تكريم

جرعة فرح تطفئ بعضًا من لهيب الأوجاع
إعداد: إلهام نصر تابت

كان لبنان بأمسّ الحاجة إلى جرعة فرح تطفئ بعضًا من لهيب الأوجاع المتراكمة في قلبه والأطراف، وكان من الصعب أن يجد الفرح ممرًا له، فالحزن أقفل الدروب والقلوب. خرج الفرح فجأة من العلب المقفلة، تدفّق بسخاء عبر صورة لامرأة حول عنقها شريط أحمر يتوسطه وسام، على وجهها ضحكة سرت في عروق اللبنانيين المتعبة، أنعشت القلوب دفعة واحدة.

 

فعلها ماكرون. رئيس الجمهورية الفرنسية الذي طار إلى لبنان متفقدًا بعد يومين من الانفجار ليقول لنا لستم وحدكم، ودّعنا بعبارة «بحبك يا لبنان». قالها من قصر الصنوبر في ختام مؤتمره الصحفي، وغرّد بها عبر تويتر. وعاد عشية المئوية الأولى للبنان الكبير حاملًا إلى فيروز وسام جوقة الشرف الفرنسي برتبة قائد، وهو أرفع تكريم رسمي تمنحه الدولة الفرنسية، أنشأه نابوليون بونابرت في العام ١٨٠٢.

 

بلسم على الجرح النازف

ليست المرة الأولى التي تُكرم فيها فيروز، نالت الكثير من التكريم وقدمت لها مفاتيح المدن. فرنسا تحديدًا كرمتها بوسامين من قبل، لكن المبادرة الأخيرة جاءت بلسمًا على الجرح النازف. من خلال فيروز أراد ماكرون أن يبث جرعة فرح في أجواء الوطن الحزين، وأراد أن يذكّر اللبنانين بصورة الوطن الجميل الذي تمثله فيروز، لبنان الثقافة والحضارة والجمال.

الحدث الذي كان بعيدًا عن أعين الإعلام استقطب العدسات المحلية والعربية والعالمية التي احتشدت قرب بيت السيدة فيروز في الرابية، على أمل التقاط صورة لها ولو من بعيد. وإذ كان الأمر مستحيلًا، صارت جدران البيت وشجيرات الياسمين التي تغمر مدخله بحد ذاتها هدفًا للكاميرات. في صباح اليوم التالي نشرت صفحة السيدة فيروز على موقع فيسبوك صور اللقاء التي ما لبثت أن أصبحت الأكثر تداولًا في لحظات. سُحر محبو فيروز بإطلالتها. تحدثوا كثيرًا عن تواضعها، وبساطتها، وبيتها الذي يشبه بيوتنا، عبروا لها عن حبهم، واعتبروا أنّها تكريم لمن يكرّمها.

الرئيس الفرنسي عبّر عن مشاعره تجاه فيروز وتأثره باللقاء قائلًا: «فيروز جميلة وقوية للغاية، تحدثت معها عن كل ما تمثله بالنسبة لي.. عن لبنان نحبه، وينتظره الكثير منا.. عن الحنين الذي ينتابنا». وعندما سُئل عن أغنيته المفضلة لفيروز أجاب بأنّها «لبيروت»، وهي الأغنية التي بثتها بكثافة محطات التلفزة والإذاعة عقب انفجار المرفأ. وكما افتتح زيارته الثانية للبنان بلقاء فيروز، أنهاها أيضًا بالحديث عنها بكلمات مؤثرة خلال مؤتمره الصحافي في قصر الصنوبر. وفي رده على أسئلة الصحافيين عن اللقاء الذي جمعه بها، تحدث عن شعوره بالرهبة والسحر أمام ديفا مثل فيروز، وقال: «اعتقد أنّها تحمل بشكل واقعي أو غير واقعي جزءًا من لبنان الحلم، وصوتها مهم للغاية بالنسبة لكل الأجيال التي رافقتها».

 

بين فيروز وباريس

بين فيروز وباريس حكاية ود وشغف، العاصمة الفرنسية كرمت مطربتنا واستقبلتها بكل ما يليق بها من تقدير، وفيروز بدورها بادلتها الحب، وكانت أغنيتها «باريس يا زهرة الحرية، يا دهب التاريخ» خير شاهد على العلاقة المميزة بينهما. في العام ١٩٧٥ لبت فيروز دعوة ميراي ماتيو وحلت ضيفة في برنامجها « الرقم ١-خاص ميراي ماتيو» الذي خصصت حلقاته لعشرة من كبار ممثلي الغناء في العالم. يومها اعتبرت وسائل الإعلام العالمية وجود فيروز في فرنسا حدثًا كبيرًا، وخصصت له تغطية واسعة. وتحت عنوان» فيروز اللامثيل لها» كتبت وكالة غاما الفرنسية: فيروز لدى الجماهير الصعبة الإرضاء، عربية كانت أم أجنبية، إحدى أهم المغنيات المعاصرات. وسواء غنت الحب، السحر، أو الحنين إلى الوطن، تبلغ ذروات مدهشة ذات تأثير لا يضاهى، ربما يأتي يوم يطلق فيه اسم زمن فيروز».

 

ما بيموت

في العام ١٩٧٩ أحيت فيروز حفلتين في مسرح الأولمبيا أحد أهم المسارح العالمية وأعرقها، وخصص ريعهما للأطفال اللبنانيين ضحايا الحرب. حفظت باريس للمناسبة مساحة رحبة في ذاكرتها. وفيروز التي حملت لبنان في صوتها، لاقت في باريس ترحيبًا استثنائيًا، واستقبالًا شعبيًا حاشدًا، واهتمامًا رسميًا وإعلاميًا حارًا. «فيروز في الأولمبيا، حب من لبنان»، «لبنان وفيروز والحب على مسرح الأولمبيا»، «السلام والحب ولبنان من فيروز إليكم»، هذا بعض ما قالته الصحافة الفرنسية يومها مرحبة بفيروز. وبينما تولت إذاعة مونتي كارلو نقل الحفلتين مباشرة على الهواء، كان اللبنانيون والعرب والفرنسيون ينصتون إلى فيروز تخاطب فرنسا: «يا فرنسا، شو بقلن لأهلك عن وطني الجريح، عن وطني المتوّج بالخطر وبالريح، قصتنا من أول الزمان بيتجرّح لبنان، بيتهّدم لبنان، بيقولو مات وما بيموت، وبيرجح من حجارو يعلي بيوت، وتتزين صيدا وصور وبيروت». أنصتت فرنسا بشغف إلى غناء امرأة تناضل في سبيل وحدة بلدها وخلاصه.

 

وسام الآداب والفنون

تمر سنوات، ويتجدد الموعد في العام ١٩٨٨ في برسي، وباريس هيأت هذه المرة استقبالًا يليق بالمرأة التي أضحت أيقونة في وجدان مئات الملايين. رئيس الجمهورية فرنسوا ميتران منحها وسام الآداب والفنون من رتبة كومندور. ووزير الثقافة جاك لانغ الذي قلدها الوسام ألقى في المناسبة كلمة اعتبر فيها فيروز «هبة من الله ومن لبنان ومن المعجزة». وخاطبها قائلًا: «تملكين سيدتي صوتًا أكبر من ذاكرتنا وحنينًا إلى هذا اللبنان الذي كان فردوسًا أرضيًا، وبرهانًا حيًا عبر عشرات السنين على التكامل الضروري والمُثري للثقافات والأديان والإثنيات. كنت تغنين أمام أعمدة بعلبك وكانت آلهة الرومان والفينيقيين تنصت إليك وتبتسم.» لانغ اعتبر أيضًا أنّ صوت فيروز يمثل نقاء البداهات الأولى، وأنّها من الذين يحفظون وجود لبنان من رياح الحرب...» أما على المستوى الإعلامي فقد شغلت زيارة فيروز إلى فرنسا وسائل الإعلام المختلفة على مدى أسبوع. وبينما خصصت الصحف والمجلات صفحاتها الأولى للحدث، قدمت القناة الثانية حلقة خاصة عن فيروز استضافت فيها عددًا من كبار الشعراء والمثقفين اللبنانيين والعرب الذين تحدثوا عن فيروز وما تمثله لهم.

 

تكريم الإشعاع والشجاعة

سنة ١٩٩٧ كرمت فرنسا فيروز مرة ثانية إذ منحها الرئيس جاك شيراك وسام جوقة الشرف من رتبة فارس، قلدها إياه السفير بيار لافون في قصر الصنوبر، وقال: إنّ الرئيس شيراك أراد تكريم الإشعاع العظيم الذي يجسده صوت فيروز وتكريم شجاعة هذه السيدة التي رفضت إخضاع صوتها لقضية ما إلا لوحدة اللبنانيين».

بدورها كرمت الصحافة الفرنسية فيروز وخصتها بتقدير كبير، واجتهد كتابها في استنباط الأوصاف والألقاب الملائمة لها. وفي حين اعتبرتها «لوموند» العمود السابع في الهيكل، اختارتها «ماري كلير» امرأة العام ١٩٩٤، واعتبرتها «الأكسبرس بعد سنة من ذلك واحدة من السيدات اللواتي يحركن العالم. وفي العام ١٩٩٨ كرمها فردريك ميتران بوثائقي جميل.

تاريخ من المودة والتقدير بين فرنسا وفيروز، وقد جاءت مبادرة الرئيس ماكرون حيال فنانتنا الكبيرة عشية ذكرى مئوية لبنان الكبير تكريمًا للإبداع والثقافة والجمال، للقيم التي تعبر عن لبنان الحقيقي. لبنان الذي ما زلنا نحلم بأن نراه على صورة الوطن الذي غنته فيروز أسطورة الغناء العربي الحيّة وفق ما وصفتها وسائل الإعلام العالمية.