قصة قصيرة

حذارِ أن تتأنْسَن
إعداد: العميد الركن إميل منذر

نهض شَيْبانُ من فراشه قبل أن يضحك الصبح عن ناجِذَيه، ودخل القبوَ، ونظر إلى العُقْر في كتف دابّته؛ فوجد أنه لم يندمل بعد. لذلك أخرج الجحش، ووضع الجُلَّ على ظهره، وأحكم قطر العربة ذات العجَلتَين به، واعتلى مقعده في مقدّم العربة، ومضى على طريق القرية الضيّق باتّجاه الوادي حيث يقوم بستان له فيه من أشجار الفاكهة أصناف وألوان.
عند بلوغه آخِر بيت من بيوت القرية، نادى شيبان: «يا أسعد، أما زلتَ نائمًا؟ هلمّ، لقد انتهى النهار وما زلنا هنا»، فخرج في الحال غلام يافع هزيل الجسم، واستقلّ العربة وهو يقضم «العروس». وقبل أن ينطلق شيبان من جديد، مرّت به سيّارة مسرعة؛ فما كان من سائقها إلا أن انحرف بها يسارًا حتى لا يصطدم بالعربة وهو يصيح بأعلى صوته: «قفْ إلى يمين الطريق يا حمار»؛ فجفل الجحش الذي كان يخرج بين السيّارات للمرّة الأولى، وزمَّ كَفَلَه متوقّعًا ضربة موجعة من خيزرانة صاحبه جزاء الخطأ الفظيع الذي ارتكبه. لكنّ خوفه ما لبث أن تبدّد، وعادت إليه روحه عندما صاح شيبان بصاحب السيّارة وقد اجتازته بسلام: «الحمار هو مَن يقود بهذه السرعة الجنونية على طريق ضيّق كهذا»، فعرف الجحش أنّ المقصود «بالحَمْرَنة» صاحبُه، لا هو.
أخذت بيوت القرية تتضاءل تدريجيًّا، ثم توارت عندما انعطف شيبان بعربته إلى طريق ترابيّ يتعرّج بين أحراج الصنوبر والسنديان. وإذا كانت الخيزرانة لم تلامس جلد الجحش بعد، فقد باتت الآن تهوي عليه كلما علقت عجَلة العربة بحفرة أو توقّفت أمام حجر ناتئ في الطريق. لقد كانت العربة تتقدّم قفزًا، والصبيّ فيها يعلو ويهبط ويترنّح، وقبّعة الفلّين على رأس شيبان تميل ذات اليسار وذات اليمين. أما الجحش فكان يتلقّى الضرب، ويشدّ، ويفكّر مهمومًا في العودة والعربة تنوء بحِمْلها.
عندما بلغ شيبان آخِر طريق العربات، توقّف، وفكّ العربة، ثم أعطى الصبيّ رسَنَ الجحش؛ فأخذ ينحدر به باتّجاه الوادي على طريق ضيّق جدًّا تسدّه أحيانًا أغصان القندول والوزّال من الجانبين. أما شيبان فسار في المؤخّرة مفتّشًا لقدمَيه عن مَواطئ ثابتة بين حجارة الطريق الزَلِقة. وبعد مسير ما يقرُب من نصف ساعة، وصلا إلى البستان، فافترّت شفتا صاحبه عن ابتسامة عريضة عندما رأى الأغصان تكاد أن تتكسّر تحت ثقل أحمالها.
- هيّا يا صبي، قال شيبان. خذْ هذه الصناديق الثلاثة واملأْها رمّانًا حلوًا. لا تقطف إلا الثمرات الكبيرة اليانعة، وأنا سأصعد لأحوّل مياه القناة إلى البستان.
- حاضر، أجاب الصبيّ، وانصرف إلى ما أمره به الرجُل. فيما راح الجحش يرعى العشب الأخضر من حوله.
ولما نزل شيبان، نظر إلى صناديق الرمّان، ثم إلى الصبيّ الواقف بقربها، نظرة غَضبى، وصاح بأعلى صوته: «ماذا فعلت يا حمار!»، فما كان من الجحش إلا أن توقّف عن الرعي وقد جمد فكّاه وارتجف قلبه ظنًّا منه أنه يرعى في المكان الخطأ، وهو لا يعلم بعد أنه ما زال جحشًا، وعليه أن يبذل مجهودًا كبيرًا ليرتقي إلى مرتبة الحمير، تمامًا مثل كثيرين من أبناء آدم. لكنه تنفّس الصُعَداء عندما شاهد الفلاّح يضع راحتَيه على خاصرتَيه، ويمدّ عنقه ورأسه باتّجاه الصبيّ، ويتفرّس في وجهه بعينين حمراوين جاحظتين، ويقول: «هل تستطيع أن تعيد على مسمعي ما كنت قد طلبتُ منك؟».
- قلتَ: «لا تقطف إلا الثمرات اليانعة». أجاب وقد جفّ حلقه فزعًا.
    - أنت حمار بذنَب وأذنَين طويلتين.
- لماذا... تقول ذلك... يا سيّدي؟


- لأني قلت أيضًا: «رمّان حلو لا حامض. الرمّان الحامض لم يَحِن حينه بعد. أفهمتَ لماذا؟ وفهمتَ لماذا سأقتلك؟»، قال، وانحنى يلتقط عصا عن الأرض؛ فما كان من أسعد إلا أن فرّ من أمامه؛ فأثار منظره وهو يلوذ بالفرار ضحكَ الجحش، فضحك نهيقًا. لكنه ما لبث أن كفّ عن النهيق، وخفض رأسه كئيبًا.
إنقضى من النهار نصفه. وكان الفلاّح والصبيّ قد قطفا بضعة عشر صندوقًا من الفاكهة المتنوّعة، ورويا البستان. ثم أخذا ينقلان الصناديق على ظهر الجحش المسكين إلى فوق حيث تركا العربة. الحِمْل في كلّ مرّة لم يكن ثقيلًا جدًّا، لكنّ الجحش الذي ما زال في طَور التمرين، كان ينوء به. لكنه جالدَ وصبر وصمد خوفًا من الخيزرانة التي ما رفعها شيبان إلا ضرب بها، ومخافة أن يستعين صاحبه يوم غد بأمّه وعقْرُها لم يبرأ بعد. آه يا أمّي، صرخ الجحش نهيقًا. الآن أعرف كم عانيتِ على هذه الدرب التي برَتْ حجارتها حوافرَك وأفنت عمرَك!
رصف شيبان وأسعد الصناديق في العربة بعد أن قطراها بإحكام، ومضيا في طريق العودة؛ فبلغا القرية قبل مغيب الشمس بساعة واحدة.
- هيّا انزلْ، قال شيبان لأسعد.
- ألن تعطيني أجري يا سيّدي؟
- أعطيك أجرك! عليك أنت أن تعوّضني ثمن الرمّانات التي قطفتَها في غير أوانها. كيف سأبيعها وهي لم تنضج بعد، كيف!
- حرام عليك. إنني محتاج إلى بعض المال يا سيّدي.
- غدًا أعطيك. إنزل الآن.
- متى غدًا؟
- سأحتاج إليك في الأسبوع القادم، فأعطيك أجر يومَين. إنزلْ ولا تضيّع وقتي يا صبي.
عندئذٍ ترجّل أسعد بطيء الحركة واجمًا؛ فانطلق شيبان في سبيله ليتوقّف عند أوّل حانوت: «زخيا. يا زخيا. ألا تريد بعض الفاكهة الطازجة لحانوتك؟». إذ ذاك خرج رجُل في أواخر العقد الثامن من العمر، وألقى نظرة فاحصة على الفاكهة، وسأل: بكم الرمّان؟
- الصندوق بخمسة وثلاثين ألفًا.
- أحامض هو أم حلو؟
- حامض.
- وهل هذا أوان الرمّان الحامض؟
- هذا من الصنف الذي ينضج باكرًا.
عندئذٍ ثنى الجحش رقبته، ونظر في عينَي صاحبه طويلًا. لكنّ صاحبه لم يفهم معنى هذه النظرة.
- ماذا قلت؟ سأل شيبان صاحبَ الدكّان.
- حسنًا، أشتريها. أجاب العمّ زخيا، ودسّ يده في جيب سرواله الواسع، وأخرج منه رزمة من الأوراق النقدية، وأعطى شيبان الثمن، ثم استدار ونادى غلامًا يعاونه: «تعال يا صبي». فحضر في الحال فتى في الثالثة عشرة من عمره: «مُرْ يا معلّمي». فأمره زخيا بنقل الصناديق إلى الداخل. «حاضر»، أجاب، ورفع صندوقًا جمع له كلّ قوّته. لكنه ما خطا به خطوتين حتى تعثّر وكاد أن يقع؛ فصاح زخيا: «انتبه يا حمار».
هذه المرّة لم ينقز الجحش لأنه أصبح يعرف أنْ ليس هو المقصود بالكلام. وبعدما تلقّى ضربة خفيفة من خيزرانة صاحبه، انطلق يجرّ العربة نحو الحانوت الثاني. ولما بلغه، شدّ صاحبه عِنانه، فتوقّف.
- ما معك اليوم؟ سألت امرأة أربعينية يقال لها أمّ نعّوم، من غير أن تنهض عن كرسيّها الذي جعلته أمام دكّانها.
- معي كلّ ما تشتهيه نفسك، أجاب وقد ارتسمت على شفتيه وعينيه ابتسامة ماكرة.
- عيب، استحي. ردّت وهي تضحك. ثم قامت، ودنت من العربة.
- بكم هذا الدرّاق؟
- لمَ تسألين!... خذيها ولا تدفعي شيئًا.
- لا، سأنقدك ثمنها.
- لكِ أنتِ بخمسة وعشرين ألفًا.
- كم كيلو فيها؟
- أربعة وعشرون، خمسة وعشرون.
- زِنْ لي نصفها.
- حاضر سيّدتي، قال، وأنزل صندوقًا، ودخل به إلى الدكان، وأفرغ نصفه في كيس كبير جعله في الميزان. ثم قال: «ثلاثة عشر كيلو بثلاثة عشر ألفًا».
- بكم عليّ أن أبيع الكيلو الواحد؟
- بيعيه بألف وخمسماية، ألف وسبعماية وخمسين.
- وكم يكون ربحي بذلك؟
- إحسبي.
حاولت المرأة أن تحسب «حساب نسوان». لكنها لم تنجح؛ فاستعانت بالآلة الحاسبة. غير أن شيبان أعطاها النتيجة قبل أن تستخلصها.
- لست هيّنًا.
- تلاميذك يا حلوة.
ناولت المرأةُ الرجُلَ ورقة نقدية من فئة الخمسين ألفًا؛ فأخذها وردّ لها سبعة وثلاثين ألفًا. لكنها مدّت يدها ببطء وهي تحسب بذهنها. ثم استعانت بالآلة الحاسبة من جديد قبل أن تهزّ رأسها وتبتسم.
رفع شيبان الصندوقة وخرج، ووضعها في العربة، وانطلق. فخرجت المرأة تشيّعه: «لا تُطِلْ غيابك عنا». فاستدار، وابتسم، وقال في سرّه: «يا لكِ من حمارة! أيقولون مات أبو نعّوم من لدغة حيّة في الوادي! لا والله. من حمرنتك مات».
ما أتمّ شيبان كلماته الأخيرة حتى طأطأ الجحش رأسه، لكنه استمرّ يجرّ العربة من حانوت إلى آخَر حتى فرغت. وعندما بلغت الرحلة محطّتها الأخيرة أمام مدخل البيت مع غياب الشمس، خرجت زوجة شيبان للقاء زوجها بإبريق الفخّار البارد؛ فشرب حتى ارتوى، ثم سأل: «هل دفعتِ القسط الأخير للصبي في المدرسة؟».
- أجل.
- وأعطتك الإدارة دفتر العلامات؟
عندئذٍ هزّت رأسها أنْ نعم من غير كلام.
- والنتيجة؟
- كالعادة.
- يعني؟
- راسب. قالت وطأطأت رأسها، ومسحت دموعها بيدها.
- هذا الصبي حمار. إذا كان هذا الجحش سيتعلّم، فابنك سيتعلّم. يا لضياع تعبي! يا للخسارة في كلّ قرش نجمعه بالعرق والدم لنتبرّع به إلى إدارة المدرسة اللعينة.
- هوّنْ عليك. غدًا يكبر ويتعلّم.
- غدًا يكبر ويتعلّم! لا يا عزيزتي. إبنك سيكبر لكن لن يتعلّم، لأنّ الجحش متى كبر فإنه لن يصبح أكثر من حمار.


عندئذٍ حملت المرأة الإبريق، ودخلت حزينة مهزومة النفس، فيما أخذ شيبان يسبّ الأولاد والذين يلدونهم وهو يفكّ العربة. ثم نزع الجُلّ عن الجحش، ومسح العرق عن ظهره، ودخل به إلى القبو؛ فسقاه وأمّه، ووضع لهما العلَف، وخرج.
دنت الأمّ من ابنها، وراحت تلحس عنقه وتشمّه وهو يلتهم علفه وقد استبدّ به الجوع. وما أنهاه حتى رقد من شدّة التعب، واستسلم لنوم عميق. وعندما أطلّ صباح اليوم الثاني وأشرقت الشمس، أخرج شيبان الجحش وأمّه إلى الحقل القريب؛ فربط الأتان إلى جذع شجرة بحبل طويل، وأطلق الجحش يرعى بقربها ما بقي من عشب أخضر.
راح الجحش يطوف في الحقل، وإذ عثر على برْكة صغيرة تجمّع فيها بعض مطر آخر أيلول، وركد حتى صفا؛ وقف عند حافّة البرْكة، ومدّ رأسه فوقها، وأخذ ينظر في صفحة الماء إلى وجهه، ويتأمّل أذنَيه الطويلتين، ويتمنّى لو انّ البرْكة كانت أكبر ليتمكّن من رؤية ذيله أيضًا.
ذيله رآه مرارًا. لكن هذه المرّة أحبّ أن يتأمّله ليعرف إن كان بشعًا حقًّا. وأذناه شاهدهما كثيرًا وهو يشرب من الأنهر والجداول، إلا أنّ اليوم به شغف ليعرف إن كانتا طويلتين جدًّا. إنه لم ينسَ بعد ما قاله صاحبه للصبيّ في البستان أمس: «أنت حمار بذنَب وأذنين طويلتين». هذه الذكرى آلمته وعصرت قلبه، ففارت دمعتان من عينيه سقطتا في الماء. ولمّا اشتدّ أساه وثقل عليه، بكى نهيقًا. وإذ سمعت أمّه بكاءه، اندفعت باتّجاهه، لكنّ رباطها منعها من أن تصل إليه؛ فنهقت تناديه؛ فمشى نحوها وئيد الخطوة، مطأطأ الرأس.
- ما بك؟ لماذا تبكي يا ولدي؟ قالت الأمّ وهي تدور حوله وتحتفّ به. ثم استدركت: «يا لي من حمارة! كيف أسأل وأنا أعرف أنك تعبتَ أمس كثيرًا... لا تقلق يا حبيبي. في المرّة القادمة سأذهب أنا إلى البستان. أنظرْ. لقد طاب جرحي. أذهبُ أنا وأنت تبقى هنا».
- ليس تعبي ما يبكيني يا أمّي.
- ما الذي يبكيك إذًا!
لاذ الجحش بالصمت الحزين قبل أن يرفع رأسه ويقول: «أترين أذنيّ طويلتين يا أمّي؟».
- ليس كثيرًا. أجابت الأمّ وقد سُرّيَ عنها وزال همّها، وأضافت: «لكنك ما زلت صغيرًا. غدًا تكبر وتصبح أذناك أطول وأجمل».
- لا. لا أريد لأذنيّ أن تطولا بعد.
- ولكن لماذا!
- لأنّ الإنسان يعدّ الأذنين الطويلتين علامة حُمْق وغباء. هكذا قال، وقصّ على أمّه حكاية صاحبه مع الصبيّ أسعد في البستان. ثم قصّ عليها حكايته مع سائق السيّارة التي مرّت مسرعة، ومع الحانوتي زخيا، والأرملة، ثم مع ابنه الذي رسب في امتحان نهاية السنة الدراسية، وأضاف: «هل، نحن الحمير، حمير إلى هذا الحدّ يا أمّي؟».
عندئذٍ أخذت الأمّ تنهق ضحكًا. ثم عادت إلى رصانتها، وقالت: «إسمع يا ابني. إن كان لنا، نحن الحمير، آذان طولها شبر، فحريّ ببعض بني آدم أن تكون آذانهم بطول متر... نحن أذكى من أناس كثيرين يدّعون النباهة والذكاء، ذلك أنك قلّما تجد إنسانًا يحفظ دربًا سلكها لمرّة واحدة، أما نحن فنحفظها من أوّل مرّة. وإنك لتجد الإنسان يدرس ويسهر ويقضي سنوات طويلة من عمره في الجامعة ليصبح قادرًا على هندسة طريق. أما نحن فنهندسها بالفطرة والسليقة. أما سمعتَ أنّ مهندسي الطرقات قديمًا كانوا الحمير!».
- وهل ما زالوا حميرًا إلى اليوم يا أمّي؟
عند ذاك ضحكت الأمّ طويلًا لفصاحة ابنها، وهي لا تعلم إن كانت عبارته تنمّ عن ذكاء أم عن «جحشَنة». فضحك الجحش لضحك أمّه. لكنه انقطع عن الضحك فجأة لرؤيته بقرة تقترب وتأخذ برعي ما بقي في الحقل من عشب يغالب الجفاف واليباس.
- أنظري يا أمّي، قال الجحش. هذه البقرة اللعينة جاءت تقاسمنا مرعانا. سأذهب لطردها وإبعادها.
- لا يا ابني، لا. هذا من أخلاق الإنسان وأعماله؛ فحذارِ أن تتأنْسَن. إنّ خيرات الأرض أكثر من أن تفنى، ورحمة الخالق أوفر من أن تنضب. دعها ترعَ مطمئّنة بجوارنا، فما يُشبع اثنين يكفي ثلاثة.
*   *   *
ومرّ أسبوع ثانٍ وعُقْر الأتان لم يَطِب تمامًا، لذلك رأى شيبان من الحكمة أن يدعها ترتاح بعد، ويخرج بالجحش مرّة ثانية، خصوصًا أنه رأى منه في المرّة السابقة قوّةً وصبرًا لم يكن يتوقّعهما؛ فخرج به من غير أن يلقي بالًا على نهيق أمّه وفحصها الأرضَ بحوافرها وشدّها بالرسَن إلى الخلف ليأخذها صاحبها بدلًا من ابنها.
كالمرّة الأولى جلس شيبان في مقدّم العربة، وهزّ زِمامَ الجحش. وعندما بلغ آخِرَ البلدة، أقلّ أسعد، ومضيا في طريقهما؛ فوصلا إلى البستان والعصافير ما زالت نائمة في أعشاشها، والثعالب تسرح في الكروم التي غاب عنها نواطيرها.
جال شيبان على أشجار البستان كلّها، وأوصى أسعد ما عليه أن يقطف وما لا يقطف، فيما انصرف هو إلى ريّ النصف الثاني من البستان. وبعَيد الظهر كانا يسيران خلف الجحش صعودًا في آخِر مشوار إلى العربة. وما مضى من الزمن ساعة جالَدَ فيها الجحش وجاهد أقلّ بقليل من المرّة السابقة، شدّ صاحبه رسنه؛ فتوقّف قبالة بيت أسعد في أوّل القرية.
أخرج شيبان من جيبه بضع وريقات نقدية، ومدّ يده نحو أسعد: «خُذْ».
- كم هذه يا معلّمي؟
- عشرون ألفًا.
- ألم نتّفق على خمسة عشر ألفًا في اليوم الواحد؟
- بلى. لكن لا تنسَ أنك ألحقتَ بي ضررًا كبيرًا في ذلك اليوم بقطفك ثلاثة صناديق من الرمّان الحامض، أليس صحيحًا؟
- ولكن لا بدّ من أنك بعتَها ولو بأقلّ من ثمنها المعتاد بقليل.
- لا. لقد أتلفتها لأنّ أحدًا لم يشترها.
- أرجوك يا معلّمي أعطِني ولو خمسة آلاف بعد؛ فأبي مُقْعَد، كما تعلم، وأمّي مريضة، وأنا أكبر الأولاد.
- وما شأني أنا بكلّ هذا؟ هيّا، خُذ العشرين ألفًا وانزلْ، وإلا اكتَرَيْتُ ولدًا غيرك في المرّة القادمة.
- شكرًا. قال أسعد وهو يمدّ يده وينظر جانبًا ناحية صندوقَين ملأهما الرجُل بحبّات من الفاكهة صغيرة الحجم لا تُباع في السوق، علّه يعطيه منها شيئًا لإخوته. لكنّ الرجُل تجاهل الأمر، وأمر أسعد بالنزول مرّة ثانية؛ فقفز من العربة، ودخل يمسح عينيه بيديه. إذ ذاك بكى الجحش لبكاء الصبيّ، ثم مضى يجرّ العربة حتى شدّ صاحبه عِنانه أمام حانوت زخيا، وقد هالَ شيبانَ أن يشاهد أمام الحانوت جمهرة من أهل القرية في جلبة وضوضاء، وبضعة رجال من الدرك يدخلون ويخرجون، ويأخذون الشهادات، ويدوّنون المشاهَدات.
- ما الأمر! سأل شيبانُ أحدَهم، وقد أثقلت المفاجأة لسانه.
- إنه العمّ زخيا. لقد نقلوه إلى المستشفى بسيّارة الإسعاف وهو بين الحياة والموت.
- ماذا تقول! ما الذي جرى له؟
- نزلت زوجته من البيت بُعَيد الظهر لتقول له إنّ طعام الغداء جاهز، ففوجئت برؤية باب الدكّان مقفَلًا. ولمّا فتحته، رأت زوجها المسكين مطروحًا على الأرض، موثوق اليدين والقدمين، وقميصه مخضّب بالدم.
- يا إلهي!
- وكان الجارور مفتوحًا وخاليًا.
- أتقول إنها فِعْلة الفتى الذي يعمل لديه؟
- رجال الدرَك يبحثون عنه بعدما رفعوا البصمات عن مقبض سكّين وجدوها ملقاة على الأرض ونصلها مصبوغ بالدماء.
- مسكين يا زخيا، قال شيبان وهو ينطلق، وأضاف تمتمة: «لقد كنت تشتري بضاعتي من غير مساومة. لمَن أبيع الفاكهة قبل نضجها بأغلى الأسعار بعد اليوم؟».
ضرب شيبان عنق الجحش بالزِمام من جديد؛ فمضى بالعربة يحمحم لاعنًا كلّ الصفات التي عاينها في الإنسان حتى الآن. ثم توقّف من تلقائه أمام دكّان أمّ نعّوم الأرملة.
- كيف عرفتَ أني أريد التوقّف هنا يا ملعون؟ قال شيبان وهو ينزل ويربّت عنق جحشه، ويداعب أذنيه. ثم رفع صندوقًا فيه من الفاكهة أصناف شتّى، ودخل به الدكّان، ووضعه على الأرض.
- بكم هذه؟
- لن آخذ منكِ ثمنها هذه المرّة أيتها الجميلة.
- ما ستأخذ إذًا؟ سألت وعلى شفتيها ابتسامة ماكرة، وفي عينيها نظرة حوّاء المغرية.
- قبلة صغيرة، قال، وهمَّ بوضع كفّيه على كتفَي المرأة؛ فتملّصت بخفّة: «عيب. ليس هنا». هكذا قالت، وأمسكت شيبان من معصمه، وقادته إلى الخارج، وأغلقت الدكّان، وقالت بعدما التفتت يمنة ويسرة: «تعال». وصعدت الدرجَ أمامه؛ فتبعها يبتسم بسعادة، ويفتّل شاربَيه.
مكث الجحش زهاء نصف ساعة ينتظر تحت أشعّة الشمس الكاوية، ويتحرّق عطشًا. وإذ حانت منه التفاتة ناحية بيت الأرملة، شاهدَ الأخيرةَ عبر النافذة تلفّ ذراعَيها حول عنق شيبان وتعانقه عناق الوداع، ولم تكن ترتدي إلا فستانًا يُظهر من جسدها الرشيق أكثر مما يستر. وعندما نزل شيبان، استقلّ العربة، ومضى في سبيله وهو يلتفت مبتسمًا إلى المرأة التي كانت تشيّعه بنظراتها من خلف الزجاج.
في فِناء البيت فكّ شيبان العربة، وقاد الجحش إلى القبو؛ فكان بينه وبين أمّه من لمس وشمّ ما كان في اليوم الأوّل. وعندما وضع صاحبهما لهما العَلَف وخرج، لم يمدّ الجحش إليه فمًا؛ فسألته أمّه: «لمَ لا تأكل يا بنَيّ؟»؛ فأجاب: «نفسي لا تشتهي الطعام يا أمّي». وإذ نظرت أمّه إليه بعين حزينة، قال: «أتقولين إنّ أخلاق الإنسان الرديئة يمكنها أن تنتقل إلينا بالعدوى؟».
- لماذا تسأل؟ قالت الأتان وهي تضحك.
- لأني رأيت اليوم من بني البشر أعمالًا تقشعرّ لها الأبدان ويندى الجبين. قال وفي نهيقه نغَم حزين.
- إني أصغي.
وقصّ الجحش على أمّه ما عاينه من كذب صاحبه على الولد المسكين أسعد ليأكل بعض تعبه، ويقتطع شيئًا من أجره. وقصّ عليها ما سمعه أمام دكّان زخيا.
- مسكين زخيا. إنه رجُل طيّب، قالت الأتان.
- لا بدّ من أن تظهر الحقيقة، وينال الفاعل جزاءه.
- الحقيقة... الحقيقة. ردّدت الأمّ كأنها تحدّث نفسها. ثم نظرت في عينَي ابنها، وقالت: «لتعرفْ يا ولدي أنّ الإنسان متى امتلك المال والقوّة والسلطة، فإنه يُلبس الحقيقة القناع الذي يريده».
لم يفقه الجحش مما قالته أمّه الكثير؛ فتابع يحدّثها عمّا رآه في بيت الأرملة، وأضاف: «أنا لم أعُد صغيرًا يا أمّي. لقد صرت أفهم هذه الحركات». عندئذٍ ابتسمت الأتان وسُرّت لتيقُّنها من أنّ ابنها قد شبّ عن الطوق. ومضى الجحش يقول: «لكن ما آلمني حقًّا هو أن أرى زوجة معلّمنا تخرج لملاقاة زوجها بإبريق الفخّار؛ فيقول بفظاظة: «لست عطشانًا». وعندما دنت منه أكثر لطبع قبلة على وجنته، كما فعلت في المرّة السابقة، قال منزعجًا: «أوه! أهو وقته الآن!». فارتدّت المسكينة خائبة وحزينة.
- إنها الأرملة يا ابني. إنها الأرملة.
- أقلتِ إنّ أخلاق الإنسان لا تُعدي الحمير يا أمّي؟
- لا تقلق بهذا الشأن يا ولدي. فالكذب، والخداع، والطمع، والخيانة، ميكروبات بشرية لا تعيش فينا نحن معشر الحمير.
هذا الحديث أراح الجحش؛ فأقبل على علفه يلتهمه التهامًا؛ فما كان من الأمّ إلا أن دنت من ابنها، ولكزَتْ كتفه بكتفها دعابةً، وسألته باسمة: «أقلتَ إنك لم تعُد صغيرًا، وصرت تفهم حركات الكبار؟». لكنّ الجحش استحيى، ولم يُجب. فاحتفّت به أمّه، وقالت: «ألا ترغب في صديقة أو زوجة يا صبي؟». ولم تمهله جوابًا؛ فأردفت: «اليوم وجدتُ لك جحشة بنت ناس... أقصد بنت حمير».
- هل أذناها طويلتان يا أمّي؟
- ليس كثيرًا. هكذا أجابت وهي ترقص في مكانها وتضحك سعيدة لأنها أيقنت أنّ ابنها كان بالأمس جحشًا، وأصبح اليوم حمارًا.