قصة قصيرة

جيل الواتس آب
إعداد: العميد الركن إميل منذر


يتّهم أكثر أهل النظر الواتس آب وأخوته وأبناء عمّه من فايسبوك وفايبر وتانغو ممّا أولدته تكنولوجيا الاتّصالات، بصرف اهتمام الشباب عن الكتاب، وإفساد أخلاقهم، وإضعاف الروابط الاجتماعية في أسَرهم. وهذا اتّهام حقّ، كما تعلمون؛ فأبناء هذا الجيل أُتيح لهم أن يعرفوا في أعمار مبكرة ما يجب أن يعرفوه وما لا يجب من عالَم أصبح التنزّه، بل التسكّع، في دروبه وولوج كلّ أبوابه أمرين ميسورين وأسهل من تجرّع الماء، كما يقولون. فكيف لهم أن يصمدوا أمام هذا الإغراء، ولأيّ سبب تبقى عامرة سهرات السمر وتبادل الأحاديث بين أفراد الأسرة بعدما أصبح لكلّ منهم عالمه الخاصّ به!
إلا أنني أضيف إلى هذه الاتّهامات اتّهامًا آخر، ألا وهو اضمحلال آداب المجتمع المعروفة بالفرنسية بــsavoir vivre، ذلك أنّ جيل الواتس آب ليس لديهم الوقت، أو قُل المزاج، ليجالسوا الكبار، ويتعلّموا منهم لباقة الحديث والتصرّف كما كنا نفعل إذ كنا في مثل أعمارهم. لقد ردُؤَ الزمن، ونَخِر العالَم حتى العظم بسوس الفساد.
أقول هذا الكلام لأعبّر عن وجع يمزّق شغاف قلبي، وكآبة ترتفع غمامتها السوداء في سماء روحي كلّما صادفت شابًّا بدت لي منه قلّة أدب من حيث يدري أو لا يدري.
هذا النموذج من الشبّان التقيته ذات صباح وأنا أهمّ بالخروج من بوّابة المبنى الذي سكنت زمنًا إحدى شققه في بيروت لزيارة صديق قديم، أو بالأحرى، رفيق طفولة عشناها معًا في قريتنا الجبلية الجميلة.
صديقي قذفت به المدنية مثلي ومثل كثيرين آخرين إلى بيروت، العاصمة التي لا تنام. في شوارعها الصاخبة وأبنيتها الشاهقة ضاع أهل قريتي، أولئك الذين كانوا ينعمون في جوار الغيم وجوار الله بالهدوء والسلام. هدوء لا يقطعه سوى غناء الفلاّحين في الكروم، وزقزقة العصافير على أغصان الشجر، وأناشيد السواقي الهابطة من السفوح إلى الوديان. وسلام لا ينغّصه إلا أخبار الحرب يتداولها الناس كلما اجتمع نفر منهم في ساحة أو بيت أو دكّان.
ضاع أهل قريتي. ولربّما كانوا في بيروت جيرانًا من غير أن يعلموا أنهم جيران. بيروت ابتلعتهم. فرّقتهم؛ فما عادت تجمعهم إلا الصدف في الشوارع، أو المآتم، ولكن... من غير أحزان. أما فوق فكانوا واحدًا في السرّاء والضرّاء. يجتمعون في كلّ عرس، ومأتم، وعيد، وموسم حصاد. كذلك أثناء تناولهم طعام الغداء في الحقول المتجاورة كانوا يجتمعون. كيف لا وهم يتنشّقون هواء الضيعة إيّاه، ويشربون من مياه العين عينها!!
آهٍ منك يا قلمي الغادر! ها أنت قد أفلتت من عقالك هذه المرّة أيضًا. وهذه عادتك كلّما خطرت الضيعة في بالي وأنت بين أصابعي. تتمرّد على فكري، وتصغي إلى نداء قلبي، فتطيعه وتتبعه لتخطّ ما يمليه عليك وهو يقفز على طريق العين قفز الأرنب، و«يُهَوْشِلُ» في البراري التي يحاصر الشوك فيها أزهار «عرف الديك» و«بخور مريم»، ويتسلّق الحيطان التي سقط فيها حجر من هنا وآخر من هناك، ليتدحرج على تراب كروم العنب واللوز والتين، ويضيع بين أغصان الوزّال التي يفوح من أزهارها الصفر أريج أعجز أمهر العطّارين.

رويدك يا قلمي؛ فأنا من أجل موضوع آخر أخرجتك من علبتك وبريتك. أردت أن أتحدّث عن هذا الشابّ الذي صادفته في ذلك الصباح، ويعبّر عن جيل الواتس آب أفضل تعبير.
عندما فتحتُ البوّابة العريضة السوداء لأخرج ورأيته منتصبًا أمامي، بدا لي في أواسط العقد الثاني من العمر. طويل القامة، عريض المنكبين، في إحدى أذنيه حلقة معدنية. أما الوجه فأشبه بوجه عمرو صاحب ابن الروميّ.
كان يحمل هاتفًا خلويًا يضغط على أزراره بإبهامَي يديه الاثنتين، وبين الفينة والفينة يسحب يدًا ليشدّ بها خصر سرواله إلى أعلى والخصر يشدّ إلى أسفل. واستمرّ كذلك من غير أن يفطن إلى أنه يسدّ دربي. ولما أنهى كتابة الرسالة، رفع بصره إليّ، وسأل: في أية طبقة يقع بيت فلان؟ قلت: «صباح الخير يا ابني»، علّه بذلك يفهم أنه كان عليه إلقاء التحية أوّلًا. لكنه ما فهم. بل هزّ رأسه صعودًا ونزولًا علامة موافقته على تحيّتي. وعاد ينظر إليّ صامتًا منتظرًا مني الجواب. قلت: في الحقيقة لا أعرف... أتسمح لي بالمرور من فضلك؟ عندئذٍ تنحّى جانبًا؛ فخرجت، ومضيت في سبيلي إلى صديقي وبي ضيق شديد.
عند المدخل استقبلني بشير، كعادته، بكلّ حفاوة وترحاب. وإذ لاحظ الوجوم على وجهي سألني عمّا بيَ؛ فأخبرته بما كان لي مع ذلك الشابّ الذي لم أجبه عمّا جاء يسأل عنه لقلّة أدبه؛ فضحك وهو يردّ الباب خلفي، ثم قادني إلى الشرفة التي لا تستطيع أن ترى منها أبعد من بضعة أمتار في أيّ اتّجاه نظرت.
- لا تحزن يا صديقي. قال بشير، وقد ارتسمت على محيّاه أمارات الحزن الذي نهاني عنه. وأضاف: عجيب والله أمر هذا الجيل. تسأل الشابّ: كيف حالك؟ فيجيبك: مليح. وتسأله: أأنت بخير؟ فيكتفي بهزّة رأس، أو بكلمة «إيه». فـ «النعم» و»الحمد لله» ليستا في قاموسه. مَن طَرَّ شارباه ونبتت لحيته ليس صغيرًا بعد حتى يجهل الألفاظ المهذّبة وطرق التخاطب اللائقة، أو حتى يجلس قبالة محدّثه ولا يوليه نعل حذائه، ثم لا ينصرف من غير استئذانه... لا. نحن لم نكن هكذا في مثل أعمارهم. كنا نحسن الكلام والتصرّف. نحترم مَن كانوا أكبر منا سنًّا. نسبقهم بالتحية، ونجلس بصمت في حضرتهم. نصغي إليهم، ونتعلّم منهم... هذا الجيل خرّب الهاتف الخلويّ عقولهم، وأفسد الأنترنت اللعين أخلاقهم.
هكذا كان بشير يتكلّم بأسف وحسرة. أما أنا فكنت أنصت إليه ولا أسمع، وأنظر إلى وجهه ولا أرى إلا صبيًّا في الضيعة، لم يُتِمّ العاشرة من عمره، اسمه بشير.
في ذلك اليوم البعيد من أيّام الطفولة، كان بشير عندي في الحيّ الشرقيّ من الضيعة، عندما سمعنا صوتًا صادرًا من جهة بيت ذويه القريب من بيتنا، ينادي: يا نعمان. فنهضنا وخرجنا إلى المصطبة ونظرنا، وإذا رجل يرتدي سروالًا عربيًا ويعتمر كوفيّة، يكرّر النداء وهو يمسك بغصن شجرة لوز متدلٍّ فوق الطريق. فركض بشير باتّجاه الرجل وهو يصيح: لا يا عمّ. إحترس. لا تأكل من هذه الشجرة، أرجوك. وعندما لحقتُ به: سمعته يقول للرجل: هذه الشجرة رششناها أمس بالمبيدات السامّة. تستطيع أن تقطف من تلك، قال وهو يشير بيده إلى شجرة أخرى في الكرْم الذي يقوم في الجهة المقابلة من الطريق.
- أريد رؤية والدك. أما زال راغبًا في بيع الفرس؟ سأل بعدما أفلت الغصن.
- الفرس لا نبيعها. لكن نقدّمها تقدمة للناس الأفاضل.
- أحســنت قــولًا يا بنيّ. قال الرجل وهو ينظــر إلى بشــير بعينين اتّسعتــا دهشــة وإعجابًا.
- أستأذنك لدقيقتين ريثما أذهب لأُخطر أبي وأمّي اللذين يعملان في البستان القريب.
ومضى بشير إلى البستان. وما هي غير دقائق حتى عاد وأبويه. فرحّب نعمان بالرجل بعدما تعارفا، واستضافه في بيته لبعض الوقت. ثم خرج وإيّاه إلى حيث الفرس مربوطة في الفِناء خلف البيت.
دار الرجل حول الفرس دورة كاملة. مسحها بنظرة خبيرة من حافرها إلى ناصيتها. تفحّصها. ربّت عنقها. وفتح فمها لمعرفة عمرها من حال أسنانها. ثم سأل نعمان عن ثمنها.
- مئة ليرة. قال نعمان.
- لا يا أخي. هذا ثمن باهظ. أدفع تسعين. أجاب الرجل وفي نيّته أن يدفع المئة إذا أصرّ نعمان على هذا الرقم لأن الفرس أعجبته حقًّا.
- والله لولا حاجتي إلى المال لما بعتها بهذا الثمن.
- حسنًا. لك ما تريد. أجاب، ومدّ يده إلى محفظة نقوده، وسحب منها بضع أوراق نقدية: «هذه المئة ثمن الفرس يا أخي نعمان، وهذه الخمس ليرات كُرْمى لك يا بشير يا ابني».
إمتنع بشير عن قبول الليرات الخمس قائلًا: شكرًا يا عمّ. اعذرني. لا أستطيع قبول ما لم أتعب في سبيله. هكذا أجاب، وشبك يديه خلف ظهره، فيما راح الوالد ينظر إلى الرجل بصمت وحيرة.
- قُل للصبيّ أن يقبل مني هذه الليرات القليلة. إنه يستحقّها. لقد نجّاني من الموت قبل حضورك.
- نجّاك من الموت!! ردّد الوالد كمَن يحدّث نفسه.
- أجل. لقد هممت بقطف بضع حبّات لوز من هذه الشجرة قبل أن ينبّهني ولدك إلى أنها مرشوشة بسائل سامّ. أجاب وهو ينظر إلى الشجرة بعينين مذعورتين. فما كان من نعمان إلا أن ابتسم، وخفض رأسه مفتّشًا عن كلام. إذ ذاك رفع بشير بصره إلى الرجل، وقال: في الحقيقة لم تكن الشجرة مرشوشة.
- لم تكن مرشوشة!!
- كلّ ما في الأمر أنها ليست لنا. هي لجيراننا. أما تلك التي أرشدتك إليها فهي ملكنا. والملك لله قبل وبعد.
أخذ الرجل يهزّ رأسه صامتًا وهو يتأمّل الصبيّ بإعجاب. ثم فتح محفظة نقوده مجدّدًا، وأخرج ورقة الخمس ليرات التي كان قد أعادها، ولكن مع أخت لها معها: «خذ يا ولدي. الآن أنت تستحقّ المكافأة مضاعفة. أرجوك أن تقبل هذه الليرات العشر مني».
مرّة جديدة امتنع بشير عن قبول المال. لكن والده أمره بقبوله. ثم أخذ من جيبه ليرات عشرًا دفع بها إلى الرجل: «والآن اقبل مني بدورك أن أبيعك الفرس بتسعين ليرة لا مئة». فمدّ الرجل يده بعد تمنُّع طويل وإلحاح من نعمان شديد. عندئذٍ نزلت أمّ بشير التي كانت ترى كلّ شيء وتسمع كلّ كلمة من النافذة، وباركت للرجل قبل أن يمتطي الفرس وينطلق بها. وقد علمتُ فيما بعد أن بشيرًا أعطى والده الليرات العشر، فاشترى له ولأخته بها كتب المدرسة ومريولَين، ولأمّهما فستانًا جديدًا.

مرّت هذه الحكاية كلّها في خاطري خلال ثوانٍ. ولما رآني صديقي أُنصتُ له بغير انتباه، وأنظر إليه بعينين مسافرتين بعيدًا، سأل: أما زلت معي!؟... كأنك مشغول الفكر بأمر ما يا صاح. عندئذٍ ذكّرته بالحكاية التي أصبحت من الماضي؛ فابتسم ابتسامة حزينة، وقال بحسرة: أبناء هذا الجيل تعلّموا أكثر منا. ولكن ما قيمة العلم إذا لم يكن مقترنًا بالأدب، مزيّنًا بالأخلاق!؟ ألا رحم الله الذي قال:
أرى العِلمَ نورًا والتأدُّبَ حِلْيَــةً
فخُذْ منهما في رَغبةٍ بنصيبِ
وليسَ يَتِمُّ العِلمُ في الناسِ للفتى
إذا لم يكن في علمِهِ بأديبِ.
بعد ذلك رحت وصديقي نستذكر الماضي، وننفض غبار النسيان عن حكاياتنا العتيقة في قريتنا الجميلة حتى خرج ابن له في السادسة عشرة من عمره لم أره منذ سنوات، وقال: أنا ذاهب إلى بيت رفيقي.
- أما من تحية يا رجل!! قال بشير.
- صباح الخير. أجاب وعيناه ترافقان أصابعه على أزرار هاتفه الخلويّ.
- ألا تذكر صديقي! إنه من ضيعتنا.
- جيّد. قال وانصرف خارجًا وهو يحاول رفع حزام بنطاله.
- ألا تجلس معنا قليلًا؟ سأل الوالد.
- لا وقت لديّ. رفيقي يناديني على الواتس آب.