دراسات وأبحاث

جيبوتي: هل تتحوّل «ثكنة العالم» إلى فضاء للتلاقي والتفاهم؟
إعداد: د.أحمد علّو - عميد متقاعد

كانت تسمّى بلاد الصومال الفرنسي أو مستعمرة «عفار وعيسى الفرنسية»، استقلّت عن فرنسا اعتبارًا من العام 1977 وأصبحت عضوًا في جامعة الدول العربية.


تقع جيبوتي شرق أفريقيا، على الشاطئ الغربي لمضيق «باب المندب» الفاصل بين أفريقيا وآسيا. وهي بذلك تحتل موقعًا جيوستراتيجيًا مميزًا بين البحر الأحمر وخليج عدن، وتشرف على معبر مهم في حركة التجارة العالمية بين آسيا وأفريقيا الشرقية والخليج العربي وأوروبا، عبر قناة السويس.

 

في الجغرافيا والديموغرافيا
تقدّر مساحة دولة جيبوتي بنحو 23.200 كلم2 فقط، وعاصمتها مدينة جيبوتي. تتكوّن البلاد من سهول سـاحـلـيـة ضـيـقـة وهـضـاب داخلية تفصل بينها مرتفعات في الوسط. يبلغ عدد سكانها نحو 865 ألف نسمة (إحصاء تموز 2017) وفق «كتاب حقائق العالم» الذي تصدره وكالة المخابرات المركزية الأميركي. يعيش خمسهم تقريبًا تحت الخط العالمي للفقر (1.25 دولارًا يوميًا).
يتكوّن سكّان جيبوتي من مجموعتين عرقيتين رئيستين همّا: قومية العفار، وقومية عيسى الصومالية، أمّا بقيه السكان فيتوزّعون ما بين أوروبيين وعرب وأثيوبيين. وقد تسبّبت الاضطرابات بين قومية عفار وقبيلة عيسى، التي تنتمي في معظمها إلى القومية الصومالية، في حرب أهلية استمرت من العام 1990 إلى العام 2001.


الموارد الطبيعية
تفتقر جيبوتـي، بـسـبـب طـبـيـعـتـهـا الجغرافية والمناخية القاحلة، إلى موارد كافية يمكن الاعتماد عليها في تطوير الناتج الوطني. مع ذلك تتوافر بعض الموارد مثل: الذهب، الغرانيت، الرخام، الجبس، حجر الكلس، الجير، زجاج الصقل، البترول، الملح، والماشية، وإنما بكميات قليلة.


 
القوات المسلّحة
يبلغ عديد هذه القوى نحو 13 ألف جندي عامل ونحو 15 ألف جندي في الاحتياط. وتتألف من: جيش البر، جيش الجو، والقوات البحرية. كما تملك جيبوتي قواتًا من الحرس الوطني، ومن الشرطة والجندرمة الوطنية.

 

قواعد عسكرية للإيجار
توجد في جيبوتي، قوات فرنسية منذ عقود، وخلال الفترة الأخيرة دخلت إلى البلاد قوات أميركية وألمانية ويابانية فضلًا عن قوّات أخرى من بعض دول الاتحاد الأوروبي. واعتبارًا من العام 2017 اتّسعت الدائرة مع مجيء قوات صينية، ومازالت مرشّحة للاتساع، إذ تطمع بالمجيء إلى جيبوتي وإقامة قواعد عسكرية فيها العديد من الدول الكبرى كروسيا والإمارات العربية والهند وغيرها.


• القوات الفرنسية:
بحكم استعمارها للمنطقة امتلكت فرنسا منذ منتصف القرن التاسع عشر بنية تحتية عسكرية على قدر كبير من الأهمية في جيبوتي. وهي مازالت تستحوذ على حضور مميّز عسكريًا وسياسيًا. ولعلّ أهم القواعد الفرنسية اليوم هي القاعدة الجوية 188 لطائرات الميراج 2000 د، و2000-5 ف، وفوج القتال الخامس لما وراء البحار، ومفرزة كوماندوس بحري، فضلًا عن مجموعات من كوادر الخدمات واللوجستية والطبابة، ومراكز للتدريب على القتال الصحراوي وغيره.
في منتصف العام 2011 ترك نصف اللواء 13 التابع للفرقة الأجنبية الفرنسية جيبوتي انتقل إلى أبوظبي. وفي نهاية العام نفسه كان عديد القوات الفرنسية هناك نحو 2162 جنديًا. منهم 750 من جيش البر، 462 من القوى الجوية، و209 من القوى البحرية.
أمّا الأسلحة والمعدات الفرنسية في جيبوتي فكانت:
- 7 طائرات قتال ميراج 2000.
- طائرة واحدة للنقل سي 160 ترانسال.
- 6 طائرات هليكوبتر للنقل «بوما» و«كوغار».
- 2 هليكوبتر غازيل.
- 12 دبابة أ.إم.إكس 10 آر سي.
بين مطلع العام 2015 وصيف العام 2017 انخفض عديد القوات الفرنسية من 1950 عسكريًا إلى 1350 جنديًا فقط.


• القوات الأميركية:
كانت جيبوتي تعتبر بالنسبة للأميركيين «بلد سلام في منطقة معارك»، ولكن الهجمات التي وقعت ضد السفارة الأميركية في نيروبي في كينيا، وفي دار السلام في تنزانيا (1998)، وكذلك الهجوم على المدمّرة الأميركية «يو إس إس كوول»  (2000)، دفعت الإدارة الأميركية إلى إقامة قاعدة عسكرية كبيرة في جيبوتي اعتبارًا من العام 2002 لمراقبة مضيق باب المندب. وفي 11 كانون الأوّل 2002 أعلن وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد عن إرسال 900 جندي من القوات الخاصة الأميركية للإقامة في قاعدة قديمة للقوات الخاصة للبحرية الفرنسية هي معسكر «لومونييه». وبشكل متوازٍ بدأت إذاعة «صوت أميركا» البث من هناك باللغتين العربية والإنكليزية.
تمتد القاعدة الأميركية، بجوار سور مطار جيبوتي بطول نحو 4 آلاف متر. وفيها مدرج لانطلاق الطائرات من دون طيار والطائرات الحربية والمروحيات. في العام 2016 بلغ عدد الجنود فيها نحو 2000 ضابط وجندي، ويرتفع العدد إلى نحو 3700 إذا أُضيف إليه عدد العاملين المدنيين الأميركيين والمحليين.
تغصّ القاعدة بحظائر للطائرات ولتخزين الآليات والأسلحة. أمّا المهمّة الأساسية المسندة إليها فهي مراقبة مضيق باب المندب وحمايته بالاشتراك مع القوات الفرنسية. وهي أصبحت منذ العام 2008 مركزًا رئيسًا لقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وقد استعملتها وزارة الدفاع الأميركية لنشر طائرات بدون طيار (درون) لمراقبة واستهداف أعضاء في منظّمة القاعدة في جزيرة العرب.


• القوات الألمانية:
وقّعت جيبوتي وألمانيا في العام 2002 اتفاقية تفاهم حول كيفية تواجد القوات الألمانية فوق الأرض الجيبوتية في إطار ما سمّي بالصراع ضد الإرهاب. وبموجب هذه الإتفاقية أقامت ألمانيا منشآت عسكرية مهمّة فوق أرض جيبوتي.


• القوات اليابانية:
دفع الصراع ضدّ عمليات القرصنة في القرن الأفريقي منذ مطلع القرن الحالي عددًا من الدول إلى استخدام جيبوتي كقاعدة لوجستية لأساطيلها البحرية. وفي نيسان من العام 2010 أعلنت القوات اليابانية للدفاع الذاتي عن إقامة أوّل قاعدة عسكرية دائمة لها خارج اليابان في جيبوتي. تنتشر هذه القاعدة على مساحة 12 هكتارًا، تمّ إنجازها خلال سنة ويوجد فيها نحو 600 جندي.


• القوات الصينية:
تعمل الصين انطلاقًا من استراتيجيتها الجديدة «طريق واحد... حزام واحد» على استكمال محطّاتها على طريق الحرير، البرية منها والبحرية. وتعتبر محطّتها في جيبوتي استكمالًا لاستراتيجيتها في «مدّ» حزامها البحري «طوق اللؤلؤ» String of pearls الممتد من بحر الصين الجنوبي عبر المحيط الهندي وصولًا إلى أفريقيا، لحماية تجارتها وأسطولها البحري، وذلك بإنشاء قواعد عسكرية ولوجستية جديدة.
في العام 2017 أقامت البحرية الصينية قاعدة بحرية على امتداد المرفأ الجديد لمدينة جيبوتي. تتّسع هذه القاعدة لاستقبال 400 جندي، ولكنها يمكن أن تستوعب عمليًا نحو 10 آلاف عسكري، وهي تكرّس جيبوتي محطّة على طريق الحرير الصينية.


• قواعد أخرى:
بالإضافة إلى ما سبق ذكره، توجد في جيبوتي قاعدة إيطالية، وتستضيف القواعد الفرنسية بعض القوات الإسبانية والألمانية، وهناك مفاوضات لإقامة قاعدة عسكرية سعودية.

 

جيبوتي ثكنة العالم
وصفت صحيفة «لو فيغارو» الفرنسية جيبوتي بـ«ثكنة العالم»، قائلة إنّها قد تنقلب إلى «عش للجواسيس» تراقب فيه الدول بعضها البعض. وقد يسهم الوجود الصيني في جيبوتي في إثارة التوترات مجددًا مع اليابان التي تمتلك قاعدة عسكرية هناك أيضًا، أو بين جيبوتي ودولة الإمارات العربية المتحدة على خلفية الخلاف حول إدارة مرفأ «دوراليه» الجيبوتي. وتقول «لو فيغارو» أيضًا إنّ وجود القوات الأجنبية في البلاد قد يجعلها هدفًا للجماعات الإرهابية، كما حدث في العام 2014 عندما هاجم انتحاريان من جماعة «حركة الشباب» الصومالية مطعمًا في العاصمة يرتاده الأجانب، راح ضحيته نحو 20 شخصًا.

 

القواعد بين المردود الاقتصادي والسياسي
إنّ ما حرمته الطبيعة لجيبوتي من حيث شح الموارد الطبيعية، عوّضته من خلال أهمية الموقع الجغرافي الاستراتيجي على ضفة باب المندب أحد أهم المعابر البحرية التجارية في العالم.
فتحت جيبوتي، الباب لدول كبرى وصديقة لتأسيس قواعد عسكرية فوق أراضيها. ويقول المسؤولون فيها إنّ إنشاء هذه القواعد يتمّ بشروط خاصة لا تتعارض مع الأمن القومي الجيبوتي، ولا مع التوجهات السياسية للدولة. والهدف منها مواجهة الإرهاب وحماية التجارة العالمية الضخمة العابرة من باب المندب، إضافة إلى حماية الاستثمارات الكبيرة التي تستقطبها جيبوتي من دول العالم لخدمة باقي دول القارة الأفريقية، وبخاصة تجمع دول «الإيغاد» و«الكوميسا».
وقد قدّر مركز مقديشو للبحوث والدراسات، أنّ جيبوتي تجني نحو ربع مليار دولار سنويًا مقابل تأجير أراضٍ لقواعد عسكرية. ووفق مصادر أخرى، تبلغ قيمة التأجير السنوية للولايات المتحدة نحو 70 مليونًا، وللصين نحو 100 مليون، ولليابان ما يقارب من 35 مليونًا، ولفرنسا (القاعدة الأقدم) نحو 30 مليونًا، بالإضافة إلى مبالغ أخرى من دول لها وجود عسكري محدود في جيبوتي مثل ألمانيا وإسبانيا. هذا إلى جانب مساعدات ومشروعات تقوم بها هذه الدول لتنمية دول القرن الأفريقي وبلدان وسط القارة انطلاقًا من جيبوتي.
فالصين، على سبيل المثال، تعتزم ضخّ استثمارات جديدة في هذه المنطقة تفوق قيمتها الـ60 مليار دولار فضلًا عن مدّ خط لسكة الحديد إلى أثيوبيا، بينما تسعى اليابان إلى افتتاح مشروعات تصل قيمتها إلى نحو 30 مليار دولار. وفي المقابل، يبدو أن العبء الأكبر في عملية بسط الاستقرار والأمن في المنطقة عمومًا يقع حتى الآن، على عاتق القاعدة الأميركية التي تشمل عملياتها، حاليًا، محاولة الحد من الاضطرابات في جنوب السودان ومكافحة الإرهاب في الصومال والمشاركة في التصدي لمحاولات الحوثيين، ومن يدعمهم، تهديد الملاحة في البحر الأحمر أو عبر المضيق.
ويبقى حلم السياسيين الجيبوتيين وطموحهم أن تتحوّل جيبوتي مع الوقت إلى «دبي جديدة» على البحر الأحمر تستقطب الاستثمارات والمشاريع التجارية والسياحية من مختلف أنحاء العالم، أو تتحوّل إلى واحة ومنطقة تجارية حرة على طريق الحرير، وصلة وصل بين آسيا وأوروبا والشرق الاوسط ودول شرق أفريقيا ووسطها.
ولكن هل تتحوّل جيبوتي من مساحة للقواعد العسكرية المتعددة والمتجاورة للدول الأقطاب والمتناقضة في العالم، إلى فضاء التقاء ما بين «الأوراسية الجديدة» والغرب، وتكرّس التفاهم حول عالم متعدّد الأقطاب؟

 

   المراجع
- https://www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook/geos/dj.html
- https://www.bbc.com/news/world-africa
- https://indianexpress.com/article/world/djibouti-china-military-overseas-base-horn-of-africa-strategic-imp
- https://aawsat.com/home/article