مقابلة و حوار

ثورة التكنولوجيا وعصر الأنوار الجديد
إعداد: تريز منصور

اللبنانيون في وضع متقدم جداً ولديهم على المستوى الفردي والعائلي قدرة على التأقلم مع التطورات التكنولوجية

علينا اقناع الشباب بعدم الهجرة والرحيل والبقاء في الوطن لكي يستثمروا ويعملوا وينحوا غيرهم فرصة عمل

الوزير سلامة : المعرفة والترفيه قطاعان يغيّران المهوم التقليدي للإقتصاد

في ظل التحولات العالمية التي حصلت في العقد المنصرم, أصبحت الثقافة جزءاً أساسياً من الحركة الإقتصادية في الدول الأكثر تصنيعاً. فقد تعرض الإقتصاد بالمفاهيم التي كان قائماً عليها الى تغيرات عدة. فتطور القطاع الزراعي بات يسير وفقاً لهوامش محدودة؛ أما الصناعة فتعيش ما يمكن تسميته بالمشاكل التكنولوجية الجديدة؛ وقطاع الخدمات, لا سيما السياحة, تحول الى صناعة قائمة بذاتها.
إن القطاعات الأكثر نمواً في الإقتصاد العصري هي قطاعات مرتبطة بأمرين: إما بما يسمى بإقتصاد المعرفة أو بما يسمى بإقتصاد الترفيه أو إقتصاد المتعة, وكلاهما يرتبطان بالشأن المعرفي والثقافي بشكل أساسي. فالمعرفة والثقافة باتتا في جوهر الإقتصاد العالمي؛ إنهما بمثابة عصر الأنوار, الذي خلقته الثورة التكنولوجية.
مفهوم إقتصاد المعرفة وإقتصاد المتعة, وتطبيقاتهما وقدرة لبنان على المساهمة فيهما, في هذا الحديث مع وزير الثقافة الدكتور غسان سلامة.

عصر الأنوار الجديد

- أصبحت الثقافة جزءاً أساسياً من الحركة الإقتصادية في الدول الأكثر تصنيعاً, وتغيّر المفهوم الإقتصادي لناحية مساهمة القطاعات الزراعية والصناعية وبات مصطلح إقتصاد المعرفة متداولاً, فما هو إقتصاد المعرفة؟
­ إقتصاد المعرفة هو ما يمكن تسميته اليوم بعصر الأنوار. إنه التطوّر الإقتصادي والفكري الذي خلقته الثورة التكنولوجية في أوروبا, وله علاقة بالثورة الصناعية. وبالتالي فإنه نتيجة للثورة التكنولوجية (لا سيما في مجال الإتصالات), التي ساهمت في اختصار الزمن والجغرافيا, وأدت الى تخفيض كلفة نقل الأشخاص والبضائع والأموال والأفكار والأحداث, بنوعية أفضل وبسرعة أكبر.
إذاً, نحن في خضم ثورة تكنولوجية بدأت منذ نحو عشرين عاماً ولم تنته لغاية اليوم, وأدت الى تغييرات جوهرية في الإقتصاد العالمي, أهمها إنشاء قطاع إنتاجي جديد في جوهره, وهو القطاع المرتبط بتلك الثورة, والذي عُرف بـ”إقتصاد المعرفة”, القائم على نمو القدرات المعرفية.
لقد مرّت القدرات البشرية بمراحل كثيرة, كانت القيمة المضافة فيها تأتي من قطاعات مختلفة لفترة طويلة من الزمن. فمثلاً في المرحلة الأولى كانت تأتي من الصيد وجني الثمار, أما في المرحلة الثانية فأصبحت القيمة المضافة تأتي من الزراعة وبعدها من الصناعة.
في القرن العشرين, أصبح قطاع الخدمات المصدر الرئيسي والأساسي للقيمة المضافة. ومع بداية القرن الواحد والعشرين أصبحت هذه القيمة مرتبطة أكثر فأكثر في إقتصاد المعرفة. هذا لا يعني أن القطاعات الصناعية والزراعية إنتهى دورها, لكن نسبة القيمة المضافة الناتجة عنها أصبحت هزيلة بالمقارنة مع هذا القطاع الجديد الذي نشأ بسرعة وتطوّر, لا سيما من خلال الإكتشافات الإلكترونية والإنترنت.
ولا بد من الإشارة الى أن نسبة مساهمة المعرفة في القيمة المضافة تختلف باختلاف نسب إنتاج القطاعات المختلفة.
فالإنتاج الزراعي مثلاً ما زال يشكل نسبة 1.2 في المئة من الإنتاج ونادراً ما ترتفع هذه النسبة قليلاً, فيما فاقت نسبة مساهمة الثورة التكنولوجية في بعض الأحيان الـ60 والـ70 في المئة من الإنتاج, كما إنها شهدت أيضاً تراجعات وانكسارات كبيرة. ولكن ومن دون أدنى شك أن قطاعاً جديداً قد نشأ, وجمعت بفضله ثروات هائلة, وحصلت خسارات مرعبة أيضاً, بحيث انخفضت منذ فترة وجيزة الأسهم التكنولوجية بطريقة مريعة في البورصات العالمية, تجاوزت أحياناً الـ9 في المئة في يوم واحد.
ورغم هذه الخسارات, لا يسعنا القول إلا أن هذا القطاع الجديد هو الأسرع نمواً في الإقتصادات المتقدمة, وبالتالي أصبح في العديد من الدول المحرك الأساسي للإقتصاد المحلي. وهذا الواقع ينطبق على دولتي الهند وماليزيا, كما أن منطقة بانغالور الهندية, أصبحت تعيش اليوم في زمن مختلف عن الزمن الذي تعيش فيه باقي المناطق في الهند. والجدير ذكره هنا أن الهنود لعبوا دوراً أساسياً في تطوير إقتصاد المعرفة في الولايات المتحدة وفي توسيع حجم الإنتاج على الساحة العالمية.
وأضاف الوزير سلامة أن شركة “بالم” (Palm) التي تبيع المفكرة الإلكترونية, يقدّر رأسمالها اليوم في البورصة بـ12 مليار دولار أميركي, وهي لا تنتج شيئاً من هذه المفكرة, ولكنها تملك الإبداع التكنولوجي أو المفهوم (Concept), الذي تضاعف سعره ملايين المرات عن السابق في الأسواق. ومن هنا جاءت الحملة العالمية لحماية الحقوق أو الملكية الفكرية التي تعتمدها الشركات الكبرى مثل “مايكروسوفت”, والـ”آي. بي. أم.” و”بالم” وغيرها... كما أن الدول القادرة على إحتضان الإبتكار الحديث أصبحت دولاً أكثر تقدماً عن غيرها, أما الدول غير القادرة على ذلك, فتعطى لها فرصة تصنيع الفكرة أو الإبتكار, وهي فرصة جيدة وإيجابية, لكنها لا تساوي أهمية حضانة هذا الإبتكار. فمثلاً تصاميم السيارات اليابانية والفرنسية والسويدية تتواجد فقط في ميلانو في إيطاليا.

النخبة المهاجرة

- الى أي مدى لبنان قادر على مواكبة ما يسمى بـ”إقتصاد المعرفة”, سيما بعد توقيعه إتفاق الشراكة الأوروبية, وهل يملك المؤهلات البشرية والتكنولوجية والمادية للإبتكار والإبداع والمنافسة؟
­ اللبنانيون في وضع متقدم جداً, ولديهم على المستوى الفردي والعائلي قدرة على التأقلم مع التطورات التكنولوجية, غير موجودة في الكثير من البلدان. وعندما كنت أعيش في الخارج, كان يفاجئني أثناء زيارتي الى لبنان, وجود وسائل إتصال وأجهزة كومبيوتر غير موجودة في الأسواق الأوروبية المتقدمة. وتوجد في لبنان إمكانية وضع بعض الإبتكارات, لا سيما في مجال الإدارة وتصميم الأزياء, علماً أن هناك 5 أو 6 مصممين لبنانيين أصبحوا معولمين بفضل أزيائهم في ميلانو وباريس وغيرها من دور الأزياء العالمية.
ولكنني أرى اليوم أن صورة اللبنانيين عن أنفسهم هي أكبر بكثير من الواقع, إلا إذا ضممنا النخبة التي هاجرت, والتي تلعب دوراً أساسياً في عدد كبير من المؤسسات العالمية لا سيما الخاصة منها, كالمصارف وشركات التأمين والشركات التكنولوجية خصوصاً في دبي, حيث حولها المغتربون اللبنانيون الى عاصمة تكنولوجية. وأرى أن هذه الحقائق تحتم علينا كلبنانيين مقيمين مضاعفة العمل والجهد لأسباب عدة أبرزها:
1­ أن الحرب قضت على جيل بأكمله هاجر, والنتيجة كانت هوة عميقة نشأت بين جيلين, “جيل الزجل” و”جيل الأنترنت”.
2­ علّة التمركز الفردي في لبنان القديمة والمستمرة والمتزايدة. فبعد أن قضت الحرب على الفئات الوسطى, خلفت وراءها آفة تركز الثروات عند بعض الأغنياء, وازدياد أعداد الفقراء, وطبعاً هذا الواقع يسيء جداً الى اقتصاد المعرفة المرتبط بالفئات الوسطى بشكل خاص.
3­ التوسّع الأفقي الذي شهده لبنان في قطاع التعليم في العشرين سنة الماضية, بحيث أنه من الصعب علينا عدم إيجاد مدرسة في مختلف القرى اللبنانية. كما أن عدد الجامعات أصبح يناهز الـ42 جامعة. هذا التطور الأفقي أفقدنا ثروتنا العلمية ومنع مستوى التعليم من التطوّر في العمق.
وأضاف الوزير سلامة قائلاً:
إن ثورة الإتصالات “لعينة”, بمعنى أن فوائدها المباشرة تظهر فقط على النخبة أو على مجموعة شديدة التقدم والطموح, وبعد فترة تنتشر منافعها على العالم, ولذلك يجب تكوين ما يسمى بالحاضنة المتقدمة في هذه الفترة الزمنية المحددة, حتى نتمكن من تحقيق أو إنجاز هذه الإبداعات. ولتحقيق ذلك لا بد من إتخاذ خطوات عدة أبرزها:
1­ توقيف عملية هجرة الفئات الواعدة في مجتمعنا.
2­ محاولة إسترجاع بعض الأدمغة المتقدمة.
3­ وقف النمو الأفقي للتعليم, والتركيز على النوعية, مع ما تقتضيه هذه العملية من إقفال لعدد من الجامعات, والتركيز على نوعية الشهادة.

كيف نواكب التطوّر؟

- هل تعتبر أنه من الأهمية بمكان إنشاء جامعات تكنولوجية مثلاً لمواكبة هذا التطوّر؟
­ يوجد جامعات ومعاهد تكنولوجية عديدة في لبنان. كما أن الفئات أو الهيئات الإختراعية في إقتصاد المعرفة تستعين بخريجي معاهد العلوم الإنسانية بشكل أساسي, وهذا ما أثبتته ظاهرة تحوّل كلّيتي الهندسة في أميركا, “بيركلي” في كاليفورنيا و”أم أي تي” في كامبريدج, الى أهم مركز للغات في البلاد. وبذلك ارتبطت الكلّيتان باقتصاد المعرفة, حيث شارك الكثير من خبراء اللغة وخبراء في الفلسفة والأدب في وضع أسس هذا الإقتصاد.
- إذاً, هل الحل برأيك بخفض عدد الجامعات فقط, أم بتكوين أرضية صالحة لخلق المبدعين والمبتكرين؟
­ إن تكوين أرضية جاهزة لذلك أمر مهم جداً. وعملياً علينا اقناع الشباب بعدم الهجرة والرحيل والبقاء في الوطن, لكي يستثمروا ويعملوا ويمنحوا غيرهم فرصة للعمل, وهذا الأمر يتحقق من خلال أمور منها ما هو خارج عن سيطرتنا كالاستقرار الإقليمي, ومنها ما يمكن السيطرة عليه كالإستقرار الوطني, والإحترام المطلق للحريات, لا سيما حرية الإبداع, ورفع مستوى الشهادة الجامعية, وإقناع الشركات الكبرى بنقل التكنولوجيا بطريقة سليمة الى لبنان...
- ما هي القطاعات التي يبرع فيها اللبنانيون برأيك؟
­ من الواضح كما ذكرت سابقاً أن اللبنانيين برعوا في تصميم الأزياء وفي فن الإدارة, لا سيما المغتربين منهم, حيث يحتل البعض مواقع مسؤولية متقدمة جداً في العديد من الدول.
ولكن مشكلتنا في لبنان تكمن في تبعثر رأس المال, وفي عدم تنظيم الأسواق, بمعنى وجود العديد من المحال التجارية والغذائية المشابهة في نفس السوق, والأمر كذلك بالنسبة للإستثمار في العقارات...
إن هذا البلد يدّعي أنه عظيم لأن الإبداع الفردي فيه عظيم, قد يكون هذا صحيحاً, ولكن لبنان يدفع ثمناً باهظاً ككلفة لهذا الإبداع, لأنه وفي ظل هذا النجاح لا يمكننا خلق ثورة تكنولوجية ولا يمكننا مواكبة إقتصاد المعرفة. فهذا الإقتصاد يحتاج الى عمليات دمج والى تكتلات ضخمة في جميع القطاعات المصرفية والمالية والتربوية والوزارية.
- ما هو تعريفك لإقتصاد المتعة أو إقتصاد الترفيه؟
­ إن إقتصاد المتعة هو قطاع مختلف عن إقتصاد المعرفة, ولكنهما يتكاملان, بحيث أنهما يستفيدان من الثورة التكنولوجية نفسها. فالقمر الإصطناعي يفيد للإستعمال الهاتفي وبالتالي لإقتصاد المعرفة, كما أنه يفيد البث التلفزيوني وبالتالي إقتصاد المتعة, الذي يرتكز على الموسيقى, المسرح, السينما, التلفزيون, الأغنية...
- الى أي حد يستطيع لبنان مواكبة إقتصاد الترفيه لا سيما في قطاع الأغنية اللبنانية والموسيقى والفن والثقافة والأدب...؟
­ إن لبنان أكثر تقدماً في مجال إقتصاد المتعة منه في إقتصاد المعرفة, وقدرة اللبناني على التأقلم في هذا الإقتصاد كبيرة. فمثلاً تأقلم اللبنانيون بسرعة في مجال الدفاع عن الملكية الفكرية في مجال الأغنية ووزارة الثقافة تتعاون مع وزارة الإقتصاد في هذا المجال. ولكن لبنان ما زال مقصراً في مواضيع ثقافية أساسية وأهمها موضوع الكتاب, والسبب يعود الى تغلب المبادرة الفردية, فدور النشر الصغيرة, لا يمكنها مواجهة حركة العولمة.
- هل الأغنية اللبنانية المعاصرة قادرة على المنافسة العالمية في ما يتعلق بمستواها الفني؟
­ السوق يحدد المنافسة, والأغنية اللبنانية المعاصرة نجحت في المنافسة ودخلت الأسواق العالمية لا سيما العربية منها, وكذلك الرقص اللبناني وصناعة الإسطوانات (CD)

والبرامج اللبنانية, ومن واجب وزارة الثقافة حماية ملكيتها وتسويقها, رغم أنني لا أتذوق هذه الموسيقى في جزء كبير منها.
- هل هناك رابط بين إقتصاد المتعة أو إقتصاد المعرفة والقطاع السياحي؟
­ من دون أدنى شك, ثمة رابط قوي بين إقتصاد المتعة والقطاع السياحي, لأن السائح العربي مثلاً يرغب برؤية ما يشاهده عبر الفضائيات اللبنانية, على أرض الواقع.
ولكن لا علاقة لإقتصاد المعرفة بالسياحة, كما أنه لم يتم أي إستثمار عربي أو لبناني في مجال إقتصاد المعرفة, علماً أن هناك إستثمارات لبنانية كبيرة في هذا الإقتصاد في مختلف دول العالم مثل أميركا وفرنسا ودبي.
وخـتم الوزيـر سلامـة بالقـول: إن عملـية الوصول الى إبتكار تكنولوجي تحتاج الى عشرات السنين, والى تركيز الثروات والجامعات, والى العمل على ما يسمى بالماكرو إقتصاد, ورغم كل ذلك إنني متفائـل جـداً بمستـقبل لبـنان الإقتصـادي.