جرائم العدو

جريمة جديدة في سجل الإجرام الصهيوني تعود إلى 1982
إعداد: د.أحمد سيف الدين
ضابط متقاعد

غواصة للعدو أغرقت سفينة سياحية لبنانية وأوقعت 25 شهيدًا

 

اعترفت سلطات الاحتلال الإسرائيلي رسميًا، من خلال تقرير بثته القناة العاشرة في تلفزيون العدو ضمن برنامج وثائقي عن حرب لبنان الأولى خلال شهر تشرين الثاني الماضي، بواحدة من جرائمها البشعة ضد لبنان. نُشر التقرير على الرغم من منعه من الرقابة، بعد حصول القناة على إذن من المحكمة العليا. وفي التفاصيل، أنّ غواصة تابعة لبحرية العدو من طراز غال 450 قامت بإغراق سفينة سياحية لبنانية اسمها عبد الرحمن كانت تبحر في المياه الإقليمية قبالة مدينة طرابلس بالقرب من جزيرة الأرانب صيف العام 1982، بعد إصابتها بطوربيدين اطلقتهما الغواصة المذكورة.

 

كان على متن السفينة ستة وخمسون مدنيًا من مختلف الأعمار استشهد خمسة وعشرون منهم، وكان الاعتقاد السائد أنّها غرقت نتيجة عطل في المحرك أو انفجار ناتج عن عبوة ناسفة زرعت فيه. وقد امتنع جيش العدو عن تجريم العملية وما نتج عنها من ضحايا مدنيين عزّل، وعن مساءلة قائد الغواصة، واعتبر بيان أصدره، أنّ الأخير تصرّف وفق التعليمات، وأنّ الأمر لا يخرج عن كونه خطأ في التقدير، لا يرقى لجريمة حرب ولا يستدعي تحقيقًا جنائيًا وفق ما ورد في تقرير القناة.
هذا الموقف دأبت عليه سلطات الاحتلال في كل مرة ترتكب فيه جريمة ضمن مسلسل إجرامها المتواصل.

 

جريمة دولية
تطرح هذه الجريمة المروعة أسئلة كثيرة بعد اعتراف العدو بارتكابها وكشف حقيقة ما جرى للسفينة المنكوبة. إذ تثبت العملية أنّ جريمة دولية قد ارتكبت بدم بارد بحق مدنيين عزل من المفروض أن يحميهم القانون الدولي الإنساني وأن تلتزم أحكامه الدول الموقعة عليه ومنها كيان العدو. ويترتب على هذه الجريمة آثار قانونية بالغة الأهمية يتحمل العدو فيها مسؤولية إجرامه. يمكن إيجاز الوقائع على الشكل الآتي: في أثناء اجتياح قوات الاحتلال لمناطق واسعة من لبنان وصولًا إلى العاصمة بيروت صيف العام 1982, وتنفيذ العدو لحصار جوي وبحري على أجواء لبنان وشواطئه، تم إغراق سفينة تنقل مدنيين في المياه الإقليمية اللبنانية، ولم يعلم أهالي الضحايا أنّ ذويهم قضوا نتيجة قصف السفينة وإغراقها من قبل بحرية العدو, الذي عاد واعترف بالجريمة. وهذا الاعتراف حجة على العدو، ويترتب عليه التزامات دولية وفق الاجتهاد والفقه الدولي. إنّ المنطقة التي أُغرقت فيها السفينة كانت تقع تحت سلطة الاحتلال وهذا معيار لتصنيف الجريمة بأنّها جريمة حرب إذ إنّ القانون الدولي الإنساني بفرعيه لاهاي وجنيف والقضاء الدولي الجنائي، يجرم هذه الأفعال منذ محاكمات نورمبرغ وطوكيو بعد الحرب العالمية الثانية. لقد وُضعت قواعد القانون الدولي الإنساني وترسخت بهدف حماية المدنيين بشكل عام، وبخاصةٍ في أثناء النزاعات المسلحة. والمواثيق الدولية التي توجب حماية السكان المدنيين كثيرة ولا يمكن تعدادها، لذا سيتم الإشارة إلى بعض الأمثلة: تنص المادة 3 المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربعة الموقعة بتاريخ 12 آب 1949 على ضرورة التزام عدم مهاجمة المدنيين وقتلهم. وتنص المادة 50 من اتفاقية جنيف الأولى على المخالفات الجسيمة ومن أهمها: القتل العمد للمدنيين. وتنص المادة 51 من الاتفاقية الثانية على هذه الجرائم الجسيمة وهي مطابقة للمادة 50 السابقة، كما نصت المادة 130 من الاتفاقية الثالثة على الجريمة ذاتها أي اقتراف الفعل على الأشخاص المحميين، والمادة 147 من الاتفاقية الرابعة. أمّا الملحق الأول باتفاقيات جنيف للعام 1977 فقد نص على أحكام مفصلة وأساسية حول وجوب التفريق بين المدنيين والمحاربين، وتنطبق أحكامه على أي هجوم في البر أو البحر يستهدف السكان المدنيين, وحظر استهدافهم أو تعريضهم لهجوم (م 75 من الملحق). واعتبرت المادة 85 في فقرتها الخامسة أنّ المخالفات الجسيمة للاتفاقيات الأربعة وللملحقين هي جرائم حرب، فيما أعطت المادة 86 صلاحية قمع هذه المخالفات للدول الأطراف بهذه الاتفاقيات، أي أنّ صلاحية الملاحقة هي صلاحية عالمية. ولكن لا أحد يجرؤ على مقاضاة كيان العدو، والدول التي حاولت ذلك (بلجيكا مثلًا) اضطرت إلى التراجع من جرّاء الضغوط التي تعرضت لها.

 

حماية المدنيين أولوية
ما معنى أن يتكرر النص ذاته في هذه الاتفاقيات والملحقين في اتفاقيات دولية؟ يعني أنّ المجتمع الدولي يعطي الأولوية لحماية المدنيين في أثناء الحروب ويؤكد على الضمانات التي يجب أن تعطى لحماية الإنسان في حياته وكرامته. والقول «إنّ قتل المدنيين هو جريمة حرب» أي أنّها كل فعل يرتكب خلافًا للمعاهدات والمواثيق الدولية يضعها في خانة الجرائم الدولية التي يجب على المجتمع الدولي ملاحقتها، لأنّها تضر بالمصالح الأساسية للمجتمع الدولي ممثَّلة بالأمن والسلام الدوليين. وقد سعت الأمم المتحدة وبخاصةٍ الجمعية العامة إلى عدم إفلات المجرمين الدوليين من تبعة هذه الجرائم، فأصدرت اتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم على الإنسانية بموجب قرارها رقم 2391 تاريخ 26 تشرين الثاني من العام 1968، وحددت تاريخ نفاذه في 11 تشرين الثاني 1970. وبوصف هذا الجرم جريمة دولية لا بد من الإشارة إلى أركانها الثلاثة: الركن المادي ويتألف من عنصرين: قيام حالة حرب وارتكاب أحد الأفعال التي تحظرها القوانين الدولية، وهذا العنصر ينقسم إلى قسمين: استعمال أسلحة ووسائل محظورة دوليًا، وارتكاب أحد هذه الأفعال على الأشخاص والأماكن المحمية. ولما كانت جرائم الحرب جرائم قصدية فإنّ الركن المعنوي فيها يقتضي ضرورة توافر القصد الجنائي، والمقصود القصد العام أي العلم والإرادة، وكلاهما متوافران في جريمة إغراق السفينة. أمّا الركن الثالث فهو الركن الدولي، ارتكاب الجريمة الدولية بناء على تخطيط دولة محاربة وتنفيذها من أحد مواطنيها أو التابعين لها ضد دولة أخرى باسم الدولة أو برضاها أو بمعرفتها. وتجري الملاحقة على ارتكاب جريمة دولية على أساس المسؤولية الجنائية الفردية.

 

ماذا عن الملاحقة القانونية؟
إنّ السؤال البديهي الذي يطرح: هل يمكن ملاحقة العدو أمام القضاء الدولي الجنائي؟
ثمة صعوبات على هذا الصعيد تعود إلى اختصاص المحكمة ونظامها، وقد كان على مجلس الأمن أن ينشئ محكمة خاصة للنظر في جرائم العدو المتمادية منذ قيام هذا الكيان المجرم كما حصل في يوغوسلافيا السابقة ورواندا وغيرها، إلّا أنّ ذلك غير متاح حاليًا. لكنّ هذا الوضع لا يقفل باب اتخاذ الإجراءات في حق العدو وفق القانون الدولي الذي يتيح طرقًا أخرى لمقاضاته وتجريمه معنويًا وماديًا. وخير مثال على الإجراءات المعنوية، المحاكمة العالمية التي جرت ضد المسؤولين عن غزو العراق في كوالالمبور، وتبعها إدانة عالمية من قبل الرأي العام العالمي. كما أنّ الإجراءات الدولية لا تمنع قيام أو إنشاء محاكم وطنية للنظر في هذه الجرائم، وعلى الأقل توثيقها وتحديد المتضررين المباشرين منها، إلى أن يحين وقت تنفيذ الأحكام.


هوامش ومراجع:
(1)- درايفوس اسم ضابط يهودي فرنسي (ألفرد درايفوس) اتهم من العام 1895 بارتكاب جرم الخيانة لمصلحة ألمانيا وتمت محاكمته وإدانته أمام القضاء وتجريده ونفيه إلى جزيرة نائية. وانقسم الرأي العام إلى جهتين الأولى أيدت إحالته إلى القضاء، والثانية عارضت واعتبرت أنّ الإجراءات الموجهة ضده تمت بسبب الكراهية والحقد على اليهود. وكان هرتزل مؤسس الصهيونية معاصرًا لهذه القضية فاستغلها أوسع استغلال للترويج لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين وتحت تأثير الرأي العام، حولت القضية إلى القضاء المدني من جديد وإعادة المحاكمة، وتم تبرئة درايفوس من الخيانة. راجع الموقع الإلكتروني للجزيرة. www.aljazira.com
(2)- الدكتور محمد المجذوب، القانون الدولي العام، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، الطبعة السابعة، صفحة 574.
(3)- الدكتور علي عبد القادر القهوجي، القانون الدولي الجنائي، أهم الجرائم الدولية، المحاكم الدولية، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، الطبعة الأولى، صفحة75.
(4)- المادة 12 من نظام روما.
(5) – المادة 11 من النظام نفسه.
(6) - المادة 13 من النظام نفسه.
(7)- كوالا لمبور عاصـمة ماليزيا، جرت فيها خلال شهر تشرين الثاني من العام 2011 محاكمة المسؤولين عن غزو العراق، واستوفت شروط المحاكمة العادلة كلّها، وصدر بنتيجتها حكم وصف بأنّه تفسيري لعدم توافر الصلاحية.