ثقافة وفنون

توفيق يوسف عواد
إعداد: وفيق غريزي

 المبدع المتعدد المواهب

حمل في خيال محبرته صورة «الرغيف» أو «ابن المدوّر» الذي كانت تدور حوله الأفواه اللبنانية والبطون المتضورة جوعاً، فلا تجد له أثراً، نادراً، إلا في «دكدوك» قمح أو شعير. حلم أن يكون شاعراً - كاتباً، فكان له ما أراد وبرهافة أصفى من أجواء بلدته «بحرصاف» وأطيب من بلدة والدته «ساقية المسك». وفوق ذلك، كان دبلوماسياً لبنانياً مميزاً، وكتب في الصحف منذ العام 1927، انتقد التقليد في الأدب ومارس التجديد، عايش وعاصر الأخطل الصغير وخليل مطران والياس أبو شبكة وابراهيم طوقان وغيرهم، وهو أول من وصف ميخائيل نعيمة بلقب «ناسك الشخروب» وصادقه مدى العمر. من هو هذا المبدع اللبناني؟ انه الروائي والقاص توفيق يوسف عواد.

 

حياته وبداياته ونهاياته

ولد توفيق يوسف عواد في قرية «بحرصاف» قضاء المتن في 13 شباط عام 1911. بدأ دراسته في مدرسة القرية «تحت السنديانة» على يد رئيس دير مار يوسف، الذي كان يلقن الفرنسية إلى جانب العربية، ومن هناك انتقل إلى مدرسة اليسوعيين في بكفيا، حيث قضى سنتين أو ثلاث سنوات. تابع دراسته الثانوية في «كلية القديس يوسف» في بيروت حيث نال شهادة البكالوريا العام 1928 وبعد أن تخرّج من الكلية، انصرف إلى الكتابة في الصحف، فكتب في «البرق»، لصاحبها الأخطل الصغير، وفي «البيان» لبطرس البستاني، وفي «الراية» ليوسف السودا، وفي جريدة «النهار» لجبران التويني.

أول مقال ظهر له بعنوان «أخي الذي مات» في مجلة «العرائس» لعبد الله حشيمه، وقد شجعه على الكتابة هذا الأخير والأب روفائيل نخلة اليسوعي، وأول عمل مرموق دشن به حياته الأدبية محاضرة عن الزجل اللبناني ألقاها عام 1929 في جمعية مار مارون الخيرية. وتولى خلال ثمان سنوات سكرتيرية التحرير في جريدة «النهار»، منذ تأسيسها على يد جبران تويني وكتب فيها زاوية بعنوان «نهاريات» تحت اسم مستعار هو «حمّاد». أثناء عمله في النهار، تابع دراسة الحقوق في الجامعة السورية، استكمالاً لثقافته العامة، فكان يقصد دمشق يومين أو ثلاثة في الأسبوع ونال اجازة الحقوق عام 1934. وكان قبل عام قد تزوج السيدة أورطنس خديج، ورزق منها أربعة أولاد هم: ربيع، سامية، هاني، وجومانا.
في بداية عهد الاستقلال التحق توفيق يوسف عواد بالسلك الدبلوماسي فعيّن قنصلاً للبنان في بوينس ايرس (1947-1949)، ثم عيّن مستشاراً لسفارة لبنان في طهران (1950-1953)، فقائماً بالأعمال في مدريد (1954-1956)، فوزيراً في سفارة لبنان في القاهرة (1957-1959). عام 1969 عين سفيراً في طوكيو، ثم سفيراً في ايطاليا عام 1972. استشهد إبان الحرب اللبنانية، جراء قذيفة استهدفت منزل السفير الاسباني عام 1989.
مؤلفاته: الصبي الأعرج، قميص الصوف، الرغيف، العذارى، قصص، السائح والترجمان، وطواحين بيروت.

 

بين الخير والشر

قرأ توفيق يوسف عواد كثيراً من الكتب في مقتبل عمره، ثم انقطع عن القراءة إلا لماماً خلال الخمس والعشرين سنة التي تلت تلك المرحلة، على أن هناك كتباً معدودة على الأصابع كان يعود إليها، ومنها التوراة، والقرآن، وروائع الأدب العالمي لشكسبير وموليير ودستويوفسكي ومونتريامون. كما حضر في مختلف عواصم العالم مسرحيات كثيرة، وقرأ مسرحيات أخرى أحب منها بنوع خاص مسرحيات جان بول سارتر وألبير كامو الوجودية.
لم يعرف عواد ما هو تحديد المدرسة الرمزية، ولا تهمه المدارس الأدبية مهما تنوعت وتلبست من أسماء ونعوت. أما حديث الحب في كتاباته فمليء بالرموز وكذلك سائر الأحاديث. فالأدب بل الفنون لديه ليست في حقيقتها إلا تعبيراً بالرموز، سواء أكان حرفاً، أم صوتاً، أم لحناً.

وبالنسبة إلى الانسان الحائر بين الخير والشر، يعرض عواد حكاية الأخوين السياميين اللذين ولدا ملتصقين، وقضيا حياتهما، فتزوجا ونسلا، وطافا العالم في سيرك يتفرّج عليهما الناس في كل بلدان العالم، ثم مات أحدهما، فكانت أفظع مأساة عرفها انسان، إذ حمل الأخ الحي جثة أخيه الميت ساعات كانت أطول من دهر، ثم لحق به لأن أعضاء الاثنين كانت مشتركة. لقد شبه عواد الخير والشر في الإنسان بهذين الأخوين، والإنسان بينهما، ضحية شقية.
وحسب رأيه، يرقص الزمان ويغني، عندما يكتشف الانسان الإله الحقيقي في نفسه، أي الحب الشامل، وهو النقطة العجيبة التي تتوسط دائرة الكون. النقطة التي هي المصدر والمآل.

ويؤكد عواد أن الإنسان واحد في الفرد والمجتمع وفي السلم والحرب، والبشر في ما بينهم أخوة سياميون مربوط بعضهم ببعض بنياط القلوب، والأحياء يحملون الأموات جثثاً في أرواحهم. لذلك، يقول رجل المريخ: ليس للفرد مصلحة في غير مصلحة أخيه أو قريبه، وليس لأي مجتمع، أو أية أمة مصلحة تختلف عن مصالح غيرها من الأمم، فالسلام بين الإنسان ونفسه، هو السلام بينه وبين الآخرين أفراداً ومجتمعات، وهذا هو الخير الأسمى.
نماذج من أدبه ونثره

يشير الروائي توفيق يوسف عواد إلى أن قصة الصبي الأعرج هي من النوع الأدبي الأكمل في اتساعه لمراده. فالقصة إذاً هي اليوم - ونستطيع أن نقول ذلك بلا حرج - المظهر الأكمل للأدب، لأنها وإن كانت نوعاً من أنواعه فهي تستوعب غرض كل الأنواع، تضم التمثيل، وتضم الملحمة، وتضم الترسّل، وتضم الشعر إلى حد ما. بل هي تمد ذراعيها فتتناول بهما موضوعات هي في الأصل من غير الأدب، كالتاريخ والفلسفة والاجتماع والعلوم، هي بعبارة واحدة مرآة الحياة بكل ما في الحياة.

وفي رواية قميص الصوف: «وكان على المرآة صورة زوجها وقبالتها صورتان: الأولى لأمين وهو في العاشرة من عمره يحمل كتاباً، والثانية له ولأوديت يوم العرس. يا له شبهاً غريباً بين أمين وأبيه». وجعلت الأرملة تنظر إلى زوجها وإلى ولدها حيناً بعد حين، والشاربان المعقوفان المرتفعان بزهو يتنقلان من وجه الأب إلى وجه الابن، ثم يعودان إلى الأب، ثم يقفزان ويلتصقان بالابن.

ومما جاء في العذارى: «أما كيف تزوجت أنا وترهّبت صديقتي أمران لا أدري منهما شيئاً. ولكني أقصّ عليك كيف ماتت رفيقتنا: في ذلك الصباح، استيقظت الأقاحي مبكرة في مروج قريتي العالية الجاثمة على كتف الوادي. وما كادت تفتح أجفانها حتى هبّ النسيم من السفح وذرّت الشمس من وراء الجبل، فارتعشت مكسال تحت حمّام الهواء والضياء، ونصبت أخرى عنقها إلى الدروب المتعرّجة التي تشق بساط الربيع، وقالت لأختها: أنفضي ندى الليل عنك، وقومي. سيأتي الصبيان ذوو الشعور المبعثرة والصبايا ذوات الأقدام الناعمة، فيسألك الصبي، أيترهب أم يتزوج؟ وتسألك الصبية أتتزوج أم تترهب، فماذا تجيبين؟

مسرحيته «السائح والترجمان» جمعت بين الشعر والنثر، ولكنه شعر على طريقة خاصة، وفي هذا المجال يقول عواد: «أنا لست من المحافظين على قواعد الشعر العربي، كما قصدها الخليل بن أحمد الفراهيدي. ولست من أنصار الشعر المنثور، أو قصيد النثر. لقد وضع موليير على لسان المسيو «جوردان» في مسرحية «البرجوازي النبيل» هذه العبارة: «أصحيح انني أصنع نثراً من دون أن أدري؟». أنا أعتقد أن كلامنا يصنع النثر والشعر معاً، من  دون أن يدري. ينطق نثراً في مواضع النثر، وشعراً في مواضع الشعر، عفواً، بلا قصد، ولا سابق انذار وتصميم. فهو يخضع في الأمرين للموقف الذي هو فيه. لغة الحب شعر، لغة الحنان والغفران شعر، لغة الغضب والحقد شعر، لغة التمزق واليأس شعر، الصلاة شعر، والتجديف شعر، أما الكلام عن المشي والقعود، والبيع والشراء، والعمل، والمكتب الخ.. فهو نثر». ويهدف من وراء ذلك إلى أن التعبير الطبيعي بالنطق لا يمكن أن يكون نثراً فقط، أو شعراً فقط، وإنما هو مزيج من الاثنين. ومسرحيته فريدة من هذه الناحية في جمعها النثر والشعر، على أن وراء النثر في هذه المسرحية خيطاً دقيقاً من الشعر لا ينقطع.
وهـذا الكتاب مزيج من القصة والمسرح والملحـمة، ولا يستطيع عواد أن يردّه إلى نوع معيّن من هذه الأنواع، فقد انبثق منه كما ينـبثق اليـنبوع، وانفـجر كما ينفجر البركان: كلاماً بعد سكوت، حواراً مع الدهر، على أن بالإمكان إخراجه مع بعـض التصرّف بشـكل مسرحية، شـرط توفـر الممثـلين الذين قـال في الكـتاب نفسه أن المطلوب أن يكونـوا على مـستوى الآلهة الذيـن في الإنسـان. وهـو بانتــظار فرقـة الآلهـة هـذه.

وبالنسبة إلى «طواحين بيروت» يأخذ من عبد الله القصيمي قوله: «لماذا يموت الصباح وتنتحر الشموع؟»، انه يدخل بيروت من أبواب طواحينها «أو كوابيسها عند غادة السمّان». بيروت الحرب الأهلية الدامية المدمرة، لا بيروت الصحافة والثقافة والجامعة والتجارة التي عاشها في أحلى أيامها كما يقول الدكتور خليل أحمد خليل: «مكتبة انطوان - باب ادريس - وتميمة تقلّب المجلات بانتظار هاني. كان قد ضرب لها الموعد في جوابه. بادرها لدى وصوله: الحق على العطلة وعلى الطلاب. لم يتظاهروا منذ زمان، ولا ضرب أزعر بحجر. فضحكت من قلبها. ما أشد ما كانت تحتاج إلى الضحك».
وللأديب توفيق يوسف عواد ديوان شعر يحمل عنوان «قوافل الزمان» أو قصائد البيتين.
وفي قصيدة «عرّيت روحي» يقول:
«تعرّوا وقالوا قم تعر ّ وكيف لي
قيامي إلى شيخوختي ومسوحي
ولكنني عرّيت روحي وجئتهم
أمرّغ في ضحك الطفولة روحي».
وفي قصيدة «ما بعد القبر» يقول:
«وخلف صقيع القبر لي دفء منزل
عمرت بأضلاع الذين رعوا ذكري
له شرفات من جفون قريحة
تطل على الأشواق، دهراً على دهر».

توفيق يوسف عواد هو ناثر، وشاعر، وصحافي، وكاتب قصة ورواية ومسرحية ومقالة، بلا تفاوت. «هو من أبلغ مجدّدي الكتابة العربية في عصره. وهو في وصفه لإنسان القرية وإنسان المدينة، في قصصة ورواياته، يصوّر الإنسان في كل مكان. نرى أبطاله في وجوه الناس ومن حولنا، نعايشهم في أفراحهم وأتراحهم ونشاطرهم صراعهم مع القدر ومن هنا كان تأثيره البالغ وقيمته الباقية».