحل إشراقًا في تاريخ الفروسية في الجيش. وذلك من خلال مشاركته في اختيار الجياد وشرائها ومن ثم رعايتها ومعالجتها.
بحكم وظيفته سافر عدة مرات مع ضباط كبار احتلّ بعضهم أعلى المراكز القيادية (العماد حنا سعيد، العماد فكتور خوري...) لشراء خيول أجنبية.
وفي تلك الفترة لمعت أسماء ضباط من الجيش اللبناني في ميادين الفروسية وذلك في لبنان وخارجه. ويتذكر أبو عسلي مشاركة لبنان في بطولة أقيمت في مصر (1962)، يومها تنافس المنتخب اللبناني مع المنتخب المصري الذي يضم فرسانًا دوليين.
في اللقاء الأول (أسوان) حلّ الفريق اللبناني في المركز الثالث، ثم تقدّم إلى المركز الثاني في لقاء الأقصر. وعندما حان موعد اللقاء الأخير في القاهرة، مرضت جياد المنتخب اللبناني وعانت السعال وارتفاع الحرارة. وكاد القيّمون على المباراة أن يلغوا اللقاء الأخير، لكن أبو عسلي تمكّن بفضل خبرته من معالجة الجياد، فانطلقت مع فرسانها إلى الميدان، وعاد المنتخب اللبناني محرزًا المركزين الأول والثاني (أحرزهما العماد فكتور خوري وكان يومها برتبة نقيب).


نهاية المشوار... مع التمنيات
في العام 1973 فكّرت قيادة الجيش بإلغاء الفروسية، فشكّلت لجنة من الضباط برئاسة العميد منير حمدان لإبداء الرأي، وكان أبو عسلي في عداد اللجنة كونه المسؤول عن طبابة الجياد ورئيس مركز الفروسية. يروي أنه دافع بكل قوته للإبقاء على مركز الفروسية. وقد حمل معه إلى الاجتماع عددًا من مجلة «الجندي» ليؤكّد أن جندي المشاة كان يسمّى «الفارس»، فكيف يمكن إلغاء الفروسية والتي كان الجيش المشجّع الأول لإنشاء أندية لها في لبنان؟
في العام 1974 اضطر أبو عسلي وسواه من عناصر المركز إلى الانسحاب تحت وطأة النيران التي أطلقت باتجاهه من مخيمي صبرا وشاتيلا. وعادوا بعد أن حسم الجيش الأوضاع. بعد نحو سنتين من ذلك أتت قوات الردع العربية إلى لبنان إثر حرب السنتين، وتمركزت قوى من الجيش السوري في المدينة الرياضية حيث مركز سباق الخيل. وفي أحد الأيام اشتبكوا مع الفلسطينيين ما أدّى إلى مقتل عدد من الخيل وإلى سرقة محتويات المركز. فما كان من أبو عسلي إلا أن هرّب ما تبقى من الخيل إلى منطقة الجيه ومن بينها حصان الرئيس سليمان فرنجية «عنتر»، وذلك بمساعدة العميد خليل كنعان (كان يهوى ركوب الخيل وكان يومها قائدًا للواء الخامس).
خدمة أبو عسلي في مركز الفروسية (16 عامًا) هي المحطة الأحب إلى قلبه في حياته العسكرية. وهو رافق خلالها عددًا من الضباط الفرسان الذين يشهد لهم، مثل: فكتور خوري، خليل كنعان، أنطوان ضاهر وسامي طباره ولاحقًا العميد سهيل خوري، والعميد نزار عبد القادر، وغيرهم...
في العام 1976 وفي عهد قائد الجيش العماد حنا سعيد، أحيل أبو عسلي على التقاعد حاملًا أربعة أوسمة بينها وسام الاستحقاق اللبناني (1955)، بعدما أمضى في الجيش 39 عامًا عايش خلالها أحداثًا ومحطات مهمة في تاريخ المؤسسة.
في ختام اللقاء، أسف أبو عسلي لأن الجيش ألغى الفروسية بعدما انتشرت أنديتها المدنية والتي عمل فيها بعد تقاعده.
وتمنّى على قائد الجيش العماد قهوجي إعادة هذه الرياضة النبيلة إلى الجيش نظـرًا إلى دورها المهــم في تاريخه.