مبدعون من بلادي

توفيق الباشا رجل جعل الموسيقى مجرات وكواكب تسبح في دمه
إعداد: تيريز منصور

قائد أوركسترا مميز، مؤلف موسيقي بلغ العالمية ومدّ جذور إبداعه عميقاً في التراث اللبناني والشرقي.
انه علامة جيل آمن بالتراث الموسيقي العربي وبامكانيات احيائه، وبضرورة بعثه وجعله يعيش مع العصر ومتطلباته.
إنه كاتب الموسيقى العربية، الموسيقي اللبناني توفيق الباشا. وهو واحد من «عصبة الخمسة» التي ضمت إليه: زكي ناصيف، عاصي ومنصور الرحباني، توفيق سكر وزكي ناصيف (حلّ محله عبدالغني شعبان في ما بعد). والتسمية أتت تشبّهاً بالموسيقيين الروس الخمسة: بورودين، كورساكوف، سيزار كريسوي، يوسورسكي دبلكرياف، الذين تصدّوا لتعريب الموسيقى الروسية التي وضعها تشايكوفسكي.
كان الباشا رمزاً من رموز الفن، تخرّج على يديه العديد من الفنانين والموسيقيين، وطبع ببصمته الأغنية اللبنانية والعربية، حيث ساهم في نهضتها، وتحت اشرافه سجلت الإذاعة اللبنانية أجمل الأغاني.

 

سيرة موسيقار

ولد توفيق الباشا في بيروت في العام 1924. وكان لخاله الموسيقي خليل مكنية فضل كبير في إقناع الأهل بتوجه ابنهم نحو الموسيقي، ودور أكبر في توجيه الباشا وارشاده وتشجيعه.
منذ مطلع شبابه، وعى توفيق الباشا حقيقة موهبته الموسيقية وأدرك أنه خلق ليلعب دوراً أكبر من دور عازف هاوٍ على آلة «الفيولونسيل» أو «التشيلو». فقد أيقن أنه سيكون مؤلفاً موسيقياً، الأمر الذي لا يمكن تحقيقه إلا بالعلم وبالمزيد من الدراسة...
التحق بالمعهد الموسيقي في الجامعة الأميركية في بيروت بين العامين 1941 و1944، ليعمّق دراسته الموسيقية على يد أستاذ روسي أبيض يدعى ألكسي كوغل، كما كان للفرنسي برتراند روبيار فضل كبير في تثقيفه موسيقياً وفي تلقينه دروساً في التأليف الموسيقي، شأنه شأن الأخوين رحباني اللذين تلقيا الدروس عينها على يد روبيار. وكان قد سبقهم الى ذلك زكي ناصيف.
بدأ الموسيقار توفيق الباشا رحلته مع التأليف الموسيقي متحدياً كل الصعوبات والعقبات، وفي مقدمتها ترجيح كفة الألحان الغنائية على الألحان الموسيقية البحتة لدى الجمهور العربي.
ورغم إدراكه لأهمية التأليف ووعيه الحاجة الى أوركسترا متكاملة قادرة على تنفيذ هذه المؤلفات، والى جمهور مثقف، فقد تعامل في البداية مع الواقع، فلحّن عشرات الأغاني ومئات القصائد للبرامج الغنائية الإذاعية، وأعطى اهتماماً خاصاً للموشحات الأندلسية وأشبعها درساً، حتى أصبح مرجعاً أساسياً فيها.
هذه الأعمال لم تعقه عن هدفه الأساسي أي التأليف، فكان يعمل باستمرار على المقطوعات والمؤلفات الموسيقية ويصمّمها. أعدّ بداية مجموعة من الألحان الشعبية والفولكلورية اللبنانية العربية: «عمي يا بياع الورد»، «قهوة بلدي»، «يا مايلة ع الغصون»، «زوروني»، «طلعت يا محلى نورها»، و«يا ام العباية» الخ... ثم كتب أعمالاً موسيقية أصدرها في اسطوانة تحت عنوان «فانتيزي أورينتال» (Fantaisie Oriental) وهي مجموعة جمل موسيقية من فاصل «اسقِ العطاش» تلعب فيها كمان عبود عبدالعادل دور المطرب في العمل الأساسي.
 واتبعها بثانية عنوانها «الأندلس» (Andalouse suites) بثالثة عنوانها «السجادة السحرية» (Le Tapis Magique)، وهي مستوحاة من «ألف ليلة وليلة».

 

مهام ادارية ومناصب

تولى الموسيقار توفيق الباشا إدارة القسم الموسيقي في إذاعة القدس من رام الله من العام 1949 حتى العام 1951 ليتفرّغ للتأليف الغنائي والموسيقي وقيادة الأوركسترا في فرقة باليه الشرق الأوسط». ومعها قدم أعماله على أهم المسارح في العديد من الدول العربية منها، أوبرا القاهرة، وبغداد والقدس ودمشق، وصولاً الى بومباي وكلكوتا ونيودلهي في الهند.
عاد في العام 1953 الى الإذاعة في محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية إلى حين توقفها عن البث في العام 1956. وكان من مؤسسي مهرجانات بعلبك الدولية وقائداً للأوركسترا في الأعوام 1957 و1959 و1964 و1974.
أسهم في العام 1960 في تأسيس فرقة الأنوار العالمية» التي جالت في باريس وفيينا وفرانكفورت والعديد من الدول العربية. تعلّقه بالموسيقى وشغفه بها - وهو الذي كان يقول: «الموسيقى مئات المجرات والكواكب تسبح في دمي»، دفعاه الى نقل أسرارها، حيث علّم نظم التدريس في مادة الموشحات في المعهد الموسيقي الوطني.
ترأس الفنان توفيق الباشا اللجنة الوطنية للموسيقى التابعة لليونسكو في العام 1986حتى 2000، بعدما ترأس جمعية المؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى في لبنان التي كان حتى وفاته رئيسها الفخري.
ومنذ العام 1962 لحّن أكثر من الفي قصيدة من تراث الأدب العربي منذ العصر الجاهلي حتى العصر العباسي، ومنها «ليالي شهرزاد» وليالي الأصفهاني في كتاب «الأغاني وبدائع النغم».
وألّف العديد من السمفونيات منها «الليل» المستوحاة من قصائد سعيد عقل «فوق البنفسجية: «اللامقامية». عبّر عن رفضه للاجتياح الإسرائيلي للبنان في سمفونية «بيروت 82». كما ألّف الموسيقى التصويرية لخمسة أفلام طويلة و«الانشادية النبوية» من شعر أحمد شوقي. أصدر في العام 1998 مجموعة مختارة من أعماله منها «الموشحات الأندلسية» و«الايقاع في الموسيقى العربية» و«الكمان والأرباع الصوتية».

 

المسز كوك

محطة هامة ومفصلية في مسيرة توفيق الباشا الموسيقية، وهي تعرّفه على مسز كوك سنة 1951، التي ما فتئ يذكرها ويذكر تأثيرها عليه وعلى توجهاته الموسيقية ويعتبرها نقطة تحوّل في حياته.
المسز كوك سيدة أميركية على جانب كبير من الثقافة والمعرفة، أحبّت المشرق وروحانيته وانشغلت بابن عربي وجلال الدين الرومي وغيرهما من المتصرفين. أنشأت فرقة للباليه جمعت عناصرها من إيران وجالت في عواصم العالم: الهند، مصر، ايران، البلاد العربية... الخ. كانت هذه السيدة قد أفردت في عرضها لوحة تعبيرية للمولد النبوي الشريف، وكانت تبحث عن موسيقي مسلم يضع لها موسيقى لهذه اللوحة. استمعت بالمصادفة الى قطعة موسيقية لتوفيق الباشا، وصرخت: «هذا هو». وتمّ اللقاء والتعاون بينهما.

 

الإذاعة اللبنانية والتحدي

ترك الموسيقار توفيق الباشا بصماته بقوة على الإذاعة اللبنانية، فقد تسلم فيها زمام الدائرة الموسيقية بقسميها الشرقي والغربي لمدة ناهزت ربع قرن. وأدت جهوده الدؤوبة الى تحقيق إنجازات عديدة على صعيد التجهيز والتنظيم، وهي انجازات كان لا بد منها لتنفيذ سياسته التي وضعها للإرتقاء بالأغنية اللبنانية شكلاً ومضموناً، سواءً لجهة الكلمة أو اللحن أو الأداء.
وبعد جهود مضنية مع الروتين الإداري والبيروقراطية في الوزارات المعنية، تمكن من تجهيز استوديو الإذاعة بآلات موسيقية متطورة... والتعاقد مع مجموعة من العازفين الذين يجيدون قراءة النوتة الموسيقية وكتابتها، للعزف على هذه الآلات، الأمر الذي زوّد الإذاعة بأفضل فرقة للموسيقى الشرقية في لبنان على الاطلاق، وقد استعين بهذه الفرقة في جميع المهرجانات الفولكلورية والحفلات الموسيقية الكبرى في شتى بقاع الوطن. كما ضاعف عدد أفراد الكورال العاملين في الإذاعة، وتعاقد مع مجموعة من الموسيقيين والملحنين المشهود لهم بالعلم والخبرة للعمل كمخرجين موسيقيين والاشراف على تنفيذ الأعمال الموسيقية والغنائية.
وكان يتابع عملية التنفيذ سواء بحضوره شخصياً في الاستديو أو من خلال جهاز الاستماع الذي جهزت به مكاتب جميع المسؤولين في الإذاعة.
إستطاع توفيق الباشا، بقيادته دائرة الموسيقى وبمشاركة مجموعة من الموسيقيين اللبنانيين الذين استقطبهم حوله (أمثال عبدالغني شعبان، ميشال خياط، حليم الرومي، خالد أبو النصر، أنطوان زابيطا، الياس الرحباني، يعقوب طاطيوس، والذين انضمّ اليهم في ما بعد إحسان المنذر وسليم سحاب)، أن يحقق للإذاعة السمعة اللائقة في العالم العربي.
مات الموسيقار توفيق الباشا بعد صراع طويل مع المرض في السادس من كانون الأول 2005، عن 81 عاماً، كما يموت الكثير من المبدعين، قبل أن يشهدوا من يتعرّف حقيقة الى ماهيتهم وحضورهم وعناوينهم الجمالية ودورهم الحيوي كما ينبغي.
انه من جيل المؤسسين الذين صنعوا الفن صافياً طموحاً مختمراً بتجارب حلوة واخرى مرّة. ولقد ترك الراحل للعالم عازفاً يعتبر من الأوائل على المستوى الدولي هو عبدالرحمن الباشا.
رحل الموسيقار الكبير المبدع قلقاً على «الأوبرا التراثية التاريخية أوروبا وقدموس» من تأليف سعيد عقل، والتي أمضى سنين من عمره لإنجازها، والتي لم تكن تحتاج إلا لمن يدعم إنتاجها.

 

دروع.. وأوسمة وجوائز

نال الموسيقار الكبير توفيق الباشا العديد من الأوسمة، من مصر (وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى) وثلاثة أوسمة من جمعية «باريس ساسيم»، ووسام الاستحقاق اللبناني من رتبة فارس في العام 1997، بالاضافة الى ميدالية «باريس» وميدالية الاستحقاق اللبناني الفخرية» ودروع تقديرية من مؤسسات ودول عربية، وآخرها كان في العام 2002 الجائزة التقديرية من «المجمع العربي للموسيقى»، وجائزة من «مؤتمر الموسيقى العربية».

 

توفيق الباشا سلام

رأيته أول مرة في المعهد الموسيقي عضواً في اللجنة الفاحصة لآلة العود. وأتذكر ان المقطوعة التي عرضت عليّ كي أعزفها كانت من تأليفه، وكانت قصيرة لا تتعدى نصف الصفحة من النوتة الموسيقية. لم أطمئن لنظراته منذ أن دخلت إلى القاعة، ولم أعد أتذكر كيف كانت حالي غداة خروجي منها بعد أداء الامتحان، وقد شرحت له ذلك في الأوقات الجميلة اللاحقة، كما شرحته للأديب جورج جرداق الذي طالما ذكره في صباحياته الاذاعية المشهورة «على طريقتي»، وطالما استعار وصف شاربيه للدلالة على الحدّة والمعاندة والمشاكسة والتخويف... و«دبّ» الرعب في الأعداء، وقلت له، أي للأستاذ جرداق، ان من الأفضل أن يطلق تلك الأوصاف على اللقاء الطبيعي والائتلاف التلقائي والتآلف العفوي بين عيني الباشا وبين نظارتيه، فكأنه السبع بنظارتين أو كأنه المغولي قادم لاحتلال بغداد.
وقد تأكد لي ذلك بعد حوالى عشرين سنة حين رافقته إلى القاهرة للمشاركة في مؤتمر الموسيقى العربية الثالث عشر، إذ لم تكن حدة الحوار قد فارقته على الاطلاق، وكان جاهزاً على الدوام لنقاشات «مصيرية» مع بعض أعضاء المؤتمر حول الأنغام والإيقاعات وسبل تطوير الموسيقى والعلاقة بين التراث والحداثة وجدوى العودة الى الموسيقى النظرية العربية القديمة (الكندي، الفارابي، اخوان الصفا، المهدي، زرياب..)، وعند نفاذ الصبر كان لا يتردد في حمل أوراقه والمضي، وتقف السيدة نهى، زوجته، بدورها وتلحق به، لكنها لم تكن الوحيدة، إذ كان الكثيرون يهبّون لاعتراض طريقه والاعتذار منه وإعادته الى مقعده مكرّماً، فيهدأ ويستقر. لكن فرحته الكبرى كانت حين تمّ تكريمه في دار الأوبرا المصرية، وتمّ تقديم جائزة المجمع العربي للموسيقى له، فصفق له الجمهور طويلاً فيما كان يحني الرأس امتناناً، إلا أنّ ذلك لم ينسه التكريم الذي لقيه في بيروت، حين تمّ عرض نماذج من حفلة حصلت في بلجيكا، عزفت فيها الأوركسترا الوطنية هناك مؤلفه الموسيقي «سمفونية السلام» التي عبّر فيها عن اطمئنانه لعودة الاستقرار الى لبنان غداة الحرب المجنونة التي هبّت فيه ردحاً غير قصير من الزمن.
لكنني لم أعد أذكر كيف بدأ الودّ بيننا بعد اللقاء «الامتحاني» الأول، الى ان كان منتصف التسعينيات من القرن الماضي، حين كنت أحضّر كتابي عن المطربة نور الهدى «من الأرز الى الهرم»، فكانت لي معه جلسات وحوارات، خصوصاً وانه كان من بين من لحنوا لها بعد عودتها من مصر في مطلع الخمسينيات، فكانت الحان عديدة للمسلسلات الاذاعية لصالح اذاعة BBC، وللمسلسلات التلفزيونية لصالح تلفزيون لبنان، ولشركات الاسطوانات:
- أدركت يا قلبي ما بتغيه من حلم (سعيد الهندي).
- حديث قبلة (علي محمود طه).
- ليه يضيع عهد الحنان (موفق شيخ الأرض).
- يا ليالي العمر (احمد يوسف حمود).
- يا مولعاً برسائلي (فؤادشعبان)...
وقد قدم لكتابي بقوله: «لقد جمعتنا (أنا وهو) لقاءات زودته خلالها بعض الذكريات الجميلة التي حفظتها ذاكرتي عن المطربة نور الهدى. كانت فترة تعاون مثمر ومحبب مع مطربتنا التي اكتشفت فيها الانسانة التي كنت أتهيّب اللقاء بها لذيوع صيتها وانتشار فنها، خصوصاً وانني كنت في بداية مسيرتي مع الموسيقى...».
وقد جمعتنا، توفيق الباشا وسعد سامي رمضان ومحمد كريّم وأنا، في السنوات الخمس الأخيرة، لقاءات عديدة متواصلة كنا خلالها نتشاكى في ما وصلت إليه الموسيقى العربية، عزفاً وتأليفاً وغناءً، وكان سعد أول المنسحبين من تلك اللقاءات، فودعناه، وها هو الباشا يغادر، وهذا ما دفعني مع محمد كريم الى القول: لقد دنا الأجل!
زرت توفيق الباشا في غرفته بالمستشفى مساء اليوم الأخير، (13/12/2005)، وكان في ضيق  من أمره، يشير لعائلته (زوجته وابنته ريما وحفيده) بفتح الباب، تخفيف الدواء، استدعاء الطبيب... كنت آثرت الجلوس بعيداً كي أترك له الحرية في التعامل مع الألم، لكن زوجته طلبت اليّ أن أجلس قريباً من سريره مفترضة انه سيستريح لذلك، وقد كانت الكلمة الوحيدة التي قالها لي آنذاك: شو في ما في؟ (باللهجة البيروتية الخالصة). وقد غادرته عند الساعة الثامنة. في الصباح التالي قيل لي انني كنت آخر من زاره، وانه، بعد أن غادرته بنصف ساعة فقط، توقف عن الكلام نهائياً، وبعد منتصف الليل أسلم الروح، مع افتراض انه نسي تماماً الساعات الماضية التي درّب فيها المطربة سعاد محمد على حفظ الموشح المشهور: ملا الكاسات وسقاني... يا ليل، يا ليل...

العميد أسعد مخوّل