أسماء لامعة

جورج نصر: لدي أمل ولن أخسره أبدًا
إعداد: تريز منصور

وضع إسم لبنان على الخريطة السينمائية العالمية وكرّم جيشه بأكثر من فيلم

 

مرهف الإحساس، قارئ جيّد للصورة وصاحب حدس قوي.
يمتلك رؤى جعلته استباقيًا رائدًا في حمل أحلامه إلى الشاشة.
مبدع أغنى التراث السينمائي اللبناني، فقد أخذ بيده السينما اللبنانية حين مشى على السجاد الأحمر في مهرجان «كان» العالمي الذي احتفى في الخمسينيات بفيلم «إلى أين؟»، ليعود وينوّه بعد سنوات بـ«براعم نوار» أحد أفلامه عن الجيش اللبناني.
إنه المخرج السينمائي جورج نصر.

 

الشغف يحدّد المسار
في طرابلس الفيحاء ولد المخرج السينمائي جورج نصر العام 1927، وهو الرقم الخامس لعائلة مؤلفة من 11 ولدًا. والده ميشال نصر (كان متعهّدًا لتموين الجيش الفرنسي، الذي كان في لبنان آنذاك)، ووالدته حنّة الخوري (ربّة منزل). أخذ الطفل من والديه الطموح، والمبادئ الإنسانية ومحبة الناس.
أتمّ دراسته الابتدائية والتكميلية والثانوية في مدرسة الفرير - طرابلس، وتخرّج منها ببكالوريا تجارية، فأعمال الوالد حدّدت مسار الأبناء إذ توجّه كل أشقائه إلى دراسة المحاسبة. ومع ذلك كان شغفه بالسينما واضحًا، فقد كان يشاهد نحو ثمانية أفلام في الأسبوع، هذا الشغف ما لبث أن حدّد له مسارًا جديدًا في ما بعد.
إتجه إلى التخصّص في الهندسة المعمارية عبر المراسلة مع معهد American school of Chicago، وبعد سنتين (1948) قصد الولايات المتحدة الأميركية وتحديدًا ولاية شيكاغو لمتابعة دراسته في المعهد نفسه، لم يوفّق، فهذا المعهد يعتمد التعليم بالمراسلة فقط. قصد مدينة لوس أنجلوس بحثًا عن جو مشمس لمتابعة اختصاصه، وهناك، أحدثت الصدفة تحوّلاً أساسيًا في مسيرة حياته، إذ انتقل من الهندسة المعمارية إلى الإخراج السينمائي. درس أربع سنوات في جامعة University of California in Los Angelos-ACLA، وحاز الإجازة العام 1954 بتفوّق. أما فترة التدريب فكانت بين استوديوهات هوليوود، والاستوديوهات الفرنسية. وفي تلك الأثناء أتيحت أمامه فرصة العمل مع فريق أنتاج للسينما والتلفزيون في الخارج، لكنّه فضّل العودة إلى الوطن الجميل (1955)، وفي باله حلم كبير: تأسيس سينما في لبنان.

 

الإبداع والتحدّي
 إثر عودته إلى لبنان، إتصل بصديقه مالك بصبوص، الذي اصطحبه إلى المنتج، السيد أوليتر ألفتيرياديس، الذي أعجب بطموح الشاب وبموهبته العميقة، وأنتج فيلمه الأول «إلى أين؟» (1956)، الذي سلّط الضوء على معاناة المهاجرين اللبنانيين إلى أميركا والبرازيل، والظروف المأسوية التي يعيشونها.
وفي حين تمّ تصوير الفيلم في منطقة درعون - حريصا، وضعت اللمسات الأخيرة عليه في أحد الاستوديوهات الفرنسية، هناك شاهده أحد المخرجين الفرنسيين، فأعجب به وتحدّث عنه إلى لجنة مهرجانات «كان»، وهكذا أدرج الفيلم في المهرجان وصنّف بين الأفلام الثلاثة الأول (1957)، وأدرج لبنان، وللمرة الأولى، على الخريطة السينمائية العالمية.
ولقد كتب الناقد العالمي والمؤرخ الفرنسي جورج سادول في قاموس السينما، عن «إلى أين؟»، بأنه جسد مآسي شعوب تغادر أوطانها بهدف جني الأرباح، ولكنها تعود إليها محمّلة بنعوش. كما اعتبر سادول أن هذا الفيلم ساهم إلى حد بعيد، في إدخال إسم السينما اللبنانية إلى قاموس السينما العالمية، وهو بمثابة خطوة أولى ذات نوعية، يمكن أن تكون إنطلاقة لمدرسة سينمائية وطنية.
لكن وللأسف لم يجد هذا الفيلم أي فسحة له في الصالات اللبنانية، ويخبر هنا المخرج نصر بحسرة «إثر عودتنا إلى لبنان، ظننت أنه سيتم الترحيب بفريق العمل وتشجعيه. ولكن حدث العكس، إذ لم تقبل أي صالة عرضه. وبعد عدة محاولات، تقرر عرضه في صالة الأوديون (Virgin اليوم)، والتي كانت مخصصة للأفلام المصرية. في ذلك الوقت كان الجمهور اللبناني مقسّمًا إلى جمهورين: جمهور الأفلام المصرية وآخر محب للأفلام الغربية. وعندما دخلت إلى الصالة في ثالث أيام العرض، قال لي صاحبها: «أستاذ نصر بهدلتنا، لي عم يجو عم يسألو وين البلكون، والتانيين يلي معوّدين عالحكي المصري ما لقوا لي بدون ياه. هذا الفيلم عم يحكي لبناني»... والنتيجة كانت أن أرباح «إلى أين» لم تتخطَ الـ60 ألف ليرة لبنانية، في حين أن كلفته بلغت 130 ألف ليرة».
التجربة المريرة ما لبثت أن تكرّرت مع نصر الذي يقول: لقد لمست شخصيًا، أن مصر تريد أن تحتكر صناعة السينما في العالم العربي، فمثلاً كان من المقرر عرض فيلم «الغريب الصغير» الذي دخل «كان» أيضًا (1962) في بيروت، وفوجئت بتراجع المعنيين بحجة «عدم وجود أسابيع فارغة». حينها لم أعرف السبب، ولكن بعد مرور عامين توضّح لي من صاحب السينما في بيروت، التي كانت ستستقبله، أن تهديدًا ما وصله من القاهرة يقول: «الصالة يلي بتاخد فيلم «الغريب الصغير»، ما بتعود تاخد فيلم مصري».
ويضيف قائلاً: «ثمّة عوامل تعيق تقدّم صناعة السينما في لبنان، مثل الكيدية والحسد، فبدلاً من أن نشجّع بعضنا البعض ننصب الأفخاخ، لكي لا يتقدم غيرنا، ونخاف من المنافسة».
ونتيجة لهذه الظروف غير المشجّعة في لبنان، تحوّل إنتاج المخرج نصر من اللغة اللبنانية إلى اللغة الفرنسية، وصار همّه تسويق الفيلم اللبناني في العالم.

 

أفلام للجيش اللبناني
هذا التحوّل لم يؤدِ إلى غيابه سينمائيًا عن الساحة اللبنانية، فقد اتجه إلى إعداد وإخراج الأفلام الوثائقية الصغيرة، وكانت له عدة أفلام خاصة بالجيش اللبناني أنتجتها مديرية التوجيه. فبين العام 1967 ونهاية الثمانينيات، أعدّ جورج نصر وأخرج عدة أفلام للجيش منها: « براعم نوار»، «والدي أنا فخور بك»، «رجل أمام دبابة»، «معمودية النار»، وفيلم عن فوج المغاوير. ولقد تناولت هذه الأفلام دور الجيش الإنمائي والعسكري ومحبة الشعب اللبناني له، وكان مردودها المعنوي عاليًا على صعيد الجيش وعلى الصعيد الوطني، كما أنها تمتّعت بمستوى فني راقٍ. وقد مثّل «براعم نوّار» لبنان رسميًّا في «مهرجان كان»، عن فئة الأفلام العسكرية ونال إعجاب لجنة المهرجان.
تأثر نصر بالمخرجين الأميركيين أمثال جون فورد، وليام وايلر وجورج ستيفنز وغيرهم...
وعاد إلى هوليوود العام 1968، هناك تزوّج السيدة كريستيان مولين مايستر الألمانية الجنسية (1972). أما سينمائيًا فلم تكن هذه العودة موفّقة. لماذا؟ يقول: لست نادمًا، ولم أقم بأي أمر لا يتناسب مع قناعاتي. قاموا بطردي من هوليوود بسبب عدم تقبّلهم الآخر، لقد أرادت منتجة يهودية أن أقوم بإخراج فيلم من تمويلها. وخلال النقاشات التي دارت بيننا، تبيّن لها أنني أناصر القضية الفلسطينية. فقالت: «أريد أن تنفذ فيلمًا عن إسرائيل»، فأجبتها: «أريد أن أنفذ فيلمًا عن معاناة الفلسطينيين». فقاطعتني: «لكنهم مجرمون!»، وانتهى الحديث عندما قلت: «أنتم المجرمون وسوف أظهر ذلك في الفيلم».
العام 1975، أخرج نصر فيلم «المطلوب رجل واحد» من إنتاج نقابة الفنانين السوريين. صوّر هذا الفيلم في سوريا، وفي منطقة كسب على الحدود التركية. ومثّل سوريا رسميًّا في كل من مهرجاني موسكو و قرطاج.
عشية اندلاع الحرب اللبنانية، جُمّدت الحركة السينمائية في لبنان، فاتجه إلى إخراج الأفلام الدعائية والإعلانية.
وبالإضافة إلى الإخراج، درّس مادة السينما وتقنيات كتابة السيناريو منذ العام 1991 في الأكاديمية الجميلة للفنون الجميلة (ALBA)، وهو يدرّس مواد السينما والتلفزيون والمسرح في جامعة البلمند، كما أنه ترأس نقابة السينمائيين في لبنان لأكثر من ثلاث مرات.

 

المرآة المكسورة
يقول نصر: «السينما مرآة البلد، لو فكّر المسؤولون بدعمها لكانت السينما اللبنانية من أهم الصناعات في الدنيا. إن أفلام (الممثلة الفرنسية) بريجيت باردو التي تمّ إدراجها بعد «رونو» في لائحة الصناعات، تساهم اليوم في إدخال العملة الصعبة إلى فرنسا...
آخر فيلم وثائقي أخرجه نصر كان العام 1997، يعرض المواقع الأثرية في لبنان. اليوم لديه أكثر من سيناريو جاهز للتنفيذ، ولكن مصدر التمويل غير متوافر. شركات الإنتاج تفضل المخرجين الذين «بيسلقوا سلق» كما يقول، والذين هم دخلاء على المهنة. في بداياتي كانوا يحاربونني لأنني «غربي» لأني درست في أميركا، واليوم يحاربونني لأنني كبرت في السن. ولكن على الرغم من ذلك، لن أتوقف عن الكتابة. لا يرتبط ذلك بإيجاد التمويل. المهم أن يستمر الدماغ بالإنتاج... تخيُّل المشهد وكتابته هو عملية خلق ممتعة. لدي أمل ولن أخسره أبدًا، أمل بأن تقف السينما اللبنانية على قدميها، لأنني ببساطة مؤمن بالفكرة. أتممت ما عليّ من واجبات ومستمر بالكتابة وإنتاج الأفكار، وأقوم بذلك بكل سرور...

تقديرًا لإنجازاته، حاز نصر عدة جوائز وأوسمة منها:
- جائزة أفضل مخرج للسينما عن فيلم لبناني «إلى أين»(1979).
-جائزة الموركس دور (Murex d’or) (2008).
- وسام الاستحقاق اللبناني (2004).
- تقدير من المركز الكاثوليكي للإعلام (1995).
وقد كرّمته الحركة الثقافية - إنطلياس خلال مهرجان الكتاب العام 2013.