- En
- Fr
- عربي
معًا نواجه
في ظلّ الحرب المدمّرة التي يشهدها لبنان، يبرز دور الجهات الإنسانية في مواجهة المخاطر بروح التفاني والتزام خدمة الإنسان. وفي هذا السياق، تُرفع القبعة لجهود فرق الإسعاف والإنقاذ التي تتعرض لاستهداف العدو الإسرائيلي خلال قيامها بواجبها الإنساني، ورغم تقديمها الشهداء وإصابة عدد من طواقمها، تستمر في متابعة أدائها بشجاعةٍ نادرة.
خلال عدوان تموز 2006 تعرّض مسعفو الصليب الأحمر اللبناني كما فرق الدفاع المدني لنيران العدو من دون أن يثنيهم ذلك عن القيام بمهماتهم، وقد ازداد إجرام العدو في استهدافهم خلال العدوان المستمر منذ سنة، لكنّهم أبدوا مزيدًا من الشجاعة والإصرار مثبتين أنّهم جنود حق للإنسانية، يضحّون بأرواحهم في سبيل إنقاذ أرواح الآخرين، ويؤكدون أنّهم باقون في الصفوف الأمامية أيًا تكن المخاطر.
ذروة غير مسبوقة
متطوّعون جاهزون لتلبية نداء الواجب الإنساني رغم المخاطر وانعدام الأمان، همّهم الوحيد إنقاذ الإنسان والحفاظ على حياته. إنّهم مسعفو الصليب الأحمر اللبناني الذين كثُرت عليهم المهام الجسام في السنوات الخمس الأخيرة لتبلغ الأوضاع ذروة غير مسبوقة مع تصاعد اعتداءات العدو الإسرائيلي الوحشية، ما استدعى تنفيذ نحو 20,045 مهمة في الجنوب، و22,428 مهمة في البقاع، بين 28 تشرين الأول 2023 و25 أيلول 2024.
جهوزية كاملة رغم المخاطر
يؤكد أمين عام الصليب الأحمر اللبناني جورج الكتاني لمجلة «الجيش» أنّ الصليب الأحمر يقف على أهبّة الاستعداد منذ 8 تشرين الأوّل 2023، لتلبية طوارئ الحرب في الجنوب والبقاع وبيروت. وقد استنفرت طواقمه المؤلفة من 12 ألف متطوّع مع أجهزته وآلياته للاستجابة الفوريّة لإسعاف المصابين وإخلاء الشهداء عند أي قصف على الأراضي اللبنانية كافة، وسط تقييم متواصل للعمل الميداني مع الفرق في الجنوب ومختلف المناطق اللبنانية الأخرى التي تشهد تصعيدًا مستمرًا.
ومنذ ذلك التاريخ ولغاية 25 أيلول الفائت، تمّ تأمين نحو 8,624 وحدة من الدم للمستشفيات، وُزّعت في منطقة الجنوب، ونحو 5,573 وحدة وُزّعت في منطقة البقاع، إلى جانب توفير خدمة الصحة الأوّلية والدوائية والنفسية في المستوصفات الثابتة ومن خلال المستوصفات النقالة في مراكز الإيواء، والقيام بأعمال الإغاثة وتوزيع المواد التموينية ومواد النظافة الشخصية والبطانيات والفرش والمياه بالتنسيق مع غرف العمليات في المحافظات واتّحادات البلديات.
تنتشر مراكز الصليب الأحمر وفرقه على كامل الأراضي اللبنانيّة من منطقة شبعا حتّى منطقة وادي خالد بهدف خدمة جميع المواطنين، ويتكامل عمله مع باقي المؤسسات الإنسانية والصحية. وتضع المؤسسة خططًا استباقية، تماشيًا مع الأحداث والأزمات المتلاحقة التي تعصف بلبنان، وثمة خطط احترازية تمّ إعدادها مع توسّع رقعة الحرب في الأيام الأخيرة بهدف رفع الجهوزية الكاملة، وسط تنسيق متكامل بين الفرق على مدار الساعة، وفق الكتاني. وهو يوضح أنّه يتم حاليًا دراسة موضوع تأمين وقود احتياطي في المحطّات لتشغيل الآليات، إلى جانب تقييم احتياط الأوكسيجين وكميّات المعدّات الطبّية المتوافرة والمستهلكة.
ماذا عن الموارد؟
لم يُخفِ الكتاني أنّ ثمّة نقصًا في التمويل، تحاول المؤسسة سدّه من خلال التنسيق مع الاتحاد الدوليّ للصليب الأحمر والهلال الأحمر إلى جانب اللجنة الدولية للصليب الأحمر والشركاء في الحركة الدولية، لتأمين التمويل اللازم، وذلك حفاظًا على قدرة الطواقم على الاستجابة للطوارئ.
ويعمل الصليب الأحمر اللبناني مع الوزارات المعنية بخطة الطوارئ الحكومية وبخاصة وزارة الصحة العامة لتأمين المستلزمات الطبية الضرورية.
خبرة تفوق التحديات
في ما يخصّ التحديات والمخاطر التي تواجهها فرق الصليب الأحمر اللبناني خلال قيامها بواجبها، أشار الكتاني إلى أنّ الحرب الحاليّة ليست أولى التحدّيات، فقد اختبرت المؤسسة عددًا من المهمات الصعبة في السابق، إن خلال حرب تموز 2006 أو جائحة كورونا، أو انفجار مرفأ بيروت والانفجارات العديدة في بيروت والضاحية، ما أكسب متطوّعيه الخبرة الضرورية لمواجهة الأزمات. وإذ يوضح أنّ التصعيد الأخير يستدعي تنسيقًا مع الهيئات الموجودة على الأرض كـ «الهيئة الصحّية الإسلامية» وجمعيّة «كشافة الرسالة الإسلامية»، يؤكّد أنّ المخاطر التي تتعرّض لها فرق الإسعاف والهيئات المدنية عديدة، وقد أُصيب عدد من المسعفين خلال تأديتهم واجبهم الإسعافيّ كما حصل في بلدات ميس الجبل وجويّا والنبطية وسواها.
وفي السياق نفسه، شدّد الكتاني على محاولة المؤسسة تأمين الحماية لمتطوّعيها عبر التواصل مع الأجهزة المعنية لتخفيف المخاطر في أثناء تنفيذ المهمّات، مشيرًا إلى التنسيق مع الجيش اللبناني واليونيفيل والبلديات والهيئات الصحّية والجمعيات الأهلية. وأوضح أنّ الطواقم يرفعون شارة الحماية خلال مهمّاتهم، لافتًا إلى ضرورة أن تكون هناك حماية لفرق الإسعاف كافةً.
كذلك، أشار الكتاني إلى أنّ مسيرة الصليب الأحمر اللبناني مستمرة بتأنٍّ لأنّ الأمور صعبة، والشتاء على الأبواب والأمراض تتكاثر. وتحدّث في هذا الإطار عن الاستراتيجية الخماسية الجديدة للصليب الأحمر اللبناني التي تمّ وضعها من أجل الاستجابة والحدّ من المخاطر ومواجهة الكوارث والأزمات، والتي تندرج وفق البنود الآتية: التحضير، الاستجابة والتعافي.
مشهد يتكرر
«أكملت قافلة الصليب الأحمر اللبناني التي تنقل المساعدات الإنسانية والطبية (معدات طبية وإسعافية) إلى مستشفى تبنين الحكومي، رغم الغارات التي طالت أكثر من قرية مثل صريفا والسلطانية، مخلّفة الدمار الكبير والنيران والدخان»... هذا ما بات يحصل مرارًا وتكرارًا وفق منسّق الارتباط والعلاقات بين الصليب الأحمر اللبناني واليونيفيل علي سعد.
سعد المتطوّع في الصليب الأحمر اللبناني منذ أربعين عامًا، انضمّ إليه أبناؤه الثلاثة كمتطوّعين يسعفون ويشاركون في عمليات الإخلاء. اندفاعه للخدمة الذي انتقل إلى أبنائه، هو السلاح الذي يستخدمه مسعفو الصليب الأحمر اللبناني في مواجهة الصعوبات التي تعترضهم وأبرزها، انعدام الشعور بالأمان في أثناء التحرّك، مع العلم أنّ العمل يتم تحت مظلة القوانين الدولية التي ترعى المهمات المنوطة بالصليب الأحمر اللبناني. وهو يشرح أنّ التنسيق مع اليونيفيل يتم من خلال توجيه رسالة سريعة إلى فريق الارتباط الذي يرسلها بدوره إلى الجانب الإسرائيلي لأخذ العلم بنوعية المهمة قيد التنفيذ، إضافةً إلى عدد السيارات وأسماء الطرقات التي سيسلكها الموكب. لكن ذلك لا يحول دون استهداف المواقع حيث توجد طواقم الصليب الأحمر في أثناء المهمات الإنسانية، وهذا ما حدث في أثناء عمليات الإخلاء في جويّا - صربين والنبطية، ما أدّى إلى إصاباتٍ بين المسعفين، فضلًا عن إصابة عسكريين من الجيش اللبناني.
تتمثل الصعوبات الأبرز في إنقاذ الجرحى وإيصالهم إلى المستشفيات بسبب وعورة الطرقات من جراء الغارات المتواصلة، وفق ما يقول سعد، الذي يشير إلى أنّ الصليب الأحمر لا يملك السيارات المدرّعة التي يمكنها السير وسط الركام، وكثيرًا ما يتمّ الاستعانة بالجيش اللبناني من أجل فتح الطرقات أمام سيارات الصليب الأحمر اللبناني من أجل متابعة السير في تنفيذ المهمات. وما يفاقم الصعوبات هو استهداف المستشفيات وخروجها عن الخدمة، ما يعني تعذّر نقل الجرحى إلى مستشفى قريب في أحيان كثيرة.
متطوّعون شجعان
باندفاعٍ مماثل، يقف متطوّعو الدفاع المدني على أهبّة الاستعداد لتقديم المساعدة في مختلف الظروف والأوقات. مغامرون شجعان يتحدّون الحريق والكوارث الطبيعية والحروب. يخلون الجرحى، يزيلون الأنقاض ويخمدون الحرائق، وقد سقط ٢٧ شهيدًا منهم جرّاء استهدافهم من قبل العدو الإسرائيلي، والنزف مستمر. ويوضح رئيس شعبة التدريب والمدارس في المديرية العامة للدفاع المدني نبيل صالحاني، أنّ الجهاز يعمل ضمن خطّة متغيّرة يوميًا وفق الظروف الميدانية، ولديه 32 مركزًا تنتشر في المناطق اللبنانية كافة لتنفيذ المهمّات المنوطة بها في الحرب والسلم. وهو يتولّى حاليًا مهمّات إضافية بسبب الحرب، بمعدل 250 مهمة يوميًا، بما في ذلك نقل المياه إلى مراكز الإيواء في المناطق اللبنانية كافة.
في سياقٍ آخر، رأى صالحاني استحالة المقارنة بين حرب تموز 2006 والحرب الجارية، نظرًا إلى خطورة الأخيرة نتيجة تطور الأسلحة المستخدمة والدمار الهائل الذي سببته. وإذ أبدى أَسَفَه الشديد لسقوط الشهداء والجرحى، أكّد في المقابل استمرار الدفاع المدني بتأدية دوره في خدمة الإنسان على الرغم من تهديدات العدو واعتداءاته المستمرة.
هدية ثمينة
يروي أحد ضباط الدفاع المدني، والذي لديه سنواتٌ طويلة من الخبرة، بتأثّر تفاصيل موجعة عن تجربته في عمليات الإنقاذ المعقّدة خلال الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، لا سيّما أثناء الغارات التي استهدفت منطقتي النويري والبسطة، وكذلك خلال الاعتداءات اليوميّة المكثفة التي طالت الضاحية الجنوبية لبيروت.
في عمليات كهذه كيف يصارع المنقذون الخطر المحدق بهم؟ الجواب هو أنّ المنقذ أو المسعف ينسى في لحظات عمله بين الأنقاض كل شيء، ولا يحضر في ذهنه سوى همّ واحد: إنقاذ أرواح تكاد تزهق تحت الركام، وانتشال من فارقوا الحياة. وكلما تكلّلت المهمة بإنقاذ ناجين نشعر بأنّ الله قدّم لنا هدية ثمينة. لا شعور في الدنيا يشبه ما نشعر به حين نستطيع إنقاذ أشخاص يستغيثون وفوقهم أكوام الحجارة والحديد...
إضافة إلى الخطر الذي يواجهونه في كل لحظة، لعل أصعب ما يعانيه مسعفو الدفاع المدني في هذه الحرب المدمّرة هو عدم توافر الآليات والمعدات الكافية، فتجهيزاتهم وآلياتهم بمعظمها قديمة ومتهالكة، وفي مناطق مثل البقاع حيث المسافات شاسعة بين البلدات، قد يستحيل عليهم الوصول بسرعة إلى مكان الاستهداف، لكنّهم في كل الأحوال يبذلون أقصى ما يمكن تصوّره من جهود وتضحيات، ويعملون باللحم الحي فعلًا لا قولًا… عملهم وهم يُزيلون الركام بأيديهم حرصًا على وجود أحياء هنا أو هناك، تنقله الشاشات على مدار الساعة؛ هذا المشهد سيظل عالقًا في الذاكرة لأجيال، وسيشكّل درسًا من أبلغ الدروس في تاريخ شعبنا.
الدفاع المدني هدف للعدو
لم يعفِ العدو الإسرائيلي الدفاع المدني من شرّ عدوانه، بحيث استهدفت إحدى الغارات في 14 تشرين الثاني مركزه في بعلبك أثناء وجود 20 عنصرًا في داخله، ما أسفر عن سقوط 12 شهيدًا وعدد من الجرحى، ليصبح عدد الشهداء 27 شهيدًا منذ بدء العدوان في 8 تشرين الأول 2023 .