سياحة في الوطن

جسر القاضي
إعداد: باسكال معوّض

في البدء كان النهر ومن ثم جســــــــر وطواحين وحكايات...

ينشر نهر الصفا عبير الصنوبر والدلب والصفصاف مع رذاذه المتطاير على صخور صقلتها مياهه، ونحتتها قطعاً مضيئة برّاقة كالماس...

واد عريق حجارته تحكي قصص التاريخ والقوافل التي مرّت فوق جسره...

جسر القاضي بلدة ربما حلمت بها في إحدى الليالي، لكأنها مشهد خيالي يخبرون عنه في القصص، أو يرسمونه لوحات زيتية لوصف جنائن الفردوس.

في نعيمها يحلو الجلوس طوال النهار فتشعر أن عمرك يطول... مشاهدها الخلابة تذهب بالعقل أو تكاد حتى إذا شربت من ماء نهرها، عاد لك الصواب والرشاد.

بلدة صغيرة رصيدها الأول جمالها والهدوء المسترخي في ربوعها، ومعالم جميلة ببساطتها وانسجامها مع محيطها الطبيعي، في البدء كان النهر ومن ثم جسر وطواحين...

عن بلدته الجميلة حدثنا مختار جسر القاضي السيد كمال الدبيسي، فكانت هذه الجولة في معالمها وتاريخها.

 

موقع بين الغابات والأنهر

على مساحة صغيرة من الوادي تستلقي بلدة جسر القاضي وسط غابات الصنوبر وعطرها، يحدها من الجنوب نهر الدامور وبلدة دير كوشة، ومن الشرق سلفايا، أما من الشمال فتحدها بلدات الشحار الغربي رمحالا، بيصور ومن الغرب تحدها بلدة كفرمتى.

تنتج جسر القاضي الفواكه الموسمية كافة إنما بكميات صغيرة، كما تفخر بإنتاج الزيتون والزيت حيث كانت في الماضي تعج بمكابس الزيتون داخل المطاحن. كذلك فإن أشجار الصنوبر التي تملأ أحراجها توفر كميات كبيرة من إنتاج الصنوبر المميز والفاخر.

أما الحرير فقد كان انتاجه في الماضي وفيراً، وكان في البلدة كرخانة كبيرة لإنتاجه (وأنشئت في العام 1950) إلا أن هذه الصناعة انقرضت شيئاً فشيئاً من المنطقة ومن الوطن ككل.

وتعتمد البلدة اليوم على السياحة حيث تحوي خمسة مقاه تتمركز كلها على ضفاف النهر وبما أن علوها لا يزيد عن الـ500  متر عن سطح البحر، فإن جسر القاضي بلدة للفصول كافة.

ويبلغ عدد سكان البلدة نحو 150 نسمة معظمهم يؤمونها صيفاً طمعاً بنسمة الهواء النظيفة من واد يمر فيه نهر غزير لا تجف مياهه على مدار السنة. ويتوزع سكان البلدة على العائلات الأربع التالية: دبيسي، عبود، أندراوس، أبي سعد.

 

حكاية الجسر

منذ نحو 600 سنة كان التنوخيون يسكنون منطقة جبل لبنان، وكانت هذه المنطقة ممراً حيوياً ما بين بعبدا وبيت الدين التي كانت مركز الحكم آنذاك، وكان الناس يجتازون نهر الدامور للوصول الى ضفته الأخرى والذهاب الى القرى التي يقصدونها. وكانوا خلال فصلي الصيف والخريف "يشمرون" عن أقدامهم ويقطعون النهر حفاة، أما خلال فصل الشتاء فلم يكن بالإمكان العبور وكانت المواصلات تنقطع.

ويقال أن أحد التنوخيين الذين سكنوا المنطقة وهو القاضي عماد الدين حسن المعروف بـ "أبي العز" و"أبي اليقظان"، كان يمر دائماً في النهر على صهوة جواده، ولفته مرة، كيف أن النساء يرفعن أثوابهن للمرور في مياه النهر فأخذته النخوة والشهامة فقرر بناء جسر يحفظ الشرف ويستر النساء عن العيون الفضولية.

وقد بني الجسر في مطلع القرن الرابع عشر ميلادي وعرف باسم جسر القاضي وسميت المنطقة باسمه.

يبلغ طول الجسر نحو 25 متراً وعرضه ثلاثة أمتار  أما ارتفاعه فأربعة، وقد استعملت في بنائه الأحجار الطبيعية المغموسة بالكلس والزيت. وقد قال عن الجسر أحد الزجّالين:

"يا جسر من بين الجسور بتنعرف قاضي البناك الدهر بفضلو اعترف كرمال حرمي النهر بلل ثوبها عمّرك حتى يحافظ عالشرف" والحقيقة أن الجسر لم يُبن فقط من أجل امرأة اضطرت الى أن "تشمّر" عن ركبتيها لتجتاز ماءه، بل كان الهدف منه تسهيل المرور على أهالي المنطقة والجوار. لأن هذا الوادي الضيق كان أقرب الممرات وأسهلها على المتنقلين من منطقة الشحار والغرب والساحل الى منطقة المناصف والشوف والجرد ومنها الى البقاع. ويقال أن بناءه استغرق أربعين يوماً.

كان الجسر نوعاً ما ضيّقاً يفي فقط بحاجة المارين مع دوابهم، أما عربات الخيل فكانت تلاقي صعوبة في اجتيازه. ولم يكن شديد الارتفاع لأن المياه كانت تغمره إبان فيضان النهر. وفي أواخر القرن السابع عشر رممه القاضي زين الدين محمد بعد أن خرّبت مياه النهر قسماً منه.

 

جسر ثان

لما تداعى الجسر وأضحى ضيقاً على العربات وخطراً على سلامة العابرين، أقيم في منطقة شمالي الجسر الأول جسر ثان أوسع من سابقه وأطول وأعلى.

وقد قضت مياه النهر على الجسر القديم ولم يبق منه سوى بعض آثاره في أضيق نقطة من النهر، تذكّر بمروءة وشهامة رجالات الماضي.

وقد بني الجسر الثاني في العام 1885في عهد المتصرف واصا باشا، وذلك بعد أن شقّت الطريق من بعقلين نحو بعبدا، فكانت الحاجة الى جسر متين يكفي حاجات طريق حيوي، خصوصاً وأن معبر جسر القاضي يشكل نقطة أساسية في هذا الطريق. ويبلغ طول الجسر العثماني35 متراً وعرضه ستة أمتار أما ارتفاعه فحوالى تسعة أمتار، وقد بني بالحجر المقصوب ويقوم على قناطر ثلاث، أما أفريزه من الجانبين فقد بني من الحجارة الضخمة المنحوتة وقد نقش على قفله تاريخ بنائه.

بعد أن شقت طريق- بعبدا -­ بعقلين أقيم قرب الجسر خان لاستراحة المسافرين مع خيولهم، ولا تزال آثار الخان قائمة حتى اليوم.

وقد قال فيه ابراهيم بك الأسود هذا البيت تأريخاً له وتكريماً لواصا باشا:

"وجعلت ذا الجسر الجديد يقول في تاريخه أني بفضلك أشهد".

 

.. والجسر الحديث

 تعب الجسر الثاني من مرور السنين والقوافل وزاد الطين بلة مرور الدبابات الإسرائيلية عليه. أحيل على التقاعد، وبني جسر ثالث شمالي الجسر الثاني وكان واسعاً ومتيناً ومدروساً بحسب قوانين الهندسة الحديثة.

يبلغ طول الجسر الثالث 48 متراً وعرضه 12 متراً وارتفاعه عشرة أمتار وهو من الإسمنت المسلح.

 

المطاحن المائية

كانت مياه النهر تشكل طاقة هامة لتشغيل طواحين القمح، لذا فقد أقيمت على نهر الصفا الذي يمر في بلدة جسر القاضي الطواحين المائية ومنها ثلاث:

مطحنة الجسر: وهي قديمة العهد تعود الى أيام التنوخيين، ويرجـح أنها بنيت في أواخـر القرن الرابع عشـر ميلادي أي بـعد بـناء الجسر بعشـرات السنـين، ما يدل على تسميتها باسمـه وهي قائمة حتى اليوم وتقـع الى جانب الجسر الأول المتهدم.

تتألف هذه المطحنة من ثلاث غرف متلاصقة تلامس ماء نهر الصفا، وتدار المطحنة شتاء بفضل ماء نهر الغابون، وصيفاً بماء نهر الصفا، وفيها حجران ومكبس للزيتون.

مطحنة القناطر: وقد سميت كذلك لأنها بنيت على قناطر معقودة، وتقع على الضفة الشرقية للنهر ويرجح أن يكون بناؤها تم في أواسط الحكم العثماني، وهي تتألف من غرفتين كبيرتين سقفهما من الحجر المعقود وعلى واجهتهما ثلاث قناطر.

وقد توقفت المطحنة عن العمل في العام 1950إلا أنها ما زالت قائمة بحالة جيدة وتستخدم اليوم كمقهى للمتنزهين على ضفاف نهر الصفا.

المطحنة الجديدة: ويدل اسمها على أن بناءها حديث العهد، وهي تقع شمالي شرقي مطحنة القناطر وتتألف من ثلاث غرف وتحوي حجرين ومكبساً للزيتون.

 

الخان

كان الخان عند الجسر قائماً يستقبل المسافرين، ويهتم بالخيول، وكان عبارة عن تسع غرف معقودة من الحجر الطبيعي. ويقوم الى جانب الخان، وعلى بعد عشرين متراً بناء معقود مؤلف من غرف عدة يرجح أنها كانت مركز عمل موظفي الخان ومكان نومهم، وفوق هذا البناء منزل سطحه من القرميد الأحمر تزين واجهته القناطر الحجرية. وقد لعب هذا البناء دور مركز لبريد المنطقة المجاورة الذي توقف عن العمل في عهد الإستقلال تقريباً.

 

تاريخ القرية

لم يكن لقرية جسر القاضي خراج عقاري خاص بها، فقد كانت أراضيها قديماً تابعة لبلدة البنية من الجهة الغربية للنهر ولبلدة دير كوشة من الجهة الشرقية، ولم يكن للقرية سجل نفوس خاص بها بل كان الأهالي مسجلين في قيد القرى التي كانوا يتبعونها ويسكنونها.

وفي العام 1966تقدم آل الدبيسي بطلب الى الدولة لفتح سجل للجسر تدوّن فيه أسماء سكانه، فتم قبول الطلب، وأصبحت منذ ذلك الوقـت بلدة جسر القاضي مستقلة ذات مختارية خاصة بها وسجل قيد منفرد، وتقع أراضيها غربي نهر "الصفا".

كانت البلدة في البداية مزرعة تقتصر فقط على المطاحن وعمالها المقيمين فيها، ولما بنى العثمانيون الجسر، وأقيمت خانات من حوله، أتى بعض المستثمرين من الجوار حيث رأوا أن المنطقة قادمة على ازدهار، فافتتحت الدكاكين المحيطة بالخانات لتأمين حاجات المسافرين. وكثرت المتاجر الصغيرة، واشترى أصحابها أراض في المنطقة من دون أن يبنوا لهم منازل في البلدة.

بعـد الحرب العالميـة الأولى وزوال الحـكم العـثماني، تفرّق المستثمرون بسـبب ضيق الحال فأقفـرت المنطقـة من الـناس. وفي أوائل القرن العـشرين اشترى الشـيخ أبو أمين الدبيسي أرضـاً، وبنى عليـها منزلاً كبيراً فكان أول الساكنين في المنطقة. وتشجع الكثيرون للسكن وأتوا من البلدات المجاورة وبنوا لهم منازل في بلدة جسر القاضي.

وتعد البلدة اليوم حوالى 150 نسمة موزعين على نحو 20بيتاً على الضفة الغربية لنهر الصفا.

 

 الطريق ومنعطفاتها

شقّـت طريق جسر القاضي أيام العثمانيين في عهد واصا باشا وقد عرفت بتعرجاتها الكثيرة والخطرة، وهي شقت على هذا النحو تسهيلاً لمرور عربات الخيل (كارو)

وتحاشياً قدر الإمكان للصعود أو النزول الحاد. وهذه اللولبة في الطريق مكّنت الخيول من اجتياز المنعطفات الصاعدة من الوادي حتى قبر شمون شمالاً ودير كوشا شرقاً، وقد كان عدد المنعطفات في الماضي 36منعطفاً وقد أصبحت اليوم حوالى 24.

إلا أن هـذه الطريق الجميــلة التي تظلـلها أشجار الصنوبر مضفية عليها جمالاً طبيعياً أخّاذاً، كانت في العهد العثماني وإبان الإنتداب الفرنسي مخبأ لقطاع الطرق الذين كانوا يعتدون على الفلاحين الذين يأتون لطحن حبوبهم في مطاحن الجسر ويسلبونهم أموالهم وغلالهم، فراح المتنقلون على هذه الطريق يجتازونها جماعات كبيرة تحمي بعضها بعضاً.

 

لماذا قال الأمير عماد الدين: "بطّلت عمّر مطحنة عمّروا جسر"؟

كان القضاء في مقدمة اهتمامات الأمراء التنوخيين، كونه حافظ العدل وحارس الحق. في أوائل القرن الخامس عشر، تولى الأمير عماد الدين التنوخي القضاء، وقد عرف بنزاهته وعدله واشتهر بتقواه التي منعته من أن يكوّن له إقطاعاً، فاكتفى بما له من ملك خاص.

في أحد الأيام، وبينما كان الأمير عماد الدين يشرف على بناء مطحنة له عند ملتقى نهري الصفا والغابون، إذا بامرأة تحاول عبور النهر، رافعة ثوبها كي لا يتبلل بالمياه، فانكشفت ساقها؛ تغامز العمال لمشاهدة هذا المنظر غير المألوف في تلك الأيام، مما أثار حمية الأمير، فنهرهم قائلاً:

"بطّلت عمّر مطحنة عمروا جسر". وكان له ما أراد وانجز الجسر خلال أربعين يوماً.

شاع خبر بادرة الأمير وانتفاضته لصون الشرف والكرامة، وتناقلت الأجيال هذه النادرة حتى عرفت المنطقة باسم "جسر القاضي" تخليداً للأمير التنوخي.

وقد توارثت سلالته القضاء حتى عرفت بآل "القاضي"، الذين من بينهم اليوم العميد المتقاعد أمين القاضي واللواء المتقاعد سمير القاضي رئيس الأركان الأسبق.

تصوير:المجند جورج عيد

مرجع:أرشيف الشيخ حافظ أبو مصلح