ثقافة وفنون

جورج غريب: فارس آخر يرحل الى مرايا الذاكرة
إعداد: وفيق غريزي

لم تكن الأمواج الخفاقة على شواطئ الدامور غير صدى للجبال الشامخة المتوّجة بأرز الرب. وقرب هذه الشواطئ كانت روح صوفية عميقة، شاعت في الأرجاء، وفاضت بها على أنحاء لبنان المتعدّد الألوان. كانت هذه الشواطئ التي تزيّن خواصرها بساتين النضارة مركزاً لإشعاعه الروحي والإبداعي. ولكن الشمس الآفلة للغروب جعلت لونها أكثر قتامة، وأكثر برودة.
مملكة الشعر تسربلت بأثواب الحداد، حزناً على فارس من فرسان الكلمة، الذي حمل همومها وأفراحها، بؤسها وغبطتها في أعماقه. هذه المملكة التي لم تهنأ منذ فترة، حيث يتهاوى أركانها الواحد بعد الآخر. لقد ترجل الشاعر الداموري جورج غريب عن حصانه، وارتحل الى عالم اكثر نقاءً وصفاءً وسلاماً مؤمناً بأن الحياة تقتضي بطبيعتها الموت، وبحسبانه هذا الشيء الآخر الذي بالنسبة إليه تصير الحياة شيئاً، والذي بدونه لن يكون لهذا الشيء معناه وصورته.
التفكير بالموت يقترن به دائماً ميلاد حضارة جديدة، وما يصدق على روح الأفراد يصدق كذلك على روح الحضارات. فثمة أفراد ما أن يموتوا حتى يطوي النسيان تاريخهم وكأنهم لم يأتوا الى هذه الدنيا، أما المبدعون فموتهم الجسدي حياة جديدة لهم خالدة عبر التاريخ في ذاكرة الأجيال. ومن هؤلاء، الشاعر الذي رحل عنا من دون وداع. جورج غريب، الذي نزل الى حضن الأرض تاركاً وراءه ممالك النور، في زورقه الصغير سيصل الى الشاطئ المقدّس، ألا فلنمجد الليل الأبدي، النوم الأبدي، إن النهار قد وهبه الدفء، والهمّ الطويل جعله ذابلاً، ولم تعد لديه رغبة إلا بالرحيل.

 

من المهد الى اللحد

ولد شاعرنا الراحل في بلدة الدامور الشوفية العام 1920. تلقى دروسه الإبتدائية في مدرسة راهبات القلبين الأقدسين في بلدته. تابع دروسه المتوسطة والثانوية في مدرسة عينطورة مدة تسع سنوات. حلّ محل أستاذه الأب مارون غصن في تدريس الأدب العربي وظل يمارس التدريس وإدارة الدروس العربية في عينطورة مدة عشرين سنة.
كما مارس التدريس بعد ذلك، في مدرسة الجامعة الوطنية، والمدرسة العلمية الوطنية في مدينة عاليه، ومدرسة الثلاثة الأقمار في بيروت، ثم التحق بالمعهد الأنطوني في بعبدا. نال شهادة الدراسات العليا من معهد الآداب الشرقية في الجامعة اليسوعية العام 1965.
العام 1950 تزوج السيدة لوريس الخوري، ورزق منها ثلاثة أبناء: الياس ونجيب وسناء. حاز وسام المعارف اللبنانية، ووسام جوقة الشرف الفرنسي برتبة كومندور.
له العديد من المؤلفات المنشورة ومنها: «الجراح» (مجموعة مقالات نثرية وشعرية)، «أناشيد الإستقلال»، «لمحات في الأدب العربي»، «ابو نواس»، «سعيد عقل والغزل الخلاق»، «قُبَل على شفاه»
(مجموعة شعرية)، و«في هيكل اللبنانية». وخلّف فقيدنا مخطوطات معدّة للطبع معظمها مجموعات شعرية.

 

في الغزل والمرأة

للشاعر الراحل آراء ومواقف حول بعض القضايا الإجتماعية الإنسانية، ومن أهمها موضوع الغزل والمرأة.
فالغزل الخلاق في رأيه، هو الغزل الحضاري الذي يسوق فداحة المعتزم على حدّ ريشة ورهف وتر. يعني الغزل الباني الذي يجعل من المرأة أداة تراث ضخم وفتح فكري أضخم، ولن يكون لنا الغزل المرتجي في ميدان الخلق، ما لم نسق الجلل إليه.
في كل ما أنتج من شعر ونثر، تعمد الجمال، وتعمد أن تكون الكلمة ترفاً وعمقاً. آن لنا، كما أعرب عن إعتقاده، أن يصبح الناقد والمنقود على مستوى واحد. فلا يقرأ الأول من أجل الثاني، بل يقرأ من أجل ذاته، وهذا الذي يجعل النقد في الأدب الكوني من أرقى أبواب الأدب.
رفض إقصاء المرأة عن غرض الغزل، لأنها شريكتنا في استعادة مجد، وبناء مجد آخر. ولعلها بذلك أقرب إلى الغزل، وعفويته، وصدقه من المرأة التي لا نسوق إليها غير الغزل. ويقول: «هل تخسر الخمرة من قيمتها إن كان غرض حاسيها غير السكر وحده؟ إنها  في كأسنا حافز لاقتحام بطولة وحلم بمعجزة، دعوة الى صحو كبير لن نفيق من سكره، ما هم أكان في الجسم خدرة أم في العظم دبيب».
ليست المرأة لديه من لحم ودم، وأحياناً، ليست شهامة وبطولة وشرفاً ورمزاً للجمال الإلهي الأبهى الذي تنحصر فيه كل جمالات الوجود، إلا لكونه شاءها رسولة هذا الجيل، وأداة التركيز في المصير الأبقى.
وحسب رأيه فإن المرأة حاملة القيم التي اقتضت أجيالاً من معاناة الإنسانية وجهد العقل لتغدو مفاهيم في ثبت الحقائق، ولعل ذلك يوضح معنى الغزل لدى الشاعر. وشاعرنا الراحل يعتبر أن المرأة لم تعد ذلك التمثال الذي يقف عنده الشعراء بعاطفة محدودة وتفجير موضوعي، بل هي أبعد من متناول يد وحط عين، إنها أهداف بُعَاد، ونهوض إلى فكرة شاملة تلامس أطراف الكون. ثم هي منطلق حضاري مرّ على ثقافات اليونان والرومان وأهداف الإنسانية الشاملة.

 

مفهومه للشعر

يؤكد جورج غريّب أن جوهر الشعر التفلّت. وكل مرّة قيّد، فقد الكثير من مقوّماته. وهذا لا يعني، التفلّت الأهوج الذي يطيح بكل قاعدة أو مفهوم، بل ربما كان هنا أكثر الفنون تعرّضاً للقيود. أما النثر فرفيق الإعتدال وإن ارتفع أحياناً الى جموح جمالي فعانق الشعر على أتمّ إنسجام. وحول رأيه في شعر سعيد عقل، ولا سيما في «رندلى» و«أجمل منك؟ لا» يقول: في الروح أو الجوهر كان سعيد عقل هو هو في المجموعتين، أما في الشكل أو الصنيع الفني فلعل ل «رندلى» المقام الأول.
وربما كان السبب أن «رندلى» وليدة إبداعه الأول، وقد سبقت «أجمل منك؟ لا» في الزمن يوم كان الشاعر في قمة عنفوانه ومجال خلقه الفني.
بعد هذه الرحلة من العطاء الأدبي والنقدي والشعري، إرتحل جورج غانم في نشوة من السرور، إلى عالم البقاء، وقلبه عامر بحبه العذب لبلاده ولشعبه، الذي سكبه في قصائد ملتهبة تحت سماء لبنان الحنون.  نم قريراً أيها المبدع الخلاق، فإن أحبابك يذرفون دموع السرور لرحيلك عن هذا الزمن الموبوء، دموع العاطفة والشكر عند ضريحك الجليل، وإنهم يرونك في رعدة سعيدة، تبعث باستمرار، ويرونك تُزَفّ الى عرائس السماء. ألا ليت البعث الشامل يرنّ في موكبك وتدعونا النجوم بأصوات إنسانية نحوك ونحو رفاقك عارف الريس، بول غيراغوسيان، رفيق شرف، رياض فاخوري، عبدالله الخوري، وغيرهم، وغيرهم. نم قريراً، فأنت باقٍ في مرايا ذاكرة الأجيال.

 

وسام التقدير العسكري

منح قائد الجيش العماد ميشال سليمان الشاعر الراحل وسام التقدير العسكري من الدرجة الفضية.
وقد حضر العميد أسعد مخول مأتم الشاعر غريّب ممثلاً العماد سليمان، وقلّده الوسام تقديراً لعاطاءاته التي خصّ مؤسسة الجيش بالكثير منها.