قصة قصيرة

جميلة والراعية
إعداد: العميد الركن إميل منذر

لو شاهدتموها في ذلك اليوم تنزل على الدرج العريض المزيّن بالزهور مرتديةً ثوبها الأبيض، لما صدّقتم أنّ هذه العروس الفاتنة التي توزّع ابتساماتها بلباقة على الناس المصطفّين عن يمينها ويسارها، كانت قبل ستّ سنوات راعية بائسة تسكن بيت الشَعر، ولا تعرف من الدنيا سوى الاستيقاظ باكرًا، وسوق قطيع الغنم إلى المرعى، ثم العودة به إلى الحظيرة مساءً، ومساعدة أبويها وأُختَيها في حلْب النعاج، وصنع الجبنة واللبن لبيعهما من أهل القرية المجاورة وتجّار المدينة.
أوّل مرّة رأيتُها فيها، كانت في بيت صديقي يوسف في إحدى قرى شمال لبنان الأوسط. يومذاك، وكما في كلّ مرّة أزور فيها هذا البيت الكريم، أعدّت جميلة، زوجة يوسف، فَطورًا شهيًّا، وصفّت القِصاع على المائدة، ودَعتنا إلى الطعام؛ فقام يوسف وقمتُ من غير ممانعة لأنني أصبحت أعرف أنّ تلك العبارات التي يقولها الناس تأدُّبًا من نوع «شكرًا، لا أستطيع»، و«فطرتُ من خيركم»، و«بالأفراح إن شاء الله»، لن تجدي نفعًا مع جميلة.
جعلت جميلة المائدة، كالعادة، في المطبخ لا في غرفة الطعام، لأنّ صداقة أكثر من عشرين عامًا جعلتني من أهل البيت. وكان، لمّا دخلنا، أنْ رأيت صبيّة تجلس بصمت على كرسيّ في إحدى الزوايا. كفّها اليمنى في كفّها اليسرى، وركبتاها المضمومتان إلى بعضهما يغطّيهما فستان ملوّن عتيق، ويتدلّى حتى قدمَيها اللتين لم يستطع الحذاء الممزّق أن يقيهما شوك الحقول. أما الوجه فيشعّ سناءً ويمور نضارةً، والعينان الذابلتان فتشبهان زهرتَي نرجس أضناهما العطش، والشفتان الممتلئتان فقد أعارتا العقيق لونه. وأما الشَعر الأشقر المنسدل على التَرائب البيض فشلاّل من التِبْر المتهاوي على الرخام الصقيل.
كانت الفتاة ترافق جميلة في حركاتها وسكناتها بنظراتها البريئة، وتتأمّل أدوات المطبخ الكهربائية بعجب ودهشة. ما أجمل هذه النقوش التي تزيّن سيراميك الجدران! وما أحلى تيك الرفوف الخشبية التي رُصفت عليها الأواني بعناية! ولله دَرُّ هذا الصندوق العجيب كيف يدخل الصحن إليه باردًا ويخرج منه ساخنًا في أقلّ من دقيقتين! هذه كلّها أشياء لم ترَ الصبيّة مثلها من قبل. إنها المرّة الأولى التي تدخل فيها بيتًا مبنيًّا من حجر، وتجلس على كرسيّ أنيق. كان باستطاعتها وهي جالسة في مكانها أن تنظر عبر زجاج النافذة وترى القطيع في السهل المنبسط أمامها، وترى أباها وأُختَيها الكبريين مع الخراف البيض والحملان الصغيرة.
قبل أن تجلس بيننا، أخذت جميلة على صينيّة صحنًا ونصف رغيف من الخبز إلى زكيّة - أمّ يوسف - المقعَدة في سريرها، ثم عادت ونظرت إلى ابنة الأحد عشر ربيعًا وابتسمت: «قومي يا شيرين». لكنّ الصبيّة لم تتحرّك، ولم تَفُه ببنت شفة؛ فما كان من سيّدة البيت إلاّ أن دنت منها، وأنهضتها من مكانها، وأجلستها على كرسيّ بجانبها، وضمّتها وقبّلت رأسها: «كُلي يا حبيبتي. هذا الصحن لك». ثم وضعتْ لها في صحن آخر قطعة من الجبنة الطيّبة وسكّينًا وشوكة؛ فأخذت شيرين السكّين بيُمناها وقصّت قطعة صغيرة، ثم أخذت الشوكة باليد نفسها، وغرزتها في قطعة الجبنة وجعلتها في لقمة صغيرة قبل أن ترفعها إلى فمها الصغير. فما كان من جميلة إلاّ أن أمسكت سكّين شيرين بيُمناها وشوكتها بيُسراها، وقصّت قطعة أخرى وهي تنظر إلى الصبيّة قائلةً لها بعينيها: «هكذا تفعلين»؛ فهزّت الفتاة رأسها أنْ نعم. ثم وضعت لها منديلًا ورقيًّا على ركبتَيها، وطبعت قبلة على كتفها وهي تبتسم.
ظننتُ في البدء أنّ جميلة قد جاءت بخادمة، وها هي الآن تعلّمها كيف تجلس وكيف تأكل. ولكن لماذا اختارت أن تكون لبنانية! وما الذي تستطيع هذه عمله وهي بعدُ طفلة في عمر الزهور! ولماذا تدلّلها وتبتسم لها وتُجلسها إلى المائدة معنا! أما كان حريًّا بها أن تكون صارمة معها، وأن تبدأ بتعليمها كيف تجلي الصحون وتجفّفها وتضعها في أماكنها، أو تبدأ بتدريبها على كنس أرض البيت ومسحها، واستعمال الغسّالة والمكواة وسائر الأدوات! فما بالها تلاطفها وتحدب عليها وتهتمّ بها اهتمام الأمّ بوحيدها!


لكنني سرعان ما ابتسمتُ ساخرًا من ظنوني، وقلت في نفسي: أهي جميلة مَن تجيء بخادمة! أجميلة مَن تقبل أن تمتدّ يد إلى يدها فتعاونها في أعمال البيت! أو تلمس يد غير يدها صحونها وأوانيها وملابس زوجها وأولادها! كم مرّة جاءت صديقتها حنان لقضاء بعض الوقت عندها وكانت خادمتها بصحبتها، وكانت جميلة تزجر الخادمة إذا قامت لإعداد القهوة عنها! لقد كانت جميلة، على مرأى ومسمع منّي، تأمر الخادمة بالجلوس على كرسيّها، وكانت هي مَن يصنع القهوة ويأتي بالفناجين ويقدّم للخادمة واحدًا منها. وكم مرّة رَجَتْ حنانُ صديقتَها أن تقوم خادمتها بغسل الركوة والفناجين، فكانت جميلة ترفض رفضًا قاطعًا!
وما زادني يقينًا أنّ هذه الفتاة ليست بخادمة، هو رؤيتي أقراطًا جميلة في أُذنَيها الصغيرتَين. أجل، إنهما حَلَقَتا جميلة. ومَن يعرفهما مثلي! ها هي جميلة الآن ولا حَلَقَ في أُذنيها. ولكن لماذا أعطتهما الفتاةَ وكانت قد اشترتهما بأغلى الأثمان، وإذا خرجت يوم الأحد إلى الكنيسة أو قامت بزيارة رسمية إلى أحد، تزيّنت بهما من دون غيرهما!
إنتهينا من تناول الطعام؛ فهمّت الفتاة برفع صحنها، إلاّ أنّ جميلة أمرتها بأن تُبقيه في مكانه، وأن تقوم لغسل يديها. فقامت، لكنني رأيتُها لا تحسن فتح الحنفيّة؛ فجعلتْ تحرّك المقبض يمنةً ويسرةً من دون جدوى. فقام يوسف، وفتحها لها، وطلب منها فتح يدها لضخّ قليل من الصابون السائل عليها.
واقتربت الصبيّة من جميلة، وقالت لها بانكسار: شكرًا يا «خالتي». عليّ الآن أن ألحق بأبي وأُختَيّ. فقالت جميلة: حسنًا. خذي هذه القنّينة وهذا الكيس لهم. فأمسكت الفتاة قنّينة المياه الباردة بيد وكيس الزاد والفاكهة بيد أخرى، ونظرت إلى عينَي السيّدة بصمت كما ينظر اليتيم إلى وجه محسن كريم. ثم خرجت وهي تكاد تتعثّر بأذيال فستانها الطويل.
بعد ذلك بقليل رأيت جميلة تتسمّر أمام النافذة وتنظر ناحية المرج الأخضر؛ فدنَوتُ منها، ونظرت إلى حيث تنظر، فإذا شيرين تلعب مع الفراشات وتقفز قفز حملان القطيع.
قلت لجميلة وأنا ما زلت أنظر إلى الخارج مثلها: لهجتها سوريّة، أليس كذلك؟ ثم التفتتُ إليها لأسمع الجواب، فأوْمَأت برأسها أنْ أجل، ومسحت دمعتَين تدحرجتا على خدّيها كحبّتَي لؤلؤ، وجلست تقصّ عليّ حكاية الراعية الصغيرة.
صباح أمس، قالت، خرجتُ إلى السهل لجمع بعض الهندباء البريّة في شهر الصوم المبارك هذا. ولم يَطُلِ الوقت حتى رأيت بضعة خراف تتقدّم باتّجاهي من خلف الرابية القريبة مشكّلةً طليعة القطيع. ثم بانت ثلاث راعيات صغيرات يمشين جنبًا إلى جنب. وعندما وصلن إليّ ألقين التحية عليّ، وجلسن بقربي يحدّثنني، فبَدَوْنَ لي أجمل ثلاثة أقمار بين رياحين السهل كلّها.
«لهجتكنّ سوريّة يا حلوات»، قلت؛ فأجابت الكبرى، وما بينها وبين شيرين ثلاث سنوات: نحن من أقاصي شمال شرق سوريا. جاء بنا والدنا منذ شهرين إلى لبنان. قال إنّ الحياة هنا أسهل وأجمل.
- أين تقيمون؟ سألتُ.
- هناك، أجابت الوسطى، ومدّت سبّابتها باتّجاه أوّل البلدة المجاورة.
- في أيّ بيت هناك؟
- بيتنا هو تلك الخيمة المنصوبة عند أسفل التلّ.
وبينما مضت الأُختان الكبريان خلف القطيع، بقيتِ الصغرى بقربي تنظر إليّ وتبتسم ابتسامة زهرة الرمّان في أوّل الربيع.
- ما اسمك؟ سألتُها.
- شيرين.
- واسمك جميل أيضًا يا أميرة.
- أميرة! لا يا «خالتي». أنا راعية غنم.
- ما دمتِ سعيدة، فأنتِ أميرة.
- أنتِ جميلة جدًّا... وأقراطك جميلة أيضًا. عندما أكبر سأشتري مثلها.
- إقتربي منّي وفكّيها، واجعليها في أُذنيكِ، فيداي وسختان.
- يداكِ وسختان! إنهما نظيفتان كالثلج. أنا التي يداها وسختان. أُنظري.
- أنتِ لا تعرفين شيئًا عن وسخ اليدين ووسخ النفوس يا ابنتي بعد... تعالي فكّي حلقتَيّ، تعالي.
ودنت شيرين بعد تردُّد طويل، وفعلت ما طلبتُ منها. وقبل أن تلحق بأختَيها، أرشدتُها إلى بيتي، وطلبتُ منها أن تأتي إليّ من وقت إلى آخر، وتمنّت هي أن أزورها وأهلها في بيتهم... أقصد في خيمتهم، فوعدتها بذلك في أوّل فرصة سانحة. وعندما أشرقت شمس هذا الصباح، أنزلتُ القهوة ليوسف والعمّال في المنشرة تحت البيت، فوجدتُ شيرين جالسة عند أسفل الدرج، ففرحتُ بها كثيرًا، وأصعدتُها معي.
توقّفت جميلة عن سرد الحكاية هنا؛ فنظرتُ إليها مليًّا، وقلت: شاهدتُ على شاشة التلفاز أمس برنامجًا وثائقيًّا عن رجُلَين يعملان في البحث عن أجزاء نيازك هبطت إلى الأرض منذ آلاف السنين. أنتِ أيضًا يا جميلة من معدن نادر هابط على الأرض من السماء.
- قُلْ إني قدّيسة أيضًا.
- القدّيسون ليسوا مَن يتنسّك في الصوامع فقط. ولا كلّ مَن تنسّك صار قدّيسًا.


*  *  *


دأبت شيرين على المجيء كلّ يوم إلى بيت جميلة. كانت تترك أُختيها مع القطيع وتأتي، وتسأل السيّدة: متى ستجيئين إلى عندنا؟ وكانت جميلة ترسل معها إلى أُختَيها، في كلّ مرّة، بعضًا من الطعام والحلوى.
وكان يوم قالت فيه السيّدة للصبيّة إنها ستعرّج في طريقها غدًا على أهلها؛ فرقصت شيرين فرحًا، وذهبت فأخبرت أمّها بالخبر؛ فانهمكت الأمّ وبناتها في ترتيب الخيمة، وتنظيف المقاعد، وتحميص البنّ وطحنه.
وجاءت جميلة برفقة يوسف؛ فاستُقبلا بحفاوة بالغة. لكنهما رأيا هناك ما يؤلم النفس ويوجع القلب: أرض الخيمة من تراب مغطّىً بالبُسط العتيقة وجلود الغنم والماعز، والمقاعد والكراسي أكل الدهر عليها وشرب. أما الملابس المغسولة بمياه الجدول القريب، فمنشورة على حبل مشدود بين شجرتين. عندئذٍ تبادر إلى ذهن السيّدة أنّ الزنابق العطرة لا تعيش فقط في الرياض حيث تتلقّى الرعاية والعناية، لكن تنمو أيضًا في البراري حيث تتفتّح براعمها في دفء الشمس، وترقص مع هينمات النسيم.
سأل يوسفُ الوالدَ إن كان ينوي إرسال البنات إلى مدرسة القرية الرسمية، فأجاب: لا حاجة بهنّ إلى المدرسة. حياتنا بسيطة، ونحن قانعون بها. أنعلّم أولادنا ليحصلوا على شهادات! بمَ ستنفعهم الشهادات! زراعة الأرض ورعي الماشية لا يحتاجان إلى شهادة.
- لكنّ العِلم ينير العقل ويصقل الفكر ويهذّبه.
- صدّقني يا أخي يوسف. الحياة هي أفضل مدرسة.
ثم جذبت الوالدة طرف الحديث، وقالت: أنا لم أرَ في حياتي المدرسة من الداخل كيف تكون. لقد عشت كما عاشت أمّي. وبناتي وبنات العشيرة كلّها سيعشن كما نعيش.
بعد احتساء القهوة المغليّة على الحطب، ودّع يوسف وجميلة العائلة وخرجا. لكن السيّدة، وقبل أن تصعد إلى السيّارة، دسّت في جيب المرأة بضع أوراق نقدية من أكبر فئة؛ فحاولت المرأة أن تردّها للسيّدة قاطعةً عليها دربها: «لن آخذها. صدّقيني إن قلت لك إننا لا نحتاج - والحمد لله - إلى شيء. يكفي أنك نزعتِ أقراطكِ من أُذنيكِ وأعطيتِها لابنتي. إنك لصاحبة فضل لن ننساه أيتها السيّدة». لكن جميلة استعجلت ركوب السيّارة، وأقفلت الباب وهي تقول للمرأة: اشتري بها للبنات ثيابًا وأحذية جديدة.
وفيما كانت السيّارة تبتعد وتتوارى، كانت المرأة ما تزال واقفة تشيّع السيّدة بعينَين دامعتَين، وتتمتم: ليجعل الله التراب في يديكِ ذهبًا.


*  *  *


ثابرت شيرين على المجيء في كلّ يوم إلى بيت جميلة. وكانت أمّها تحمّلها إلى السيّدة، من حين إلى حين، بعضًا من الحليب أو اللبن، أو الجبنة. لكن جميلة كانت لا تقبل شيئًا قبل أن تدسّ في جيب الفتاة من الدراهم ما يوازي أضعاف ثمنه.
كانت جميلة، قبل مجيء شيرين، تكون قد انتهت من نقل أمّ زوجها إلى الحمّام لتنظيفها، وتبديل ملابسها المتّسخة بأخرى نظيفة، ثم إعادتها إلى سريرها، وقياس ضغط دمها، وإعطائها الدواء.
لكن ما مضى شهر وبعض الشهر على أوّل مجيء لها إلى بيت جميلة، طرقت شيرين الباب باكرًا، على غير عادتها، ذات صباح. وإذ فتحت لها جميلة، دخلت والدموع عالقة بأهدابها كما تعلق قطرات الندى بأطراف أوراق الزهور. أما الكدمات التي تعلو وجنتيها، فأشبه بوريقات بنفسج بين شقائق النعمان.
حضنت جميلة الفتاة، وقبّلت رأسها، وكفكفت دموعها، وسألتها عمّا يُبكيها، وعن سبب هذا اللون الأزرق الداكن فوق خدَّيها؛ فأجابت أنّ والدها أمرها بنزع الأقراط من أُذنيها وإعطائه إيّاها ليبيعها ويشتري بضع نعاج بثمنها. ولمّا امتنعت، ضربها وأخذ الحلقتين عنوةً.
- هوّني عليكِ، قالت جميلة. سأعطيكِ ما هو أغلى ثمنًا منها. شيء لا يستطيع أحد أن يسلبكِ إيّاه.
- لا أريد شيئًا يا «خالتي» سوى أن آتي إليكِ لأتأمّل وجهكِ الذي يعكس نقاوة قلبكِ، وأستمع إلى حديثكِ الذي يدلّ على سعة ثقافتك.
للمرّة الأولى شاهدت شيرين زكيّةَ العجوز، أمّ يوسف. وللمرّة الأولى أيضًا عرفت معاناة جميلة معها لأكثر من ساعة كلّ صباح، ومثلها كلّ مساء. وما زاد من احترام شيرين لجميلة، هو أنها رأتها كيف تعتني بأمّ زوجها من غير شكوى وتذمّر فيما ابنتها جالسة تحتسي قهوتها كأنّ الأمر لا يعنيها.
أعادت جميلةُ العجوزَ إلى سريرها، وناولتها دواءها، وسرّحت شعرها، وجلست بعد ذلك تسأل أخت زوجها عن أولادها المقيمين والمهاجرين. وعندما انصرفت، جاءت ربّة المنزل بقلم رصاص وممحاة ودفتر، وأجلست شيرين إلى جانبها: «اليوم سنبدأ بالدرس الأوّل».
وتوالت الأيّام، وتكرّرت الدروس، وتعلّمت الصبيّة القراءة، والكتابة، والحساب، وقليلًا من الإنكليزية. والأهمّ من هذا كلّه، هو أنّ جميلة علّمتها الصدق، والصبر، والاستقامة، وعزّة النفس. لقد علّمتها أن تكون... سيّدة.
وكان يوم جاءت فيه ابنة السابعة عشرة إلى جميلة؛ فرأتها تبكي.
- ما بكِ يا «خالتي»؟ لماذا تبكين يا «أمّي»؟ سألت الصبيّة وطوّقت عنق جميلة بذراعيها، فيما اغرورقت عيناها بالدموع.
- صباح أمس وَكَلْتُ أمر العجوز إلى ابنتها لأتمكّن من مرافقة زوجي إلى الطبيب لإجراء بعض الفحوصات. وعندما عدتُ قبَيل الظهر، رأيت العجوز على الأرض تبكي وتتوجّع، وابنتها تصرخ بوجهها: «لماذا نزلتِ عن السرير بمفردك؟ أما كان بإمكانكِ أن تصبري قليلًا حتى تعود جميلة؟». وعندما دخلتُ، رفعت العجوز نحوي بصرها ويديها: «أرجوكِ يا ابنتي، أنهضيني عن الأرض». ولمّا وضعتُ يدي تحت ساقها لرفعها، صرختْ؛ فعرفتُ أنّ الساق مكسورة. استدعيتُ سيّارة إسعاف على الفور، ونقلناها إلى المستشفى حيث أُجريت لها عملية جراحية. وها هي ما تزال هناك.
- أتعرفين يا «خالتي»؟ قالت شيرين والتقطت يد السيّدة واحتضنتها.
- ماذا يا حبيبتي؟
- قبل ستّ سنوات، عندما طلبتِ مني أن أفكّ حلقتَيكِ وأجعلهما في أُذنيّ، قلتِ لي: أنتِ لا تعرفين شيئًا بعد عن الأيادي الوسخة. اليوم صرت أعرف. وصرت أعرف أيضًا أنّ الاتّساخ في النفوس يكون وفي القلوب، لا في الأيادي. إنّ يدَيكِ يا خالتي لهما أنقى يدين، وقلبكِ أطهر قلب.
- لا تقولي ذلك يا ابنتي. إنّ لي خطايا أنتِ لا تعرفينها.
- لست أشكّ في أنّ الربّ سيقول لكِ في يوم الحساب: مكانكِ في الجنّة هنا، لأني غفرتُ لكِ كلّ خطاياك.
- أنا فخورة جدًّا بكِ، قالت جميلة وهي تبتسم وتلقي راحتَيها على كتفَي شيرين، ثم أضافت: لقد كبرتِ يا بنت. تغيّرتِ. وصرتِ تعرفين كيف تتكلّمين.
- هذا كلّه بفضلكِ يا «أمّي».


*  *  *


إنقطعت شيرين عن زيارة جميلة أيّامًا عدّة لتتمكّن السيّدة من تمضية وقت كافٍ مع أمّ زوجها في المستشفى. وعندما عادت العجوز إلى المنزل وأتت شيرين تطمئنّ عليها، رأتها جميلة حزينة، بل مهمومة.
- ما بكِ يا حبيبتي؟ كيف يجرؤ الحزن على الاقتراب من هاتَين العينين الجميلتين!
- منذ ثلاثة أيّام جاء ابن عمّي يسأل عنا. ثم جاء لزيارتنا مرّة ثانية، وتناول طعام الغداء عندنا. وأمسِ طلب يدي من أمّي وأبي.
- ألف مبروك يا عروس. عليكِ أن تفرحي. أما إذا كنتِ لا تريدينه، فهذا شأن آخر.
- إنه شابّ وسيم ولطيف. قال إنّ له بيتًا جميلًا وتجارة مزدهرة في المدينة.
- ما الأمر إذًا! ما الذي يحزنكِ ويقلقك!
- كيف سأخرج عروسًا من بيت الشعر! ثم أضافت وهي تبكي: إني أفضّل الموت على ذلك.
- ومَن قال إنكِ ستخرجين بالفستان الأبيض من بيت الشعر يا حبيبتي!
- ومن أين سأخرج؟ أمن قصر فرساي؟
- أقلتِ قصر فرساي! وما أداكِ بقصر فرساي يا صغيرتي!
- قرأتُ عنه في الكتاب الذي اشتريتِه لي، أجابت شيرين، فيما الدموع ما تزال تلمع في مقلتَيها.
- لا، لن تخرجي من قصر فرساي، ولا من بيت الشعر يا حبيبتي. إنّ في الدنيا أمكنة كثيرة أخرى بعد، قالت جميلة وعصرت الفتاة بين ذراعيها؛ فما كان من شيرين إلا أن انحنت فوق يدي السيّدة تريد أن تقبّلهما.
- أما علّمتكِ ألاّ تحني رأسك إلاّ لخالقك؟ قالت جميلة.
- لقد خلقني الله على صورة البشر، أما أنتِ فصنعتِ مني إنسانًا.


*  *  *


وكان بعد ذلك أن تلقّيتُ اتّصالًا هاتفيًّا من جميلة. قالت: أريدكَ أن تأتي يوم الجمعة الواقع في منتصف الشهر الجاري لحضور حفل زفاف عندنا.
- زفاف مَن يا جميلة! ومتى كنا نقيم مثل هذه الاحتفالات أيّام الجمعة!
- لا تنسَ الموعد.
- أتريدينني أن أنتظر حتى ذاك اليوم كي آتي وأقضي عندكم بعض الوقت!
- أعددتُ اليوم من الطعام ما هو مفضّل لديك. نحن بانتظارك، فلا تتأخّر.
ولم أتأخّر في المجيء لأنّ ما تُعدّه جميلة من مأكولات وحلويات يعجز عنه أمهر الطهاة. والسبب الثاني الذي دفعني إلى الإسراع في المجيء كان رغبتي في معرفة مَن يكون العروسان، ذلك أنّ ابن يوسف الأكبر متزوّج، وابنته الكبرى متزوّجة. أما الآخرون فما عرفتُ أنّ أحدًا منهم مقبِل على الزواج في وقت قريب. وأما السبب الثالث فكان لذّتي في الاستماع إلى حديث جميلة الممتع، وتبادُل الآراء معها.
بلغتُ المنزل في دقائق معدودة. وعندما دخلتُ، صاح يوسف: تعال اسمعْ يا أخي. صديقتكَ جميلة جُنّت. تريد أن تقيم عرسًا لبنت الناس في بيتنا.
- إسمعني أرجوك، قالت جميلة. جئتُ إلى بيتك منذ ثلاثين عامًا. قمت بواجباتي تجاهك وتجاه أولادي وأمّك من دون أيّ تقصير. رافقتكَ إلى الكروم وتحمّلت التعب، في أيّام بؤسنا، من غير شكوى. وعندما يسرت حالنا - والحمد لله - لم أطلب منك ما تطلبه النساء من أزواجهن. سيّارة لستُ أملك، ولا أريد. إلى الحفلات والسهرات لا أذهب، ولا أبالي. لقد ادّخرت «قرشَين» من مصروفي الخاصّ، ويمكنني الاستغناء عنهما. أحبّ أن أُقيم بهما عرسًا لهذه البنت. أرجوك دعني أفرح بها في بيتي كما فرحتُ من قبل بابنتي.
هكذا قالت جميلة ودمعت عيناها؛ فلم يفُه يوسف بكلمة، ونزل أخيرًا عند رغبة زوجته، وراح يعاونها مثلي في إتمام الترتيبات اللازمة، حتى جاء اليوم المنتظَر، وحضر الشيخ والشاهدان، فكتب الكتاب وسط الزغردة وباقات الزهور، وعلى إيقاع الطبل والزمر في الساحة الواسعة أمام مدخل البيت. وعندما تأبّط العريس ذراع شيرين ونزل بها الدرج، أحسّت بسعادة ما كانت تنتظرها. وقبل أن تصعد إلى السيّارة الطويلة البيضاء، عانقت جميلةَ طويلًا، وغصبًا عنها انزلقت على خدّيها الورديين دمعتان ودّعت بهما البيت الذي دخلته قبل ستّ سنوات راعية فقيرة وخرجت منه أميرة.