كبارنا

جميل جبر

ذكريات عمّن يحلو تذكّرهم

 

يستمر باحثاً منقباً، عالي الهمة، واضح النشاط. كادت علوم الرياضيات والحساب أن تميل به عن شؤون الأدب، لكنّه عاد الى أحضان الكلمة بعد مراحله المدرسية الأولى، فراح يتابع دراسات أدبية متخصصة في السيرة وفي النقد، مبنية على اطلاع واسع وتنقيب متواصل، إضافة الى لقاءات عديدة مع الأدباء والمبدعين أنفسهم بسبب العلاقات المباشرة التي ربطته بالكثيرين منهم، من يوسف السودا الى يوسف غصوب، الى عبدالله العلايلي، الى مارون عبود، الى ميخائيل نعيمة، الى رئيف خوري، الى مي زيادة، الى أمين الريحاني... وعنده أن تكون متقاعداً تعني "مت... قاعداً"، وهو بعيد عن ذلك كلّ البعد.

 

مي زيادة

رآها للمرة الأولى، وهو صغير، في "ويست هول" بالجامعة الأميركية مع يوسف غصوب الشاعر الرومانسي المعروف (وهو ابن بلدته بيت شباب) وكان ذلك سنة 1938 . لفته حديثها المعبّر، كما شدّه حضورها الجميل. اسمها ارتبط آنذاك بين الناس بالجنون، وكان يقال عنها "خوتة" في أكثر من مكان. اقترب منها قائلاً لها، وهو يطبع قبلة عفوية على يدها: يا ليتني مجنون مثلك إن كان الجنون يمنحني جمهورك هذا. أجابته بلهجتها المصرية الناعمة وهي تبتسم: لسّه بدري !

وكان الطالب جميل جبر قد عرف أديبة لبنان قبل ذلك، وسمع عنها من قريبات له كنّ يدرسن معها في مدرسة عينطورة. رآها في صورة معهن الى جانب صديقة مشتركة من آل دكاش. كما أنه تلقّى عنها الكثير أيضاً من سيدة من آل الأشقر هي زوجة خالها التي تولت تربيتها ورعايتها في وقت من الأوقات، وكانت تذكرها دائماً وتتكلم عنها بمحبة وأمل.

 

 يوسف السودا

أعرفه جيداً، يقول جميل جبر. إنه أديب ومحام وسياسي بارز. وضع كتاباً عن "الألسنية"، أيّده البعض وعارضه البعض الآخر، أورد فيه محاولات لتسهيل تعلّم اللغة العربية، خصوصاً في صرفها وفي نحوها. كما رفض فيه الكثير من القواعد والتسميات المعروفة، داعياً الى ادخال المنطق الى الفكر اللغوي، من ذلك سؤاله: كيف نعتبر الرجل نائباً للفعل في جملة "ضُرب الرجلُ"؟ هل أنه ناب في ذلك عن الضارب الأساسي وضرب نفسه بنفسه يا ترى؟

لكن الكتاب لم ينل حقه من الدرس والعناية، ولم تتم الاستفادة الكافية منه. وقد خصصتُ له عدداً من مجلة الحكمة حين توليت رئاستها سنة 1968، ضمّنته مقالات مختلفة حول الموضوع من عبدالله العلايلي وبطرس البستاني ومنصور أبي صالح وحسيب عبد الساتر... غضب السودا وعاتبني لأن الآراء التي نشرت كانت موزعة بين مؤيدة ومعارضة، فقلت له: أليس من الأفضل أن يخرج كتابك الى العلن وأن تتنوع الآراء حوله ويعرفه الناس وينشغلوا به ويهتموا بمضمونه ويعملوا بما يناسبهم منه؟ اقتنع بعض نقاش، وقال لي: إن باب بيتي مفتوح أمامك منذ الآن.

 

ميخائيل نعيمة

تعرفت إليه من خلال كتابي عن مي وجبران. التقيت به خلال إعداد الكتاب طالباً منه تزويدي بما يعرفه عن علاقة الاثنين بعضهما ببعض. قال لي: لا شيء لديّ حول الموضوع، وجبران لم يذكر مي أمامي (يبدو أنه كان منشغلاً بأمر ما آنذاك، ولم يكن له الوقت الكافي لمحادثتي في الموضوع) . بعد صدور الكتاب سأله الأديب فؤاد كنعان عن رأيه به في حديث كان يجريه معه لجريدته "الروّاد" (وكان فؤاد كنعان مسؤولاً عن مجلّة الحكمة آنذاك أيضاً): ما رأيك بما كتبه جميل جبر عن مي وجبران؟ قال نعيمة: المعلومات التي ذكرها حصل عليها مني، وأنا موافق عليها. فكان عتب كبير مني عبّرت عنه في مقال نشرته مباشرة بعنوان "نعيمة يرد على نعيمة". فتدخّل ابن أخيه نديم، وهو صديقي، ساعياً الى نشر تصويب من عمه حول ما قيل، وهذا ما حصل. وقد ربطتني بعد ذلك بالأديب الكبير علاقة وطيدة، وأنا معجب بأدبه، وقد اطّلعت عليه بعناية.

 

أمين الريحاني

رأيته أول مرة سنة 1938 عند مدخل بلدته الشاوية في أصيل أحد الأيام وهو يقوم بنزهته اليومية على ظهر حصانه (والشاوية هي بلدته الأصلية قبل الفريكة) . كنت قبل ذلك قد سمعت الكثير عن مواقفه المدافعة عن مي زيادة، وعن وقوفه الى جانبها في مأساتها بعد أن اتهمها القريبون بالجنون، وأدخلوها الى مستشفى العصفورية. كان الريحاني مقيماً في نيويورك، لكنه كان يزور لبنان كلّ سنة بانتظام، فيمضي فيه شهراً كاملاً، إضافة الى شهر آخر كان يصرفه في رحلته البحرية ذهاباً وإياباً. كان يفرح بلقاء أبناء بلدته في منزله. وفي إحدى الليالي حضر إليه ضيوفه الطيّبون هؤلاء كالعادة، لكنه لاحظ أن هناك ضيفاً قد غاب. إنه أبو أنطون الحطّاب الذي كان يعمل بتحضير الفحم في إحدى الغابات. فطلب حضوره، خصوصاً حين علم أن سبب غيابه أنّ ثيابه لم تكن نظيفة ولم تكن لائقة بالزيارة، وقال له لدى وصوله: يداك هما اللّتان تنتجان، وأيدينا هي التي تأخذ وتتلقّى، فما هي النظيفة في ذلك؟ لم تكن للقرش قيمة لديه. كان يوزّع ما في جيبه على النّاس وهو يتجوّل بين أحياء بلدته. أخته سعدى (التي أصبحت زوجة نعوم مكرزل صاحب جريدة "الهدى" الأدبية في نيويورك) ، كانت تنبّهه الى ذلك، خصوصاً وأنها كانت تعرف أن حالته ليست ميسورة بالقدر الكافي، وقد أفرغت جيب سترته في إحدى المرات من دون علمه (على أن تعود وتسلّمه المضمون لاحقاً) . في الطريق مد يده الى الجيب ليسلم مالاً لأحد المارة، لكنه لم يجد المطلوب، فما كان منه إلا أن قدم إليه السترة بأمها وأبيها. لدى عودته سألته أخته عن ذلك، فروى لها ما حصل وهو يقول: لقد تعلّمت اليوم أنه يمكن الإستغناء عن السترة وعن جيوبها، وأن الموت يساوي بين الجميع، وأن لا سترة لكفن... ولا جيوب! إنه أديب كبير ومفكّر شامل وناقد اجتماعي واع ومعروف. لقد وضعت عنه ثلاثة كتب خلال دراستي الجامعية، كما أنني تأثرت به في تعاملي مع الناس، وأنا أميل للعمل مع العمال كلّما حضروا لترميم منزلي، أو لترتيب حديقتي، وعندي: ان هناك "أستذة" من ذهب لا تصدأ، و"أستذة" من تنك تتعرض للتلّف في أي تغيير يطرأ عليها.

 

 جبران

في دراستي عنه اعتمدت كثيراً على مخطوطات حصل عليها توفيق صايغ رئيس تحرير مجلة "حوار" (التي كنت املكها آنذاك). مصدر تلك المخطوطات إحدى قريبات ماري هاسكل، صديقة جبران الاميركية، ترجمها صايغ ونشرها في مجلته على مدى عددين. معلومات كثيرة حصلت عليها أيضاً من إبراهيم الحتي الذي كان صديقاً حميماً لأديب لبنان العالمي، كما كان لي معلومات عنه من سلوم شقيق نعوم مكرزل (صاحب جريدة الهدى) ، إضافة الى ما حصلت عليه من ألبرت الريحاني الذي عرفه من خلال أخيه أمين. أما بربارة يونغ فلم أتمكّن من الحصول على معلومات كافية منها بسبب وضعها الصحي آنذاك.

 

 إيليا أبو ماضي

شاعر العروبة في نيويورك، تولى تحرير جريدة السمير الأدبية. حضر الى بيروت في إحدى المرّات وهو في طريقه الى دمشق حيث كان سيتم تكريمه وتسليمه وسام أميّة. كلفني الشاعر صلاح لبكي (رئيس جمعية أهل القلم آنذاك، بزيارته في الفندق وطرح موضوع تكريمه في لبنان أيضاً. وقد حصل ذلك إضافة الى تسليمه هدية مناسبة من قبل رئاسة الجمهورية، وقد ألقى في الاحتفال قصيدته المشهورة: وطن النجوم أنا هنا حدّق، أتذكر من أنا؟ صلاح لبكي كان يكتب افتتاحية جريدة الهدى النيويوركية، وأنا كنت مراسلاً أدبياً لها هنا في لبنان. أتذكّر هنا صديقي رئيف خوري. لقد نشأت خصومة أدبية بينه وبين لبكي توليت أنا تسويتها، وقد حصل ذلك حين كنت في طريقي الى بلدة نابيه لتعزية رئيف برحيل والده. دعوت صلاحاً لفعل ذلك فلبّى دعوتي وكانت مفاجأة لي ومفاجأة لرئيف الذي تأثر وأعلن أنّ في الخصومة خسارة كبيرة، وأن الإنسان يعود الى حجمه البسيط حين يلاحظ ويلمس لطافة الآخرين تجاهه.

 

وديع الصافي

جمعتني به سهرة فنية جميلة لدى أحد الأصدقاء، وقد أنشد آنذاك أغنيته الجميلة التي كتبها أسعد سابا: جايين يا أرز الجبل، والتي يذكر فيها أسماء معظم مدن وبلدات وقرى لبنان. لكنني فوجئت بأن اسم بلدتي أتى فيها بيت شببش بدلاً من بيت شباب، لأسباب تتعلق بالوزن الشعري، أو بتلقي الإسم خطأ من رواة الكلام العاميّ. عتبت على مطرب لبنان، فأسرع وأبدل التسمية. وأذكر هنا أن وديع الصافي إنسان وفيّ كريم سخيّ اليد الى أبعد الحدود.

 

أين اللغة اليوم؟

أخيراً، ما رأي جميل جبر بالحداثة في الشعر؟ إن أكثر الشعر الحديث لا يتعدى النثر المكسور. وماذا عن اللغة العربية الفصحى ومستقبلها؟ أنا مع اللغة الفصحى، وأدعو في الوقت نفسه الى تطويرها وتليينها. للعامية دور في الأعمال المسرحية، وفي الأشعار الشعبية والزجل، لكنها ليست بديلاً من الفصحى. اللبنانيون مثل غيرهم، وقبل غيرهم، يجب أن يحافظوا عليها، خصوصاً وأن لهم تاريخاً حافلاً في ذلك لأكثر من ثلاثة قرون من عصر التتريك حتى الآن.