وقفة وفاء

جائزة الأب الشهيد بطرس أبي عقل للمؤسسة العسكرية بشخص قائدها
إعداد: ندين البلعة

ماذا يقول الحرف إن قال الدمُ؟


احتفلت رابطة خريجي معهد الرسل - جونية بمنح جائزة الأب الشهيد بطرس أبي عقل للعام 2010 لقائد الجيش العماد جان قهوجي، تقديراً لعطاءاته الوطنية.
أقيم الإحتفال يوم الجمعة 18 حزيران 2010 في معهد الرسل - جونية، وحضره الى العماد قائد الجيش عدد من النواب، والمطران شكرالله حرب ممثلاً البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير، الى جانب رئيس الأركان اللواء الركن شوقي المصري، مدير عام أمن الدولة اللواء جورج قرعة، أعضاء المجلس العسكري، نواب رئيس الأركان، عدد من كبار الضباط وممثلين عن قادة الأجهزة الأمنية والشخصيات الرسمية والسياسية والدينية والإجتماعية.

 

العماد قهوجي:
سنسعى الى منافسة قاسية مع ذواتنا
عبّر قائد الجيش العماد جان قهوجي عن سعادته بهذا اللقاء وقال في كلمته:
«بين البيت والمدرسة مناصفة الشريكين في تربية المواطن وتعليمه وإعداده للمستقبل، والمؤسسة العسكرية هي التي تأخذ بيده بعد ذلك الى مدرسة الحياة، حيث تبدأ مسؤوليته في الدفاع عن وطنه ومواطنيه. ويستمر دوركم، مدارس ومعاهد، مشاركاً لنا في مهمة أساسية فاعلة، هي ترسيخ الوحدة الوطنية وتأكيدها ومواصلة دربها، فالجيش يستقبل أبناءه القادمين اليه من أرجاء البلاد كافة، ويؤسس على الإلفة الناشئة بينهم بحكم تربية البيت وتعليم المدرسة، خطوات ينطلق بها الى رصّ الصفوف وشبك الأيدي وضمّ الصدور، في سبيل بناء القوة الوطنية المطلوبة، وأنتم بالمقابل تواصلون تشريع أبواب مدارسكم أمام طالبي الحرف من كل بيت وعائلة، وتقدّمون اليهم العلم والثقافة ومبادئ الأخلاق، مع حرصكم التام على إذكاء روح الجماعة ومشاعر الإيمان بأن هذا الوطن، لبنان، جميل وعريق، ومشهور، وعليه عيون، ويستحق منا كل بذل وعطاء، وصولاً الى التضحية بالحياة، وهي أغلى عطايا الله.
ولا تختلف معاني الشهادة بين مؤسسة وأخرى، زمنية كانت أو دينية، إجتماعية أو تربوية أو عسكرية، خصوصاً إذا تمّت في سبيل القضايا العليا للوطن، والقضايا العليا هذه، هي ترابنا الوطني، وهي كرامتنا الوطنية، وهي ثوابتنا الوطنية، وقيمنا الإنسانية التي تأتي في مقدّمها حرية الرأي والتعبير، واحترام الآخر والتعاون معه، في سبيل البناء الإجتماعي الذي يعني الكل ويهمّ الجميع. ولَكَم كان لاستشهاد الأب بطرس أبي عقل من تأثير في نفسي، وكنت آنذاك في مطلع خدمتي تحت راية مؤسسة الإستشهاد الأولى، مؤسسة الجيش. ولم يكن ليخطر في بالي أن يأتي يوم أتسلّم فيه الجائزة القيّمة التي أنشأّها معهدكم باسمه، تخليداً لذكراه، وتأكيداً لنبل استشهاده في سبيل المبادئ السامية التي عمل في سبيلها، هو وكل من كان في مستوى فكره وعلمه وجرأته، على امتداد الوطن.
إن صراعات المنطقة لا بد أن تنعكس على بلادنا، خصوصاً وأن موقعها الجغرافي ورسالتها الحضارية ودورها الإقتصادي والعمراني، أمور نبقيها دوماً في الواجهة، وتستدعي منا جميعاً، البقاء على استعداد تام لمواجهة كل طارئ. وكما أن مؤسستنا ثابتة في مسلّماتها العسكرية وفي مبادئها الوطنية، فإن المهمات التي تواجهها ثابتة هي الأخرى، من مواجهة إسرائيل بأطماعها واعتداءاتها ومؤامراتها، الى التصدي للإرهاب بأصوله وفروعه وتفاقم شروره، الى التصدي للعابثين بأمن المواطن واستقرار الوطن، من حين الى حين».
 

وأضاف قائلاً:
«إن عمر جيشنا خمس وستون، من أواسط القرن العشرين حتى اليوم، وعمره ايضاً مئة، ومئتان، لا بل عمره ألف وأكثر، لأنه إبن الشعب، والشعب عريق في التاريخ كما تعلمون، ولا تحدّ عمره أرقام العدّ والحساب، وجيشكم بعمره ذاك، في شباب، وكيـف لا وفي كل يوم له دم جديد من الأحياء، والنواحي والقرى، كالنحل يلملم الآقاح من كؤوس الجنائن، ومعهدكم، كما سائر المعاهد، لا يبخل علينا بأي رافد، وهذا أقاح يحسدنا عليه النحل وتزهو به الساحات والتلال.
نعم أيها السيدات والسادة، يستريح عندنا جيل، ويسلّم الزند الى مَن يليه، ويطول الدرب وتتعاقب الهمم، والشباب مطلق ودائم، والشبان يتحلّقون عند باب الدخول، وفي الداخل همدرة لا تهدأ.
وأنا، حين أرى وحدات جيشي تؤدي مهماتها بجهدها الأقصى، من أقصى الوطن الى أقصاه، وحين أجد حولي أركاناً ترفع المداميك في بنيان هذا الوطن ساعة بعد ساعة، أشعر بالرضا، وأقول: إن هكذا تعمل الجيوش، وهكذا تضمن الأوطان بقاءها، وأروح أنتقل من موقع الى آخر أتلمّس الإجازات بأطراف الأصابع، وأتلقى الشهادات برهيف السمع، وأتفحّص بالعين الأفعال والصور، ويغمرني فرح واعتزاز لا حدّ لهما. أصارحكم أننا، نحن العسكريون، لا نميل الى التواضع في مواجهة الزمن. نرفع الجبين كثيراً، ونطلق النظر الى العلى. لكننا اليوم، وأمام نبل عاطفتكم وفيض مشاعركم ووفر تشجيعكم وفي حضرة مجد الوطن وخلود أرزه، نحني الرؤوس انفعالاً وتأثراً، ونعترف أنه كان بإمكاننا أن نسهر أكثر، وأن نعمل أكثر، وأن نضحي أكثر، ونعلن أننا سنسعى في الآتي لأن نتفوق على الماضي، وأن نبدأ منافسة قاسية مع الذات في ملعب البلاد، وعلى مرأى من جمهور المواطنين، وأنتم ها هنا في طليعة هؤلاء، ومؤسستكم هذه هي حبكة الغار في ثنايا العلَم».
وختم بالقول:
«هذا التكريم في أي حال، وقد أخجل محبتنا لكم، تعود السواعد السمر في هامات جنودنا وتتوجّه به اليكم، وما عليكم عند ذاك، إلاّ قبوله، ورفعه الى مقام الوطن الحبيب الذي نتكرّم وإياكم كلما تراكمت مآثره وتأكّد مجده، وسطع نوره بين الأقطار. الوطن هذا لهو إبن الصخر والتراب، والثلج والماء، لكن، إن دعا الداعي الى الحرب والمعارك دفاعاً، فإننا نوقد النار. نحن لا نهادن المكان إذا طغى، ونحن لا نصفح عن الدهر إن ظلم وجار».

 

الأب بطيش: الجائزة لكل الوطن عبر الجيش وقائده
رئيس معهد الرسل الأب سامي بطيش قال في مستهل كلمته إن في ديمومة هذه الجائزة السنوية «حياة لأسرة المرسلين اللبنانيين، جمعية ومعهداً ورابطة خريجين من جهة، وتجديداً لذكرى الشهيد الأب بطرس أبي عقل ومعهد قدموس في صور وعائلته من جهة ثانية».
وتابع قائلاً:
«موعد هذا العام لا يشبهه موعد آخر، ففيه تتلاقى الشهادة بالشهادة، ويتمازج الدم بالدم. الجائزة هي على إسم الشهيد وهي تُمنح هذا العام لمؤسسة وطنية غالية، أعطت آلاف الشهداء حتى صارت عنواناً للشهادة والبطولة... فألف تحية وسلام لشهداء جيشنا اللبناني البواسل، وتحية كبرى لرأس المؤسسة العسكرية، قائد جيشنا العماد جان قهوجي...».
وحول اختيار مستحق الجائزة لهذه السنة قال: «وكأننا أردنا أن نمنحها هذا العام لكل الوطن، لأن جيشنا وعلى رأسه قائده الباسل، هو لكل الوطن ولكل الناس ولكل التراب...
جائزة لا بل «رسالة» سيتسلّمها القائد ومنه للمؤسسة العسكرية بكامل ضباطها ورتبائها وأفرادها... وللشهداء ايضاً، خصوصاً وأنها تحمل في إسم صاحبها المرسل اللبناني طعم الإستشهاد الشريف الذي يحوّل الموت حياة والنهاية بداية...!».
وشرح الأب أبي عقل أن «هذه الجائزة ليست تقليداً سنوياً إعلامياً، بل فعل تكريم يستند الى الجدارة والأهلية تحت عنوان الكفاءة في العطاء وفي التضحية والخدمة. أما المؤشر الثاني فهو شمولية العطاء لا حصريته... فنحن نتطلع الى المستحقين ممن يهبون ذواتهم للناس من دون تمييز وهذا المعيار هو نفسه شعار جيشنا اللبناني الذي يقدّم نفسه تضحية ووفاء وشرفاً، بعيداً عن أي انحياز أو تطرّف أو تخصيص...».
 

واختتم كلمته قائلاً:
«إنه يوم فريد في الأيام: يوم الجيش اللبناني، للأب الشهيد بطرس أبي عقل، لأسرة الرسل ولأسرة الشهيد... فتهلّلي يا روح المرسلين واغتبطي يا روح الشهيد، وارتفع يا جيش بلادي وتأهّب، لا للمعارك ولا للإنقاذ، بل لتقبّل التفاتة الشكر والتقدير من محبيك ومقدّريك والمؤمنين بك رمزاً ومرجعاً وحصناً منيعاً...! فإنك جسر العبور من القلق الى الطمأنينة، من الضعف الى القوة ومن القلق الى السلام... ومن التفكّك الى الوحدة».

 

كلمة العائلة: أمّ الشهداء شمس ساطعة
استهل المحامي وليد أبي عقل كلمة عائلة الأب الشهيد، باستذكار واقعة استشهاده الأليمة مشيداً بعطاءاته. فالأب الشهيد بطرس أبي عقل عمل للتربية والمحبة والعطاء واحترام الغير وبثّ روح التعايش والإلفة والوطنية الصحيحة بين جميع أبناء الطوائف...
وتابع قائلاً: «إن هذه الصفات متجذّرة في رحم المؤسسة العسكرية التي تعمل وفق مفاهيم الشرف والتضحية والوفاء برعاية وإمرة وتوجيهات قائد اتّسم بالمعرفة العالية والوطنية الحقة والخُلقية النادرة والتضحيات المشرقة الدائمة مع قيمها المضافة للدفاع عن الشعب والأرض ومقومات الوطن والدولة».
ثم توجّه الى العماد قهوجي قائلاً: «تراني لم ولن أجد العبارات والجمل التي تنطبق على قائد مميز يجمع القيادة والتواضع، القوة واللين، الإمرة الصارمة المباشرة مقابل التنفيذ المفعم بالقبول والرضى والمحبة، الى الكثير الكثير من الصفات التي تتحلّى بها، لذا قررت الإكتفاء بالدعاء «الله يحميك يا جنرال إنت وكل الجيش».
وتمنى أبي عقل أن تبقى هذه المؤسسة العسكرية أمّ الشهداء، شمساً ساطعة وهّاجة في سماء لبنان، تصون الحدود وتجمع القلوب وتوحّد الشعب.

 

ماذا يقول الحرفُ إن قال الدمُ؟
«الجرح ينطق يا فمُ، ودم الفدا يتكلمُ
فاخرس، فإنك إن تكلّمتِ الجراحُ لأبكمُ
ماذا يقول الحرفُ في الشفتين إن قال الدمُ؟»
بهذه الأبيات بدأ المهندس إسبر زوين، رئيس رابطة خريجي معهد الرسل كلامه مضيفاً وَيلَين الى ويلات جبران: «ويل لأمة تلبس مما لا تنسج وتأكل مما لا تزرع وتشرب مما لا تعصر... ويل لأمة تنصرف عن الدين الى المذهب... ويل لأمة يكثر فيها الشهداء وترخص فيها الشهادة»!
ثم انتقل الى الكلام عن فضائل الأب الشهيد الذي كان «مربياً زرع في قلوب طلابه قيماً سامية وترك لنا كنزاً من الفضائل نتوارثه جيلاً بعد جيل، كما كان في حياته قدوة في التضحية والبذل والعطاء».
وقال:«يـوم قـررت جائزة الأب الشهــيد منح جائــزته السنويــة لقائد الجيش العمــاد جــان قهوجي، رقصت عظام الشهيد في ضريحـــه فرحاً وابتهاجاً مرتين: مــرة لأن القائــد بعصاميــته وشجــاعته وحكمته أهــل لكل تقديـر، ومـرة لأن مــؤسسة الجيش قلعــة الوطنــية ومقلع الشهداء، والإجماع الوطني على دعم هذه المؤسسة هو شهادة من جميع اللبنانيين، بأن الجيش هو خط الدفاع الحصين عن الوطن، فهنيئاً للبنان بجيشه الوطني البطل وهنيئاً للبنانيين بقائد جيشهم الفذّ».
وأخيراً، عاهـد زويـن الأب الشهيد «أنــنا على خطـاه سائـرون، وبتعاليمه مهتدون، وعلى العهد مقيمون... كما تعاهد الرابطة، قائد الجيــش، وهي التي أعطت الجيش عناصر مــن خيرة خرّيجيها، أن تظل ترفد الجيش اللبنـاني بعناصر جديــدة. كما تعاهد الوطن أن تكون الى  جانب جيشه عندما يدقّ النفير ويدعـونا الواجب للدفاع عن شرف الأرض...».
قدّمت الحفل الدكتورة ڤيكتــوريا سلمــــوني نصراني، واختُتم بتسلّم العماد قائد الجيش الجائزة من اللجنة التحكيمية لجائزة الأب الشهيد بطرس أبي عقل. ثم توجّه الجميع الى حفل كوكتيل.