مناسبة وموقف

حارس الديمقراطية وحامي الدستور

من المفارقات الكثيرة في وطننا أن نرى قائدًا للجيش يضع حجر الأساس لسجنٍ نموذجي يراعي المعايير الدولية لحقوق الإنسان، فيما تتعرض مؤسسته لأنواعٍ شتى من الافتراءات والتجنيات والهجمات.
فبرعاية قائد الجيش العماد جوزاف عون وحضوره، نظّمت الشرطة العسكرية احتفالًا في مقرّها في الريحانية، تم خلاله وضع حجر الأساس لمشروع بناء «مبنى سجن الشرطة العسكرية النموذجي»، بحضور رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر ورئيس الجامعة اللبنانية، وممثل عن سفير الاتحاد الأوروبي ومفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية ومعاونيه إلى جانب عدد من الضباط.


ليس جديدًا أن ينتهج الجيش مسيرة عنوانها الالتزام الإنساني والحفاظ على الكرامة الإنسانية، فتاريخه كما حاضره يشهدان في هذا المجال. لكنّ المفارقة تكمن في أنّه يباشر مشروعًا بهذا الحجم وهذه الأهمية في وقت تتآكل فيه حقوق عسكرييه، ولا تتوافر له متطلبات أساسية.
لكنّ قائد الجيش الذي ألقى كلمة في مناسبة إطلاق المشروع، أعلن بوضوحٍ أنّ التزام الجيش الوطني والإنساني هو فوق كل اعتبار وظرف، مؤكدًا مضيّه في تأدية مهماته حارسًا للديموقراطية، حاميًا للدستور، لا يلتفت إلى صغائر ولا توقفه كبائر...


التزامنا الوطني والإنساني فوق كل اعتبار
في مستهل الكلمة، أشار العماد جوزاف عون إلى أنّ اللقاء لا يشذّ عن القاعدة، التي انتهجها في افتتاح مواقع عسكرية ومستوصفات ومراكز تدريب تحت عنوان «تطوير قدرات الجيش العسكرية واللوجستية»، وإن كان وضع حجر لسجنٍ ينطوي على حجز لحرية الأفراد.
وأوضح أنّ المؤسسة العسكرية انطلاقًا من التزامها المعايير الدولية لحقوق الإنسان، أطلقت في مطلع السنة الحالية «مدونة قواعد سلوك عناصر الجيش في إنفاذ القانون» ضمن «مديرية القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان»، وأنّ خطوة تطوير سجن الشرطة العسكرية ليصبح أنموذجًا، يحاكي المعايير المعتمدة دوليًا في كيفية التعاطي مع الخارجين عن القانون بحزم، ضمن معايير حقوق الإنسان، التي هي في اتجاه تطوير هذا الالتزام.
وفي إشارة إلى الثقة المحلية والدولية بالجيش، شكر العماد عون الجهات التي تواكب المؤسسة باستمرار، لما فيه ارتقاء بالحس الإنساني في خضم كل التحديات التي تواجهنا، وخص بالذكر اللجنة الدولية للصليب الأحمر.


أمر واقع فرضه تكليف الجيش مهمات من خارج اختصاصه
تشخيص واقع السجن القائم حاليًا من قبل العماد عون، ذكّر الحاضرين بثقل الأحمال الملقاة على عاتق الجيش، والمهمات المكلف بها من دون أن تكون من اختصاصه. وقال في هذا السياق، إنّ السجن القائم حاليًا لم يكن من الممكن أن يستوفي الشروط والمعايير الدولية لحقوق الموقوف والمسجون، لا تقاعسًا ولا ترددًا، إنما نتيجة لأمرٍ واقع فرضته ظروف تكليف الجيش بمهماتٍ هي بغاليبتها من خارج اختصاصه. فما بُني كمكان احتجاز لعناصر عسكرية أخلّت بالقوانين، تحوّل إلى مجمّع يضم عشرات الموقوفين بجرائم إرهابية وخارجة عن القانون، لتتحمل بذلك الشرطة العسكرية عبء مسؤولية فاقت طاقاتها، إلا أنّها كانت على قدرها، رغم الإمكانات القليلة المتوافرة.
 

لا نلتفت إلى صغائر ولا توقفنا كبائر
التذكير بهذا الواقع أعقبته رسالة واضحة، ومفادها أنّ الجيش على عهده للوطن وأبنائه لا يلتفت إلى صغائر أو يتوقّف عند كبائر: «لقد عهِدنا اللبنانيون سيفًا للشرف والوفاء ودرعًا للتضحية. رجاله قلبًا واحدًا يدافعون عن أمن لبنان بأرواحهم ودمائهم، ويضعون مصلحة الوطن فوق كل اعتبار. ماضون في أداء مهماتهم المقدسة المكلفين بها لحماية الوطن بكل شرف وإصرار، لا يلتفتون لصغائر أو يتوقفون عند كبائر. كانوا وسيبقون حراسًا للتاريخ وللمستقبل».
أوضاع السجون في لبنان هي معضلة أساسية على صعيد حقوق الإنسان، وهذا ما أشار إليه قائد الجيش مؤكدًا أن مسيرة الالتزام الإنساني في جيشنا تتقدم، وأنّ مناقبية سلوكه العسكري تتعزز في خطوة رائدة من مسيرة عريقة عنوانها الالتزام الوطني طالما عهدها اللبنانيون في جيشهم.
 

الجيش أنموذجًا يُحتذى به
من معضلة السجون وحقوق الإنسان انتقل العماد عون إلى تأكيد هوية جيشنا :«هو حارس الديموقراطية وحامي الدستور. كان وما زال يسعى إلى تقديم نفسه أنموذجًا يُحتذى به على مستوى الوطن ومؤسساته»، ليختم برسالةٍ لا تقلّ وضوحًا عن سابقاتها: «لدينا من العزيمة ما يكفي للقيام بالمهمات الموكلة إلينا. لن تثنينا الشائعات ولا حملات التجنّي والتخوين عن المضي قدمًا في مسيرة الشرف والتضحية والوفاء، متسلّحين بمحبة شعبنا وثقته بنا».
 

أهداف إصلاحية
كذلك، ألقى قائد الشرطة العسكرية العميد الركن نبيل عبداللـه كلمة في المناسبة استهلها بالقول:
«قديمًا قيل من بنى مدرسة أغلق سجنًا، لكنّنا نقول إذا تعذّر إغلاق السجون بسبب تنامي معدلات الجريمة، فلن يتعذّر على من امتلك الإرادة والتصميم أن يجعل من السجن مكانًا شبيهًا بالمدرسة في أهدافه الإصلاحية».
وأضاف قائلًا: «هدفنا هو تحسين مكان الاحتجاز وخلق أفضل الظروف الحياتية والصحية والنفسية للسجناء والموقوفين بما يتناسب مع جرم كل منهم، والضرورة تقضي بفصل الموقوفين العسكريين عن الموقوفين المدنيين، وفصل المدنيين عن بعضهم بعضًا وفق تصنيف الجرائم المتهمين بها».
 

تاريخ مشرّف
وأردف قائد الشرطة قائلًا: «إنّ تاريخ الجيش اللبناني وتاريخ الشرطة العسكرية تاريخ مشرّف في مجال حقوق الإنسان، وتتجلّى بعض مظاهر هذا الاحترام في خلوّ سجوننا العسكرية من العنف والتمييز، ومن الاعتداءات الجسدية والنفسية، ومن آفة المخدرات، وبشكلٍ خاص خلّوها من الفساد.
لكنّ السجون العسكرية تعاني مشكلة الاكتظاظ، مما يخلق صعوبات كبيرة في فصل الموقوفين، وتصنيفهم وفق فئاتهم العمرية وظروفهم الصحية، ويزداد الأمر صعوبة عند مواجهة حالات استثنائية، مثل الإضراب عن الطعام ومواجهة أوضاع نفسية معينة أو عند محاولات إيذاء النفس، أضف إلى ذلك وضع موقوفين بالأمانة لمصلحة الأجهزة الأمنية الأخرى، لا سيما قوى الأمن الداخلي التي تعاني بدورها مشكلة الاكتظاظ، وقد تفاقمت هذه الأزمة في السجون بسبب مشكلة النزوح السوري، وتزايد معدلات الجريمة المرتبطة بها».
 

رؤية مستقبلية
عن المبنى الجديد قال:
«إنّ مبنى السجن النموذجي الذي يُطلق اليوم هو تجسيد رؤية قيادة الجيش المستقبلية، وقد جاء ثمرة جهود طويلة من الدراسات والتعديلات، ليأتي مطابقًا للمتطلبات الأمنية واللوجستية والقانونية، ومحترمًا المعايير المحددة لأماكن الاحتجاز. وقد اشترك في تبادل الخبرات ضباط مديرية الهندسة والمديرية العامة للإدارة ومكتب الشؤون العقارية ومهندسو الشركة المتعهدة.
بموازاة بناء السجن الجديد، عملنا على بناء قدرات العاملين في السجن، وذلك من خلال تأهيل العناصر من ضباط ورتباء وأفراد نفّذوا دورات تدريبية بإشراف فريق تدريب بريطاني متخصص وتدريبها وستتابع هذه الدورات خلال العام المقبل».
وختم بتوجيه الشكر إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر، والمكتب المعني بالجريمة ومكافحة المخدرات التابع للأمم المتحدة، والحكومة البريطانية التي تقدّم الدعم من خلال البرامج التدريبية للعاملين في إدارة السجن...
أما كلمة الشكر الأخيرة فوجّهها إلى قائد الجيش العماد جوزاف عون الذي جعل مشروع بناء سجن نموذجي جديد في سلّم أولوياته، ولولا إصراره ورعايته الدائمة لما كان لهذا المشروع أن يتجاوز كل المعوقات ويبدأ بالتحقق والتنفيذ.