متقاعدون يتذكرون

ثلاثة عسكريين يتذكرون مواجهات 16 ايلول 1972
إعداد: المعاون جهاد زين الدين و ريما سليم

العقيد المتقاعد أطناس أطناس:
كنت واثقاً بشجاعة عسكريينا وإيمانهم وحسن تدريبهم
احترقت الدبابة وسائقها رفض تركها قبل إخراج الســلاح والذخـــائر منهـا

حين تجالسهم, تشعر بنسيم عنفواني عليل وبعبق أخبار البطولة, وبرائحة التراب الأبي. وحين تتحدث معهم تأخذك رهبة الحدث وعظمة الإنجاز وأنت تستمع الى رواية المعركة, فتعرف أنه إنتصار إرادة الصمود والمواجهة على جبروت الطاغي والمعتدي. إنهم ثلاثة من أبطال جيشنا الباسل الذين سطروا أروع ملاحم البطولة والعزة, وقد كان لنا لقاء معهم وهم العقيد المتقاعد أطناس أطناس, والرقيب الأول المتقاعد اسماعيل السيد أحمد, والعريف المتقاعد أحمد هزيمة, والثلاثة كانوا في عداد أبطال معركة 16 أيلول 1972.
ثلاثون عاماً مضت, لكن ذكريات تلك المعركة ما زالت ماثلة في ذاكرة هؤلاء العسكريين الذين عايشوها, والذين من خلالها سجلوا للجيش اللبناني واحدة من أروع وقفاته في وجه العدو, حيث أجبروه على التراجع وعلى تغيير خططه بعد أن كبدوه خسائر لم يكن يتوقعها.
العسكريون الثلاثة متقاعدون منذ سنوات طويلة, غير أن الروابط التي تشد العسكري الى مؤسسته والى رفاقه ما زالت على نضارتها في وجدانهم. الواحد منهم يتذكر رفاقه الأحياء أو الذين غادروا هذه الدنيا على السواء, يتذكرهم وكأن ما عاشوه معاً وما حققوه, حصل في الأمس القريب. في هذه الصفحات نتوقف مع ثلاثة شهود عاشوا معركة 16 أيلول 1972.

الرقيب الأول المتقاعد إسماعيل السيد أحمد:
التمويه الجيد لإحدى الدبابات مكّنها من إصطياد آليات العدو
ما قمنا به كان بداعي الواجب وذوداً عن وطننا لبنان

وفاء وإيمان

العقيد المتقاعد أطناس أطناس روى حكايته عن المعركة على الشكل الآتي:
كنت آنذاك آمر سرية في موقع صور برتبة ملازم أول. ما أذكره جيداً هو أن قائد الكتيبة وكان حينها المقدم جوزف روكز أرسل بطلبي في الثامنة صباحاً ليخبرني بأن العدو الإسرائيلي يتحضر لمهاجمة مواقعنا واحتلال أراض جنوبية, وأعطاني التوجيهات بضرورة توزيع الفصائل التابعة لسريتي في القطاع الغربي المندرج ضمن مسؤوليتي, ففعلت, إذ قمت بنشر فصيلة على طريق البيّاضة, وأخرى على طريق جويا, وأخرى داخل منطقة صدّيقين. ومن ثم عملت على تمركز حضيرة دبابات على المدخل الشرقي لقانا وفصيلة على المخرج الغربي للبلدة.
بعد إنتهاء التحضيرات, وفيما كنت أراقب طريق وادي السد, وجدت أن العدو قد عبر الجسر بلواء من المدرعات فأعلمت قيادة اللواء, وأعطيت التوجيهات لفصيلة صدّيقين بفتح النار وعرقلة التقدّم.
لم يكن لدي أدنى شك في براعة عناصر سريتي وقدرتهم على مواجهة العدو رغم ضعف إمكانياتنا المادية والتفاوت الواضح في المعدات والعديـد بين العدو وبيننا. كانت ثقتي تكمن في التدريب المميز الذي تلقاه عناصرنا وفي وفائهم لقسمهم وإيمانهم بأرضهم. وبالفعـل فهم لـم يخيّبوا ثقتي, شأنهم دائماً, ومنذ إطلاق القذيفة الأولى أصيبت أول دبابة للعدو, فيما أصابت القذيفة الثانية دبابة أخرى, ما أدى الى إنزلاقها داخل بركة في منطقة صديقين.
بعد نجاح الفصيلة في عرقلة تقدم العدو, طلبت من الدبابتين المتمركزتين في المنطقة إعتماد القتال التراجعي, فرجعت الأولى بقيادة الرقيب اسماعيل أحمد الى مركزنا في قانا, فيما كانت الدبابة الثانية لا تزال على مشارف صديقين للمساندة؛ وكنت أسير أمامها في سيارة جيب سالكين طريق العودة الى أول قانا, في هذه الأثناء, ظهرت فجأة طائرات العدو في سماء الجنوب مطلقة أحد صواريخها العاملة وفقاً لنظام الأشعة ما تحت الحمراء, أي أنها تتوجه مباشرة نحو الجسم الساخن في الآلية, ولما كان الجسم الساخن في دبابتنا هو المحرك, فقد أصابه الصاروخ مباشرة, وماكان من السائق إلا أن اتجه فوراً بالدبابة نحو كرم للزيتون ولحقت به طالباً من الجميع إخلاء الدبابة التي بدأت بالإحتراق. وفيما كنا نساعد العناصر في الإخلاء, أشار العريف علي كنعان الى أن التعليمات تقضي بفك الرشاش والذخيرة وسحبها قبل ترك الدبابة, وهذا ما حصل بالفعل على الرغم من إندلاع النار فيها ومن تساقط قذائف العدو في الأرض المحيطة بنا.
بعد سحب العدة, إنطلقنا بسيارة الجيب مسرعين لنسمع بعد حوالى دقيقتين دوي إنفجار دبابتنا. لدى وصولنا عند مخرج قانا, تمركزنا في موقعنا هناك, وأدخل الرقيب اسماعيل دبابته الى موقع حيث موهها جيداً, ومن مركزه تمكن من إصابة دبابتين ما أدى الى إقفال الطريق أمام العدو. وإذ أتى الإسرائيليون بونش وجرافة لسحب الدبابتين المدمرتين وفتح الطريق, أطلقت دباباتنا القذائف فدمرت العديد من آلياتهم وخلفت إصابات بشرية بين صفوفهم.

العريف المتقاعد أحمدة هزيمة:
دباباتنا قامت بصدّ العدو وكبّدته خسائر كبيرة
نموت كأبطال ولا نهرب كجبناء

آخر محاولات العدو كانت سلوك واد في أسفل قانا بهدف محاصرتنا وإحتلال الموقع فرآهم أحد آمري الدبابات التابعة لسريتنا ويدعى المعاون الأول المولى. وباشرنا إطلاق النار فبادلنا العدو بالمثل, الى أن انتهت المعركة حوالى الثانية ظهراً بعد أن يئس الإسرائيليون من دخول قانا, فتوجهوا نحو جويا, في حين جاءتنا الأوامر بالعودة الى كتيبتنا.
ما إن وصلنا في حوش بسمه, استقبلتنا تظاهرة شعبية, وكم كان فرح المواطنين عظيماً عندما علموا أن الإسرائيليين لم يتمكنوا من دخول قانا.
ختاماً وصلنا الى قيادة الكتيبة حيث لاحظ المقدم روكز أن الدماء تتساقط من رجلي وبطني, وكنت قد أصبت بشظايا صاروخية لدى قصف العدو لدباباتنا, فتم نقلي مع الرقيب اسماعيل أحمد الى المستشفى حيث أن الأخير كان مصاباً بحالة من الهذيان جراء عنف المعركة التي خاضها.
الجدير ذكره أن جنودنا أظهروا شجاعة فريدة وإندفاعاً لا مثيل له في معركة ما كنا لنربحها لولا إيماننا القوي بوطننا وتمسكنا بأرضنا, علماً أن حصيلة المعركة في ذلك اليوم كانت تدمير سبع دبابات للعدو الإسرائيلي الى سبعة عشر آلية عسكرية من أنواع مختلفة, في حين بلغ عدد الجرحى لديهم حوالى الثلاثين عنصراً كما علمنا في ما بعد من أهالي بلدة قانا. أما خسائرنا فبلغت ثلاث دبابات تمت إصابتها بواسطة الصواريخ المجهزة بالأشعة ما تحت الحمراء.

ذوداً عن تراب الجنوب

الرقيب الأول المتقاعد اسماعيل السيد أحمد, تطوع في الجيش بتاريخ 12 / 12 / 1956 وأمضى ستة أشهر في طرابلس. وبعد إنتهاء دورة الأغرار, نقل الى بيروت ­ مار الياس لفترة وجيزة ثم تنقل بين صيدا وصور وأبلح...
عن ذكرياته حول المعركة يقول:
كنت في كتيبة المدرعات الثانية التي كانت بإمرة الملازم الأول أطناس أطناس, وكانت وظيفتي رئيس دبابة ورامي.
ابتدأت المعركة من حوالى الساعة التاسعة صباحاً واستمرت الى حوالى الثالثة والنصف... دبابتنا دمرت سبع دبابات عدوة وظلت تقاتل حتى نفاذ الذخيرة, ولم يكشفنا طيران العدو.
وعن الأسباب التي ساهمت في ابقاء الدبابة مختفية عن أنظار العدو يقول بعد تنهيدة عميقة: لم نكن وحدنا نقاتل, كان الله يقاتل معنا, ويستطرد: دبابتنا كانت قرب المقبرة في بلدة قانا الجليل, وقد أدخلتها ضمن ثلاثة حيطان مع تمويه كامل, حتى المدفع لففته "لفة, لفة" بعناية ودقة... فعندما كنت أرمي وأطلق النار لم يكن يصدر أي غبار مما ساهم في إبقاء الدبابة متخفية, ولم يعثروا علينا رغم كثافة الطيران المعادي. وأذكر أن العقيد قال لي يوماً: كلما أخذنا درس تمويه نتذكر الرقيب أول اسماعيل أحمد.
- وماذا عن الدبابات الأخرى المشاركة في المعركة؟
­ كانت هناك دبابة في مركز رئيسي وأساسي هي دبابتنا, والدبابة الثانية ومركزها في معمل البلاط ورئيسها الرقيب خليل المولى وثالثة في مثلث المدرسة بإمرة الرقيب بطرس الأسمر وأخرى رابعة بإمرة العريف علي كنعان...
وعن خسائر العدو قال: سقط للعدو الكثير في أرض المعركة وتكبد خسائر فادحة في الآليات والأشخاص.
وختم قائلاً: إن ما قمنا به كان بداعي الواجب وذوداً عن تراب الجنوب وعن وطننا لبنان.

نموت كأبطال ولا نهرب كجبناء

العريف المتقاعد أحمد هزيمة سائق الدبابة الرئيسية في المعركة, مواليد سرعين الفوقا, تطوّع بتاريخ 26/4/1958, وتنقل بين صربا والفياضية وطرابلس, ثم نقل الى فوج المشاة الثالث, وبعد أن استلم الفوج دبابات الرينو شُكل الى كتيبة المدرعات.
عن التفاصيل التي يذكرها حول المعركة يقول:
لقد كنا في البداية نرتدي البزة رقم 2 تحت بزة العمل, والبزة رقم 2 هي بزة الخروج بالمأذونية. ثم عرفنا في ما بعد أن هناك تحركات عدوة مريبة, وبعد سماع دوي انفجار قوي أدركنا أن هجوماً قد حصل, فانصرفنا الى القيام بواجبنا.
ويستطرد: بعد الوصول الى قانا, قامت الدبابات بصد العدو وتكبيده خسائر كبيرة, لكن الطيران المعادي كان يتدخل ويقصف الدبابات التي أصيبت باستثناء دبابتنا, فقد استمرت تقاتل حتى نفاذ الذخيرة. وقد قلت وقتها للرقيب إسماعيل أحمد: "نموت كأبطال ولا نهرب كجبناء". وبعد نفاذ الذخيرة انسحبنا وكنا نتجنب القصف الجوي, حتى وصلنا الى منطقة الخشنة بين صديقين وقانا حيث أصبنا بصاروخ حراري في المحرك وكانت القذائف تنهمر كالمطر.
- لماذا استطعتم تدمير كل هذا العدد من الدبابات العدوة بدون أن يتم اكتشافكم؟
­ الموقع المموّه والمحصّن, إضافة الى أن الآليات العدوة كانت تضطر الى القيام بالإلتفاف على طريق الزامي, مما يؤدي الى ظهورها فجأة أمام مرمى مدفع دبابتنا وهذا سهّل علينا إصطيادهم ومن يعرف بجغرافية المنطقة يدري تماماً ما أقول.
وختم بالقول:
إننا لم نقم سوى بالواجب الملقى على عاتقنا في الدفاع عن أرض الوطن وما زلنا مستعدين لتقديم التضحيات.