تأملات

ثقافة
إعداد: العقيد الركن حسن جوني
كلية فؤاد شهاب للقيادة والأركان

الانتظام في الصف... والمجتمع


إن مشهد الانتظام والوقوف في صفٍ أمام متجرٍ أو مصرفٍ أو أي مؤسسة عامة أو خاصة هو أبلغ تعبيرٍ عن حضارة الشعوب ورقيها. واذا أردنا تحليل الأبعاد النفسية والإجتماعية لهذا المشهد لوجدنا ما يلي:
 

اولاً: بشكل عام يختصر هذا المشهد حالةً من الانضباط العام من شأنها أن تسهل شؤون الحياة للجميع، وتسمح لكل شخص بالقيام بعمله بالشكل اللازم في منظومةٍ دقيقة ومنسقة.

 

ثانياً: إن هذا الانتظام يحفظ حق كل شخص منتظم فيه مهما كان ترتيبه، فيشعر أن كل لحظة تمر، تقرّبه من مراده، وأن احداً لن يتجاوزه او يأخذ مكانه، وأن من يقف امامه يتقدمه بفعل القدم الزمني وهي افضلية مشروعة، ومن يليه سيبقى خلفه ولن يتقدم عليه مهما علا شأنه، وفي ذلك استقرار نفسي ثمين يسود فترة الانتظار.

 

ثالثاً: إن العلاقة بين المنتظمين ستكون أفضل وأكثر تعاضداً، لن يشوبها خلاف أو كره أو حقد أو ضغينة، إذ انّ لكل منهم دوره المقدس، وسيد الموقف هو الإنتظام وليس التسابق والتشاجر والتناحر. إذًا لا ضرورة للخلاف والتقاتل، بل يمكن التحادث والتشاور والتخاطب الايجابي وربما المزاح الراقي، ما يساعد على مرور الوقت من دون الشعور بأي ملل او إنزعاج، ليصل كلٌ الى مراده ثم يعود الى بيته أو عمله او أي مكان آخر يكمل حياته السعيدة بأعصاب هادئة ونفسية مرتاحة، فكل أمور الحياة منتظمة وتسير كما عقارب الساعة.
في المقابل تعالوا نحلل الأبعاد ذاتها لمشهد الفوضى وعدم الانتظام بغض النظر عن المكان. تخيل أن تقف في صفٍ متوتر تحكمه الفوضى ويحركه التدافع والتناحر فتتملّكك حالةٌ من القلق والتوتر، وتبحث عن طريقة لتحفظ حقك من دون أن تتورط بما يحرجك فيخرجك عن أدبياتك.
تخيّل أنك قد تكون قريبًا من مرادك ثم يأتي من يبعدك عنه بقوة التشبيح، فيكون دورك مهددًا، لست مطمئنًا لمن خلفك، الذي قد يتقدمك بقوة غير شرعية، أو قد يأتي من هو ليس من الصف اصلاً ليسقط امامك بقوة الجاذبية فيتقدمك قهرًا وينظر إليك عهرًا وعيناه تقول «روح بلّط البحر». وغالبًا ما تكون وجوه هؤلاء السيئين أكثر بشاعةً من سلوكهم، فتكتمل عناصر القرف والتقيؤ...
إنّك بذلك لا تثق بمن امامك أو خلفك ولا بالصف كله، انها حالة من الفوضى العبثية حيث الجميع يخاف من الجميع، أوجدك القدر في خضمِّها، كل شيء فيها مهدد، يسودها القلق والتوتر... الاستقرار النفسي معدوم والإشتباك قاب قوسين أو أدنى!
دورك ينتهك كل لحظة والقاعدة السارية هي التقاتل والتدافع، والغلبة للفاجرين والعاهرين الذين يقتلون بعضهم بعضًا لأن شريعة الغاب هي سيدة الموقف. أما اذا نجوت بنفسك لسبب او لآخر فالأكثر مرارةً وإيلامًا هو أن ترى الظلم والمظلومين من دون أن تتمكن من فعل شيء.
شعور القلق يتربص بك وبعائلتك التي تنتظرك وهي تعرف أنك في مغامرة قد لا تنجو منها، دورك منتهك، حقك غير مصان، لا قواعد تنظم المجتمع، لا آداب للسلوك، لا ماضٍ مطمئِن، لا استقرار في الحاضر ولا أمل في المستقبل.
إنها ليست مجرد فكرة الانتظام في صف أمام متجر أو مصرف أو مؤسسة، فهي تنسحب على انتظام مجتمعٍ بكامله، انتظامه في حياته اليومية، في الشوارع والاسواق، في المدارس والجامعات، في الملاعب والاندية، في كل مكان تلتقي فيه الناس.
إنها ليست مجرد فكرة الانتظام في صف بقدر ما هي فكرة التزام القانون، والقبول بحلول المنطق للمشكلات، والايجابية في التعاطي مع الواقع، وفكرة بناء الانسان ذي القيمة والقيم، وفكرة تطوير الذات المجتمعية وتطهيرها من فيروسات الفوضى والتخلف، وفكرة تنظيم البشر قبل تجميل الحجر!
إنها ثقافة حياةٍ راقية لمجتمعٍ راقٍ... أعشقُ أنا شخصياً البحث عنه والعيش فيه!...