رحلة في الإنسان

جميعنا نكذب.. فلماذا نخفي الحقيقة؟
إعداد: غريس فرح

من منا لم يتهرب يوماً من قول الحقيقة, أو لم يتفوّه بعكس ما يضمر لغايات في النفس. ومن منا لم تضطره الظروف الى تلفيق كذبة عابرة تنقذه من موقف حرج, أو تلطف الأجواء المكفهرة بفعل غلطة ارتكبها. وإذا ما اعترفنا بصدق أنّ تزوير الحقيقة هو شكل من أشكال الكذب, فلا يسعنا إذن سوى الإقرار بأن جميعنا يكذب بنسب متفاوتة. وحتى الأقلية الباقية من الناس التي تعشق الصدق والوضوح, ويصر أفرادها على كشف الحقيقة مهما كلّفهم الأمر, يبادر كل منهم قبل ذلك الى القول: “أعتذر عن صراحتي”.
يبقى السؤال: ما هي خلفية الكذب وكيف يتجذر في الشخصية ويسهم في بناء العلاقات؟

 

ظاهرة تُكتسب بالفطرة!

إن التباين الفاضح بين الإيمان المطلق بالصراحة والخجل من المصارحة, بالإضافة الى الشعبية الواسعة التي يحظى بها محترفو الكذب الإجتماعي, بصفتهم أصحاب لياقة وتهذيب, دفع بالمعنيين في الحقل النفسي الى دراسة هذه الظاهرة لرصد خلفياتها, وتعريف الرأي العام بكيفية التفريق بين الكذب والحقيقة أثناء الإستماع الى أحاديث الغير. وعبر مراقبتهم الطويلة لأحوال الناس وعلاقات بعضهم بالآخر, أجمعوا على أن ظاهرة الكذب المتفشية في المجتمعات كافة, هي ظاهرة طبيعية تكتسب بالفطرة, وتنمو وتتطور وفق الظروف والتربية والبيئة, بالإضافة الى المقدرة على الفصل بين الخيال والواقع. وهي عموماً تجسد أوجه العلاقات البشرية وخبايا النفوس والأماني المكبوتة.

 

متى يبدأ الميل الى الكذب؟

اللاّفت أن الإنسان يلجأ الى الكذب في مرحلة مبكرة من العمر, يحددها الخبراء بين السنتين الثالثة والرابعة.
ففي هذه السن يكتشف الطفل بالفطرة أن التهرّب من قول الحقيقة ينقذه من العقاب, فيكذب بدافع الخوف. كما يكتشف أن تلفيق القصص غير الواقعية يرضي غروره, فيكذب بدافع الأنانية وأحياناً بدافع الغيرة والسعي الى التشبه بأترابه. وهذا يحصل عادة في صفوف الأطفال المحرومين من الحاجات والألعاب التي يحظى بها سواهم. وباعتبار أنهم في سن لا تسمح لهم بالفصل بين الواقع والخيال, فهم يلجأون بدون قصد الى تجسيد أحلام اليقظة والأماني المكبوتة بشكل قصص ملفقة يعوّضون بها عن شعورهم بالنقص ويشبعون بالتالي كبرياءهم وغرورهم. وحين يدركون أن الناس تنخدع بسهولة, يكتسبون لذّة الإستمتاع بالكذب, وفي غياب الرعاية والإرشاد, يتحولون الى كذبة محترفين.

 

من يكذب على من؟

الكذب حسب رأي الإختصاصيين أنواع ودرجات, علماً أنه يطال معظم الفئات الإجتماعية وينمو في ظل العلاقات البشرية كافة. والمثير للدهشة أنه يستظل العلاقات الحميمة أكثر من سواها, وخصوصاً الأصدقاء, وأفراد العائلة والمحبين.
ففي الوقت الذي يفاخر فيه الأهل بأجواء الصراحة التي تسود علاقتهم بأولادهم, نرى أنهم يخدعونهم أكثر مما يفعل الغرباء. والسبب أن التقاليد والأعراف الإجتماعية السائدة تجبرهم على إخفاء أفكارهم وميولهم وتصرفاتهم المناقضة لأقوالهم, من أجل الإحتفاظ بالهيبة والوقار اللتين تليقان بالوالدين. والواقع أن الصغار الذين يكتشفون ذلك بذكائهم الفطري يتصرفون بطريقة مماثلة. وقد يتفوقون على ذويهم لناحية إخفاء الحقيقة وتلفيق الأكاذيب.

 

ماذا عن علاقات الحب والزواج؟

كما سبق وذكرنا, تشكل العلاقات الحميمة أرضاً خصبة للكذب. وحصيلة الدراسات تتحفنا بتقارير تثير الدهشة في ما يخص تفشي الكذب بين العشاق والأزواج.
فالعشاق, كما تؤكد هذه التقارير يتفقون ظاهرياً على مبدأ المصارحة, إلا أنهم غالباً ما يخفون الجزء غير المستحب من شخصيتهم وطباعهم بهدف الإحتفاظ بمن يحبون. والأغلبية الساحقة تسدل الستار على خصوصياتها وعلاقاتها العاطفية الماضية خوفاً من ردات الفعل التي قد تسببها الغيرة أو الشك. بهذا يضمن الخداع إستمرار العلاقة.
أما بعد الخطوبة والزواج فقد يختلف الوضع لإضطرار المحبين الى كشف أوراقهم تدريجاً لمنع حصول المفاجآت غير السارة في المستقبل. مع ذلك تؤكد الدراسات التي اجريت على مجموعات المتزوجين في غير مكان, أن الكذب يسود العلاقة الزوجية على أكثر من صعيد, هذا إذا ما استثنينا الخيانة أو الكذبة الكبرى.

 

من يكذب أكثر الرجل أم المرأة؟

الرجال والنساء, كما أجمعت الآراء, متساوون في المقدرة على تلفيق الأكاذيب وإخفاء الحقائق. إلا أن الهدف من الكذب عند الإناث هو غيره عند الذكور.
فالمرأة تكذب بدافع الغيرة لتحتفظ بمن تحب. كما تكذب بدافع الإنتقاد, أي للإعلاء من شأنها والتقليل من شأن الغير.
أما الرجل فيكذب غالباً بدافع الأنانية وحب الظهور. من هنا نرى أن الرجال عموماً يبالغون في سرد تفاصيل مغامراتهم العاطفية, إضافة الى المفاخرة بقدراتهم المهنية والفكرية, الى ما هنالك من صفات الرجولة والقوة. إلا أن الرجل كما ثبت بالمراقبة, أكثر صراحة ووضوحاً من المرأة, علماً أنها تفوقه ذكاء في مجال المناورة وكشف الكذب عند الغير. ما يعني أن المرأة تتمكن بذكائها وحدسها المتطور من اختراق الأقنعة المزيفة, بينما ينخدع الرجل بسهولة.

 

كيف نميّز الصادق من الكاذب؟

تجدر الإشارة هنا الى أن الإختصاصيين ركّزوا بعمق على الإحساس الفطري الذي يمكّن البعض من كشف النوايا المستترة وراء أقنعة المظاهر, كما وضعوا لائحة إرشادات الهدف منها تمييز الكاذبين من الصادقين. وقبل التطرق الى هذه الخصائص, قسّموا الناس الى فئتين هما: الإجتماعيين والإنطوائيين. ومن خلال المعلومات التي تجمعت لديهم, أفادوا أن البسطاء والإنطوائيين يتحلون عموماً بالصدق والصراحة, بينما يحترف الإجتماعيون هواية تنميق الكلام وسبك المجاملات. وهؤلاء كما ثبت بالتجارب, يفلتون من قبضة أجهزة كشف الكذب التي تلقط الإشارات الدماغية الناجمة عن ردات فعل الخوف والشعور بالذنب. وهذا يعود الى تأقلمهم مع الكذب الذي يحترفونه لكسب الصداقات وترسيخ العلاقات وتأمين المصالح المادية والمعنوية.

 

دلائل خارجة عن الإرادة

لهذا السبب تخطى الباحثون تقنيات كشف الكذب الإصطناعية التقليدية, وركّزوا على دلائل إنسانية خارجة عن إرادة الكاذب. وهنا أهمها:
- الكاذب لا ينظر عموماً في عيني محدثه حتى لا يكشف شعوره بالذنب. وهو يتعمد في معظم الأحيان نقل الأحاديث الملفقة والمبالغ فيها عبر الهاتف.
- الكاذب يسرع في الحديث ليتمكن من تخطي العبارات المريبة التي قد تكشف كذبه. وهو لا يترك مجالاً لكلام الغير, كما أنه لا يتوقف طويلاً أمام التفاصيل.
- أثناء تمرير العبارات المشبوهة, تتغير عموماً وتيرة الصوت, فينخفض أو يرتفع. وقد تختفي التعابير عن الوجه, وتنبسط عضلاته. ويمكن أن تظهر بعض الحركات العصبية, كتحريك الأرجل, والنقر بالأصابع, وملامسة الشعر والأنف.
- تتصف الأحاديث الكاذبة بكثرة المجاملة والبعد عن العبارات الحميمة النابعة من القلب, ما يدل أن الكاذب لا يرتاح الى كذبه.
هذه وسواها من المعلومات, تشير بوضوح الى هشاشة الأساس الذي تبنى عليه العلاقات البشرية, والدليل أن البسطاء ومحبي الصراحة يجدون صعوبة في بناء العلاقات وترسيخ الصداقات.
وفي الوقت الذي يصدمنا هذا الواقع, يدعونا الى التساؤل: ماذا يحل بالعالم يوم يبدأ الجميع بقول الحقيقة؟