سياحة في الوطن

جون عروسة الاقليم المطوقة بمياه الأولي وعبق ازهار الليمون
إعداد: باسكال معوض بو مارون
تصوير: المجند سليم العازار

من آثارها قلعة أبو الحصن وقصر الليدي ستانهوب

جون العابقة برائحة الزهر الربيعي، المفاخرة بأشجار زيتونها المقدسة، الزاخرة بعبق الماضي من نواويس وقصور وأديار وقلاع وعيون ماء دهرية، اختارتها شخصيات التاريخ ودوّنت أسماءها في سجلها الذهبي.
وفي حاضرها سطّرت جون مسيرة حياة فنانين طبعوا الحياة الثقافية اللبنانية بطريقة مميزة.

 

موقع وحدود

تعني كلمة جون بالسريانية «الزاوية»؛ كما أن الجونة هي عين الشمس، وهي بموقعها الحالي تشكل زاوية الاقليم الجنوبية على نهر الأولي. وتتكون أراضيها من تلال ومسطحات وأودية يلتف حولها نهر الأولي من الجنوب، ووادي «أبو اليابس» من الشمال.
يحدّ جون من الغرب بلدة علمان ومن الشمال مجدلونا والمغيرية، أما شرقاً فتحدها مزرعة الضهر والمحتقرة وجنوباً نهر الاولي، وهي تمتد حتى قرية بسري حيث يصل جسر بسري الصغير بين الشوف وجزين.
مواقع كثيرة في بلدة جون تسمح باستقراء بعض مآثرها الحضارية والعمرانية والتاريخية. وتبدأ أولاً في منطقة تلال جون الغربية وهي التلال والروابي المشرفة على المناطق الساحلية في علمان وسهول صيدا الشمالية، مما يبين ارتباطها التاريخي والحضاري بكل الشعوب التي استوطنت هذه البقعة المحيطة بمعبد اشمون منذ العصور البرونزية والفينيقية.
أول المواقع من هذه الجهة، البرغوتية وهي تلة صغيرة في أسفلها مقابر تعود إلى العصور البرونزية، وفي قمتها كتلة صخرية كبيرة تتخللها معالم مقالع في صخورها بأشكال مختلفة ويرجح أن حجارتها نقلت إلى معبد اشمون والبنى القريبة منه. وتوجد بين صخور المقالع بئر ماء ومغارة مدفنية وهما مردومتان بالأتربة والانقاض.

وفي البرغوتية بيوت قديمة مبنية بالحجارة الطبيعية سقوفها معقودة، وفي جوارها كنيسة تاريخية ذات سقف معقود وفوقه برج صغير للجرس فوق المدخل الذي يقع في الجهة الجنوبية من البناء الذي يرجع تاريخه إلى القرن الماضي.
صعوداً في التلة، تقع منطقة «الخاشبية» والتي اكتشفت فيها نحو 18 مغارة مدفنية من مختلف الأحجام والأشكال وكلها منبوشة، وقد عثر فيها على آنية فخارية متعددة الألوان وبقايا لعظام بشرية وحيوانية وأغطية نواويس حجرية محطمة وبعض المسامير الحديدية. ويستدل من هذه المكتشفات ومن أشكال هذه المغاور أن بعضها كان آباراً مدفنية افرادية وجماعية، حفرت في الصخور الطبشورية اللينة بالأدوات البرونزية خلال العصر البرونزي، ومنها مغاور تعود إلى عهود مختلفة قبل الميلاد وبعده. وقد نقشت مداخلها بدقة ويبلغ عمقها 6 أمتار وعرضها 4 أمتار وبداخلها كوّات كانت توضع فيها الجثث وتقفل فتحاتها بالحجارة العادية ثم يجري تكليسها.

وتنتشر هذه المدافن القديمة على منحدرات الخاشبية ومنخفضاتها، وقد حفرت في صخورها منذ العهود القديمة آبار لتجميع مياه الأمطار يستعملها الرعاة حتى اليوم لإرواء قطعانهم.
وعبر الوادي لجهة الجنوب تبرز تلة «العانسية» الحصينة التي نبشت فيها مغاور كثيرة، منها مدافن من العصر البرونزي محفورة في الصخور حول عين الماء في جهة الغرب، كما تظهر في التلة نواويس ومغاور مدفنية. وعلى سطح التلة خرائب وبيوت قديمة جدرانها متداعية كانت تشكل مزرعة «العانسية» التي ورد اسمها بين قرى الاقليم في عهد المتصرفية.
وفي الطرف الغربي الجنوبي في بلدة جون تلة أخرى اكتشفت فيها حديثاً مغارة مدفنية حفر مدخلها بدقة متناهية، وفي داخلها أربع غرف صغيرة منحوتة في الصخر وبداخلها أربعة نواويس، ضاعت مع محتوياتها من الفخاريات والأدوات والعملات الرومانية.

 

قلعة أبو الحصن الصليبية

تقوم هذه القلعة على سطح تلة بعلو 80 متراً عن مجرى نهر الأولي الذي يلتف حولها بشكل بيضاوي ويحولها إلى شبه جزيرة تحوطها المياه من مختلف الجهات ما عدا الجهة الجنوبية، حيث يقع المنفذ الوحيد إلى القلعة. وقد بنى الصليبيون هذه القلعة لتتحكم بالوادي وهي تشكل مع «شقيف تيرون» وقلعة «جزين» شبكة دفاعية من جهة البر، لحماية ممتلكات «بارونية صيدا» التابعة لمملكة بيت المقدس الصليبية؛ ويعود تاريخ بناء هذه القلعة إلى أوائل القرن الثاني عشر ميلادي.

 ويذكر المؤرخ الصليبي وليم الصوري قلعة «Belhocem» أو قلعة «بيت الأحزان» في منطقة صيدا في معرض حديثه عن بطريرك بيت المقدس الذي كان محارباً مقداماً شارك في حصار مدينة صور التي سقطت بيد الصليبيين عام 1124م، وفي عام 1128 ذهب لنجدة حصن «Belhocem» الذي احتلته مجموعات من المسلمين، لكنه توفي أثناء الحصار.
كذلك، زار عالم الآثار الفرنسي دينان في العام 1936 القلعة المعروفة باسمها الصليبي أو قلعة «ابو الحصن» كما يسميها السكان المحليون وحدد موقعها ووصف أنقاضها، وقد قال: «ان الجزء الأكبر من القلعة بحالة سيئة، وهو من العهد العربي أو التركي ومع ذلك، فإن آثار اللمسات المعمارية للافرنج بادية بوضوح».

وفي الجهة المقابلة للقلعة لجهة جون تقع تلة النقبة على الضفة الثانية للنهر، ويوجد فيها بقايا أبنية مهدمة ومنشآت عمرانية ويبدو أنها تعود إلى الحقبة التاريخية نفسها التي أنشئت فيها، وقد أنشئت لأغراض عسكرية ودفاعية من جانب الجماعات والدويلات التي حاربت الصليبيين.
وفي الوادي أيضاً مطحنة بيت الشامي التي توقفت عن العمل في أواسط هذا القرن.

 

دير المخلص

يقوم دير المخلّص على رابية تحيط بها غابات الصنوبر وكروم العنب والزيتون، في الجهة الشرقية من جون، وهو من المعالم التاريخية الهامة في اقليم الخروب كونه أول دير بني في المنطقة في العصور الحديثة. ويرجع تاريخ بنائه إلى أوائل القرن الثامن عشر، حيث انتقل الرهبان المخلصيون سنة 1700م من مدينة صيدا للسكن في مزرعة مشموشة والرصيف قرب بلدة جون. وكانت الأراضي من أملاك الشيخ قبلان القاضي وصهره الشيخ علي جنبلاط، وقد استطاع المطران افطيموس الصيفي الدمشقي استئجار المزرعة من مالكيها، ليستثمرها الرهبان ويعتاشوا من مداخيلها.

ثم واصل المطران جهوده لإتمام المعاملات القانونية لبناء الدير وحاز على موافقة الأمير حيدر الشهابي والاذن الشرعي من قاضي صيدا ومحكمتها الشرعية في سنة 1710، وحصل على اجازة بناء كنيسة ودير مكان كنيسة ودير قديمين تهدّما منذ زمن طويل. وفي سنة 1717 باشر الرهبان أعمال البناء، ويظهر أن أقدم بناء سكنه الرهبان هو القبو المستعمل اليوم كمخزن للزيت، وأول بناء شيّدوه هو الممشى الممتد من الشرق إلى الغرب ويدعى «ممشى المؤسس».

وفي العام 1720 تم بناء كنيسة الدير الكبرى وفي سنة 1759 وقع زلزال عنيف تصدّع بفعله جزء من الدير القديم. وتوالت على الدير نكبات عدة، لكنه بقي صامداً واستمرّ بناء الأجنحة والمدارس والدور الجديدة والمستودعات والعنابر، وفي بداية القرن الحالي ارتفعت القبة الشاهقة مع ساعتها المشهورة. وهكذا مع مرور الزمن كان بناء الدير يتكامل وتتوسع أمكنته ليغدو على صورته الحالية بمنشآته العمرانية والهندسية الرائعة.

 

قصر الليدي ستانهوب

يقع هذا القصر على رابية في الجهة الشمالية الشرقية من بلدة جون وتعرف بـ«ضهر الست». والليدي استر ستانهوب باكورة أولاد الكونت شارل ستانهوب وابنة أخت وليم بيت رئيس وزراء انكلترا في ذلك العصر. اتسمت بالشجاعة وحب المغامرة فاجتذبتها حياة الشرق وثرواته وأساطيره، فزارته عام 1810 وطافت في بلدانه إلى أن حطّ بها الرحال في جون سنة 1818 محاولة تحقيق أحلامها بالسيطرة والنفوذ متمثلة بزنوبيا ملكة الشرق، فتقرّبت من عبد الله باشا والي عكا الذي منحها سنة 1821 الموافقة للاقامة في هذا المكان بموجب عقد ايجار من رهبان دير المخلص.
وهذه البقعة من جون غنية بالآثار القديمة كالأديرة والكنائس، والبناء الذي اختارته الليدي، كان بقايا دير قديم حوّله أحد التجار إلى خان للمسافرين فاعتنت به ورمّمته ورتّبت حدائقه وأضافت إليه بعض الأجنحة والممرات والاسطبلات والملاجئ لتحتمي بها أيام الحروب.

يتألف القصر من جناحين: جناح الست وهو مبني بحجارة كبيرة، وهندسته جميلة، وفيه غرف كثيرة موزعة بين غرف خاصة وغرف للضيوف وللموظفين، وتحت هذا الجناح دهليز الاهراءات. أما الجناح الثاني فمخصص للخدم مع غرف نوم للرجال والنساء ومطبخ وغرفة للأواني والأدوات المنزلية وغرفة للمونة.
كما بنت الليدي حول قصرها سوراً جعلت له مدخلين: الأول، للزوار والخدم، والثاني، للنساء اللواتي يدخلن القصر سراً. وأعدّت في دهاليز القصر (تحت الأرض) قبواً وغرفة للمحاكمة ولتنفيذ الأحكام بالسجن والشنق. واستعملت هذه الغرفة كمخبأ للهاربين الذين كانت تأويهم، وتتصل الغرفة بسرداب يؤدي إلى خارج القصر.

ويتضح من مخطط القصر ومنشآته العمرانية انه كان قلعة حقيقية فيها كل أسباب الراحة والرفاهية وقد يضاهي قصور الأمراء والحكام في ذلك العصر، ووفر للايدي ستانهوب الحماية الضرورية لتحقيق أحلامها وطموحاتها التي غامرت من أجلها في هذه البلاد. وقد أثارت حفيظة الحكام المحليين حيث دبّ الخلاف بينها وبين الأمير بشير الشهابي الثاني الذي هددها أكثر من مرة، فحذرته وحرّضت الناس ضدّه وضد ابراهيم باشا المصري. ويذكر أن الشاعر الفرنسي لامارتين زارها في قصرها في العام 1832. وفي 23 حزيران 1839م أسلمت الليدي استر ستانهوب الروح بعد أن أصيبت بداء السل، وقد حضر يومها إلى جون قنصل انكلترا السيد مور، يرافقه الأب وليام طومسون فوصلا إلى قصرها، وشيّعا جثمانها في منتصف تلك الليلة، حيث لف بالعلم الانكليزي، وتم دفنها في القصر.

 

عيون وينابيع

تتميز الجهة الشمالية من بلدة جون بوفرة ينابيعها التي تنساب بين أوديتها ومنخفضاتها. وفي الزاوية الشمالية من تلة الليدي ستانهوب تتفجر ينابيع عدة تشكل ما يسمى «العيون» وأغزرها في الوقت الحاضر «عين ميرون» التي قد يكون اسمها التاريخي تحريفاً للفظة «gurna» أي الجرن المحفور في الصخر، وشيّدت فوق العين قنطرتان معقودتان ترجعان إلى القرن الماضي. وتحيط بمنطقة العين مغاور مدفنية من العصر البرونزي محفورة بالصخور الطبشورية التي تتكوّن منها التلال.

وبالقرب من هذا المكان، تبرز رابية متوسطة الارتفاع بين التلال العالية ويبدو أن في هذا الموقع الحصين كانت توجد قرية عامرة خلال العهود القديمة، حيث تكثر كسر الفخار الملونة والمتعددة الأشكال في أراضيها.
أما المعالم الأثرية الباقية فيها فمنها: ناووس حجري محفور في الصخر عند أول التلة، وإلى جانبه نحت في الصخور في شكلين مربعين ملاصقين لبعضهما.
وفي الوسط ناووس آخر منحوت في الصخر وبقربه شكل بئر مدفنية زالت معالمها. وفي الطرف الشمالي الغربي للتلة توجد مغارتان مدفنيتان نحتت فيهما نواويس صغيرة الحجم احداهما ينزل إليها عن طريق درج محفور في الصخر لتسهيل الدخول إلى الحجرة. وفي آخر التلة حفرت 3 مدافن في كتلة صخرية تطل على الوادي. أما الطرف الجنوبي للتلة فنجد فيه مغاور مدفنية عدة، وعلى سطح التلة ناووس استقرّ على مسافة قريبة من قصر الوادي.

 

جزء من التراث

موقع جون الحالي من دون شك هو جزء من التراث الحضاري المتنوع الذي تختزنه، ومن معالمها التاريخية الدينية جامع البلدة الذي شيّده «محمد الفضيل» وهو مغربي طابت له الإقامة في جون.
ومن الأبنية الدينية أيضاً 3 كنائس للطوائف المسيحية الموارنة والكاثوليك والبروتستنت. وفي البلدة العديد من الأبنية الحجرية القديمة الجميلة ذات هندسة معمارية أنيقة، وذوق فني رفيع اشتهر به بناؤو الاقليم خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

وفي جون أربع مؤسسات تربوية منها مدرسة جون التكميلية الرسمية المختلطة، وثانوية جون فضلاً عن المدارس الخاصة وهي: مدرسة دير المخلص الثانوية، ومدرسة دير الراهبات.
أما على الصعيد الزراعي فتشتهر جون بأراضيها المليئة بأشجار الزيتون وبإنتاج الزيت والصابون، كما تنتشر في البلدة أشجار الحمضيات. ويستخرج الأهالي في البلدة ماء الزهر وأيضاً ماء الورد ودبس الخروب. كما ظهرت فيها حديثاً بعض الزراعات في الخيم البلاستيكية كزراعة الخضار والازهار.
تتميز جون بارتفاع نسبة المتعلمين في صفوف أبنائها بحيث تزيد على 95% بينهم عدد كبير من الأطباء والقضاة والمحامين والمهندسين وحملة الشهادات العليا في الاختصاصات كافة، والموظفين في إدارات الدولة المختلفة.
كما أغنت جون الحياة الثقافية والفنية في لبنان من خلال أبنائها ومنهم الفنان المسرحي نصري شمس الدين، والممثل الكوميدي حسن علاء الدين (شوشو)، والممثل المسرحي ميشال نبعه، والملحن الموسيقي ناصر مخول.

 

شؤون بلدية

تأسست بلدية جون في العام 1887، وهي اليوم تتألف من 15 عضواً يترأسهم الدكتور روجيه الجاويش. وقد عمل المجلس منذ تولّيه على تحسين أوضاع البلدة من النواحي كافة فقد أنشئت مشاريع عدة أولها المكتبة العامة المسماة مكتبة ميشال نبعه والتي اشتهرت بتنظيم المعارض والأمسيات الثقافية والدورات التدريبية للأولاد والمحاضرات الطبية. وخلال أشهر قليلة تم بناء ثانوية جون من دون أي مساعدة من الحكومة.
أما الرياضة، فقد نالت حصتها من خلال إنشاء ملعب رياضي حضاري يتمتع بالمواصفات العالمية ويتسع لألفي متفرّج وقد نظمت عليه دورات رياضية عدة.

وعلى صعـيد البـيئة كانت البلدية حازمة من خلال مراقبة المشاحر السرية، ومنـع قطـع الأشجار، كما وضعت خطة لزيادة المساحـات الخضـراء من خلال زراعة نحو 7 آلاف شجرة تم الاهتمام بها بشكل جدّي ومتواصل.
كل ذلك إضافة إلى الأعمال البلدية الروتينية من انارة، وجـدران دعم، وتزفيت وتوسيع الطرقات وتحسين الأرصفة والتـي جعلت البلدة على حد قول رئيـس بلديتها تعود عروسـة للاقليم وتتميز بالشلحة الحضارية التي أراد مجلس بلديتها أن يضعها على أكتافها.

مراجع: المعالم الأثرية والتاريخية في اقليم الخروب - د.حمد عبد الحليم يونس

 

عائلات جون
في قضاء الشوف وعلى علو يصل حتى 406 أمتار عن سطح البحر ومساحة تبلغ 1200 هكتار يعيش نحو تسعة آلاف نسمة في بلدة جون، وهم يتوزعون على العائلات التالية: اسماعيل، أبو عبدو، بربر، البرخش، تلج، الحاويش، حيدر، حجازي، حنا، خوري، خرياطي، روكز، روفايل، زيادة، الزين، سرور، السمون، شمس الدين، شموني، الشامي، صالح، ضومط، عبد النور، علاء الدين، عيد، عيسى، غصن، قاسم، معطي، نصار، الناشف.