ثقافة وفنون

جورج شحاده بصمات إبداعية على الشعر والمسرح العالميين

الهام نصر تابت
إذا كانت جزيرة موريس أطلقت لنا “مالكولم شازال” وجزيرة المارتنيك “إيمه سيزير”, فقد أطلع لبنان شاعراً تسكنه عبقرية أصيلة. إنه جورج شحاده.
ولد شاعرنا الكبير جورج شحاده في الإسكندرية (مصر) عام 1910, وجذوره العائلية مزروعة في الجبل اللبناني الذي أعطانا عدداً من الكتّاب اللبنانيين الكبار الذين ألّفوا في اللغة الفرنسية أمثال: خلاط, تيّان, شيحا, وقرم. هذا من حيث الجيل الزمني. أما من حيث الجيل الشعري فقد انفصل جورج شحاده عنهم, عن تياراتهم الأدبية, عن موضوعاتهم, وآثر أن يسهم مساهمة حقيقية في إنماء تراث الآداب العالمية, فكان عملاقاً في هذا المضمار. في شهر كانون الأول من العام 1986 منحته الأكاديمية الفرنسية جائزة “الفرنكوفوني” الكبرى, وهي تمنح لأفضل نتاج أدبي يبدعه كاتب غير فرنسي في الفرنسية.
إنه فرنسي الثقافة, مجاز في الحقوق, عاش في بيروت, ثم في باريس. عمل أميناً عاماً لمدرسة الآداب العليا في بيروت, ثم مستشاراً فنياً في السفارة الفرنسية فيها. “لم يكن غريباً أن ينطلق الى عالميته بالفرنسية, ومن باريس بالذات. فالكتّاب والفنانون الأجانب الذين غزوا العالم عبر هذه اللغة ومن تلك المدينة لا يحصون. ويكفي أن نذكر أنّ المسرحيين الخمسة الذين نهض المسرح الطليعي على أكتافهم وتبنتهم وأطلقتهم باريس, لم يكونوا أصلاً فرنسيين, وهم: صموئيل بيكيت ­ إيرلندي, يوجين يونسكو ­ روماني, آرتور أداموف ­ روسي, فرناندو آرايال ­ إسباني, وجورج شحاده ­ لبناني.
ويرى بعض النقّاد أنه إذا كانت الصورة الشخصية لهذا المبدع اللبناني شبه محجوبة عن القرّاء, فمن خشية شحاده الإحتكاك المباشر بوسائل الإعلام, مثله مثل زميله بيكيت. وإذا كانت توافر لبيكيت عدد من الدارسين ألّفوا عنه كتباً توضح صورته, فإن مسرح شحاده يفتقد ذلك, إلا بعض الإشارات الى مسرحه وشـــعـــــره في الكتـــب والموســوعـات المختصــة.

 

العبقرية الشعرية

يروي جورج شحاده, أن مؤسس السوريالية أندريه بروتون أحب شعره منذ أول لقاء, ربما لأن شحاده لم يكن يعترف بأدب يقوم على الفكرة أولاً, بل على الأسلوب, وأسلوبه فيه مميزات كثيرة من تحديدات السورياليين لشروط الكتابة.
ورغم أنه يرفض الكتابة الآلية التي دعا إليها السورياليون, فإنه في مستهل تفتّح تعبيره الشعري استسلم الى مثلها, لتنطلق الصورة بكامل حريتها في جو النقاوة اللاإرادية الهاذية بكل مخزون الحلم.
وبرغم تكريس غالبية إبداعه للمسرح, فإن الشاعر ظل ينبض في جورج شحاده. وقد جمع نبضاته الأخيرة في ديوان سماه “سباح الحب الواحد”. وهكذا من الشعر الى المسرح فإلى الشعر كان يسبح في بحر واحد هو بحره الشعري.
وعند شحاده وشعره, هناك دائماً المكان المستحيل والحلم بالوطن الأم.
وسواء كان الوطن المنشود هو بمعناه الرمزي أم بمعناه الحسي, فإن شعر جورج شحاده هو شِعر الشعور بالغربة ومحاولة التحايل عليها أو السخرية من الأشياء التي تغذّيها. وفي هذا يلتقي شحاده مع جبران, فكلاهما متغرّب في اللغة وفي المكان, كلاهما في أعماقه روحية تراث واحد يصفه الشاعر سان ­ جون برس, في معرض حديثه عن أدب شحاده أفضل وصف: “... آت من هذه الأقاليم حيث تنتظم كل هندسة صافية.. سليل العائلات الإنسانية حيث لا يعرف من الورد غير العبير, ومن اللؤلؤ غير الشرق.. مع هذا يحدثنا عن تمرّد الورد, وعن ظهور الكواكب المهملة...”.


وكي ننـفذ الى عالم شحاده الشعري, عليـنا ألا نصرّ على البحث عن أفكار محددة في كل شيء بقوله. الكلمات عنده ترتبـط إرتباطـاً بعيداً, تتضافر من بعيد, لكنها تولد صوراً غير منتظرة, جميلة ساحرة. وكي نسبر متاهته الشعرية علينا الإنطلاق من أفكار عدة:
1­- عالم جورج شحاده الشعري يتمثل لنا في صورة مرجة.. بستان غرست فيه أشجار مثقلة بالثمار.
2­- عالم الراحة والكفاية هذا هو سراب, ينبّهنا الشاعر الى ذلك في أول قصيدة من قصائده:
“قبل البدء,
خلف الورود, لا قرود.
هـناك طفـل معذّب العيـنين”.
3­- العالم الآخر هو بنية خيالية يحدثنا شحاده عن أجزائها وعن عناصرها. ما هي حقيقة العالم؟ إنه مجموعة العوالم التي خسرناها وأضعناها.
4­- فكرة الغياب, والمكان البعيد, المجهول, ظاهرة في قصائده ومسرحياته.
5- فـكرة القرية, أو المدينة الصغـيرة. هي مكان فيه الحياة بسيطة وسهلة, فيه تنـشأ روابط بريئة عفوية بين الكائنات والأشياء.
6­-  فكرة الموت, الموت نجده في كل مسرحية وفي كل قصيدة. إنه الرحيل الكبير, الغياب الأخير, لكن الموت حقيقة مطمئنة, حلوة.
إن شـعر جورج شحاده, ليـس إختباراً نجريه على اللغة, إنه كلام وليد المعاناة والخبرة, إنه لا يبني, كلمة, كلمة, المعبر الذي يمكنه من ترك الأرض التي وُلِدَ فيها, الأرض التي يمر عليها الزمن الذي لا عمر له ولا ساعات تحت السماء الكونية. هذا الشعر مؤلف من كلمات.. لكن هذه الكلمات لا تبحث عن كيميائها, لا تسجل صيغتها. انها تقول ببساطة, في نفـس واحـد ما

عرفته دائماً:
“تبحث عن جرس النبع, نبع الذكرى”.

مسرحه الشعري

إن لشاعرنا قدرة على إستنطاق الأشياء مفجراً فيها الرموز عن طريق لمسها لمساً شعرياً عفوياً أو تأليفها بعناية راسم المنمنمات.
“لكن الشعر في مسرح شحاده ليس قصائد, فالحوار مهما دخل في التفاصيل اليومية لا تفارقه طبيعة الشعر. إن العبارات تتوهج بسحر نابع من طبيعة ملامسته للأشياء, من دُفعة شعرية تتجلى هنا بالتعبير عن لقاء بكر بين الأشياء أو الأشخاص. إن لغة كل شخص من شخوص مسرحياته هي نتيجة تأمل خاص...” كما يقول أدونيس.
والمسرح الشعري يعني عند جورج شحاده: المسرح الذي يسمح بفوضى الكلمات والصور ضمن تنظيم إرادي شديد الوعي.. ويرى أنه أقرب الى مسألة الرسم.
لم يترك نتاجاً كبيراً, لكن ما تركه كان ليجعل له مكاناً دائماً في خريطة الأدب العالمي. ومما تركه في المسرح: حكاية فاسكو ­ مسيو بوبل ­ سهرة الأمثال ­ البنفسجات ­ السفر ­ مهاجر بريسبان ­ الثوب يصنع الأمير.
المسرحية عند جورج شحاده, حلم جماعي, إن صح التعبير. فكما أن الحلم يكشف عن الذات, فإن القصة في مسرحيته تحاول شأن الحلم, أن تكشف عن الجماعة. هكذا يمكن القول بأن الحلم في مسرحه أسطورة شخصية وأن الأسطورة حلم جماعي.
وقد حاول أن ينقل في مسرحه لغة الشعر, بل لغته كشاعر. ولقد خسر الشعر هذا الشاعر الفذ, عام 1989, وبخسارته, خسرت الفرنكوفونية عبقرياً لبنانياً, ترك بصماته الإبداعية على الشعر والمسرح العالميين.