محطات

جدار برلين: إرادة الوحدة تنتصر
إعداد: النقيب باسل الحجار
دكتوراه في التاريخ

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في العام 1945، عقد الحلفاء المنتصرون مؤتمرًا، وقرروا تقسيم ألمانيا إلى أربع مناطق تخضع كل منها لسيطرة واحدة من الدول الكبرى (الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفييتي، والمملكة المتحدة وفرنسا)، كما قُسِّمت برلين أيضًا إلى أربع مناطق.


معسكران في مدينة واحدة
مع بداية الحرب الباردة ظهرت التناقضات بين حلفاء الأمس حول مصير ألمانيا، فقررت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا توحيد مناطق نفوذها داخل ألمانيا، وتأليف جمهورية ألمانيا الاتحادية (ألمانيا الغربية) للوقوف بوجه جمهورية ألمانيا الديمقراطية (ألمانيا الشرقية) الخاضعة للمعسكر السوفياتي. نتيجة للواقع الجديد قُسِّمت العاصمة برلين إلى شطرين واعتبر كل منهما عاصمة لإحدى الدولتين اللتين انغمستا بالوكالة في الصراع بين قطبيّ الحرب الباردة (واشنطن زعيمة المعسكر الرأسمالي وموسكو قائدة المعسكر الشيوعي). وبذلك لم تعد الحدود بين شطري برلين حدودًا محلية، بل أصبحت حدودًا بين المعسكرين الشرقي والغربي (حلف وارسو وحلف الناتو)، أي بين قطبين مختلفين سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا.

 

بناء الجدار
كان من الطبيعي أن يؤثر اختلاف النظام الاقتصادي والاجتماعي بين شطري المدينة على سير الحياة فيها، خصوصًا وأن أعدادًا متزايدة من مواطني ألمانيا الشرقية بدأوا بالانتقال إلى ألمانيا الغربية التي شهدت نموًّا سريعًا. وكان معظم هؤلاء من الفئة المتعلمة، ما هدد القدرة الاقتصادية لألمانيا الشرقية، وهدد كيان الدولة ككل. إضافة إلى ذلك، تحوّلت برلين إلى مسرح للمعارك الاستخباراتية بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي ما جعل السوفييت ينظرون بعين الريبة إلى حركة انتقال السكان من شرق المدينة إلى غربها. ففي العام 1958 سجلت حركة الحدود مرور أكثر من 50 ألف برليني كانوا يعبرون يوميًا للعمل في ألمانيا الغربية حيث يتقاضون هناك رواتب أعلى بكثير ممّا يمكن أن يحصلوا عليه في الدولة الشيوعية. أدى الفارق على مستويي المعيشة والحريات بين الشطرين إلى ظهور السخط والتذمر من نظام الحكم الشيوعي، الذي عمد إلى بناء سور برلين لمنع الهجرة من شرق المدينة إلى غربها.
في 13 أغسطس 1961، أغلقت سلطات جمهورية ألمانيا الديمقراطية الحدود بين شرق برلين وغربها وعملت على تفكيك سكك الترامواي، وقطع طرق السيارات بأسلاك شائكة، ثمّ بدأ بناء الجدار على الخط الفاصل بين المنطقة التابعة للاتحاد السوفياتي (برلين الشرقية) والمنطقة الخاضعة لدول الحلفاء الغربيين (برلين الغربية). امتد الجدار الخرساني على مسافة 186 كيلومترًا وزوّد أسلاكًا شائكة مشحونة بالتيار الكهربائي، وبلغ ارتفاعه حوالى 12 مترًا. شارك أكثر من عشرة آلاف جندي في العمل، فالسلطات في ألمانيا الشرقية كانت ترغب بإنجازه بسرعة لجعله أمرًا واقعًا وقطع الطريق على الاحتجاجات الغربية المتوقعة.
لم تكتف ألمانيا الشرقية ببناء الجدار بل أنشأت حوله منطقة عسكرية وركزت ضمنه نقاطًا للمراقبة، فضلًا عن مجسات تقنية وأعمدة إنارة، وأعطيت لفرق المراقبة أوامر صارمة بإطلاق النار على المتسلقين حتى ولو كانوا أطفالًا أو نساءً.
قطع الجدار 97 شارعًا في المدينة، و6 فروع لمترو الأنفاق، وعشرة أحياء سكنية، ما أدى إلى كارثة اجتماعية واقتصادية، فقد أصبح المواطنون في شرق البلاد مسجونين فجأة وراء جدار.
اعتبرت الدعاية الألمانية الشرقية أن الجدار ضروري لمناهضة ما أسمتها بالفاشية، مبررة سبب وجوده بحماية جمهورية ألمانيا الديموقراطية من خطر التجسس وأعمال التخريب والعنف التي يمكن أن يتسبب بها المعسكر الغربي. لكن لا الدعاية ولا الجدار استطاعا منع سكان ألمانيا الشرقية من محاولة الهروب. فبعد مرور 11 يومًا فقط على بناء الجدار قُتل أول ألماني شرقي أمامه، وخلال ثمانية وعشرين عامًا من التقسيم، قتل ما لا يقل عن 138 شخصًا كانوا يحاولون العبور إلى القسم الغربي من المدينة. وتشير التقديرات إلى أن حوالى 5 آلاف شخص نجحوا في العبور من أصل 10 آلاف حاولوا ذلك.

 

سقوط الجدار
حاولت ألمانيا الغربية نسج علاقات ديبلوماسية مع جارتها الشرقية لكنها فشلت بسبب التعنت السوفياتي. مع بداية عقد الثمانينيات وبداية رجحان كفة الحرب الباردة إلى جانب الولايات المتحدة، وانشغال السوفيات بحربهم في أفغانستان، ظهرت الدعوات إلى وحدة ألمانيا، خصوصًا بعد تولي هلموت كول، منصب مستشار ألمانيا الغربية (1982).
اتخذت الخطوات لإعادة توحيد ألمانيا مسارها التصاعدي مستفيدة من الأوضاع الدولية الجديدة، واعتبارًا من مطلع العام 1989 بدأت البوادر العملية لتصدع النظام في ألمانيا الشرقية تظهر بوضوح، إذ شهدت هروبًا شبه جماعي (أكثر من 50 ألفًا) إلى النمسا عبر المجر طلبًا للجوء السياسي، وهو ما سمّته «نيوزويك» الأميركية في حينه «الهروب الكبير»، وكان أحد الأسباب الممهدة لانهيار جدار برلين.
توالت الضربات للنظام السياسي في ألمانيا الشرقية، وفي 7 تشرين الأول 1989 خرج حوالى مليون شخص في مظاهرات ضد النظام.
في 9 تشرين الثاني 1989، وبعد أكثر من 28 عامًا على بناء الجدار انطلقت الشرارة التي انتظرها دعاة الوحدة، وتمثلت بإعلان المكتب السياسي للحزب الاشتراكي الألماني، تشديد قيود التنقل بين الألمانيتين، ووضع قواعد جديدة للسفر إلى الخارج.
أثارت هذه الإجراءات غضب الشبان الألمان من جانبي الحدود وشرعوا بصورة تلقائية بهدم جدار برلين الذي قسم المدينة شطرين، مستخدمين مطارق صغيرة، ليجسدوا توق الشعب الألماني إلى الوحدة رغم خطر التعرض للرصاص. استمر الألمان في تحديهم للتقسيم وتدفقوا عبر الحدود.
في 13 حزيران 1990 بدأت رسميًا عملية هدم جدار برلين الذي قال عنه ذات يوم رئيس ألمانيا الشرقية السابق أريك هونيكر أنه «سيبقى مائة عام»، ومع سقوطه استعادت ألمانيا وحدتها.

 

المراجع:
• كيسينجر هنري, النظام العالمي: تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ، ترجمة فاضل جكتر، دار الكتاب العربي، بيروت، 2015.
• بريجنسكي, زبغينيو, رقعة الشطرنج الكبرى: الأولية الأمريكية ومتطلباتها الاستراتيجية، ترجمة أمل الشرقي، دار الأهلية، الأردن, 2012.
• حسنين هيكل, محمد, الزمن الأمريكي من نيويورك إلى كابل كلام في السياسة, دار الأهرام القاهرة, 2006.