تاريخ وحضارات

جبيل وبنت جبيل وسمار جبيل في البدء كانت المدينة والكلمة!
إعداد: د. ألكسندر أبي يونس

لكل إنسان من اسمه نصيب، وعشرات المأثورات والأمثلة الشعبية تدور حول الأسماء، من بينها: «اسم على مسمّى»، و«عاشت الأسامي»، و«اسمو على كسمو»، و«يا ضيعان هالإسم»، و«الإسم رسم»، و«يعيش ويحمل إسمو». تضم الجمهورية اللبنانية ثلاث مناطق تحمل اسم العائلة ذاتها وفق هويتها، باستثناء بعض الصفات المختلفة بينها، وهي جبيل، وبنت جبيل وسمار جبيل. فهل من روابط بينها؟


في جبل لبنان والشمال والجنوب
جبيل اليوم مركز قضاء، يضم حوإلى 85 قرية وبلدة، وعاصمته مدينة جبيل الساحلية التي تبعد عن شمال بيروت 37 كلم. وبنت جبيل مدينة طرفية في الجنوب اللبناني، هي أيضًا مركز قضاء، يتشكّل من 36 بلدة وقرية تقريبًا، وهي ترتفع عن سطح البحر 750 مترًا، وتبعد عن جنوب بيروت 122 كلم. أما سمار جبيل، فتقع في قضاء البترون، وترتفع 420 مترًا عن سطح البحر، وتبعد 51 كلم عن شمال بيروت.
لفظيًا، يظن البعض للوهلة الأولى أن «بنت جبيل» هي إبنة «جبيل»، وهذه الأخيرة لها بستان كبير فيه اشجار مثمرة وذلك في المكان الذي يدُعى «ثمار جبيل» تحريفًا للسين. لكن هل هذا صحيح؟
هذه المناطق الأثرية والتاريخية، عرفت الحضارات الفينيقية، والآشورية، والفرعونية، والرومانية، والبيزنطية، والعربية، والعثمانية، واللبنانية، وهي تحتوي على آثارات منها. لكن هل من رابط جمع بين المناطق الثلاث في التاريخ القديم (5000 ق.م.- 330) والوسيط (330-1516)؟ وما السر في ورود اسم جبيل في كل من بنت جبيل وسمار جبيل؟ وهل لجبيل الأم، «المدينة-الدولة»، البالغ عمرها 7000 سنة، والتي منها أنطلقت الأبجدية، وتفاعلت مع عدة حضاراتٍ، يدٌ في تأسيس بنت جبيل وسمار جبيل؟

 

جبيل
عُرفت جبيل بأسماءٍ مختلفة عبر تاريخها. فقد ورد اسمها في التوراة (يشوع 5:13؛ وحزقيال 9:27) «Gebel»»جَبْلْ»، أي مصنع خزف.
وفي النصوص الفرعونية (المصرية) المكتشفة في تل العمارنة (1580 ق.م. – 1200 ق.م.)، ورد اسمها بأشكالٍ مختلفة: «Kipni» «كِبني»، و«Kbn» «كِبن»، و«Kpn»، و«Kupna» «كُبنة».
وفي ظل السيطرة الآشورية-البابلية على المنطقة (725 ق.م. – 539 ق.م.)، ورد اسم جبيل في الآشورية «Gubli» «جُبلي»، أو «Goubal» «جُبَلْ». وورد اسمها ايضًا في النصوص البابلية فكتبت «Gabal» أو «Gebal» أو «Goubla» «جُبلا»، أي الحد والتخم.
ومع سيطرة الإغريق، أي اليونانيين (332 ق.م.-63 ق.م.)، أطلق هؤلاء عليها تسمية بيبلوس «Byblos»، نسبةً الى الورق الذي كان ينقله تجار جبيل الفينيقيون، في مراكبهم من مصر إلى بلاد اليونان (كان الفراعنة يستوردون الخشب من الفينيقيين، مقابل ورق البردى، ونسيج الكتان، والأواني، والحلي المصرية المصنوعة من الذهب والمرمر). فالمصريون كانوا يصنعون الورق من لبّ نبتة اسمها «Papyrus» أو البردى، ومن هذه اللفظة اشتقت كلمة «Paper» و«Papier». لكن هيرودوتس Hêrodotos (المؤرخ والرحالة اليوناني الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وله كتاب «تاريخ» الذي يعتبر من أهم المراجع لمعرفة أخبار الأمم القديمة وأساطيرها) ذكر «Byblos» و«Biblio» عوضًا عن «Papyrus» عن طريق التحريف أو الخطأ، فاقتبس الكثيرون من الإغريق هذه التسمية عنه، لأن مصدر الورق بالنسبة لهم كان جبيل، فسمّوها بيبلوس، أي المكتبة، ومنها أطلقوا اسم التوراة «Ta Biblia»، و«Biblos» أي الكتاب.
وقد يكون اسم جبيل مركّبًا من كلمتين كنعانيتين: «جِبْ» أي البيت، و«ايل»، اي كبير الآلهة أو الإله الآب. وبذلك تعني جبيل بيت الله. وإن «ايل» ابن ايليا الفينيقي، بنى جبيل في مطلع الحضارة، وكان أول ملك عليها، وزوجته هي «بعلة» متوجة بالهلال، الحاملة على رأسها القرون، وقد تعرّفت ذات يوم من ايام الربيع إلى إله القوة، أدونيس، وأحبته، وبعد موته بكت عليه كثيرًا حتى اشترته بدموعها واستعاد الحياة. وبناءً عليه، فإن الكاهن الجبيلي كان أول من دلّ أن للإنسان نفسًا، وأنها خالدة لا تموت. من هنا اشتهرت جبيل بمدافن ملوكها، داخل سورها وخارجه.
أظهرت الإفادات التاريخية المصرية العائدة للقرن السادس عشر قبل المسيح، والتي اكتشفت في تل العمارنة، أن جبيل كانت على سِيف البحر، ولها عمارة بحريّة، وأن أهلها كانوا من حذّاق الملاّحين.
تأسّست جبيل اذًا في البداية، كقرية لصيادي السمك الفينيقيين، على التل المشرف على البحر، وذلك خلال الألف السادس ق.م.، وقد ارتقت إلى مصاف «المدن-الدول» أواخر الألف الرابع ق.م. وبعد علاقاتها القوية مع مصر الفرعونية طوال الالف الثالث والألف الثاني ق.م.، خضعت للسيطرة الأمورية (2150 ق.م. - 1725ق.م.)، والآشورية-البابلية (725 ق.م. - 539 ق.م.)، والفارسية (550 ق.م. - 330 ق.م.)، وبعدها للسيطرة الهلّنستية (330 ق.م. - 64 ق.م.)، والرومانية (64 ق.م. - 330 ب.م.)، والبيزنطية، ومن ثم أتى إليها الموارنة بعد القرن الخامس (330-687). جاء الفتح العربي العام 637، فبقيت جبيل في يد البيزنطيين والموارنة بموجب معاهدة، لكنها اصبحت مدينة صغيرة تُعرف بالعربية باسم «جبيل»، حتى أعاد الامويون السيطرة عليها، ومن ثم العباسيون والفاطميون الذين فقدوها أمام الصليبيين (1104 – 1266)، فأطلق هؤلاء عليها اسم «Gibelet»، أي «جيبليت»، وبنوا القلعة الحالية على أنقاض القلعة الفينيقية. سيطر الأيوبيون عليها فترةً (1187، ثم 1266)، إلى أن وقعت نهائيًا بيد المماليك في القرن الرابع عشر وحتى العام 1516 مع بداية الحقبة العثمانية، إذ أوكل أمرها إلى المعنيين (1516-1697)، والشهابيين (1697-1842)، ومن ثمّ ضمّت إلى القائمقامية النصرانية (1842-1861)، وبعدها المتصرفية (1861-1918)، فدولة لبنان الكبير (1920-1926)، والجمهورية اللبنانية إعتبارًا من 1926.
حافظت المدينة على اسم جبيل حتى صدر في حزيران 1978 قرار نصّ على تعديل اسمها وجعله مركّبًا من «جبيل - بيبلوس».


بنت جبيل
في الآونة الأخيرة، تمّ اكتشاف سراديب ونواويس وقبور ومغاور في اسفل بنت جبيل العتيقة، تعود إلى العهدين الفينيقي والروماني. وقد تبيّن أن هذه المعالم الأثرية والتاريخية، تعود إلى أحفاد الأميرة «شمس» الفينيقية التي أعطت اسمها إلى بنت جبيل. وهذه الأميرة تزوجت من النبي يثرون الكنعاني، وهو الذي نسبت إليه البلدة التي تسمىى عيترون حاليًا. وقد سمّيت ساحة بنت جبيل العتيقة «بالنبيه» تيمنًا به. ويقال إن والد الأميرة شمس الفينيقية هو «الجبيل»، والذي نسبت إليه منطقة صرْبين التي تدعى «بالجبيل الأثرية»، وفيها كان يوجد معبد يُسمى «رشاف» باللغة الآرامية، أي إله الحرب، وهذا المعبد كان موجودًا ايضًا في بلدة رشاف المحاذية والمطلة على بلدة صرْبين، ما يدل على أن عبادة هذا الإله مأخوذة من «دولة» جبيل التي كانت تعبده في عهد الأموريّين (2000 ق.م.- 1725 ق.م.).
وهناك رأي آخر حول هذا الموضوع، يقول إن بنت جبيل كانت تسمى سابقًا «بيت شمس»، إذ أن إحدى الأميرات من جبيل قد نزحت عن مدينتها نتيجة ضغط أو إكراه لسببٍ ما. والمكان الذي حطّت رحالها فيه سمّي «ببنت جبيل»، وقد أقامت فيه مُلكًا. وهذا واضح من بعض الظواهر الأثرية في البلدة وخارجها، كالآثار الموجودة في «شلعبون»، والاحجار المنحوتة، والأعمدة الأثرية، وبعض الحروف المنحوتة على أحجار داخل البلدة. وقد اثبتت الدراسات، أن ما يُسمى شلعبون اليوم، حيث كروم الزيتون والعنب والارض الزراعية وبركة الماء، هي شلعبون الماضي، وان بنت جبيل هي «كفرشمس» أو «بيت شمس» (كفر = بيت) حيث بنيت فيها الهياكل، وجلّلتها المدافن التي كانت تشتهر بها فينيقيا.
الرأي الثالث يفيد بأن «بِنْتْ جُبَيْل» مركبة من أنثى إبن، ومصغرة جبل من أمهات جبل عامل على حدود فلسطين، أو من تحريف حربي لتسمية سريانية قديمة «بيت جبيل» بخاصة وأن إلى شمالها تقع «بيت ياحون»، وإلى غربها «بيت ليف».
بالإضافة إلى هذه الآراء، يمكننا أن نقول أيضًا إن «بنت جبيل» تعني بيت صناعة الخزف، إذا ما قارنّاها بمعاني جبيل الواردة سابقًا وأضفنا إليها معنى كلمة «بنت»، كما يمكن القول إن التسمية ترتبط بـ«بيت الله».
على كلٍّ، مهما تعدّدت الآراء حول اصل كلمة بنت جبيل، فيمكننا الاستنتاج، أن ما يجمع هذه المنطقة بجبيل هي الفينيقية، وبينهما صلة عائلية، اجتماعية ودينية، بخاصة وأن بنت جبيل قريبة جدًا من صور، «المدينة-الدولة» الفينيقية. فالفينيقيون لم يكونوا موحّدين، بل تجارًا منتشرين في عدّة مناطق على الساحل الكنعاني، وكل مدينة ينتمون إليها هي بمثابة دولة خاصة، لها أنظمتها وآلهتها. وفي معظم الأوقات لم يكونوا موحّدين أو متحدين أو متضامنين، بل منقسمين بسبب طبيعتهم التجارية، يناصرون إحدى الممالك (الفرس، أو الفراعنة، أو الإغريق).

 

سمار جبيل
عرفت سمار جبيل معالم حضارية عسكرية دفاعية متنوعة من أيام الفينيقيين، وصولًا إلى عصرنا الحالي. وقد تنوعت الآراء حول اصل معنى اسمها، فهناك رأي يقول أنه ربما تحريفٌ لإسم فينيقي قديم مشتق من العبرانية، وهو «shemer» أي الحارس والمراقب، أو «shamrah» أي الحراسة والمراقبة، فيكون المعنى إذًا، حارس أو رقيب جبيل.
وقد يكون الاسم مركبًا من ثلاثة ألفاظ فينيقية: «سيم» ومعناها قبر، «مار» ومعناها سيد، جبيل ومعناها هنا بيت الله. فيكون المعنى، قبور أسياد بيت الله، أو قبور ملوك بيت الله.
وإذا اعتبرنا جبيل مركز صناعة الخزف، تكون سمار جبيل هي خط الدفاع الاول عن هذا المركز الصناعي. وربما تعني أيضًا سمار جبيل، «الجبل المصخّر»، أو «رأس الجبل».
لكن لنفترض أن سمار جبيل ليست بالسين بل بالثاء، فهل يبقى المعنى ذاته أم يتغير؟ طبعًا يتغيّر ويصبح معناها الارض الزراعية والبستان ذو الأشجار المثمرة التي تمّون جبيل نفسها منه. لكن معظم المصادر والدراسات تّتفق على أن سمار جبيل هي بالسين.
تتميّز سمار جبيل بقلعتها الصليبية التي بنيت على أنقاض القلعة الفينيقية، إذ تظهر في أساساتها صناعة تقطيع الصخر ونحته التي اشتهر بها الفينيقيون، وذلك أيام الحكم الآشوري-البابلي، وقد تمّ اكتشاف تماثيل اشورية فيها، علمًا أن الملك البابلي «بختنصر» احتلها، وحفر رسمه وملكته، كما وجد فيها ايضًا كتابات يونانية. وبعد السيطرة الآشورية والإغريقية، جاء الرومان وزادوا عليها مخازن لخزن الحبوب والمؤن، وغرفًا للجنود، واسطبلات للخيل، ومعاصر للزيتون والعنب، ومسرحًا، وتماثيلًا تقع ضمن المدينة الكشفية اليوم. وقد وجد ايضًا في القلعة 360 بئرًا في الصخر، ودهاليز عميقة يصل أحدها إلى البحر عند شاطئ المدفون، وآخر يصل إلى قلعة جبيل!
وفي القرن السابع الميلادي، زاد الموارنة على تحصينات تلك القلعة، حين لجأ إليها وتحصّن بها البطريرك الماروني الأول، يوحنا مارون (676)، هربًا من الامبراطور البيزنطي يوستينيانوس الأخرم الذي أرسل جيشًا للقبض عليه، وقد اتخذها البطريرك كرسيًا بطريركًا. وبعد الفتح العربي وسيطرة العرب على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وانهزام البيزنطيين مع بقائهم في بعض المناطق بموجب معاهدة مع الأمويين، وبعد دمار معظم القلعة في العهد العباسي، جاء الصليبيون (1098)، وبنوا على أنقاضها قلعةً محصنة دعيت بـ «Chateau fort». والعام 1630، وقع زلزالٌ قوي، أدى إلى هدم البرج الأوسط من القلعة وأحد الأقبية المبنية على بئرٍ.
لقد تبيّن لدينا، أن سمار جبيل مرتبطة بجبيل، وهي تعتبر مصيفًا لملوكها ومكانًا لدفنهم، كما أنها قلعةً دفاعية عن «دولة» جبيل التي كانت تمتد من وادي نهر ابراهيم في الجنوب حتى وادي نهر المدفون في الشمال، مع العلم أن نفوذها انتشر من حدود نهر الكلب، حتى نهر العريضة في الشمال، إلتفافًا إلى حمص والبقاع.

 

الاستنتاج
يمكننا الاستنتاج أن بنت جبيل وسمار جبيل هما من عائلة جبيل التي كانت في التاريخ القديم بمثابة دولة.
فبنت جبيل هي أميرة فينيقية هربت من دولتها لسببٍ معيّن، ولم تلتجئ إلى صور الفينيقية، بل إلى مكانٍ قريبٍ منها لكنه خارج عن سيطرتها، فدعي هذا المكان باسمها. وربما لجأت إلى المكان الذي دعي «الجبيل» ونزحت إلى القرب من الممالك العبرانية، وبَنَتْ مملكتها، فأصبحت تعرف ببنت جبيل، وقد نقلت معها عبادة الإله «رشاف».
إن الرابط الذي جمع بنت جبيل بدولة جبيل هو عرقي، وديني، واجتماعي، وسياسي، في حين أن الرابط الذي جمع سمار جبيل بدولة جبيل هو عسكري واقتصادي، كون سمار جبيل واقعة على حدود «مدينة - دولة» أخرى وهي البترون، فمن الطبيعي أن يكون فيها الثقل العسكري القتالي والدفاعي، وحتى التبادل التجاري البري.

 

المراجع:
- بزي، مصطفى: بنت جبيل حاضرة جبل عامل، دار الأمير للثقافة والعلوم، بيروت، 1998.
- العشي، يعقوب: بنت جبيل، رسالة اعدت لنيل الكفاءة في التعليم الثانوي، قسم التاريخ، الجامعة اللبنانية، كلية التربية، بيروت، 1977.
- فريحة، أنيس: معجم أسماء المدن والقرى اللبنانية، ط.2، مكتبة لبنان، بيروت، 1985.
- لامنس، هنري: تسريح الأبصار في ما يحتوي لبنان من الآثار، دار نظير عبود، د.م.، 1995.
- Dunand, Maurice: Byblos, son histoire, ses ruines, ses légendes, Imprimerie Catholique, Beyrouth, 1963.
- Jidejian, Nina: Byblos à travers les âges, Dar El-MACHREQ, Beyrouth, 1977.
- Montet, Pierre: Byblos et Egypte, quatre campagnes de fouilles à Gebeil 1921; 1922; 1923; 1924, Librairie Orientaliste Paul Geuthner, Paris, 1928.
- Renan, Ernest: Mission de Phénicie, Imprimerie Impériale, Paris, 1864.