لبنان في الخارج

جهود انتصرت على المعاناة
إعداد: ندين البلعة خيرالله

وكأنّ مرارة الغربة وقسوتها لا تكفيهم، ليأتي فيروس كورونا ويمنعهم قسرًا من العودة إلى وطنهم... وباء عالمي عابر للحدود والقارات تحكّم بالعالم أجمع وشلّ حركته، فأغلق المطارات، وحجر الناس في بيوتها، حرم الأخت من وداع أخيها قبل دفنه، ومنع الأهل من استرجاع جثة ابنهم الذي توفيَ في الغربة، وأبعد الكثير منهم عن فلذات أكبادهم.
قسم كبير من اللبنانيين في الخارج استطاع العودة إلى لبنان بفضل جهود جبارة بذلتها الحكومة والسفارات اللبنانية. قسم آخر ظلّ حيث هو وشارك في مكافحة الوباء. في ما يلي مقابلات مع عدد من السفراء والمغتربين، بالإضافة إلى أطباء لبنانيين كان عطاؤهم خير صورة للبنان في الخارج.

 

المفارقة التي عاشها اللبنانيون بشكلٍ خاص تمثلت في رغبة من هم في الخارج بالعودة إلى الوطن الذي كانوا قد غادروه بحثًا عن فرص أفضل. فجأة انقلبت المعادلة إلى نقيضها، مقولة «السفر إلى أي بلد أفضل من البقاء في لبنان» حلت محلها الرغبة في العودة إلى لبنان أيًا كان الثمن. صحيح أنّ بين الراغبين في العودة قسم كبير من الطلاب والسياح وسواهم من الذين باتوا في ظروف صعبة، بسبب التعقيدات التي شهدتها التحويلات من المصارف. لكن كان هناك الكثيرون ممّن فضّلوا العودة إلى بلدهم لأنّ الإجراءات التي اتُخذت في لبنان لمواجهة الوباء، كانت أفضل من تلك التي اعتُمدت في البلدان التي يقيمون فيها. هنا يُسجل لهذا الوطن الصغير المُرهق بفعل أوضاعه الاقتصادية استطاعته احتضان أبنائه، فيما رفض الكثير من المواطنين الأميركيين مثلًا مغادرته، والعودة إلى بلدهم في هذه الأزمة. على خط آخر، كان عدد كبير من الأطباء اللبنانيين يعملون في الخارج على مكافحة الوباء بكل ما يمتلكون من معرفة وكفاءة وطاقة وإنسانية. وهكذا استحق لبنان الافتخار مرتين: مرة لأنه اشتق من الضعف قوة لاحتضان أبنائه العالقين في الخارج، ومرة أخرى بفضل من رفعوا اسمه عاليًا في هذه المرحلة العصيبة كما فعلوا دائمًا.
وزارة الخارجية، والسفارات، والقنصليات، والجمعيات، والأطباء، والمتخصصون والعائلات... الجميع تجنّد لخدمة الوطن خارج أرض الوطن!
 

وزارة وسفارات...
جنود في خدمة اللبنانيين

مع انتشار الوباء وإعلان حالة الطوارئ الصحية في معظم أنحاء العالم، تأهّبت وزارة الخارجية إلى جانب البعثات الدبلوماسية اللبنانية (سفارات وقنصليات) في مختلف بلدان الانتشار.
كانت مسألة إجلاء اللبنانيين من دول الانتشار في أساس خطة وزارة الخارجية، يقول مدير الشؤون السياسية والقنصلية في الوزارة السفير غادي الخوري: «كان علينا معرفة عدد اللبنانيين الذي يمكن لدولتنا استيعابه مع مراعاة عدم انتشار العدوى بشكلٍ كارثي يفوق قدرة لبنان على المواجهة، لذلك سارت الأمور وفق استراتيجية محكمة إن لناحية التدابير والإجراءات أو لناحية الأعداد.
في الخليج، وأفريقيا وأوروبا، أُعطيت الأولوية للأكثر تهميشًا، فكانت استراتيجيتنا محاولة للموازنة بين قدرة لبنان الاستيعابية ومعالجة أوضاع اللبنانيين الصعبة في الخارج بقدر الإمكان. وكان أيضًا همّنا الأساسي – وهذا ما لم نستطع معالجته- حلّ مسألة التحويلات المصرفية للطلاب ليتمكنوا من الصمود بانتظار حلحلة الوضع». ويضيف السفير الخوري موضحًا: «خصّصت الوزارة ٣ منصات للجالية اللبنانية:
• منصة لتسجيل الطلبات وشرح الأوضاع والأسباب والصعوبات.
• منصة للطلاب الذين يحتاجون إلى مساعدات وتحويلات متوقفة بسبب المصارف.
• منصة لمن هم عالقون في الخارج ولديهم أموال في لبنان، ويحتاجون أيضًا إلى تحويلات للصمود حتى العودة إلى لبنان».
ما الذي ميّز لبنان عن باقي الدول؟ يجيب قائلًا: «فعليًا قام لبنان بشيءٍ لم تفعله أي دولة. ففي حين أنّ المعيارَين الأساسيَّين اللذَين اعتمدتهما الدول للترحيل هما العمّال والزائرون والسياح، قمنا نحن بتوسيع الدائرة وأجلينا مقيمين وعائلات. فطبيعة الانتشار اللبناني في الخارج تمنعنا من التعامل مع الموضوع بشكلٍ تقني محض، هناك جزء عاطفي يربطنا بالاغتراب الذي ندين له بالكثير.
كان التحدّي الأساسي هو العدد الكبير من طلبات العودة، والذي بلغ حوالى ٢٤ ألف مسجّل في كل دول العالم، في حين لا نستطيع نقل ما يزيد عن ١٢٠ شخصًا على الطائرة. تحدٍّ صعب جدًا، والأصعب هو الاختيار بين مختلف الحالات الإنسانية الصعبة والمتشابهة بحسب الأولويات. كل شخص صعد على الطائرة ظُلم مقابله عدة أشخاص، كان يجب أن يعودوا ولم يكن هناك مجال لذلك».
بالنسبة للسفير الخوري، كل تجربة تعلّمنا الكثير من الأمور: «اضطررنا إلى القيام بخياراتٍ صعبة بين حالات إنسانية كلها متشابهة، لم نتدخّل باختيار الأسماء، ولكن سفراءنا في الخارج عانوا الكثير في هذا المجال. ومع ذلك، فإنّنا نعتبر أنّ التدابير التي اتخذناها تقترب من الكمال في بلدٍ كلبنان.
ويوجّه نصيحة للجميع وخصوصًا الشباب الذين ضجروا وتعبوا ويريدون العودة إلى عائلاتهم ووطنهم: «نحن أمام أزمة اقتصادية عالمية، والشركات في مختلف دول العالم تتّجه إلى عمليات طردٍ جماعية للتخفيف من عدد الموظفين لديها. فلا تخاطروا ولا تعودوا وتتركوا البلدان حيث تعملون فتكون حجة لطردكم».
من جهة أخرى، وضعت كل من سفارات لبنان في الخارج استراتيجية عمل، تناسب طبيعة البلد ومستوى الخطر الذي يتهدّده. وأنشأت البعثات جميعها خلايا أزمة خصّصت خطوطًا ساخنة للجالية اللبنانية، تمكّنها من التواصل معها وطلب المساعدة، بالإضافة إلى الجهود الخاصة بكل بعثة».
 

في فرنسا:
تعاضد وتضامن لتخطّي الأزمة
استخدم سفير لبنان في فرنسا رامي عدوان خبرته في إدارة الأزمات (كونه كان مسؤولًا سابقًا عن خلية الأزمة في وزارة الخارجية) لوضع خطة ديناميكية «خاضعة» للتغيير، تتحوّل بحسب المستجدات والمعطيات، تخضع لتقييمٍ مستمر يرافقه ترتيبات لوجستية وتنفيذية تسمح بتيويم الخطة الأولية، وذلك بالتنسيق مع القنصلية العامة في مرسيليا.
 

مواكبة نفسية:
تضمّنت الخطة خلية مواكبة نفسية تطوّع فيها العديد من اللبنانيين الاختصاصيين. وكم هم كثيرون من أحبطهم هذا الوضع، وكم من القاسي أن تسمع أحدهم باتت أمنيته الوحيدة العودة إلى أرض الوطن للموت قرب عائلته، بعد أن جاء إلى فرنسا ليخضع لعلاج من السرطان وعلق هنا.
 

دعم مادي:
بالتوازي مع الجهود التي تقوم بها لتأمين راحة بال المراجعين، وبسبب الأزمة المالية والاقتصادية، مدّت البعثة في فرنسا يد العون إلى المحتاجين من بين اللبنانيين المقيمين، وأنشأت من خلال غرفة التجارة اللبنانية - الفرنسية، وبالتعاون مع أصحاب الخبرة القانونية والاجتماعية وجمعيات المجتمع المدني، لجنة لدراسة طلبات المراجعين بشأن الصعوبات المادية. ففي حين عُلِّق دفع الإيجارات، كانوا ما زالوا بحاجةٍ للمأكل والمشرب ليعيشوا بانتظار فك الحجر عن حساباتهم وحسابات أهلهم في المصارف.
بُنيت استراتيجية السفارة اللبنانية في فرنسا على مشروع تم البدء به منذ حوالى سنتَين، حين افتُتح قسم خاص بالطلاب والجامعات، ونُظّمت جولات عديدة للتعرف إليهم فردًا فردًا، وهذا التواصل الذي سبق الأزمة سهّل التواصل في خلالها.
وفي هذا الإطار، يؤكّد السفير عدوان أنّ «الجهود المبذولة تهدف لمساعدة طلابنا على الصمود أمام جميع التحديات، فهم مستقبلنا وسيردّون الجميل لاحقًا من خلال وقوفهم إلى جانب الوطن حين يكون بحاجة إليهم. كذلك، أدّى لبنان دوره من خلال الجالية الطبية الموجودة في فرنسا، فالأطباء اللبنانيون هم في خطوط المواجهة الأولى في هذه الحرب الكونية ضد كورونا، صمودهم وقوّتهم ومهنيتهم ساهمت في احتواء المرض في العالم أجمع».


يقصد اللبنانيون فرنسا لعدة غايات، هي:
• مركز استشفائي يقصدها من يعانون أمراضًا مزمنة لتلقي العلاجات.
• مقصد سياحي.
• مركز للتحصيل العلمي إذ تضم أكثر من ٥٢٠٠ طالبًا لبنانيًا.
تم تقديم ٣٣٨١ طلب عودة من فرنسا إلى لبنان، منهم حوالى ٣٧٠ سائحًا، ١٧٠٠ طالب، ٣٠٠ عائلة و٢٠٠ حالة استشفاء.
 

قنصل مرسيليا:
اللبنانيون يحملون لبنان في قلوبهم

قنصل لبنان العام في مرسيليا صونيا أبو عازار تُشيد بالتعاون الوثيق مع البعثة في فرنسا. وتقول في هذا الإطار: «لقد أثبتت هذه الأزمة مرة جديدة أنّ اللبنانيين لديهم القدرة على التأقلم مع مختلف الظروف، ويبدون فورًا الاندفاع للمساعدة والدعم والمساندة. هم قادرون على الانصهار والانخراط في المجتمع حيث يكونون بشكلٍ كامل، ولكنّهم يحملون لبنان في قلوبهم ويهبّون لتلبية نداء الواجب حين يتهدّد وطنهم ومواطنيه وجاليته خطر.
ظهر التعاضد اللبناني جليًا من خلال مبادرات الكثيرين من مختلف الاختصاصات الطبية والنفسية وغيرها، إذ هبّوا للمساعدة وتقديم الاستشارات عبر الهاتف، خصوصًا في جنوب فرنسا الذي يضم أكثر من ٦٠٠ طالب لبناني يتابعون دراستهم، وهم يجدون صعوبة في العودة إلى لبنان حاليًا بسبب عدم وجود طيران مباشر إلى لبنان (عليهم التوجّه إلى باريس ومنها إلى لبنان، وهذا أمر مربك ومكلف)».
أما الأطباء فهم «أبطال اليوم» تقول القنصل من جهة أخرى، «إذ يشعر الناس أنّ حياتهم متعلقة بأيدي هؤلاء الأبطال. وماذا نقول عن الأطباء اللبنانيين الذين لا يمكن ذكرهم إلّا والشعور بالفخر والاعتزاز، وخصوصًا فريق طلاب الطب والدكاترة الذين يتابعون دراساتهم العليا في الاختصاص، إلى جانب الدكتور ديدييه راوولت الذي ذاع صيته في الآونة الأخيرة في موضوع تطوير علاج للكورونا».

 

إسبانيا...
اللبناني متعلّق ببلده وأبنائه

الجالية اللبنانية في إسبانيا مستقرة ولديها أعمالها وتحمل الجنسية الإسبانية، وقد كان هناك بعض الإصابات في صفوفها وحالتَا وفاة. الأصعب والذي حتّم عمل أكبر من قبل السفارة هو وضع الطلاب الذين عانوا كما غيرهم من صعوبات للعودة إلى لبنان والحصول على التحويلات المالية.
سفيرة لبنان في إسبانيا هلا كيروز تشرح وضع هؤلاء الذين بلغ عددهم حوالى ٧٠٠ طالب، من بينهم قسم كبير يريد العودة، فالجامعات أقفلت والدروس تُعطى عن بعد، ووجودهم لم يعد ضروريًا خصوصًا مع غياب التحويلات المالية.
شكّلت السفارة خلية أزمة لمساعدتهم وقامت لجنة أطباء لبنانيين مقيمين بتقديم العون لهم حين يحتاجون لذلك، في ظل صعوبة الذهاب إلى المستشفيات، وهنا لا بد من الإشادة بالأطباء اللبنانيين الإسبان الذين كانوا في الخطوط الأمامية يؤدّون رسالتهم. وتضيف السفيرة كيروز: «أسّسنا أيضًا مع الجالية اللبنانية التي كان لها دور كبير وأساسي في دعمنا خلال هذه الأزمة، لجنة وصندوقًا متواضعًا لمساعدة الطلاب ذوي الوضع الدقيق».
وتختم: «أضاءت الأزمة على دور السفارات الموجودة لخدمة اللبنانيين ومساعدتهم في غربتهم عن الوطن، بالإضافة إلى التأكيد على أهمية دور الجاليات. إنّها روح التضامن التي تميّز اللبنانيين أينما كانوا، ونكتشف يومًا بعد يوم كم أنّ اللبناني متعلّق بوطنه وحريص على مساعدة أبناء بلده».
 

إيطاليا...
اللبنانيون «قبضايات» في الأزمات!

في إيطاليا الوضع أصعب، فالعدد الأكبر من اللبنانيين الموجودين فيها هم من الطلاب، ويتركّز وجودهم في الشمال (منطقة Lombardia)، حيث انتشر الوباء بشكلٍ كبير. سفيرة لبنان في إيطاليا ميرا ضاهر تُشيد بالتزام الطلاب اللبنانيين الحجر المنزلي، ما أسهم في حمايتهم من الإصابة بالعدوى.
منذ بدء الأزمة، لم تتحول خطوط السفارة فقط إلى خطوط ساخنة، بل أيضًا خطوط فريق العمل والأطباء، الجميع كانوا مستعدين للمواكبة والدعم والمساعدة في كل المناطق. كذلك، عرضت العائلات اللبنانية المستقرة في إيطاليا مساعدة الطلاب الذين توقّفت دروسهم وأشغالهم، وتحويلات ذويهم المالية.
وتشرح السفيرة ضاهر: «تم التعاون مع القنصلية العامة في ميلانو والقنصليات الفخرية الموزعة كافة، لطلب المساعدة. وُضعت خطة مرنة تتفاعل وفق الظروف، وتغيّر الأولويات والاعتبارات يوميًا. تعاملنا مع أزمة لا نعرف متى ستكون نهايتها، في حين أنّنا لا نملك مصادر للتمويل بل نعتمد على المبادرات الفردية. الاستراتيجية كانت تتطور مع تطور الفيروس والمعلومات عنه».
انطلقت السفارة من خلية الطلاب الموزعين في إيطاليا، وخلقت من خلالها خلايا محلية راحت تمتد وتتوسّع كانتشار الكورونا من شخصٍ إلى آخر، وبات الجميع يتواصلون. وقد أكّدت هذه التجربة، كما تقول السفيرة ضاهر، أنّ الوحدة والتضامن والمنطق هي أسس إنجاح أي عمل أو مهمة، و«إن أردتَ أن تُطاع فاطلب المُستطاع».
وتؤكد بفخرٍ أنّ اللبنانيين في الأزمات «قبضايات»، فنحن شعب عاش الحروب ويشعر بالخطر ويفهمه بوعيٍ. استراتيجيتنا اليوم بحاجةٍ لكل صوت منطقي وبنّاء، لا يمكننا أن نكون على كل الأراضي وفي كل الأماكن، فليس لدينا جيش، بل هناك أشخاص نتفاعل معهم. الأساس بالنسبة لنا هو أن نبحث عن كيفية إيصال الصوت ومد يد العون، فالأراضي كبيرة وشاسعة وهذه الحرب ممتدة في كل مكان، وكل لبناني من موقعه هو جندي معنا.
 

تحت المظلة الوطنية
إنها أزمة عالمية حوّلت الجميع إلى جنود يكافحون، كل من موقع مسؤوليته وخبرته، للانتصار وضمان استمرارية البشرية. وعلى أمل انتهاء هذه الحرب الكونية، تبقى بعض الدروس التي نستقيها كلبنانيين، يعبّر عنها سفراء لبنان في الخارج:
• لا دواء إلا الوقاية والتزام الحجر المنزلي.
• السفارات هي حليفة اللبناني في الخارج، والموقع الوحيد الذي يتفهّم عناءه ويعاني مثله صعوبة التواصل مع الوطن في ظل الحجر الصحي.
• أظهرت السفارات خلال هذه الأزمة قدرة كبيرة على التأقلم نتيجة التحديات التي تواجهها والتفاني بأداء الواجب. التفهم، والتعاطف، والمهنية والشفافية هي ميزات سفاراتنا في الخارج، التي عملت بكل قواها لمواجهة الأزمة.
• حين يحتاج اللبناني إلى مساعدة، هو ليس مضطرًا للنظر بعيدًا، فبالتضامن والتعاضد المتجذّرَين في شخصيته تجاه أخيه، سيجد إلى جانبه لبناني آخر يمد له يد المساعدة من دون أن ينتظر كلمة شكر.
• علمتنا هذه التجربة أن نرى الخروقات والأخطاء ونغض الطرف عنها ونعتصم بالصمت من أجل أهداف إنسانية سامية. ففي الأزمات ليس الوقت ملائمًا لتسجيل المواقف وإنما لإعادة الحسابات ووضعها تحت المظلة الوطنية.
• الأساس في مواجهة أي أزمة هو أن يكون هناك صوت موحّد، رؤيا سريعة ومرونة عالية للتأقلم مع واقع الحال في ظل الفارق بين النظرية والتطبيق.

 

في الغابون...
امتنان لا تلغيه أزمة

في القارة الأفريقية، يختلف الوضع بين دولة وأخرى بحسب الحكومات والأوضاع العامة. تأخر الوباء بالوصول إلى هذه القارة، ما حتّم التحذير من الاستهتار وتسخيف الموضوع. سفيرة لبنان في الغابون (بالإضافة إلى الكاميرون، تشاد، وجمهورية ساو تومي وبرينسيبي) ألين يونس، أطلقت إعلانات متتالية منذ بداية الأزمة، طلبت فيها من اللبنانيين التقيّد بإرشادات الوقاية. جدّية المتابعة عكستها تقارير متتالية دقيقة عن وضع اللبنانيين وعدد الإصابات وجدّية الإجراءات المُتخذة في كل دولة، من خلال مركز مكافحة الوباء التابع للاتحاد الأفريقي.
تشرح السفيرة يونس أنّ الأعداد التي تقدّمت بطلبات العودة تختلف نسبيًا من بلدٍ إلى آخر، وذلك يعود لعدة عوامل تتعلق بجدّية إجراءات الوقاية والحدّ من انتشار الفيروس. في الغابون، من أصل جالية تضم حوالى ٨٠٠٠ لبناني، تم تقديم ٧٠٠ طلب للعودة. ولكن في الكاميرون كانت المفاجأة، فعدد الجالية يبلغ حدود ١٧٥٠ وتسجّل منها فوق ٩٠٠ طلب.
في الساو تومي وبرينسيبي عدد السكان يبلغ ٢١٠ آلاف ولدينا حوالى ٥٠ لبنانيًا هناك، وهي من آخر الدول التي سجّلت الإصابات بالفيروس في أفريقيا. تواصلنا مع الجالية ورئيسها وتم تسجيل حوالى ٢٧ طلب عودة، وقد عملنا على مساعدة الحالات الدقيقة والصعبة للعودة إلى لبنان.
من جهة أخرى، كان لا بد من مراعاة واقع الجالية اللبنانية التي مرّ على وجودها في أفريقيا أكثر من مئة عام، والتي عملت وجمعت ثروات في هذه البلاد وحملت جنسيتها، وبالتالي لم يكن من اللائق «إدارة الظهر» والمغادرة. استدرك اللبنانيون الأمر في الغابون، بتوجيهاتٍ من سفارتهم، وقاموا بمبادرةٍ تصلح لتكون قدوةً لباقي الجاليات اللبنانية في مختلف دول العالم. فقد حاولت الجالية تقديم الدعم من خلال تنظيم حملة جمع تبرعات، وتقديمها لدولة الغابون كمبادرة حسن نية تجاه الشعب الغابوني. وقدّمت مساعدة مالية بلغت ما يعادل حوالى ٧٨٥ ألف يورو لدعم الجهود في مكافحة وباء كورونا، فكانت أول جالية أجنبية تدعم البلد في هذه المحنة.
تؤكّد السفيرة يونس أنّه «إذا استدعى الأمر هناك تضامن، وأبناء الجالية يساندون بعضهم البعض، وقد نظموا حملة مساعدة للعائلات المحتاجة إلى لقمة العيش. أما الأمر الإيجابي الذي اكتسبناه من خلال هذه التجربة فهو التواصل والتنسيق مع باقي الزملاء في القارة الأفريقية».
 

الأميركيون فضلوا البقاء في لبنان
في حديث أجرته محطة الـ CNN مع عدد من المواطنين الأميركيين في بيروت، أبدى معظمهم عدم الرغبة في العودة إلى الولايات المتحدة الأميركية، على الرغم من عرض الحكومة الأميركية نقل مواطنيها والمقيمين الدائمين إلى موطنهم. وقد عبّر هؤلاء عن خوفهم من العودة، ورأوا أنّ الوضع أكثر أمانًا في لبنان، فالولايات تعاني من الافتقار لإجراءات الوقاية ومن إرهاق النظام الصحي.
٩٥ مواطنًا أميركيًا فقط من بين آلاف يعيشون في لبنان عادوا إلى أميركا. وربما هي المرة الأولى التي يكون فيها لبنان أكثر أمانًا من الولايات المتحدة.

 

جنود خلف خطوط العدو
حين تقرأ رسالة كتبها طبيب لابن أخته يخبره عن الوضع في إيطاليا، وحين تشاهد الأخبار وترى الإنجازات تلو الأخرى يحققها الأطباء اللبنانيون في الخارج، تدرك أنّنا حقًا أمام أبطال من نوع آخر: أبطال الواجب الطبي، واجب صحة الإنسان ومستقبل البشرية جمعاء...
إنهم جنود ينفّذون مهمّة خلف خطوط عدو غادر، يُسمى «كوفيد - ١٩»، يحاولون مجابهته وتجريده من أسراره وخفاياه والحدّ من آثاره على الإنسانية. ولكنّهم أيضًا جنود خارج أرض وطنهم، مُعرَّضون في كل ثانية للموت بعيدًا من عائلاتهم وأرض لبنان، يدعمون كل مريض، وخصوصًا ابن بلدهم.
 

محارب عاد من الجبهة
يـشــرح الـطـبـيــب الإيطالـي مـن أصـل لبناني رياض قانصو (اختصاصي أمراض داخلية سريرية وطب طوارئ) كيف كان الوضع في إيطاليا مع بداية انتشار فيروس كورونا، قائلًا: «كان الوضع مأسويًا... نحن في المستشفى التي أعمل فيها (ثاني أكبر مستشفى في مدينة بريشيا) كنا أول من تفرّغ لمعالجة مرضى الكورونا، فكانت المهمة انتحارية. كنا نقاتل ضده وجهًا لوجهٍ من مسافة صفر، مع احتياطات نعتقدها كافية. الفيروس في المستشفى كان يحيط بنا من كل جهة، المرضى يأتون بأفواجٍ هائلة.
غرفة العناية الفائقة امتلأت بمرضى أقرب إلى الموت منها إلى الحياة، منهم من يموت فجأة ومنهم من ينتظر، وكان عدد الأطباء ضئيلًا جدًا بالنسبة لعدد المرضى... استشهد ١٤٠ طبيبًا في إيطاليا، في هذه الحرب الكونية بينهم عرب ولبنانيون».
ويضيف قائلًا: «حاربت لمدة ٦ أسابيع متتالية في الجبهة الداخلية ضد كورونا. المعركة كانت شرسة للغاية، سقط خلالها عدد كبير من الضحايا، وكان العدو ينتظر لحظة واحدة قد نسهو فيها لكي ينقض علينا أو على المريض... رأيت كل ما يمكن رؤيته، وكان الخوف يهيمن على المرضى كما على الطواقم الطبية. انتصرت على بؤرة الفيروس عند المحور الذي كنتُ فيه، وعدتُ من الجبهة، وفي خضم هذه المأساة اكتسبنا الخبرات التي تجعلنا لا نهاب أي موقف، وعلينا نقل هذه الخبرات إلى وطننا لبنان».
ولأنّ اللبناني يشعر بابن بلده، لم تمنع حالة الاستنفار العام الدكتور قانصو من مفاجأة مريض لبناني داخل غرفة حجره في المستشفى باحتفالٍ بعيد ميلاده مع الممرضات، ليعود ويزوره من جديد في منزله في إيطاليا بعد شفائه ومغادرته المستشفى.
 

لننتشر ونرفع اسم لبنان عاليًا
رسالة واحدة ترسلها الطبيبة أماندا شامية (طبيبة أمراض معدية وجرثومية) من فرنسا إلى كل اللبنانيين في الانتشار: «لننتشر أكثر ونرفع اسم لبنان عاليًا، على أمل عودتنا جميعًا إلى وطننا، هذا الوطن الذي نشأنا فيه وقدّم لنا العلم وكل مقومات نجاحنا اليوم في الخارج».
تعبّر د. شامية عن شعورها بالفخر بأن تكون موجودة في المركز الطبي الذي يديره مفكر وطبيب ومبتكر لامع كالبروفيسور ديدييه راوولت الذي سيذكره التاريخ. فهو مركز بحث علمي يمزج بين كل التقنيات الممكنة لتشخيص الأمراض المعدية. هذا البروفيسور أنشأ العديد من البروتوكولات العالمية في عالم الأمراض المعدية والميكروبات، واكتشف عدة أنواع بكتيريا ولديه الكثير من الإنجازات العالمية، وهذا ما أهّله ليكون خبيرًا عالميًا في هذا المجال. «وهنا أتوجّه بالشكر للدكتور عيد عازار وهو مرشدي والذي وجّهني وأمّن لي كل المستلزمات لأكون موجودة في هذا المركز.
نحن حوالى ١٧ لبنانيًا في هذا المركز، كل منا في فريق بحث مختلف لم يكن يتعلّق بكورونا. ولكن مع انتشار هذا الفيروس، انضممنا إلى الفرق الباحثة في هذا المجال، في التنظيم والتشخيص وصولًا إلى وضع البروتوكولات وتثبيت الأنظمة. وقد كنا محظوظين بمرافقة مراحل انطلاق التجارب على العلاج الذي ابتكره البروفيسور راوولت، أضافة إلى دوره الرائد في فحص الناس جميعًا بالـPCR، فكان «صف» القادمين للخضوع للفحص في المركز يمتد من باب المترو إلى مدخل المستشفى.
خلال وجودنا هنا، رافقنا مراحل تطور فيروس كورونا، فكان كل يوم يظهر تقنيات تشخيص جديدة ورحنا نفهم أكثر طرق تناقله وكيفية التعامل معه والاحتواء والوقاية... شهدنا تبلور هذه المراحل، فشعرنا أنّنا ربما قد نكون في أكثر الأماكن أمانًا في العالم».
وعن خبرتها في عالم الاغتراب تقول د. شامية: «حين وصلت إلى فرنسا اعتقدت أنّني سأشعر بالوحدة، ولكنني تفاجأت بفريقٍ كبير أشعرني بأنني ضمن عائلة، والمشجّع الأكبر لنا هو أنّنا كلبنانيين أينما ذهبنا ننجح ونلمع. فهنا الجميع يدرك أننا مجتهدون ومميزون ما يشجعهم على استقبال المزيد من الطلاب في كل سنة».
وعن مخاوفها من كورونا، تقول: «عند انتشار كورونا فكّرنا بأهلنا وتمنّينا أن نكون إلى جانبهم، ولكن في الوقت نفسه كان علينا مسؤولية كبيرة تدفعنا إلى البقاء والتحلّي بالشجاعة، خصوصًا وأنّ الفيروس منتشر في فرنسا أكثر من لبنان.
ساعدني في معركتي هذه، أنني نشأت على الشجاعة وحب الوطن والجيش فوالدي عميد ركن متقاعد، وهذه المؤسسة لها الفضل الأساسي في علمي وفي ما وصلت إليه اليوم، وهذا ما يجعلني أكافح وأتعلّق أكثر ببلدي وأصمد على أمل العودة».
 

شهادة من نيويورك
عندما اتصلنا (في ١٨ نيسان الماضي) بطبيب القلب اللبناني الدكتور ربيع تابت الذي يعمل في مستشفى ستاتن أيلند الجامعي في نيويورك، كان الوضع قد بدأ يميل إلى التحسن قليلًا في الولاية التي جعلها الوباء تعيش ظروفًا كارثية. يخبرنا الدكتور تابت أنّ هذه الظروف استدعت اتخاذ تدابير استثنائية لاستيعاب الأعداد الهائلة من المصابين ومعالجتهم. فهذه الأعداد فاقت بأكثر من ثلاثة أضعاف القدرة القصوى للمستشفيــات. لم يعــد هناك من غرف للمرضى الذين انتشرت أسرّتهــم في الممـرات، أُنشئـت مراكـز وتـم تجهيزهـا لتكـون مستشفيات.
الطاقم الطبي لم يكن قادرًا على تقديم الخدمات للجميع رغم تكثيف ساعات العمل وتحوّل كل الأطباء بغضّ النظر عن اختصاصاتهم إلى العناية بمرضى كورونا. «في النهاية هذه رسالة الطب، على الطبيب أن يقدّم المساعدة حيث تدعو الحاجة» يقول، ويضيف: «كذلك تم استدعاء أطباء من الولايات الأخرى للمساعدة. لولا ذلك لكان الوضع أسوأ بكثيرٍ، في الواقع كان تضامن الطواقم الطبية ملفتًا ومهمًا. الوضع الآن بات أفضل وهو يميل إلى التحسّن».
 

• ماذا عن معدات الحماية الشخصية للطواقم الطبية؟
- «في بداية الأزمة كان هناك نقص كبير، طُلِب من الأطباء والممرضين وسواهم من العاملين في القطاع الطبي استخدام الكمامة نفسها لمدة أسبوع بينما من المفترض استعمالها مرة واحدة فقط. إجمالًا الوضع بات أفضل الآن».
أقسى ما عاناه كطبيبٍ يعالج مرضى وباء كورونا في ظروف بالغة القسوة هو «الألم لرؤية المرضى يموتون وحدهم. تخيلي مريضًا على فراش الموت أو على جهاز التنفس وهو يفارق الحياة وحيدًا، ما من أحد قربه يمسك بيده ويسانده، لا أم، لا أخ، لا ابن...هذا أقسى ما في تجربة الطبيب مع مرضى كورونا». ويضيف: لذلك نكرر القول «انتبهوا ع حالكن وع اللي بتحبوهن حتى ما توصلوا لها لمرحلة الصعبة».
 

• هل تمنيت في هذه الظروف أن تكون في لبنان؟
- «لولا هذه الظروف كان يفترض أن أكون في لبنان خلال الأعياد، لكن الواجب اقتضى أن أبقى هنا. عندما اخترت مهنة الطب كنت مدركًا لكل تحديات رسالة الطبيب التي لا تحدها جغرافيا».
يشعر الدكتور تابت بالفخر كلما سمع اسم مستشفى رفيق الحريري الحكومي يتردد في الأخبار، فهو أمضى فيه سنوات عديدة ويعتبر أنّه كخريجٍ من الجامعة اللبنانية تعلّم الطب في غرف هذا المستشفى وممراته. لم يفاجئه أن يأخذ هذا المستشفى الحكومي على عاتقه مهمة العناية بمرضى كورونا، فهو يعرف ما يتميز به من قدرات وبنى تحتية تخوّله أن يكون رائدًا على مستوى لبنان والمنطقة، إذا عمل القيمون عليه يدًا واحدة بعيدًا من المحسوبيات والفساد. وهو ينوّه بالخطوات والتدابير التي اتخذت لتجهيزه وتنظيمه لاستقبال مرضى كورنا بسرعةٍ وكانت على مستوى عالٍ من الحرفية.

 

أطباء ودبلوماسيون... مواطنون... سياح... طلاب... مقيمون...

لبنانيون حملوا لبنان في قلوبهم، وتسلّحوا بالشجاعة التي اكتسبوها من أرض الصمود والأبطال. ومن أقطار الأرض الأربعة رسالة واحدة منهم جميعًا: نحن جنود في الخدمة، تجمعنا النوستالجيا للوطن ولن يخيفنا وباء أو أزمة... متعاضدون، متعاونون، سنقاوم خارج حدود الوطن وفي النهاية سنعود...