غياب

جلال خوري شعاع آخر ينطفىء
إعداد: تريز منصور

أحد روّاد العصر الذهبي للمسرح اللبناني

كاتب، مخرج مسرحي، ناقد فنّي وممثل، وثروة فكرية أغنت خشبات بيروت ومسارِحها. إنه جلال خوري أحد آباء المسرح المعاصر وأحد أبرز روّاد العصر الذهبي الذي عرفه المسرح في لبنان.

 

الصحافة وبداية البدايات

ولد المخرج جلال خوري في 29 أيار 1934 في بيروت، المدينة التي طبعت أعماله بسحرها وتناقضاتها وانهياراتها على مدى أكثر من 50 عامًا، والتي احتضنت خشباتها جنونه المسرحي ومقارَبته الرؤيوية والثورية الثاقبة.
الصحافة هي المهنة الأولى التي زاوَلها، فمنذ نهاية الخمسينات بدأ الكتابة في صحيفة الأوريون Orient. أول الأمر كتب في مجال الرياضة، ثم في النقد الفني، قبل أن ينتقل إلى خشبة المسرح كممثل بطلب من صديقه الصحافي المعروف أندريه بيركوف André Bercoff. يومها لم يُدرك أنّ هذه النقلة ستخطّ مستقبله ومصير حياته، وستضعه على سكّة الابتكارات والتجارب المسرحية إلى آخر حياته. وكان يردّد دائمًا: «المسرح اختارني ولست أنا من اختاره».
انطلاقة جلال خوري المسرحية الأولى كانت مع مسرحية «الإبرة والخيط». العنوان آت من مهنة والده مصمّم الأزياء الشهير الياس خوري. وقد أخذ الكثير من جمالياتها وفنونها إلى خشبته، فطَرّز وزخّرف ونسج خيوطًا ذهبية بين تيارات المسرح ومدارسه من الشرق إلى الغرب.
في العام 1964 تعرّف إلى الشاعر والمخرج المسرحي الألماني الكبير برتولد بريختBretold Brecht، وكان لهذا اللقاء الأثر الكبير في مشوار خوري الفكري والمسرحي،.الذي اقتبس من أعمال بريخت مسرحية «رؤى سيمون ماشار» وقدّمها بالفرنسيّة.
لقاؤه بعد ذلك بالصحافي الكبير جورج نقّاش كان له أيضًا أثر كبير في مسيرته الفنية والمهنية. فقد نصحه النقاش بالتخصّص في المسرح واستحصلَ له على منحة للدراسة في فرنسا.
عاد خوري إلى لبنان إثر هزيمة 1967 التي هزّت الوجدان العربي وأحدثت صدمة كبرى، كان صداها عميقًا لديه. وقد تجلّى هذا الأثر في مسّرحية «وايزمانو بن غوري» (1968) التي كتبها بالفرنسية، وكانت اقتباسًا من برتولد بريخت (بتصرّف شديد) عن مسرحية «آرتيرو أوي»، أي «صعود هتلر»، وقد ترجمها الراحل الكبير ريمون جبارة، وقدّمت باللغة المحّكية، ومثّل فيها روجيه عساف.
حول أثر هزيمة حزيران 1967 في وعي المثقّفين العرب كتب جلال خوري في صحيفة «النهار» في العام 2016: «بعثت هزيمة الجيوش العربيّة أمام إسرائيل خلال حرب حزيران 1967 حياة جديدة في المسرح اللبناني، وأعطته مبرّر وجود، وشخصيّة مميّزة. في الواقع، كان لهذه الهزيمة وقع مأسوي كبير على وعي الإنسان العربي، ممّا دفعه إلى طرح الكثير من التساؤلات على نفسه، وإلى الشكّ في كثير من الثوابت، وإعادة النظر في عدّة أمور. المسرح الذي كان قائمًا في بيروت، على الرغم من وضعه الحرفي، أصبح من أكثر وسائل التعبير فاعليّة، قياسًا للمناخ المضطرب الذي كان سائدًا في هذه الحقبة».

 

المسرح من النخبوية إلى الجماهيرية
بدأ مشواره مع الكبار الذين أسّسوا لمسرح لبناني حديث، مثل نضال الأشقر، ومنير أبو دبس، وأنطوان ولطيفة ملتقى، وروجيه عساف. ومع مسرحية «جحا في القرى الأمامية» التي قدّمها في العام 1971، بأداء خاطف للأنفاس للممثّل الراحل الكبير نبيه أبو الحسن، نقلَ خوري المسرح من مرحلة كانت العروض خلالها لا تتخطى الـ30، إلى أخرى باتت فيها تتجاوز الـ150 عرضًا.
بعدها، توالت أعماله المسرحية، فقدّم «الرفيق سجعان» (1974)، ثم «كذاب... أو محاورات شاهين وطنسا» (1982) و«فخامة الرئيس» د1988) التي حقّقت نجاحًا باهرًا، وأعيد عرضها على الخشبة في العام 2015 أي بعد 27 عامًا من العرض الأول، كمحاولة للإجابة على مأزق الفراغ الرئاسي الذي كان يعيشه لبنان يومها.
وتحقيقًا للرغبة الكبيرة التي سَكنته بتقريب المسرح أكثر من لغة الناس البسيطة مع المحافظة على عمق موضوعاته وطروحاتها، قدّم سلسلة من الأعمال المسرحية الإضافية، من بينها: «يا ظريف أنا كيف» (1992)، و«رزق الله يا بيروت» (1994)، و«هنديّة، راهبة العشق» (1999)، ثم «الطريق إلى قانا» (2006)، و«رحلة مُحتار إلى شرْي نَغار» (2010).
وعلى الرغم من يأسه من وضع المسرح اللبناني، وقلقه بشأن مستقبل طلابه بعد التخرّج، كان جلال خوري من بين أنشط المسرحيين. فقد قدّم في السنوات الثلاث الأخيرة، عدّة أعمال منها، «شكسبير إن حكى» (2016) ففي مناسبة مرور 400 سنة على وفاة شكسبير، غامر بتوليف نصوص لعبقري المسرح الإنجليزي، أداها الممثلان الكبيران ميراي معلوف ورفعت طربيه. بهذا العمل عاد خوري مرة أخرى إلى النص كمحرّك أول لأي أداء تمثيلي ناجح. قبله قدّم «خدني بحلمك يا مستر فرويد» (2014) وهو نصّ يقوم على حوار بين ممثلة ومخرج، تنّكشف من خلاله مجموعة من الصراعات في وقت واحد، مهنية، إنسانية، سياسية واجتماعية...
كان جلال خوري أوّل مسرحي لبناني تتُرجَم أعماله إلى عدّة لغات: الألمانية، الإنكليزية، الأرمنية، الإيرانية والفرنسية، وتُقدّم في الخارج. كما كانت له دراسات عديدة عن المسرح والفنون باللغتين الفرنسية والعربية.
استمرّ نشاطه حتى قبيل وفاته، كما عمل أستاذًا في جامعة القديس يوسف، (معهد الدراسات المسرحية، والسمعية المرئية والسينمائية، وكان رئيسًا للجنة الدائمة للعالم الثالث، في مؤســسة المسرح التابعة لليونيسكو، وقد استمرّ نشاطه حتى الأيام الأخيرة من حياته.

 

أحد رموز النهضة
برحيل جلال خوري (2 كانون الأول 2017) انطفأ شعاع ضوء آخر في منارة المسرح اللبناني وفقد لبنان قامة فنية عالية، ورمزًا كبيرًا من رموز النهضة الثقافية والفنية والاجتماعية لـ«بيروت الستّينيات». وها هو المسرحي الكبير يلتحق بمَن سبقوه أمثال يعقوب الشدراوي ومنير أبو دبس وريمون جبارة وعصام محفوظ، وسواهم.