أوراق من الذاكرة

جولة في ذاكرة الجيش الثقافية
إعداد: ريما سليم ضومط

جيش البطولة والعنفوان هو أيضًا جيش العلم والثقافة الذي طالما وظّف إمكاناته وقدراته للارتقاء بعسكرييه إلى المستوى الثقافي الذي يليق بجيش الوطن. فالعسكري الذي يدافع عن الوطن ويحمي بنيه، هو أيضًا جزء من المجتمع، وبالتالي فهو مسؤول مثل أي فردٍ آخر عن إبراز وجه لبنان الحضاري من خلال عمله الفردي ومن خلال دوره ضمن الجماعة.
انطلاقًا من هذا المفهوم، حرصت قيادة الجيش منذ بداية تأسيسه على تنشئة العسكريين وتوعيتهم في مختلف المجالات الثقافية، وقد جنّدت لمشروعها هذا عدّة وسائل اتصال كان لها مجتمعة، دور مهم في التطور الفكري والثقافي داخل المؤسسة العسكرية. مجلّة «الجيش» تجوّلت في الماضي وجاءت بأوراقٍ من الذاكرة الثقافية.


«أدركت الأمم في ضوء الحروب التي خاضتها، أنّ الثقافة عنصر أساسي في تكوين الجيش. ففي عصرنا هذا، لا يكفي أن يكون القادة حذقين، وعلى إحاطةٍ تامة بالحرب كفنٍّ وعلمٍ، وأن يقتصر دور المرؤوسين على التنفيذ، بل يجب أن تتيح التنشئة العسكرية للقادة، كبارًا وصغارًا، وللجنود إلى أي سلاح انتسبوا، الإفادة من بداهتهم ومن مواهبهم، وإلّا ظلت هذه المواهب وتلك البداهة، مغمورة يغلّفها الجهل»... بهذه الكلمات توجّه اللواء فؤاد شهاب إلى العسكريين في آب ١٩٤٦، حين دعاهم إلى المساهمة في تحرير مجلة «الجندي اللبناني». وكانت المجلة قد أطلقت أول إصدارٍ لها في أيار ١٩٤٢، وحدّدت عدة أهدافٍ تتوخّى تحقيقها، من أبرزها: إيجاد صلة بين مختلف عناصر الجيش وتسهيل وصولهم إلى المحتوى الثقافي، بالإضافة إلى تشجيع المتعلمين منهم على التنقيب والدرس ونشر مقالاتهم. وقد حرصت طوال مسيرتها على نشر المواضيع التي تساعد في إنماء الثقافة العامة، والمقالات التي تسهم في تطوير المعارف العسكرية وتتناول كل جديد في حقل التسلح والتدريب والقتال، فضلًا عن النصوص الأدبية والشعرية بأقلام نخبة من الأدباء والشعراء. وقد شهدت المطبوعة عدّة تغييرات في الشكل والمضمون نتيجة مواكبتها التطور العلمي والثقافي والإعلامي، إلى أن أصبحت على ما هي عليه اليوم بحلّتها الجديدة تحت تسمية «مجلة الجيش».

 

مسابقات لإحصاء المتعلّمين
عمد الجيش منذ بداياته إلى إنشاء المكتبات في مباني القيادة من أجل توفير الكتب اللازمة لتثقيف العسكريين وإغناء معارفهم في مختلف مجالات المعارف والعلوم. وقد أوعزت القيادة إلى قادة القطع والأفواج بإجراء مسابقات خطية في اللغة العربية لجميع الرتباء والجنود، وبناءً عليها، أُقيمت دورات تعليمية وتثقيفية، كما صدرت التعليمات لتنظيم المكتبات وإغنائها بمختلف أنواع الكتب والمجلات. وكانت القيادة، تقوم بين الحين والآخر بالإحصاء المذكور لمعرفة التطور المعرفي للعسكريين، كما كانت تعمل على تطوير التعليم والمكتبات العسكرية وفق النتائج.

 

إذاعة الجندي
انطلق صوت الجندي إلى مختلف أرجاء الوطن في ٢١ كانون الثاني١٩٤٧ عبر موجات أثير الإذاعة اللبنانية. في ذلك اليوم، احتفلت مديرية الدعاية والنشر في الجيش بتدشين إذاعة الجندي اللبناني، التي خُصّص لها مكان في دار الإذاعة اللبنانية، وأُلقيت كلمات لرئيس الجمهورية ووزير الدفاع وقائد الجيش ومدير الدعاية والنشر، شدّدت على أهمية هذه الإذاعة، وعلى هدفها الأول، وهو الترفيه عن الجنود في مختلف مواقعهم وثكناتهم، وترسيخ الروح العسكرية لديهم وتنمية ولائهم للمؤسسة والوطن.
حرص برنامج الجندي على تعزيز الألفة بين العسكريين مراعيًا بذلك واقع خدمتهم في مناطق بعيدة عن الأهل والأصحاب. وقد اقتصرت الموضوعات المذاعة في بادئ الأمر، على الشؤون العسكرية الصرف: أسلحة، علم، عتاد، تدريب، تنشئة، تعليم، إنضباط، ثم تناولت أحوال العسكريين الخاصة: زواج، ولادات، وفيات. وكان بعض الجنود يطلبون إذاعة أغنيات فيلبّي البرنامج كل طلب.
بمرور الوقت، أصبح لإذاعة الجندي أهمية كبرى على صعيد الوطن، فقررت قيادة الجيش، تطويرها وتوسيع برامجها لتشمل موسيقى عسكرية وخلاصة المجلات العسكرية، وطرائف حربية تاريخية، وغيرها من المعلومات. وعيّنت لهذه الغاية لجنة دائمة تُشرف على الإذاعة وتُعِد برامجها. كما أمر قائد الجيش العماد فؤاد شهاب آنذاك بتعيين ممثل ثانوي لهذه الإذاعة في كل قطعة من قطع الجيش، وإعداد البرامج مسبقًا لشهرٍ كامل على الأقل من قِبل اللجنة الدائمة. وكان على ممثلي القطع موافاة القيادة برغبات العسكريين من أسئلة وأغانٍ ووقائع مسلكية، فضلًا عن إعداد لائحة بالعسكريين الراغبين في إذاعة كلماتٍ لهم.
بدأت اللجنة جولاتها على الثكنات والمواقع بسيارة الإذاعة مع الدكتور أسد رستم الذي كان يتواصل مع الجنود مباشرةً، ويحدّثهم أحاديث توجيهية وتاريخية وثقافية، ويطّلع على مطالبهم ورغباتهم، فينشر خلاصاته في برنامج «صوت التوجيه والمعنويات». وعلى رغم الصعوبات، ظلّ البرنامج يبثّ حلقاته مباشرة على الهواء طوال الأعوام الممتدة ما بين ١٩٤٦ و١٩٥٨.
أما برنامج الجندي، فكان يبدأ بالعبارة الآتية: «الإذاعة اللبنانية تقدّم برنامج الجندي». وبعد معزوفة عسكرية يهتف المذيع: هنا الجيش! اكتسب هذا البرنامج شعبية واسعة، فكان المواطنون يهتفون: «هنا الجيش» كلّما وقعت عيونهم على سيارة الإذاعة تنقل الدكتور أسد رستم أو المذيع.
توقّف برنامج الجندي خلال سنوات الحرب، ليعود بعد ذلك بحلّةٍ جديدة، وتبثّه بالإضافة إلى الإذاعة اللبنانية مختلف محطات الإذاعة في لبنان.

 

السينما العسكرية
انطلاقًا من قناعتها بأهمية الفنون ودورها الثقافي، اشترت قيادة الجيش في العام ١٩٤٨، جهازًا سينمائيًا خصّصته لإقامة الحفلات السينمائية في الثكنات والمراكز. تألّف هذا الجهاز من مولّد للكهرباء، وآلة سينمائية، ومكبّر للصوت، و«بيك آب» لعزف الأغاني قبل العرض وبعده، وفي فترة الاستراحة. وبعد أن اكتمل إعداد السينما العسكرية، وجّهتها قيادة الجيش إلى الجبهة اللبنانية على الحدود الجنوبية، لتشرع في تسلية الجنود والترفيه عنهم، وبث روح النشاط والانشراح في قلوبهم.
في ما بعد، انتشرت السينما العسكرية في مختلف المناطق اللبنانية حيث الثكنات العسكرية، فعمدت القيادة حينئذٍ إلى تحديد الفئات التي لها حقّ الدخول إليها، لا سيّما بعد أن تكاثر عدد الأولاد والموظفين المدنيين الذين كانوا يرافقون العسكرييــن، مــا أحدث بلبلة وحال دون تمكن بعض العسكريين من حضور عدة أفلام. وقد تم تحديد الأشخاص المجاز لهم بالدخول إلى السينما، بما يأتي: الأب – الأم – الأخ – الأخت – الزوج –الأولاد – الجد والجدّة، فيما مُنع اصطحاب الرضع والأولاد الذين لم يتجاوزوا الثامنة من عمرهم، كما مُنع العسكريون العزب من اصطحاب الأولاد مهما كانت درجة القرابة بينهم. وإذ سُمِح بدعوة غرباء عن العائلة على ألّا يزيد عددهم عن الشخصين، مُنِع بتاتًا قبول المدعوين إلى الحفلات التي تقام أيام الآحاد والعطل ما بين الساعة الثالثة والسادسة مساءً، حيث خُصصت هذه الحفلات للعسكريين وعائلاتهم فقط.
على صعيدٍ آخر، واجهت السينما العسكرية مشكلة اللغة، إذ كانت غالبية الأفلام باللغة الأجنبية، فصَعُب على معظم العسكريين فهمها. لذلك، تم تكليف ضابط من كل قطعة، باستلام الأفلام العسكرية وترجمتها إلى اللغة العربية بشكلٍ مفصّل، وبلغةٍ سلسة، بالإضافة إلى رفع نسخة عن الترجمة إلى الزعيم رئيس أركان حرب القيادة (الشعبة الثالثة).
جدير بالذكر، أنّ العسكريين كانوا يذهبون إلى السينما سيرًا على الأقدام وفق أوامر قيادات القطع، وفي العام ١٩٤٩، امتنعوا عن التدخين في مختلف دور السينما، وذلك تطبيقًـا لقرارٍ حكومي. وفي ما بعد، قرّر مجلس النواب إصدار قانون بلَصْق طابع الجيش على تذاكر الدخول إلى صـالات الملاهي، ودور السينما، والمسارح، وحدّدت قيمة الطابع بعشرة قروش إذا كان ثمن التذكرة لا يقلّ عن ٧٥ قرشًا، وخمسة قروش إذا كان الثمن دون الـ٧٥ قرشًا.