- En
- Fr
- عربي
حرب لبنان الثانية وتداعياتها العسكرية
أولاً- الحرب في سياقها السياسي - الاستراتيجي:
تعود جذور حرب تموز/يوليو 2006 أو ما سميّ بحرب لبنان الثانية (بعد حرب لبنان الأولى العام 1982)، إلى العام 2000 الذي شهد حدثين على جانب كبير من الأهمية وهما، أولاً: انتصار المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله، وتحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي، وثانياً فشل مؤتمر كامب ديفيد الثاني الذي دعا إليه الرئيس الأميركي بيل كلينتون وجمع فيه إيهود باراك مع ياسر عرفات للبحث عن تسوية نهائية للقضية الفلسطينية. ولأول وهلة بدا الحدثان وكأن لا رابط بينهما. غير أنهما تفاعلا معاً في الواقع ليؤثرا بشكل معين على مسار الأحداث اللاحقة. فلو أن مؤتمر كامب ديفيد الثاني كان نجح في التوصل إلى اتفاق يمهّد الطريق لمعاهدة سلام فلسطينية - إسرائيلية تستجيب للحدّ الأدنى من الحقوق الفلسطينية، وتؤسس لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، لكانت الأحداث على الجبهة اللبنانية - الإسرائيلية قد اتخذت مساراً مختلفاً عمّا حصل بالفعل، ولأمكن حينئذ تصوير الإنسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان وكأنه خطوة على طريق تسوية شاملة للصراع العربي - الإسرائيلي على مختلف المسارات، على أساس العودة التدريجية إلى حدود العام 1967 غير أن مجمل أحداث المنطقة أخذت مساراً مختلفاً لأن الصفقة التي قدمها باراك وحاول كلينتون إدخال بعض التحسينات عليها، كانت في الواقع بالغة المرورة وأقل بكثير من الحد الأدنى الذي يمكن لأي زعيم فلسطيني، مهما بلغ اعتداله، أن يقبل به، وأكبر بكثير من الحد الأقصى الذي يمكن لأي زعيم يميني إسرائيلي تقديمه. وبعبارة أخرى يمكن القول إن مؤتمر كامب ديفيد الثاني كان بمثابة النور الساطع الذي كشف حجم المأزق الذي دخلته التسوية في المنطقة، في الوقت الذي كانت مقاومة حزب الله تقدّم بانتصارها في 24 أيار/مايو(العام 2000) نموذجاً مشرقاً. والتفاعل المباشر أو غير المباشر ما بين مأزق أوسلو على المسار الفلسطيني، مع البديل الذي قدّمه حزب الله على الجبهة اللبنانية، ساهم مساهمة فعالة في وصول اليمين الإسرائيلي بقيادة آرييل شارون إلى السلطة في إسرائيل، وأسهم في الوقت نفسه في إشعال، وربما عسكرة، انتفاضة الأقصى.
وبوصول اليمين الأميركي المتطرف بقيادة الرئيس بوش الإبن إلى السلطة في نهاية العام 2000 ثمّ تسلّم شارون السلطة في إسرائيل مطلع العام 2001 دخلت عملية التسوية برمتها في حالة موت سريري بدأت بمحاولة عزل عرفات وتحجيمه سياسياً، ومن ثمّ غيابه (تصفيته على الأرجح)، ربما لرفضه الدخول في حرب أهلية قاتلة مع حماس والجهاد الإسلامي. وفي هذا السياق وقعت أحداث 11 أيلول التي هزّت الولايات المتحدة الأميركية وغيَّرت مسار النظام العالمي، ومنحت المحافظين الجدد فرصة ذهبية لوضع مشروعهم عن «القرن الأميركي الجديد» موضع التنفيذ، وتمكين الهيمنة الأميركية المنفردة على العالم، في وقت منحت آرييل شارون الفرصة التي طالما انتظرها للحصول على ضوء أميركي أخضر للإنقضاض أولاً على حماس والجهاد وتصفيتهما، وإيجاد ذريعة عدم وجود شريك فلسطيني في عملية السلام، تمهيداً لتصفية عرفات نفسه، ومن ثمّ الالتفاف على المقاومة اللبنانية لتصفيتها وخنقها، من أجل وضع إسرائيل في محيط إستراتيجي جديد ومريح من شأنه أن يمكّنها من التحرك المستقبلي نحو آفاق إستراتيجية أوسع وأبعد عبر التصدّي لكل من سوريا وإيران و«الدول المارقة» المنخرطة في «محور الشر». وذلك ضمن سياق ما سمّي «الحرب الكونية على الإرهاب».
وهكذا جرى تصنيف كل منظمة تحمل السلاح ضد إسرائيل في فلسطين أو لبنان أو أي مكان آخر، على أنها مجرد تنظيمات إرهابية لا تختلف كثيراً عن تنظيم القاعدة بقيادة بن لادن. وفي هذا السياق قام شارون بتدمير السلطة الفلسطينية وبناها التحتية التي كان الأوروبيون قد ساعدوا على بنائها وتمويلها، وقامت أميركا باحتلال كل من أفغانستان والعراق في مسعى كبير لتحقيق عدة أهداف أساسية أبرزها بنظرنا:
1- الحضور المباشر والمكثف في المنطقة من أجل السيطرة على منابع النفط باعتباره إحدى أهم وسائل التحكم وأدواته في موازين القوة في النظام العالمي.
2- التمكين لإسرائيل كقوة إقليمية عظمى بإعتبارها الحليف الوحيد الموثوق به في المنطقة.
3- إزاحة أو ضعضعة النظم المعادية للسياسة الأميركية في المنطقة كلما حانت الفرصة، والضغط في الوقت نفسه على الأنظمة الحليفة لإجراء إصلاحات سياسية وثقافية جذرية تستهدف استئصال ثقافة المقاومة - «الإرهاب» حتى لو تطلب الأمر إعادة رسم الخارطة الجيوسياسية والمجتمعية في المنطقة.
وفي هذا السياق بات واضحاً أن النظامين الإيراني والسوري قد وضعا تحت مرمى النيران الأميركية. فإيران في الإدراك الأميركي قبلة التيارات الإسلامية «الأصولية المعادية» للمصالح الأميركية، فضلاً عن أن برنامجها النووي يمكن أن يشكل على المدى البعيد ولو في الحدود النظرية تهديداً لإسرائيل حليفتها الأولى. أما سوريا التي كان الغزو العراقي للكويت العام 1990 قد فتح أمامها نافذة لتحسين علاقاتها بالولايات المتحدة، فلم تعد لها الأهمية الإستراتيجية نفسها، في المنظور الأميركي، في أعقاب سقوط نظام صدام حسين واحتلال العراق، فضلاً عن تشدّد موقفها من الصراع العربي الإسرائيلي وارتباطها بعلاقات استراتيجية مع إيران وحزب الله وبعض حركات المقاومة الفلسطينية.
من هنا يمكن القول إن منطق الأمور كان يدفع بالإدارة الأميركية نحو التفكير جدياً في توجيه ضربة عسكرية إلى إيران أو سوريا أو كليهما معاً، بمجرد استقرار أوضاعها في العراق. غير أن تعثر مشروعها هناك أجبرها على مراجعة خططها وتغيير أساليبها في معالجة الملفين الإيراني والسوري، بحيث تم استبعاد الخيار العسكري مؤقتاً، وأصبح الملف النووي بمثابة المدخل الملائم للضغط على إيران، وصار الملف اللبناني، بما فيه المقاومة، بمثابة المدخل الملائم للضغط على سوريا. ولأنه كان من الصعب على واشنطن ان تلج إلى أيّ من الملفين منفردة، فإنها بدت في حاجة ماسة إلى تصحيح علاقاتها مع الدول المتمردة في أوروبا، وخصوصاً فرنسا، من خلال طيّ صفحة الخلافات التي أثارتها حرب العراق، والانفتاح على مشاريع سايكس- بيكو جديدة في المنطقة يكون لفرنسا فيها حصة محترمة من خلال استعادة نفوذها ومواقع القوة التاريخية الخاصة بها، ولا سيما على الساحة اللبنانية، فكانت زيارة موريس غوردو مونتاني مبعوث الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك إلى الرئيس السوري بشار الأسد في تشرين الثاني/نوفمبر 2003 والتي طالبه فيها بالقيام بمبادرة حسن نية، بعد تغيّر المعطيات الإقليمية والدّولية، مثل القيام بزيارة إلى القدس(1). وجاء القرار الفرنسي الأميركي المشترك الرقم 1559 ضمن إطار الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، ومن ثمّ جاءت جريمة اغتيال رئيس الحكومة اللبناني السابق رفيق الحريري لتطلق سلسلة من التفاعلات التي أدّت أول ما أدت إلي انسحاب سوريا من لبنان عسكرياً بصورة مهينة، وكان يفترض بها ألاّ تتوقف قبل أن تنتهي بنزع سلاح حزب الله والسلاح الفلسطيني داخل المخيمات وخارجها.
غير أن التحرك السياسي لحزب الله بالتنسيق مع قوى لبنانية أخرى معادية للنفوذ الغربي ساعد على إيجاد وضع سياسي داخلي استحال معه تنفيذ القرار المذكور آنفاً إلا في إطار تفاهم وطني لبناني، الأمر الذي كبح جماح المشروع الأميركي- الفرنسي في لبنان، وأكد استحالة نزع سلاح المقاومة التي أصبحت ممثلة في الحكومة التي تشكلت على أثر الانسحاب السوري. وهنا جرى البحث عن طرق أخرى لتنفيذ القرار الدّولي 1559 بالقوة. وعلى هذا الأساس بدأت المشاورات الأميركية- الإسرائيلية السرية للتخطيط لعمل عسكري في لبنان، من قبل أن يقوم حزب الله بعمليته التي أسفرت في ساعاتها الأولى عن مصرع 8 جنود إسرائيليين وأسر اثنين وجرح ثمانية آخرين. وعلى الرغم من أن إسرائيل لم تكن مضطرة إلى القيام بحرب شاملة في أعقاب ذلك، إلاّ أنها ولأسباب كثيرة فضّلت توظيف الأزمة لتنفيذ خطط مرسومة سابقاً مع الولايات المتحدة لتغيير قواعد اللعبة في المنطقة برمتها، وهذا ما كشف عنه تقرير «سايمور هيرش» المنشور في صحيفة «نيويوركر» وتقرير «واين ماديسون» الذي نشر في الصحيفة نفسها (وترجمت صحيفة «السفير» اللبنانية في عددها الصادر بتاريخ 15/8/2006 مقتطفات مطوّلة منه). وقد ورد في هذا التقرير، بعض التفاصيل عن اللقاء الذي جمع كلاً من نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني ورئيس وزراء إسرائيل الحالي إيهود أولمرت، إضافة إلى ثلاثة وزراء إسرائيليين سابقين هم نتنياهو وباراك وبيريس، وبحضور النائب ناتان شيرانسكي، تمّ فيه وضع اللمسات الأخيرة لعدوان تموز/يوليو والذي كان يرمي إلى تدمير حزب الله عسكرياً بصورة نهائية. وهذا ما تجلّى أيضاً في تصريح وزيرة الخارجية الأميركية رايس حول «شرق أوسط جديد يولد من رحم الأزمة اللبنانية»، وهو شرق أوسط خالٍ من أي مقاومة وبحيث تكون فيه سوريا ضعيفة إلى درجة تضطر معها إلى التخلّي عن تحالفها مع إيران وربما مع المقاومة الفلسطينية أيضاً والقبول بشروط إسرائيل للتسوية في الجولان ولبنان.
هذا هو باختصار السياق السياسي-الاستراتيجي لاندلاع حرب تموز/يوليو 2006 ، أمّا السياق العسكري وتداعياته على الواقع الإسرائيلي، وهو موضوع البحث الذي نحن معنيون به، فسوف نعالجه أولاً من زاوية كونه نمطاً مما يسمى الحرب اللامتماثلة أو غير المتناظرة، في ظل قواعد اشتباك متغيِّرة وباعتباره نوعاً من أنواع حرب الإجتياجات المحدودة، ومن ثمّ ننتقل إلى معالجة حيثيات الحرب في مفاهيمها المغلوطة لاستخدام القوة العسكرية، وما يرتبط بها من سقوط مفهوم الردع الإسرائيلي، وانكشاف الجبهة الداخلية وتراجع الجاهزية القتالية، بالإضافة إلى المتغيرات التنظيمية والهيكلية التي طرأت على الجيش الإسرائيلي من جراء فشل الغزو في تدمير المقاومة.
ثانياً- الحرب في تصنيفها العسكري:
في بحث أجراه بعنوان «تغيير الإستراتيجيا من أجل محاربة الإرهاب» يتحدث الباحث الإسرائيلي رون بن يشاي(2) عن الحرب بين قوات نظامية وقوات حرب عصابات، ويسميها «الحرب غير المتناظرة»، ويقول إن في الأمر مفارقة تكمن في أن الوسائل والأساليب العسكرية المتخدة لتقويض المقاومة والمتبعة لفترات طويلة وبجرعات كبيرة، تعطي عادة عكس النتائج المرجوّة. ذلك أن النشاط العسكري، على اختلافه، مع ما يسببه من معاناة ومآسٍ، يمكن أن يدفع سكاناً غير مقاتلين إلى المشاركة في الإرهاب أو التطوّع لتنفيذ هجمات. وليست إسرائيل وحدها التي تجد نفسها عاجزة أمام هذه المفارقة، فكذا هي حال الأميركيين في العراق والروس في الشيشان والإسبانيين في إقليم الباسك...
ولاحظ بن يشاي أن تأييد مقاومة الإحتلال يتصاعد وينمو بالتناسب مع تصاعد عمليات القمع والإكراه التي تقوم بها القوات المحتلة ونموها، وهذا ما هو حاصل في كل من لبنان وفلسطين. كما أن تأييد العمليات العسكرية من قبل المواطنين المدنيين يتزايد مع تزايد عمليات العدوان وتشديد القيود المفروضة على حركة السكان ومصالحهم.
ولذلك تنبع مفارقة الحرب غير المتناظرة أيضاً من حقيقة أن المقاومة ليست ظاهرة عسكرية نظامية صرفة، بل هي حركة مدنية بامتياز. وهؤلاء المدنيون يستخدمون في معظم الأحيان أسلحة ومواد وتكنولوجيات بدائية يشترونها من أسواق المدينة ويصنعونها في بيوتهم، وبالتالي فـإن «المنظمات والعصابات الإرهابية ليست جيشاً ولا تعمل كجيش، وغالباً ما تبقى بناها التحتية البشرية والمادية سليمة إلى حدّ بعيد»، على حد قول بن يشاي الذي يضيف أنه «لدى السكان المدنيين، يظل المرء قادراً على العثور على كيس من السماد الكيميائي وأنبوب معدني ليصنع قنبلة أو صاروخاً من الأنواع البدائية. وعلى الدّوام يبقى هناك مدنيون حاضرون للحلول محل القادة والناشطين الذين تجري تصفيتهم». والأهم من ذلك بحسب بن يشاي أن «الدافع الذي يغذّي الإرهاب بكل الزخم المعنوي والطاقات المادية، يستمد قوته من موارد مدنية مثل: طموحات وطنية، دين، أيديولوجيا، تحريض، ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة، معاناة شخصية، رغبة في الإنتقام، إضطراب نفساني ... الخ. ومن المعلوم أن التعاطي مع مثل هذه الموارد لا يمكن أن يتم بالطرق العسكرية، كما أن العمل العسكري يبقى عاجزاً عن قطع الإيرادات المالية التي يحصل عليها الإرهابيون».
ويستفيض بن يشاي في شرح هذه الإلتباسات والمفارقات بالقول إنه قد يقول البعض إن تحجيم دوافع الإرهابيين وردع النّاس عن تقديم الدّعم لهم يمكن أن يتحقق عن طريق استخدام العنف وشنّ الحملات العسكرية القاسية والحاسمة، وهذا يمكن أن يصحّ في بعض الأحيان، ولكن الشخص الذي يجد نفسه وأهله في أوضاع تكون فيها حياتهم وحريتهم وكرامتهم مهدّدة بالخطر والإهانة، يدرك تماماً أن هناك أموراً غير مادية أيضاً، يصبح معها التخويف عديم الفاعلية إزاء عوامل أخرى، كالغضب والإحساس بالعار والضغط الإجتماعي والثأر للكرامة، وما إلى ذلك. ومن هنا حتى الأنظمة الديكتاتورية عبر التاريخ كانت عاجزة باستمرار عن إخماد حرب شعبية عصابية عن طريق استخدام القوة والعنف فحسب، فكيف بالأنظمة الديموقراطية!
في مقابل ذلك فإن المنظور الثقافي ـ السياسي السائد لدى المقاومة للصراع في المنطقة وعليها ينتمي إلى مصطلحات الصراع على الوجود: نكون أو لا نكون، نحن أو هم. وإذا كان صنّاع القرار والمنظّرون في الولايات المتحدة (لا سيما من المحافظين الجدد)، لا يدركون هذه الحقيقة، أو يتغاضون عنها، فإسرائيل تدرك ذلك تماماً، بحكم معرفتها بالمجتمعات العربية، وبواقع تجربتها الخاصة. ولكن مشكلة إسرائيل هنا في الوقت نفسه، أنها تأسّست كدولة بوسائل القوة والقهر، وأنها ما زالت تعيش هاجساً مزمناً يتعلق بوجودها وضمان استمرارها، وهي تغطي ذلك، أو تعوّض عنه، بالمبالغة بالتعويل على استخدام القوّة المفرطة، والاتكاء على تفوّقها العسكري المطلق، بالاعتماد على «الجيش الذي لا يقهر»، واحتكار التسلح النووي، وضمانة الولايات المتحدة لأمنها واستمرار تفوّقها في هذه المنطقة.
وفي صراع كهذا يتم استدعاء كل خلفيات الموروث الثقافي والديني والنفسي والتاريخي. وضمن هذا الإطار يكتسب الصراع على الأرض مكانة قدسية؛ فالوطن يأتي أولاً. وهذا المنظور لا يأخذ في حساباته الخسائر المباشرة (البشرية والمادية) أو تحقيق الإنجازات الملموسة، بقدر ما يأخذ حسابات القدرة على إدامة الصراع وإرباك العدو وتحصيل إنجازات معنوية، بحيث يحتسب ذلك إنجازاً بحد ذاته. ومن هنا فالحروب التي يشنّها الجيش الإسرائيلي على المقاومة في المنطقة إنما تأتي في سياق من الفعل وردود الفعل، بحيث تأتي على شكل دوامة من الحروب الدورية، التي لا تفضي إلى شيء، سوى إلى تكريس الكراهية وتنمية الأحقاد ونشر العنف والإكراه والهيمنة في الشرق الأوسط، وفي العلاقات الدولية، بدلاً من إعلاء قيمة الحياة والإعمار والسلام القائم على العدل.
من هذا المنطلق وجدت إسرائيل نفسها مضطرة إلى اللجوء إلى أساليب ربما مبتكرة، للفصل بين المقاتلين ومجتمعهم (الفصل بين السمك والماء الذي يسبح فيه)، من خلال استراتيجية يقترحها بن يشاي ويبنيها على أربعة أسس هي:
1- إيجاد حالة صراع أو تضارب في المصالح السياسية والمادية بين الجماعات الإرهابية من جهة والسكان غير المقاتلين من جهة أخرى.
2- تغيير طبيعة النشاط العسكري، بحيث تكون الأجهزة الإستخبارية مسؤولة عن المعركة ضد الإرهاب فتدير العمل الميداني وتوجه العمليات العسكرية/الأمنية من أجل الحدّ ما أمكن من احتمال تعرّض السكان غير المقاتلين للأضرار النفسية والمعنوية والمادية. وهذا النشاط يمكن تسميته بالنشاط الإستهدافي الموضعي والإستباقي، ما يستوجب توفير موارد بشرية كافية في السلك الأمني ووسائل تكنولوجية متطورة لجمع المعلومات.
3- تعزيز منظومات الدفاع المدني المضادة للإرهاب في إسرائيل والمناطق المحتلة.
4- تقويض الشرعية التي يسبغها الرأي العام على الممارسات التي تعتبرها إسرائيل إرهابية.
لقد حاولت إسرائيل تطبيق هذه المبادىء في المواجهات العسكرية غير التقليدية الدائرة في كل من فلسطين ولبنان منذ اجتياح لبنان الأول العام 1982 وحتى في الاجتياح الثاني والذي استمر 33 يوماً (من 12/7 إلى 14/8/2006) واعتبر بمثابة أطول الحروب التي خاضتها إسرائيل منذ قيامها، وأكثرها تعقيداً وصعوبة وكلفةً من النواحي المادية والبشرية والمعنوية.
في مطلق الاحوال كانت إسرائيل، إزاء الحرب الأخيرة مع المقاومة، تأخذ في الحسبان جملة معطيات أهمها أنها لا تملك عمقاً استراتيجياً، ولا تستطيع تشغيل قواتها لفترة طويلة، مع وجود علاقات تبادلية بين الدفاع والهجوم، وحسم الحرب في البرّ بالإستفادة من القوة البرية المتحركة المدرعة. وفي المنحى ذاته، ركّزت النظرية العسكرية الإسرائيلية على منع الضربات المضادة الموجهة ضد المراكز السكانية الكبيرة والمراكز الصناعية الحيوية في إسرائيل، وتدمير القوات الرئيسة للعدو قبل أن تصل الى الأراضي الإسرائيلية، مع إضعاف إرادة العدو على الاستمرار في القتال. إلا أن هذه الخطة الاستراتيجية أخفقت بشكل ذريع حيث تعرضت المدن والمستوطنات الاسرائيلية للقصف في العمق، في حين كانت القوات الجوية تخوض حرباً على الطرف الآخر. وفي ظل الغموض الذي يكتنف مكانة سلاح الجو في إسرائيل، أعيدت النقاشات حول إمكان إخضاع العدو بالقدرة الجوية فحسب، حيث أن المعركة شهدت مفاجآت نوعية في مجرياتها الميدانية والعملانية، وجعلت قدرة إسرائيل في مجال المناورة، أمام اختبارات صعبة وشكوك متزايدة، بفعل تركيز العمليات العسكرية في مناطق قتالية يشكل فيها الشعب الإسرائيلي نسبة 80% من مناطق الشمال والجليل الأعلى، (هذا اذا أخذنا بالاعتبار فشل معظم البرامج الإسرائيلية في اجتذاب الإستيطان الى مناطق النقب، وذلك بفعل وجود المنشآت النووية الإسرائيلية ولا سيّما مفاعل ديمونة المشهور)، وكذلك بعض المنشآت الكيميائية الحيوية التي تتركز أيضاً في الشمال والتي هي في مرمى صواريخ المقاومة اللبنانية. كما أن اسرائيل لا تستطيع تحمّل الخسائر في الأفراد من المدنيين والعسكريين على السواء والتي سوف يفرضها سياق الحرب.
وقد تحدث العديد من المعلقين والخبراء العسكريين الإسرائيليين عن نتائج سلبية تعرضت لها القدرة القتالية لقوات الجيش الإسرائيلي، والأداء الميداني لعناصر هذا الجيش وضباطه، بسبب الاضطلاع بمهام الأمن ومطاردة قيادات الفصائل الفلسطينية المسلحة وعناصرها في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ اندلاع إنتفاضة الأقصى في أيلول/سبتمبر العام 2000 . ومن الملفت للنظر أن هذه النتائج السلبية لم تقتصر على الحرب ضد لبنان بل كانت واضحة في قطاع غزة أيضاً حيث تمكّن بعض الفصائل الفلسطينية من أسر الجندي «جلعاد شليط» في حين أخفقت قوات الأمن الإسرائيلية في العثور عليه أو تحريره على الرغم من كل الجهود التي بذلتها على غير صعيد لتحقيق ذلك. ومعلوم أن حزب الله كان قد أعلن في مناسبات عديدة بأنه لن يتوانى عن أسر جنود إسرائيليين عندما تسنح له الفرصة، بغية مبادلتهم بالأسرى اللبنانيين الموجودين في سجون الإحتلال منذ أكثر من ربع قرن، وهذا ما تمّ تثبيته في البيان الوزاري للحكومة، مع الاستناد إلى القانون الدّولي الذي يجيز مقاومة المحتل. وعلى هذا الأساس جاءت عملية «الوعد الصادق» التي نفّذها حزب الله والتي أسفرت عن أسر جنديين إسرائيليين، فيما إتخذتها إسرائيل وحلفاؤها ذريعة لشن العدوان الذي ثبت باعتراف مصادر إسرائيلية أيضاً، أنه كان مدبّراً قبل العملية بكثير.
ثالثاً- الحرب في أهدافها ومجرياتها
كانت الاستراتيجية العسكرية التقليدية التي اعتمدتها إسرائيل دائماً، تستند إلى عدة ركائز ومعطيات عسكرية وثقافية من أبرزها:
أ- بناء جيش صغير وسريع الحركة، مدعم بأحدث ما في الترسانة العالمية وخصوصاً الأميركية من أسلحة.
ب- تأمين قدرة الجيش على السيطرة الكاملة في مجال القوة الجوية أولاً وفي مجال المدرعات وكثافة النيران والسيطرة عليها في الميدان ثانياً، توخياً لتجنّب أو لتقليل الخسائر قدر الإمكان في العناصر البشرية.
ج- إستخدام أحدث مبتكرات تكنولوجيا الإتصالات والإدارة والتوجيه والسيطرة.
د- إعتماد عناصر الردع والمفاجأة ونقل المعركة بعيداً عن مناطق سكن الإسرائيليين (سياسة الذراع الطويلة).
هـ- تأمين عنصر التفوق على الجيوش العربية، من النواحي التقنية واللوجستية، للتعويض عن النقص في الحشد البشري والعمق الجغرافي.
و- حسم المعركة في أقصر وقت ممكن عبر الاستخدام المكثف والمشترك للقوى.
وبالإضافة إلى ما تقدّم، من المعلوم أن إسرائيل تحتكر لنفسها عوامل قوة مضافة في غاية الأهمية من أبرزها:
أ- إحتكارها التسلّح النووي في المنطقة لضمان عنصر الردع الإستراتيجي الحاسم والمطلق.
ب- إحتكار الدعم الأميركي السياسي والدبلوماسي والعسكري والاقتصادي لتأكيد التفوّق وديمومته.
ج- إحتكار دعم الدول الغربية على الرغم من معارضة بعض هذه الدول لبعض سياسات إسرائيل العدوانية.
لكن على الرغم من ذلك فرضت المقاومة في لبنان على إسرائيل عوامل إحباط عسكرية كثيرة تجلّت بما يلي:
أ- لم تتمكن إسرائيل من خوض حرب نظامية لكونها تواجه حرب عصابات، ولم تتمكن من تحديد أهداف ثابتة ونهائية لاعتداءاتها، فضاع مفهوم موازين القوى بين الجانبين المتصارعين مثلما ضاعت الحدود الفاصلة ما بين النصر والهزيمة، الأمر الذي حاول رئيس الأركان الإسرائيلي الدوران حوله بقوله إن أداء جيشه كان «وسطياً».
ب- إستطاعت المقاومة في هذه الحرب أن تنقل المعركة إلى داخل البيت الإسرائيلي وصولاً إلى حيفا وعكا وصفد، وأن تضطر حوالى مليون مستوطن إسرائيلي إلى النزوح من أماكن سكنهم الأساسية في اتجاه وسط البلاد أو جنوبها، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.
وقد أدى هذا الوضع إلى انهيارات نفسية ومعنوية في الجبهة الداخلية، بالإضافة إلى انهيار قطاعات النقل والخدمات والإستشفاء وسواها، ما ترك آثاره المدمرة على سمعة القيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية ومكانتها.
ج- إضطرت إسرائيل في هذه الحرب إلى تعديل خططها العسكرية وجداولها الزمنية مراراً وتكراراً بعد أن أدركت أنها دخلت في حرب استنزاف.
د- هذه هي المرة الأولى في تاريخ الحروب الإسرائيلية منذ العام 1948 التي يعجز فيها الجيش الإسرائيلي عن القيام باجتياح برّي استعراضي، كما حصل في السابق وعلى أكثر من جبهة.
هـ- لم يتمكن الجيش الإسرائيلي في هذه الحرب من السيطرة أو من إسكات مصادر نيران المقاومة التي ظلّت مستمرة في رماياتها الصاروخية حتى آخر لحظة من المواجهات، ما أرغم هذا الجيش، وللمرة الأولى أيضاً، على خوض حرب دفاعية من داخل أراضيه، بينما كان يعتمد دائماً في الماضي على روح المبادرة والمباغتة ومهاجمة العدو في عقر داره.
و- فشل الجيش في حسم المعركة بواسطة سلاح الجو، كما بواسطة سلاح المدرعات، ما اضطره إلى إدخال سلاح المشاة بصورة مباشرة في الحرب، الأمر الذي أدى إلى تكبّده خسائر فادحة في الأرواح والمعنويات.
المنجزات والإخفاقات
بالنسبة إلى أهداف الحرب ومنجزاتها وإخفاقاتها عسكرياً، يمكننا إبداء الملاحظات التالية:
أ- في الأهداف المباشرة
1- إستعادة الجنديين الإسرائيليين الأسيرين لدى حزب الله.
2- ضرب البنية العسكرية التحتية والفوقية لحزب الله وقتل قياداته.
3- إيجاد منطقة فاصلة في جنوب لبنان تمنع أو تقلّل من الإحتكاك المباشر بين القوات الإسرائيلية وقوات المقاومة، سواء من خلال العمليات الفدائية أو عمليات القصف الصاروخي، وصولاً إلى نشر الجيش اللبناني في جميع أنحاء الجنوب اللبناني.
ب- في الأهداف غير المباشرة
1- كسر إرادة اللبنانيين من خلال إرهابهم وتنغيص عيشهم والتأكيد لهم بأن عليهم أن يسدّدوا ثمناً باهظاً من جراء تأييدهم عمليات المقاومة من بين ظهرانيهم. وفي هذا السياق أتى قصف البنى التحتية الأساسية مثل مصادر الكهرباء والماء والجسور والطرق والمطارات حتى تلك البعيدة جداً عن ميدان المواجهات، بالإضافة إلى قطع إمدادات المواد الغذائية والتموينية والمحروقات.
2- إعادة الإعتبار لمكانة إسرائيل كذخر استراتيجي للولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، خصوصاً لجهة إعادة خلط الأوراق الإستراتيجية في المنطقة بعد تعثّر المشروع الأميركي في كل من العراق وأفغانستان، وذلك بعد أن تضاءلت هذه المكانة في عقد التسعينات نتيجة التحوّلات الدّولية كسقوط الإتحاد السوفياتي والوجود العسكري الأميركي المباشر في منطقة الشرق الأوسط.
3- إفقاد سوريا وإيران ورقة في غاية الأهمية في التجاذبات السياسية الإقليمية، من خلال ضرب حزب الله وشطبه من الوجود أو إضعافه في المعادلات السياسية الداخلية اللبنانية والإقليمية.
4- إعادة ترميم هيبة الجيش الإسرائيلي المنهارة إزاء اللبنانيين والفلسطينيين بنوع خاص، لاسيما في أعقاب عمليتي الأسر، من أجل إستعادة مبادرة الردع المفقودة منذ العام 2000 في لبنان ، ومنذ العام 2005 في قطاع غزة.
ج- في المفهوم المغلوط لاستخدام القوة.
يقول المفكر الاستراتيجي الألماني كلاوزفيتز إن المهمة الثانية من حيث الأهمية، التي تواجه المستوى السياسي والعسكري في كل حرب، بعد تحديد الهدف السياسي، تكمن في فهم الطبيعة الخاصة بهذه الحرب وبلورتها وفقاً لذلك، إذ لا توجد حربان أو معركتان متشابهتان تماماً(3). وبحسب قوله فإن السؤال الجوهري هو:
ما هي أوجه الإختلاف الخاصة بالمعركة المقبلة عن سابقاتها؟
وفي هذا السياق يرى الباحث الإسرائيلي رون طيرا أن جذور فشل إسرائيل في حرب لبنان الثانية إنما تكمن في عدم فهمها واستيعابها جيداً لطبيعة هذه الحرب، وأيضاً في «العفن الذي حدث لمفهوم إسرائيل في بناء القوة العسكرية واستخدامها» على حدّ قوله . ومن مظاهر هذا العفن، بحسب رأيه، «التبني المتحمس للنظرية الأميركية المسماة اسلوب الصدمة والرعب أو العمليات الموجّهة النتيجة EBO - Effect Based Operations ». وهدف هذه النظرية هو شلّ قدرة العدو خلافاً لتدمير قواته. إلا أن الأميركيين استخدموا نظرية EBO فحسب لإعداد عمل القوات البرية وتمهيده، وليس كبديل عن ذلك. وعلى خلفية هذه الأفكار كان في إسرائيل من أخطأ وتوهم أنه بالإمكان إدارة الحرب من خلال احتكاك صغير ومحدود وثمن زهيد. وهكذا انطلقت إسرائيل في عملية تغيير الإتجاه على ضوء منظومتين فكريتين أساسيتين إنعكستا في الأوامر العسكرية الصادرة عن قيادتيهما وهما:
أولاً: إدارة معركة بالنيران ضد الدولة اللبنانية بغية إيصالها إلى نزع سلاح حزب الله بالنيابة عنها (وهذا ما حصل فعلاً في بداية الحرب من قصف للمطارات والجسور والمصافي وخزانات الوقود بذريعة تحميل الحكومة اللبنانية مسؤولية أسر الجنديين ودفعها إلى محاربة المقاومة ونزع سلاحها).
ثانياً: إدارة معركة الإحتكاك مع تعزيز النيران الدقيقة ضد حزب الله استناداً إلى فكرة الصّدمة والرعب وفكرة EBO . وهنا فشلت إسرائيل عسكرياً أيضاً لأنها أدركت متأخرة بأن مواجهة قوات حرب عصابات كحزب الله لا تملك بنية منظوماتية ذات مفاصل محدّدة ومعروفة، لاتتلاءم مع استخدام أسلوب الفعل والتأثير. كما تبيّن أن جمع معلومات عن هذه البنية القتالية أكثر تعقيدًا من عملية جمع معلومات استخبارية عن شجرة القيادة لجيش نظامي. فحزب الله كما يقول طيرا «يمتلك بنية مسطحة نسبياً وموزعة ومكوّنة من شبكة مساحات تعمل بشكل مستقل، ومن دون الحاجة بشكل عام، إلى تحريك قوات أو نقل تموين أو ذخائر. ذلك أن المقاتلين «ينتشرون ويتوزعون مسبقاً على الأرض وفي المنازل أو في المحميات الطبيعية مع وسائلهم القتالية واحتياجاتهم من التموين والتذخير». يضاف إلى ذلك أن حزب الله لا يملك مركز ثقل عملاني يؤدي ضربه إلى انهيار باقي أعضائه، وبالتالي فإن محاولة تطبيق أفكار وأسلوب الصدمة والرعب EBO ضده شبيهة بمحاولة تكسير عظام كائن رخو لا فقري، وبالتالي فاستخدام القوة وبهذا الأسلوب لا صلة له بالظروف الميدانية الواقعية للمعركة.
ومعلوم أن الاستخبارات والمنظومات العسكرية الإسرائيلية، من سلاح جو ومدفعية، قد فشلت على مرّ السنين في اصطياد المنظومة الصاروخية لحزب الله ذات المدى القصير والمتوسط، المنتشرة بعمق عشرات الكيلومترات في مناطق جبلية حرجية. ولم تتمكن أكثر من 15 ألف طلعة جوّية بطائرات حديثة و150 ألف قذيفة مدفعية، من أن تقضي على الأهداف النوعية المطلوب القضاء عليها لحسم المعركة وتحقيق الانتصار. وعندما استخدم الجيش الإسرائيلي قواته البرية، إستخدمها «بمصطلحات مقاولي أهداف ونار وليس بالشكل الديناميكي الذي أعطاه انتصارات في الماضي:
تشخيص مكامن ضعف الخصم، المفاجأة والمناورة في العمق، إخراج العدو عن اتزانه، إستغلال النجاح ومواصلة الضغط» بحسب رأي الباحث طيرا. وهنا يجدر بالإشارة أيضاً أنه في التعامل مع عصابات مقاتلة تعمل في شكل مجموعات مستقلة، وليس لها «مركز ثقل عملاني»، لا يعود هناك معنى أو أهمية كبيرة لفصل خطوط الإمداد أو قطعها وتطويق المستوى القيادي الأول. وفي هذا المجال لعبت إسرائيل لصالح حزب الله وليس لصالحها وأدارت معركة تتناسب مع خطط هذا الحزب وعناصر تفوّقه، الأمر الذي تجلّى في انهمار مئات الصواريخ يومياً على العمق الإسرائيلي من دون رادع. كما وأن منظومة القيادة والسيطرة في حزب الله واصلت العمل بشكل جيد طوال مسار الحرب، وبقيت الروح القتالية وحافزية التحرك لدى مقاتليه حيتين ونشطتين، وما من دليل على أن الإرادة السياسية لديه قد تصدّعت بشكل غير قابل للترميم. وعندما قبل الحزب بوقف الأعمال العدائية، إنّما فعل ذلك «من أجل الحفاظ على مكاسبه»، ومنها أنه أوقف النّار وهو في أوج استخدامه لقوته، ما أكسبه بنسبة أكبر صفة المنتصر، على الرغم من الخسائر الفادحة التي تكبّدها في الوطن على النطاق الواسع، كما في بنيته العسكرية الخاصة، في وقت ظهر الجيش الإسرائيلي على أنه جيش هشّ، والجندي الإسرائيلي على أنه ضعيف و«يُقهر»، عكس المقولة التي كانت سائدة.
باختصار يمكن القول إنّ الجيش الإسرائيلي قد دخل المواجهة الأخيرة بمقاربة قتالية نشأت على مدى الأيام والأعوام السابقة واستمرت من دون تغيير، وهي تقوم في الأساس على استخدام كثافة النيران كعنصر أساسي في الأداء القتالي. وفي هذه المقاربة لم تتغير لديه منهجية المواجهة مع تشكيلات حزب الله الصاروخية، ولا تمّ تحديث هذه المنهجية منذ عملية «عناقيد الغضب» العام 1996 التي تمّت بالطريقة نفسها. وقد يكون الجيش الإسرائيلي في حرب تموز الأخيرة قد نجح في إرباك عمليات الحزب وتعطيلها بنسبة ميدانية معينة، إلاّ أنّه لم ينجح «في تقويض أو إفساد المنطق العملاني الذي أملى نشاط الحزب في ما خص إطالة مدّة الحملة الصاروخية ضد جبهة إسرائيل الداخلية»(4)
رابعاً- فشل نظرية الحرب الإستباقية وتداعياتها
لم يكن أي مراقب موضوعي لمجريات الحرب الأخيرة في لبنان، بحاجة إلى جهد كبير ليصل إلى القناعة ذاتها التي وصل إليها القادة العسكريون والمسؤولون السياسيون الإسرائيليون وهي أن نظرية الحرب الوقائية أو الإستباقية بالإستفادة من عنصر المباغته وتوجيه الضربة الساحقة الأولى، كانت فاشلة تماماً. والبراهين على ذلك عديدة أهمها:
1- منذ اللحظة الأولى لاندلاع المواجهات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل، بدا من الواضح أن الجيش والحكومة تلقيا سلسلة من المفاجآت غير السّارة من قبل رجال المقاومة. فلم يكد هذا الجيش يستفيق من المفاجآت الإستخبارية والأمنية التي سبقت شن الحرب على لبنان بكشف شبكاته التجسسية المتعددة، حتى جاءت مفاجآت ميدانية متنوعة في البر والبحر أدّت إلى خسائر فادحة في الدبابات وتدمير قطع بحرية ومروحيات.
2- إعتمد مقاتلو حزب الله تكتيكاً عسكرياً مشابهاً للوسائل التي استخدمها مقاتلو الفيتكونغ خلال حرب فيتنام، ما جعل منهم خصماً شرساً للجيش الإسرائيلي، حيث استفاد من شبكة حماية معقدة من الأنفاق والخنادق السّرية، حرمت الإسرائيليين من إمكان استثمار العديد من وسائل القوّة المتوافرة في أيديهم(5).
3- إعتمد مقاتلو حزب الله أسلوب «إضرب واهرب»، فأطلقوا أنواعاً عديدة من الصواريخ التي تطلق بواسطة منصات محمولة على الكتف.
4- إمتلك هؤلاء المقاتلون القدرة على مواصلة المعارك على مساحات واسعة من الأراضي اللبنانية الجنوبية وغير الجنوبية، ما أكّد امتلاكهم القدرة على الجمع بين القتال التكتيكي المتفرق والإدارة الإستراتيجية للمعارك، بما فيها الإدارة السياسية لها(6).
5- إعترف مسؤولون عسكريون إسرائيليون بأن ما واجهوه في هذه الحرب لم يكن مجرد ميليشيا بسيطة، بل مجموعات من «القوات الخاصة» في جيش نظامي عصري من حيث التجهيز (سترات واقية من الرصاص، مناظير للرؤية الليلية، أجهزة اتصالات حديثة...) بالإضافة إلى التدريب والحافزية القتالية.
6- إستفاد حزب الله من فنون الإختفاء والتمويه(7). وقد أكّدت شهادات إعلامية عديدة لجنود إسرائيليين عادوا من الحرب، اعترافهم بأن خصومهم أداروا معاركهم وحاربوا بإصرار وضراوة من دون أن يكون لهم ظهور بارز أو واضح على الأرض، وكانوا يتفرقون ثمّ يجتمعون بخفّة وفعالية.
7- رجال المقاومة فاجأوا الإسرائيليين بالقتال الإستنزافي خلف خطوط العدو وهذا ما حصل في كل من مارون الراس وبنت جبيل. وقد روى بعض مقاتلي وحدة النخبة الإسرائيليين أنهم فقدوا الإتصال مع رفاقهم، فيما استمر المقاومون ينشطون بثبات على الرغم من قلة عددهم وخطورة مواقعهم.
8- إستخدم رجال المقاومة أسلوب التدرج في التصعيد بما يتلاءم مع إيقاعات الحرب ميدانياً وسياسياً، ما جعل الجيش الإسرائيلي والجبهة الداخلية الإسرائيلية تحت وطأة توقعات ومفاجآت سلبية ومؤثرة على المعنويات العامة.
9- إستفاد رجال المقاومة من الحرب الإعلامية والنفسية بصورة واضحة بما وفّر للمقاومة عامل الصدّمة والصدقية، فيما وقعت أجهزة العدو في هذا المجال في حالة من الإضطراب والحيرة. ففي بحث أعدّه د. أودي ليفل(8) المحاضر في علم النفس السياسي في جامعة بن غوريون جاء أنه: «بدلاً من أن يعتمد الجمهور الإسرائيلي على متحدث قومي يطلعه ويبيّن له مجريات الأحداث يومياً، أصبح هذا الجمهور يولي ثقته في هذا الصدد لزعيم العدو الذي نحاربه».
10- هذه هي المرة الأولى التي يُجبر فيها الجيش الإسرائيلي على خوض حرب دفاعية وقائية في أعماق جبهته الداخلية، ما وضعه في حالة من النقد الذاتي وصلت إلى حد المطالبة، ليس بإستقالة كبار المسؤولين العسكريين والسياسيين وحسب، وإنما أيضاً بإعادة النظر في النظام السياسي - الإجتماعي برمته، وفرض انتخابات جديدة تؤدي إلى تغيير الخريطة الحزبية بالإضافة إلى تغيير نقاط عديدة في العقيدة القتالية للجيش.
خامساً: سقوط نظرية الردع الإسرائيلية
من قراءة أولية لمحصلة نتائج الحرب، يمكن القول إنه على الرغم من القدرة التدميرية الهائلة المتوافرة لدى إسرائيل، فقد تعرضت هيبتها العسكرية لضربة ليس من المنطقي تجاهل تداعياتها، لا سيّما بالنظر إلى الخسائر الكبيرة، المادية والمعنوية، التي نزلت بقطاعات الجيش والمجتمع الإسرائيليين. إن كلفة الحرب على الإسرائيليين بلغت ستة مليارات دولار، وصورة الجيش الإسرائيلي وهو خارج من المعركة لم تكن أبداً الصورة التي كان يتمناها الإسرائيليون. ولا شك أن القسم المعلن من «تقرير لجنة فينوغراد» وحده يكفي لتظهير الصورة التي آل إليها المستويان العسكري والسياسي في إسرائيل. وقد أعلن عضو الكنيست عن حزب العمل إفرايم سنيه في أثناء لقاء له مع نشطاء الحزب في تل أبيب: «إن أسطورة الجندي الإسرائيلي الذي لا يقهر قد تحطمت»(9) وكتب المحلل العسكري زئيف شيف في هآرتس(10) «أنه محظور الوصول إلى وضع ينشأ معه توازن استراتيجي بين إسرائيل وحزب الله، وإذا لم يشعر حزب الله بأنه هُزم في الحرب، فستكون هذه نهاية الردع الإسرائيلي حيال أعدائها بالفعل وبالقوة. إن إسرائيل لم تخسر هذه الحرب بالكامل، ولكن منذ اللحظة التي تدهورت إليها، فإنها وصلت إلى مفترق طرق استراتيجي»، وأضاف شيف: «في الخلاصات التي أجريت مع ختام أسبوعين من المعارك تبيّن أن إسرائيل لم تحقق أهدافاً مركزية في ميدان القتال». وإلى ذلك فإن عضو الكنيست (من حزب العمل) ونائب رئيس الأركان الأسبق اللواء المتقاعد متان فلنائي أقرّ في لجنة الخارجية والأمن أن «إسرائيل لم تكن قط في وضع مركّب كهذا. لقد أيّدتُ شن الحرب.... ولكن هذه هي المرة الأولى التي نُهزم فيها في ميدان الحرب، فعندما ننتصر نعرف أننا انتصرنا»(11).
وباختصار فقد فقدت إسرائيل في هذه الحرب أربعة أركان كبرى من عناصر استراتيجيتها القتالية والردّعية وهي:
1- سقوط فعالية سلاح الجو في حسم المعركة على الأرض.
2- فقدان احتكار مبدأ تصدير الحرب إلى أراضي العدو.
3- فقدان احتكار مبدأ الحرب الخاطفة الذي يعني حسم المعركة بقصف إستراتيجي سريع وزهيد الكلفة.
4- فقدان احتكار تفوّق تكنولوجيا السلاح عبر تحطيم أسطورة الميركافا-4 «درّة الإنتاج العسكري الإسرائيلي».
لقد ارتكزت كلمة السّر التي كمنت خلف نجاح الردع الإسرائيلي في الماضي على اعتراف «العدو العربي» بأنه سيدفع ثمناً باهظاً إذا مسّ بإسرائيل ولو بصورة طفيفة. وهذا هو السبب الذي حال، في الحروب السابقة، دون سقوط مئات الصواريخ العربية على العمق الإسرائيلي، في حين أن أكثر من أربعة آلاف صاروخ سقطت فوق حيفا والجليل الأعلى والخضيرة وسواها، وسقط معها أي مبررلإدعاء إسرائيل امتلاكها ما يسمى بالردع الإستراتيجي الحاسم. وقد وصل القادة العسكريون والمسؤولون السياسيون الإسرائيليون إلى قناعة مفادها أن سحق قوة حزب الله وإبادة نموذج أمينه العام نصر الله يمثلان هدفين غير واقعيين. ومن هؤلاء الدكتور رؤوفين أرليخ(12) المتخصص في الشأن اللبناني الذي قال: «كل من يفكر بإزالة قدرات حزب الله هو غير واقعي. يجب التفكير بمصطلحات: ماذا يمكن إنجازه؟ المتاهة اللبنانية تشدّنا مراراً وتكراراً إليها، نحن نريد إخراج لبنان من داخلنا أيضاً، ولكن لبنان لا يدعنا نخرج، لأن الهدوء الذي ساد في السنوات الأخيرة بعد الإنسحاب، كان نسبياً وضئيلاً وتمّ خرقه عدّة مرات، وأدى إلى تمركز منظمة مسلحة قبالة الحدود الشمالية، جعلتنا ندفع ثمن ذلك اليوم».
واعترف أرليخ بفشل أحد أركان سياسة الردع الإسرائيلية، وهو الإغتيال، بقوله: «لو كنا نعرف أن اغتيال عباس الموسوي العام 1992 سيجلب لنا نائبه حسن نصر الله، ربما كنا سنفكر مرتين قبل تنفيذ الإغتيال». وجاء في دراسة إسرائيلية حديثة بعنوان «إسرائيل ومستقبل حزب الله» أن الحزب يسوّق نفسه بشكل أساسي كقوة ردع استراتيجية في مواجهة إسرائيل، وبدرجة أقل كمنظمة تمارس قتالاً تكتيكياً يومياً ضد الدولة العبرية(13).
سادساً: محدودية القوة العسكرية
أفرزت حرب تموز 2006 دروساً عسكرية محيّرة بالفعل، فلا هي حرب عصابات بالمعنى المتعارف عليه، ولا هي حرب تقليدية، وربما صحّ القول إنها في «منزلة بين المنزلتين». وفي كل حال فإن الدروس المستفادة، سلباً أم إيجاباً منها، سوف تترك تاثيراتها وبصماتها على عمليات صنع القرار والتخطيط العسكري وأداء العمليات الميدانية في المستقبل. والنتيجة النهائية للحرب من شانها أن تحدث تحوّلاً جذرياً في مفاهيم استخدام القوة المسلحة في المنطقة. فخلال السنوات الأخيرة من القرن الماضي انفجرت موجة من الحروب غير المتماثلة، في ظل قواعد اشتباك متغيرة، ما أدى إلى إساءة التقدير وإلى المزيد من التعقيد في ألعاب الحرب، وإلى ظهور متكرر لحالات المفاجأة وعدم اليقين.
إن حرب تموز في لبنان كانت واحدة من الحروب غير النمطية، وهي أثارت مجموعة من الإشكالات العسكرية الحقيقية، لا سيما على صعيد عدم القدرة على التمييز في نتائجها بين معالم الهزيمة ومعالم النصر، الأمر الذي ينبثق بشكل أساسي عن حقيقة ميدانية واضحة وثابتة وهي محدودية مفاعيل القوة العسكرية النظامية مهما بلغت من جبروت في الجو والبحر والبر.
والثابت أن هذه الحرب، وبغض النظر عن نتائجها ومآلاتها السياسية والعسكرية، قد «كوَت» الوعي الإسرائيلي، ولم تستطع أن تحقق الأمن أو النصر، ولا أن تفرض التطبيع مع محيطها. من هنا سارع كتّابٌ إسرائيليون إلى تشبيهها بحرب تشرين 1973 التي انتهت بنصف نصر ونصف هزيمة. ولكن حرب تشرين تلك كانت بين جيشين نظاميين كبيرين، فيما هي جرت في حالة لبنان بمواجهة بين قوة صغيرة محدودة الرجال والعتاد، وجيش نظامي مسلّح حتى الأسنان. ومن هنا يأتي الإستنتاج المباشر بأنها حرب أسفرت عن حقائق كانت غائبة في ظلّ دورة الأحداث وفي طليعتها أنها وضعت نقاط استفهام كبيرة أمام صورة «الجيش الذي لا يُقهر». وقد ظهر التقصير واضحاً في التردد الكبير الذي غرقت فيه قيادة الأركان بخصوص دفع أو عدم دفع قوات مشاة بأعداد كبيرة في جنوب لبنان. كذلك انفضحت محدودية قوة المؤسسة العسكرية عندما ثار السجال بين الحكومة وقادة اليمين المتطرف الذي حاول أركان فيه استغلال تردد الجهات المعنية وإرباكها ليشن حملة شعواء ضد رئيس الحكومة ووزير دفاعه ويتهمهما بضحالة الخبرة العسكرية والسياسية على حد سواء.
وفي هذا السياق كتب المحلل العسكري الإسرائيلي رؤوفين بدهتسور(14)يقول: «يجب التطرق إلى سلسلة الأخطاء التي ارتكبها الجيش. هذه الأخطاء لم تكشف فقط عن مستويات متدنية لبعض أسلحة الجيش، وعن استخبارات رديئة، وعن غطرسة بعض القادة فحسب، بل أثّرت أيضاً في صورة الجيش حسبما يراها الأعداء، وستكون لذلك آثاره الحاسمة لدى هؤلاء في أثناء اتخاذهم قرار الشروع بالحرب في المستقبل، أو عند إطلاق الصواريخ على العمق الإسرائيلي»، وأضاف: «يجب أن نتساءل باستغراب لماذا لم يتحمل أحد المسؤولية عن عملية كيرم شالوم (في غزة وأسفرت عن أسر الجندي شاليط( بعد أن إستنتج تحقيق غيورا آيلند أن هناك إخفاقاً ميدانياً قد حصل».
وتابع بدهتسور: «الجيش ليس معتاداً على الإنتقادات الآتية من الخارج، وتحقيقاته الداخلية لا تتسم بالموضوعية والصدقية مهما توخى ذلك، وما حدث في كيرم شالوم تكرر على الحدود اللبنانية، حيث تمّت مباغتة الجيش مرة أخرى، ما يشير إلى وجود خلل إستخباري ولا مبالاة من قبل جنود الدّورية وقادتهم .... سلاح البحرية أيضاً يحقق في إصابة البارجة... ثمّ جاءت حادثة تصادم المروحيات في سماء الجليل الأمر الذي يذكرنا بحادثة شهر شباط العام 1997.»
يمكن القول إن حرب لبنان الثانية قد كشفت عن جوانب لم تكن مأخوذة في الحسبان من قبل وتتعلق بهوية إسرائيل المعنوية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية. وقد كتب رئيس الكنيست السابق أبراهام بورغ(15) ينعى تلك الأيام الأولى لجيل المؤسسين الصهاينة فيقول: «إستندت الثورة الصهيونية دوماً على دعامتين: مسار عادل وقيادة أخلاقية. ولم يعد أيّ منهما قائماً الآن. فالدولة الإسرائيلية تقوم اليوم على سقالات من الفساد وعلى أسس من الإضطهاد والظلم... وهناك احتمال فعلي لأن نكون آخر جيل صهيوني. قد تظل الدولة العبرية قائمة هنا، لكنها ستكون من نوع مختلف، غريبة وبشعة... دولة مستوطنات تدار من قبل زمرة لا أخلاقية من منتهكي القانون الفاسدين الذين يصمّون آذانهم إزاء مواطنيهم وأعدائهم على السواء. إن دولة تفتقر إلى العدالة لا يمكن أن تبقى على قيد الحياة».
ومن جهة أخرى يعتبر الكاتب السياسي محمد عبد السلام(16) أن «مشكلة إسرائيل تكمن في قياداتها السياسية بنوع خاص، لأن هذه القيادات لا تدرك معنى الضغط الدّولي وعمق المشاعر الوطنية عند الآخرين، ولا تفقه معنى محدودية القوة المسلحة في عالم السياسة. ومن هنا، وبحسب التحليلات الإسرائيلية جاءت النتائج كارثية. فالقوات الجوية، ذراع إسرائيل الطويلة، لم تتمكن من حسم أية معركة حتى في قرى صغيرة وحدودية مثل مارون الراس وبنت جبيل، وذلك على الرغم من تدمير الكثير من الأهداف العسكرية أو شبه العسكرية أو المدنية في لبنان. كما أن سلاح المدرعات خسر الكثير من سمعته بعد أن فقدت الميركافا حصانتها وسمعتها الدّولية، وتمّ إسقاط طوافات حربية، واستهداف أكثر من قطعة بحرية. هذا كله بمثابة شواهد دامغة على محدودية قوة إسرائيل وقدراتها العسكرية المادية والعملانية. وهذا يعني أيضاً أن المسلّمات القديمة في نظريات الأمن القومي الإسرائيلي قد فقدت الكثير من صدقيتها. فإسرائيل باتت قابلة للتأذي والعطب، وجيشها بدا عاجزاً عن التصرف بالإحترافية التي كانت متوهمة عنه، ولم يعد بمقدوره أن يضرب دون أن يُضرَب ولا أن يستمر في فرض أمر واقع هنا وهناك بلا نهاية. والأساليب واالادوات التي استخدمتها المقاومة في الحرب، والقليلة الكلفة بالمقارنة مع ما تستخدمه إسرائيل، ناهيك عن انكشاف جبهتها الداخلية، كلها أمور مستجدة لا بد من أخذها في الحسبان في أي مغامرة جديدة يمكن أن يشهدها لبنان والمنطقة في المستقبل».
وفي أوجه التقصير في الأداء الميداني كتب يوسي ميلمان(17) أن الحرب قد كشفت «أوجه خلل خطيرة، ولا سيما على المستوى التكتيكي: نشر لامبالٍ لجزء من القوات البرية في قسم من القطاعات، عدم التواصل بين القيادة العليا والوحدات على الأرض، إنقطاع متواصل في المعلومات الإستخبارية لقيادة الشمال والتي فشلت في ملاحظة كيف أن حزب الله قد أقام تحصينات كبيرة بالقرب من الحدود، ثمّ التقصير الذي لعلّه الأكبر، وهو إهمال جميع الحكومات للجبهة الداخلية على مرّ السنين».
وعدّد إيلي ريخيس(18) بعض نقاط التقصير الإسرائيلية على طريقته ومنها: المفاجأة، الثمن بالأرواح، غياب الجهوزية، نقص العمل الإستخباري، ترهّل الإدارة، عجز القيادة، تحطم صورة قوة إسرائيل في العالم العربي، فقدان أساس الردع.
أما آلوف بن في هآرتس(19) فقد طرح عشرين سؤالاً حول الإخفاقات النظرية والعملية ولدى المرتبتين السياسية والعسكرية ومنها: لماذا فشلت المخابرات في تحديد مخبأ قادة حزب الله، ولماذا فشلت جميع المحاولات للنيل منهم؟ وهل كانوا تحت المراقبة قبل الحرب؟ لماذا فوجىء الجيش بوجود صواريخ مضادة للسفن لدى حزب الله، ولماذا أرسلت قطعة الأسطول «حانيت» للعمل قبالة الشواطىء اللبنانية بينما كانت منظومات دفاعها مطفأة وكانت مكشوفة للضرب؟ وما الذي عرفته الإستخبارات بشأن الصواريخ المتطورة المضادة للدبابات، وما الذي عرفته أيضاً بالنسبة إلى انتشار قوات الحزب فوق الأرض وتحتها؟...
باختصار يمكن القول إن محدودية القوة الإسرائيلية تعتبر واحدة من أبرز الحقائق والنتائج التي أسفرت عنها حرب لبنان الثانية، وهي انعكست في تجليات بالغة الأهمية أبرزها:
1- سقوط نظرية الأمن القومي الصهيوني، التي قامت على الثقة المبالغ بها في النفس اعتماداً على أدوات الحرب الحديثة.
2- سقوط نظرية تكنولوجيا السلاح في حروب التحرير الوطنية القائمة على حرب العصابات الذكية في مواجهة الأسلحة الذكية.
3- سقوط الدعاية التي تسوّق لسلام وهمي، لا يقوم على حقائق في التاريخ والجغرافيا بل يقوم على الخداع والمراوغة وكسب الوقت لإضاعته.
4- لبنان أعطى الأمثولة الحية لإرادة الشعوب وتفوقها على آلة الإستعمار الغاشمة.
5- المقاومة قلبت معادلة «كيّ الوعي» التي نادى بها رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق موشيه (بوغي) يعلون، وجعلتها معادلة لـ «كيّ وعي» الإسرائيليين.
سابعاً- فشل منظومة الدفاع الإعتراضية
إستباقاً لأية مفاجأة ممكنة، ووفقاً للمفهوم الذي تبلور في قيادة الأركان، رفع الجيش الإسرائيلي استعداده لمواجهة كل أنواع الصواريخ المعادية وذلك على صعيدين هما: الدفاع السلبي الذي يعني توزيع وسائل وقاية على السكان، والدفاع الإيجابي الفعّال الذي ينطوي على محاولة اعتراض الصواريخ قبل وصولها الى أهدافها. ويقوم هذا الدفاع على استخدام عدة وسائل للإعتراض، ومنها «الشبكات الدفاعية الأربع»، وهذه أخفقت أيضاً في اعتراض الصواريخ ما شكّل مفاجأة في أوساط القيادة الإسرائيلية، لا سيّما أنها كانت قد تحسّبت مسبقاً لمثل هذا الاحتمال (لكن من دون جدوى)، وكان تحسّبها قائماً على ما يلي:
1- مـشـــروع «مـوآب» المـســمى نـظـام إســرائــيـل لـلإعــتراض بــعد الانـطـلاق، (والـذي اقترحته هــيئة تـطـوير الوســائل الـقـتـالي - رافــائـيـل)
) IBPIS Israel Boost Phase Intercept System) . وتكمن أهم ميزة لهذا النظام في قيمته الردعية، إذ يكفي أن يعرف المهاجم أن قسماً من الصواريخ التي يطلقها سينفجر فوق أراضيه، حتى يمتنع عن إطلاقها.
2 - مشروع صاروخ «حيتس» (آرو - السهم) الذي جرى تطويره في إسرائيل بشراكة أميركية أكبر في التكنولوجيا والتمويل. ويخصص للتعامل مع أي صاروخ معادٍ (على ارتفاع أكثر من 50 كلم) قد يفلت من شبكة الحاجز الأول (موآب). ويقدّر الخبراء أن لصاروخ حيتس عيوباً كشفتها تجارب الإطلاق المتكررة، خلاصتها أن قدرته على إصابة هدفه ضئيلة.
3 - شبكة صواريخ «باتريوت» أميركية الصنع، وتمّ نشرها في عدة مناطق من إسرائيل، ومهمتها اعتراض الصاروخ الذي ينجو من صاروخ حيتس ويخترق الأجواء الإسرائيلية، لإسقاطه وهو على ارتفاع 20 كلم.
بيد أن تجربة إسرائيل في اعتراض الصواريخ أثبتت محدودية فاعلية شبكة باتريوت، خصوصاً لجهة الصواريخ قريبة المدى.
4 - مشروع نظام الليزر التكتيكي المتفوّق - المعروف باسم «ناوتيلوس» وكان الغرض منه اعتراض صواريخ الكاتيوشا، ثم طوّر لمواجهة الصواريخ البالستية. ومع ذلك لم تتمكن هذه المنظومة الدفاعية الإعتراضية من إسقاط أو اعتراض صاروخ واحد من الصواريخ التي انهمرت على إسرائيل. وإن كان الهجوم بصواريخ متعددة من أنواع كاتيوشا وغراد أو رعد من شأنه أن ينشر الارتباك والخوف في العمق الإسرائيلي، إلا أن التهديدات الخطرة والمتوقعة في حرب كبيرة، دفعت إسرائيل والولايات المتحدة إلى تطوير أساليب الدفاع الفاعلة، والإقدام المبكر على استخدام شبكة صواريخ مضادة للصواريخ. ولم تستطع كل هذه الشبكات ضمان دفاع جوي كامل. هذا مع الإشارة إلى أن الكاتيوشا صواريخ رخيصة مقابل الأنظمة الليزرية والصاروخية الإسرائيلية الباهظة الثمن والمعقدة جداً. وبالنظر إلى الأهمية والحساسية لعامل الوقت في الاشتباك مع الصواريخ الأخرى، أصرت إسرائيل على توفير الإنذار المبكر بشكل مباشر من محطة كولورادو - الولايات المتحدة، في زمن لا يتعدى 1.5 دقيقة فقط من لحظة إطلاق الصاروخ المعادي (كان زمن الإنذار سابقاً يستغرق 3 دقائق) وهو ما تطلّب توفير مركز معالجة أرضي ثابت في جنوب تل أبيب للاستقبال مباشرة من قمر الاتصالات في لحظة استقبال الإنذار في محطة كولورادو. ويحتوي هذا المركز على «سوبر كمبيوتر» حصلت عليه إسرائيل من الولايات المتحدة لمعالجة البيانات مباشرة من دون إبطاء وأغلب الظن أن هذا التطوير لن يكون كبير الفائدة في حالة إطلاق صواريخ من لبنان أو من سورية وذلك بالنظر الى قصر مسافة الرمي (إذ يمكن للصواريخ أن تصيب أهدافها داخل إسرائيل في غضون دقيقة واحدة). وكُشفت نقطة ضعف الكيان الصهيوني أمام إطلاق الصواريخ حيث أنها لن تستطيع الصمود طويلاً أمام كثافة النيران والتفوق العددي في أي هجوم شامل ومفاجئ، لو حصل. من هنا فإن القلق الإسرائيلي يعكس سلبية المفهوم الدفاعي الاستراتيجي الجديد ضد الصواريخ. ذلك أن الاتجاهات السابقة في هذا الخصوص كانت ترى أن نظم الدفاع ضد الصواريخ ينبغي أن تكون قادرة على التصدّي للصواريخ المعادية بعد فترة وجيزة من إطلاقها، في حين أن المفهوم الجديد يرى ضرورة إصابة المنصات المعادية قبل إطلاق الصواريخ. وهذا ما حاول الجيش الإسرائيلي القيام به، من دون أن يتحقق له النجاح الذي كان يتوقعه.(20)
ثامناً: التداعيات التنظيمية والهيكلية في الجيش
خرجت إسرائيل من حرب لبنان الثانية بعلامات استفهام كبيرة تطال كل مجالات الشأن العام والمصير وحتى الوجود بذاته، كما وخرجت بالمشاعر ذاتها في ما يتعلق بقوتها العسكرية. وقد راوحت التقويمات الخاصة بأداء الجيش في الحرب بين سيىء في الغالب ومتوسط، بحسب توصيفات المؤسسة العسكرية كما جاء على لسان رئيس الأركان (السابق) الجنرال دان حالوتس (والذي كان لاستقالته دويّها الكبير...). وكانت ردة الفعل الأولى على فشل الجيش الإسرائيلي في أدائه الميداني، الدعوة إلى فتح تحقيقات في أسباب الإخفاق، واستخلاص العبر، وإجراء التغييرات اللازمة استعداداً لأي حرب مقبلة.
والواقع أن الجيش كان قد أعدّ نفسه لهذه الحرب وأجرى التدريبات اللازمة عليها لمدة ست سنوات (على حد قول وزير الدفاع السابق شاؤول موفاز)، ومع ذلك جرى الطعن في جهوزيته بشرياً ولوجستياً بحكم النتيجة التعسة بالمقاييس الإسرائيلية. فالإعتماد على قدرة سلاح الجو على حسم المعركة أثبت فشله، وتبين أن دبابة ميركافا -4 ليست عصيّة على التدمير.
وعلى الرغم من أن عنصر المباغتة كان في يد الجيش الإسرائيلي، فإن قادة هذا الجيش قد فوجئوا بمجرياتها وصدموا بنتائجها، الأمر الذي أثار سجالاً ساخناً ومريراً، ليس على صعيد الأداء الحسّي للقوات المقاتلة وحسب، بل أيضاً على صعيد مجمل الإستراتيجيا العسكرية وبنية الجيش التنظيمية، وتقسيم الموارد على أسلحته، وصدقية البيانات العسكرية، وأيضاً في ما يخص التدريب والمعنويات ومستوى المقاتلين واستعدادهم النفسي للتضحية وبذل الذات. ويمكن القول إن الجيش الإسرائيلي قد فشل في ترجمة تفوقه العسكري الهائل إلى إنجازات ملموسة على الأرض، بعد أن تخيّل الإسرائيليون بأنه لا يقهر.
وعلى ضوء هذه الإخفاقات يقول زئيف ماعوز(21)، أستاذ العلوم السياسية في جامعة تل أبيب، إنه « في ما يتعلق بالمرتبة العسكرية، لا يكفي إطاحة الرؤوس، مهما تكن مبررة، بل لقد آن الأوان لتفحص معمّق للعقيدة القتالية، والتحرر من عبادة التكنولوجبيا التي فشلت مراراً وتكراراً في النزاعات المنخفضة الحدّة، وقطع الحبل السُّري المرتبط بأعمال الشرطة والاحتلال وفصله عن بنية القوة والعقيدة القتالية، ثم إخراج الجيش من الحواجز والمستوطنات ومراكز المدن الفلسطينية، وإعادته إلى نظام تدريبات وتحضيرات عملانية». ويضيف زئيف قائلاً: «لقد حان الوقت لإعادة الإبداع الإستراتيجي والتكتيكي، والقيادة التي تمزج بين قيمة الإستقامة الشخصية والحرص على طهارة السلاح وأخلاق القتال، ومخيلة إستراتيجية خلاقة، وقدرة على قيادة عمليات القتال. وآن الأوان في الأساس لفصل الجيش عن السياسة وتقليص تحكّم المؤسسة الأمنية في وضع السياسات». وختم بالقول: «إن قيادة سياسية قادرة على وضع الجيش الإسرائيلي في مكانه، بصفته خادماً لسياسة الخارجية والدفاع، وليس بديلاً منهما، إلى جانب قيادة عسكرية تعترف بحدود القوة، وقادرة على بناء عقيدة قتالية وقوة عسكرية مثلى في إطار هذه الحدود، هما فقط اللذان يمكنهما أن يقودا إسرائيل إلى إنجازات سياسية حقيقية، وإلى إنجازات عسكرية، إذا إقتضى الأمر».
وفي السياق نفسه طرح الباحث رؤوفين بدهتسور السؤال الكبير: «هل يجب تغيير العقيدة القتالية للجيش الإسرائيلي وهيكليته عقب الدروس المستخلصة من حرب لبنان؟» واعتبر أن هذا السؤال يجب أن يتقدم على كل شيء في أذهان كبار قادة الجيش، بصرف النظر عن الحاجة إلى استقصاء كيفية إدارة كبار الضباط للحرب، وأضاف: «فمن الخطأ التركيز حصراً على إخفاقات الجيش العملانية التي كانت فادحة فعلاً، وتجاهل التفكير العسكري السياسي الذي تكوّن في الأعوام الأخيرة، والذي استند إليه الجيش الإسرائيلي عندما خرج إلى الحرب في لبنان». واعتبر بدهتسور أن المعضلة هنا تكمن في كون الجيش يواجه طيفاً واسعاً من التهديدات، بدءاً من التهديد الإستراتيجي الإيراني، وصولاً إلى حرب العصابات، علماً بأنه كان قد بنى قواته خلال الأعوام الأخيرة مع التركيز حصراً على الخطر الإستراتيجي. وبينما كان سلاح الجو ينمو ويكتسب قدرات عملانية بعيدة المدى، تدهورت أحوال القوات البرية، التي غرقت في مقاتلة الإرهاب الفلسطيني، ما أدى إلى ترهل لدى جنود الإحتياط في هذه القوات لعدم تلقيهم التدريبات اللازمة، وذلك استناداً إلى الإفتراض بأن احتمال نشوب حرب برية هو احتمال ضعيف جداً، في حين أن دروس الحرب الأخيرة تفيد بأن أي سيناريو معقول لحرب مستقبلية إنما يرتكز على قوات العمليات الخاصة، وليس بواسطة كتل ضخمة من المدرعات. وهنا يتبيّن مدى أهمية إعادة النظر في تشكيل قيادة قوات العمليات الخاصة (الكومندوس). وبدلاً من تطوير الجيل التالي من الميركافا وإنتاجه، لابد من الاقتصار في النظر إلى تحسين تجهيز الدبابات الموجودة بحماية أفضل. ويختم بدهتسور وجهة نظره بأنه «ينبغي على الجيش الإسرائيلي أن يتفحص طرق التعامل مع الصواريخ والكاتيوشا القصيرة المدى. وليس من الواضح ما إذا كانت أجهزة الليزر في النوتيلوس تستطيع حل المشكلة، لكن علينا النظر في إستكمال تطويرها. ويجب على سلاح الجو أن يستمر في تطوير وسائله لإصطياد راجمات الكاتيوشا مع إدراك أنه ربما كان من المستحيل معالجة هذا الخطر كلياً من الجو».
وكشفت صحيفة معاريف أن الجيش الإسرائيلي أعد خطة خمسية يتوقع فيها خوض «مواجهة حتمية» مع الفلسطينيين واللبنانيين خلال السنوات المقبلة. وذكرت الصحيفة أن الخطة أطلق عليها إسم «كيشيت» (قوس). وقد صادقت عليها هيئة الأركان بعد مصادقة الأذرع العسكرية الإسرائيلية المختلفة. وتقضي الخطة «كيشيت 2011» للسنوات 2006 - 2011 بأن يرصد الجيش الإسرائيلي موارد من أجل ملاءمة بنية وحداته للقتال، وذلك عبر تحويل وحدات أكثر مهنية لمحاربة الإرهاب وتقليص قوات المدرعات والمدفعية والهندسة، مقابل تخفيض جهود الجيش للاستعداد لمواجهة جيوش كبيرة «بسبب عدم وجود توقعات لنشوب حروب مع دول عربية مجاورة». وترى الخطة أن الخطر الأول بالنسبة إلى إسرائيل هو التهديد النووي الإيراني الذي تعتبره «وجودياً»، يتبعه تهديد استئناف النزاع مع الفلسطينيين، والتهديد على الحدود الشمالية مع لبنان، فيما تشكل الحرب الشاملة الخطر الثالث.
في المجال التنظيمي الهيكلي أيضاً، رأى الكاتب أمير أرون(22) أنه لا بدّ من استخلاص ثلاثة دروس مترابطة هي:
1- من الضروري إيجاد غرفة حرب قومية، بحضور رئيس الحكومة ووزير الدفاع أيضاً، لكن مع ضرورة إيجاد أشخاص أكثر تأهيلاً على المستوى الذي يساعدهما.
2- يجب تعزيز اللجنة الوزارية للشؤون الأمنية بغرف حرب قومية يتمثل فيها الجيش الإسرائيلي وأجهزة إلاستخبارات ووزارة الخارجية وأطراف الاقتصاد والجبهة الداخلية والشرطة والجهاز القضائي، بوجود وزير بمهمة «مدير القتال».
3- يجب أن تكون قاعدة المعلومات التي هي في تصرف هؤلاء محدّثة دائماً، واسعة وشفافة، لا أن تكون محوراً عمودياً يمتد من «البونكر» (غرفة محصنة تحت الأرض) في هيئة الأركان العامة إلى وزير الدفاع، ومنه إلى رئيس الحكومة. كما ويقترح أرون أن يتولى رئيس الحكومة وزارة الدفاع بنفسه باستمرار، في دولة هي في حالة قتال دائم أو أنها على حافة حرب. ذلك أن المسؤولية الشخصية لوزير واحد، رئيس الحكومة، عن جميع أقسام المؤسسة (الجيش الإسرائيلي)، وجهاز الأمن العام (الشاباك) ولجنة الطاقة النووية والموساد (والجبهة الداخلية إلى حين تحوّلها إلى مدنية)، تمنحه رؤية شاملة. وفي إطار هيكلية كهذه يتلقى رئيس الحكومة/وزير الدفاع التقارير من نائبي وزير- أحدهما للوكالات السرية، في ديوان رئيس الحكومة والثاني لجهوزية الجيش الإسرائيلي والتطوير والصناعات العسكرية في وزارة الدفاع.
أمّا في نموذج الفصل بين المنصبين، فإنه في الوضع القائم حالياً، يوجد في كل منهما ثلاثي غريب مكوّن من: مدير عام، ورئيس مكتب، وسكرتير عسكري- في حين أن لا مكان هنا إلا لاثنين فقط: المدير العام الذي هو بحكم دوره رئيس المكتب المدني، والسكرتير العسكري، الذي يتولى شؤون الإرتباط مع الجيش والإستخبارات والمناطق المحتلة (الضفة والقطاع). وثمة مشكلة أخرى أيضاً تتعلق بموقع ووظيفة مجلس الأمن القومي الذي جرى تعطيله وتهميشه من قبل أولمرت بحيث أخضع رئيسه الحالي إيلان مزراحي (نائب رئيس الموساد سابقاً) لسلطة رئيس مكتبه يورام طروبوفيتش.
أما شلومو غازيت رئيس شعبة الإستخبارات العسكرية (أمان) سابقاً، فرأى أنه يتوجب على قاضي التحقيق فينوغراد تركيز فحوصاته في المنظومات العسكرية ضمن ثلاث قضايا:
1- عملية اتخاذ القرارات المركزية في أثناء الحرب بما فيها قرار شنّ الحرب في 12 تموز وتجنيد الإحتياط والمعركة البرية.
2- قضية المسؤولية عن التقصير تجاه الجبهة الداخلية.
3- سياسة وسائل الاعلام والمعنويات الوطنية في أثناء الحرب.
(عن موقع الجيش الإسرائيلي السلام والأمن/المشهد الإسرائيلي 7ـ10ـ2006)
تاسعاً- الجيش الإسرائيلي لم يعد جيش الشعب:
منذ اليوم الأول لإعلان دولة إسرائيل، رفع رئيس حكومتها ووزير دفاعها دافيد بن غوريون شعار «شعب مقاتل طلائعي»، بمعنى أن الشعب كله منخرط في الجيش على غرار النمط السويسري، أي تأدية الخدمة العسكرية الكاملة، والقيام بمهمات وطنية تحتل المقام الأول في العناية وهي: الإستيطان، التعليم، تحقيق نموذج الإنسان الإسرائيلي الجديد.
والواقع أن إسرائيل لم تتمكن قط من تحقيق هذا الشعار، لكنها عملت منذ حرب العام 1973 على تعويض ما لا يمكن إدراكه إنسانياً واجتماعياً من خلال التركيز على التكنولوجيا. ويقول الكاتب عوفر شيلاح(23) إنه بعد بضع سنوات من تلك الحرب عمد رئيس الأركان الجنرال موردخاي (موطه) غور إلى تكبير حجم الجيش وضخ كميات كبيرة من الأسلحة الأميركية والإسرائيلية في أذرعه المختلفة، الأمر الذي انتقده الباحث العسكري الجنرال ـ احتياط عمانويل فالد، في كتابه «لعنة الأدوات المحطمة» وقال عنه: «لقد تم الإستثمار في كل شيء تقريباً، وجمعت كل الإمكانات التكنولوجية التي لا تستخدم في غالبيتها، وكل الوسائل القتالية التي سرعان ما تصبح قديمة، ما ولّد شعوراً خطيراً بعدم الثقة، وكل ذلك تم عمله وفق موازنة مالية وصلت إلى ذروتها بنسبة 30% من إجمالي الموازنة المحلية، ولم يرافقه بالمناسبة أي تجديد لأفكار ملائمة»(24).
وعندما وقعت حرب لبنان الأولى العام 1982 رافقها جدل سياسي وعسكري عميق، ولم يكن بالإمكان إبعاد هذا الجدل، وخصوصاً السياسي منه، عن صفوف «جيش الشعب»، الأمر الذي تمّ التعبير عنه عن طريق التصفيق الحار لجنود الإحتياط فور تحررهم من الخدمة العسكرية، من باب السخرية والإعتراض على هذه الخدمة. وبحسب اعتراف وزير الدفاع الأسبق موشيه آرنس، فقد كان لجنود وضباط الإحتياط تأثير حاسم على الإنسحابين من لبنان: الأول من جبال الشوف العام 1983 والثاني حتى حدود ما سمّي بالشريط الأمني العام 1985 ولم يكن مفاجئاً ألاّ تخدم قوات الإحتياط في الشريط الأمني، حيث تكبّد الجيش الإسرائيلي خسائر فادحة على مدى 15 عاماً انهمك في أثنائها في مناوشات محدودة وفي مهمات احتلال لمناطق في الضفة الغربية وقطاع غزة، وبالتالي «فقد ذهبت كل الدعوات للاصلاح داخل الجيش بفعل الواقع المعاش، بعد أن ركز الجيش دوره في المواقع الأمامية للشريط الأمني، مقابل استعداده لحرب مقبلة حسب السيناريو المتوقع». وكتب شيلاح أيضاً أن المجتمع الإسرائيلي نفسه تغير أيضاً، فالكثيرون من مواطني الدولة لم يكونوا شركاء في المعاناة الجماعية التي خلقتها حرب 1973 وكذلك فإن التخصصات المختلفة، والعولمة، والفسيفساء الثقافية التي وصلت إلى المجتمع خلال العقود الأخيرة، وقدوم عدد كبير من الفئات السكانية ممن لا يخدمون في صفوف الجيش، عملت كلّها على إبعاد المواطنين عن النظرة الأمنية الطلائعية التي حكمت الدولة.
ويضيف شيلاح: «عملياً لقد تغير كل شيء تقريباً، والجيش الإسرائيلي بقي جيش الشعب في النظريات والخيال، ولكن ليس على أرض الواقع». والاستنتاج المطلوب هو إعادة النظر من جديد في كل ما له علاقة بالطبيعة التنظيمية والعملانية للجيش الإسرائيلي: علاقاته مع المستوى السياسي، مكانته في المجتمع، وتأثيره على سلم الأولويات الوطني، وبالنسبة إلى كل هذه المحاور يبرز التناقض الفاقع بين ما هو مرتجى وبين ما هو قائم في الواقع داخل الجيش.
منذ الحرب الأميركية على العراق العام 2003 طُلب من الجيش الإسرائيلي إجراء تقليصات حادة في موازنته على الرغم من استمرار إدارة الحرب في المناطق الفلسطينية المحتلة. وقد أوضح رئيس الأركان الأسبق الجنرال موشيه يعلون بأن المطلوب، ليس فقط إجراء تقليص للأموال، بل للجهاز البشري وتجهيزاته أيضاً، بما يتلاءم مع المخصصات المالية المختصرة، الأمر الذي استلزم طرح تساؤلات بالغة الأهمية على المستوى الأمني والقومي(25 ):
- هل جيش الدفاع الإسرائيلي متيقظ لحرب جديدة ولتهديد حقيقي على إسرائيل؟.
- إلى أي مدى تمكن الجيش من تكييف نفسه مع التغيرات الاجتماعية،الاقتصادية، والثقافية التي حلّت بالدولة؟
- ألم يحن الوقت بعد لأن يغير الجيش من طبيعة علاقته مع أجهزة السلطة، وموقعه كجهاز للسلطة في المناطق (الفلسطينية المحتلة)، وموقعه المقدس في المخيلة الإسرائيلية؟
- هل جيش الدفاع الإسرائيلي هو حقاً الجيش المرتجى حتى يتمكن من تحقيق هدفه الحقيقي والوحيد: الدفاع عن حدود الدولة؟
يبدو أن نظرية «الشعب كله جيش» لم تعد قائمة في التفكير الإسرائيلي لسبب بسيط وهو أن معظم مواطني الدولة لم يعودوا يخدمون فيه. وفي هذا السياق تتكرر الجملة الدارجة على لسان الجمهور: «في هذه الدولة هناك ثلث من السكان يدفعون الضرائب وثلث آخر يحافظ على القانون، والثلث الأخير يخدم في صفوف الإحتياط، والمشكلة تكمن في هذا الثلث الأخير»(26). يُضاف إلى ذلك أن الجيش نفسه تمّ زجه أكثر من مرة في حروب مختلف بشأن ضرورتها وحيويتها وكانت بمثابة محاور تدخل في صلب الخلافات السياسية بين مختلف قوى هذا المجتمع الحزبية والعرقية والسياسية، بحيث وجد نفسه يخدم سياسات فاشلة أدّت إلى تفجير نزاعات وصراعات داخلية مخيبة لآمال الكثيرين. والتغيرات التي حصلت بصورة دراماتيكية في الموقع الإجتماعي للجيش، أدّت بدورها إلى فتح ثغرات واسعة في أي إجماع الوطني حول أمور كثيرة في طليعتها مسألة الخدمة الإلزامية، حيث وصلت أعداد الرافضين لأداء الخدمة إلى المئات. وهذا الواقع جعل من أي مواجهة عربية - إسرائيلية، صغيرة أو كبيرة، بمثابة «حرب على الوعي القومي» على حد تعبير رئيس الأركان الأسبق الجنرال موشيه يعلون. ومن هنا جاءت نظريته بـ «كي الوعي» العربي، أي حسم المعركة في أرض الإرادات والمعنويات قبل حسمها على الأرض.
على هذه الخلفية القاسية والمرة يمكننا أن نقرأ وقائع حرب لبنان الثانية بين المقاومة اللبنانية وبين جيش يمر في تحولات نفسية وأخلاقية واجتماعية واقتصادية وعسكرية وثقافية، أوجدت بينه ومجتمعه فجوة واسعة وخطيرة سوف يتخبّط فيها إلى أجل غير مسمى. وهذا التخبّط تجلّى في النتائج التي أسفرت عنها المعارك، وفي المساعي الأميركية والدولية للتستير على عيوبها عبر القرار 1701 المماثل للقرار 425 التي زعمت إسرائيل أنها تذكرته بعد مرور 22 سنة لتغطية انسحابها العام 2000 وهذه النتائج يمكن إجمالها كما يلي(27):
1- عجز الجيش الإسرائيلي عن تحقيق انتصار عسكري سريع وحاسم على قوات شبه عسكرية لا تمتلك قدرات الجيوش النظامية، ولا سيما سلاح الجو.
2- نجاح مقاتلي حزب الله في إلحاق خسائر كبيرة في صفوف القوات الإسرائيلية.
3- ظهور أوجه خلل عديدة وواضحة في أداء القوات الإسرائيلية.
4- وصول صواريخ حزب الله إلى حيفا وما بعد حيفا واضطرار مليون مستوطن إلى مغادرة أماكن سكنهم واللجوء إلى الملاجىء أو إلى مناطق الوسط والجنوب.
5- سقوط مقولة الردع الإسرائيلية وما يمكن أن يستتبعه ذلك.
6- إدراك أن بوسع أيّ طرف أن يبدأ الحرب، لكن لا يمكنه أن ينهيها بمفرده.
7- حقيقة أن الحرب أكبر من ان تُترك للجنرالات وحدهم، فحكومة «المدنيين»، أولمرت- بيرتس قد رضخت نسبياً لضغوط وخطط الجنرالات في ما يتعلق بتوسيع رقعة الحرب، واستهداف بنية لبنان بصورة غير مبررة عسكرياً، في ظل تعرض «الكرامة الحربية» الإسرائيلية لتحدّ غير مسبوق، بحيث تبين أن ما هو ضروري عسكرياً يمكن أن يكون ضاراً سياسياً.
8- ضرورة احترام الخصم (وهو أمر ينطبق على الجانبين المتصارعين).
9- حقيقة أن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى، وهذا ما استهتر به الطرفان في بداية إندلاع المعارك، حيث تبيّن أنه كلما إستغرقت الحرب وقتاً أطول كلما ازدادت تعقيداتها السياسية. وهذا يعني ضرورة التخطيط للفشل بمثل ما يتم التخطيط للنجاح. (المشكلة أن أحداً من الإسرائيليين لم يكن يتخيل مطلقاً أن تنتهي الحرب العسكرية بما انتهت إليه).
10- الحرب اللامتماثلة لا تنتهي بنصر أو هزيمة واضحين لأي من الفريقين، بل إنها تصل باستمرار إلى حالة من الإرهاق والإنهاك العسكري للجهتين بفعل حجم الخسائر وعجز القوة المستخدمة ومحدودية تأثيرها مقابل الضغوط السياسية.
عاشراً- تآكل الجاهزية والقدرة القتالية وتداعياتها
لقد حطمت حرب لبنان الثانية العديد من البدهيات والمسلّمات بالنسبة إلى الجيش الإسرائيلي وفي مقدمها سقوط مهابة القادة الميدانيين الإسرائيليين وفرادتهم، الأمر الذي تجلّى في تخبطهم الفاضح في اتخاذ قرارات الحرب، وهو ما أدى إلى إقالتهم أو استقالتهم وهم في صلب المعركة. كذلك فقد أجهزت هذه الحرب على ركيزتين أساسيتين من ركائز نظرية الأمن القومي الإسرائيلي وهما الردع وانكشاف العمق الإسرائيلي الداخلي أو ما يسمى «البطن الرخوة»، حتى قيل إن هذه الحرب ربما كانت آخر الحروب بين لبنان وإسرائيل. وقد جرى توثيق هذه الأمور جميعاً ضمن كتاب صدر إثر الحرب تحت عنوان «حرب إسرائيل الضائعة ضد حزب الله» للكاتب رينو جيرار المراسل الحربي لصحيفة لوفيغارو الفرنسية اليمينية(28)، حيث يؤكد الكاتب على حقيقة فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها الأساسية وهي إطلاق سراح الجنديين الأسيرين والقضاء على حزب الله وقتل قادته ونزع سلاحه. ويسرد الكاتب أيضاً بعض الأخطاء العسكرية الاستراتيجية والدبلوماسية التي ارتكبها الإسرائيليون، ومنها قول رئيس الأركان حالوتس إنه سيعيد لبنان عشرين عاماً إلى الوراء، وقول رئيس الوزراء أولمرت إن إسرائيل لن تعمد إلى تبادل الأسرى بل إنها ستصفّي أمين عام حزب الله، وقول وزير الدفاع بيرتس إنه سيجعل حسن نصر الله لا ينسى إسمه إلى الأبد.
ورأى الكاتب أيضاً أن العملية التي قام بها الجيش الإسرائيلي حتى حدود الليطاني في الأيام الأخيرة من المعركة ، كانت تنحو في اتجاه أمرين: أولهما تبرير الميزانية العسكرية الهائلة المعطاة للجيش والتي تصل إلى 60% من موارد الدولة في نظر دافعي الضرائب الإسرائيلين واليهود في العالم، وثانيهما استعادة القدرة الردعية المفقودة منذ العام 2000 في نظر العالمين العربي والإسلامي.
ويقول جيرار إن الحقيقة تقضي بالإعتراف بأن «الجيش الإسرائيلي قد فقد القدرة منذ 20 سنة، وذلك لكثرة إستخدام رجاله في عمليات شرطة ضد فلسطينيي الأرض المحتلة».
ثمّ ينقل الكاتب جيرار عن الضباط الإسرائيليين الذين رافقهم إلى أرض المعركة شهادات مأسوية ويائسة كثيرة، منها مثلاً قول أحد هؤلاء الضباط: «إن حزب الله لا يعلق أهمية على الأرض، وهدفه ليس الدفاع عن أراضٍ ومناطق معينة، بل هو قتلُ أكبر عدد مكن من الجنود الإسرائيليين بغية رفع مستوى شعبيته في العالم العربي، وهكذا فهو عرف كيف يبقي قواته متحركة تضرب حيث لا ننتظرها»(29).
وينقل جيرار عبارة ضابط آخر: «لقد وجدنا أسلحة أينما كان وليس فقط في الملاجىء، وجدناها مثلاً في خزائن المكانس، وتحت أسرة الأطفال ومجالي المطابخ، وعثرنا في مقر حزب الله على خرائط رئاسة الأركان الإسرائيلية التي تحدّد مواقعنا عند الحدود، وعلى صور لقادة وحداتنا، وعثرنا أيضاً على معلومات بالإنكليزية والعربية لأنواع الأسلحة التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي. باختصار إنهم مستعدون بصورة تامّة». ويختم جيرار كتابه مستعيراً جملة قالها بنيامين نتنياهو في خطاب له أمام الكنيست في 14ـ8ـ2006 حيث إعتبر أنه «لو سلّم العرب سلاحهم فسوف يقوم السلام، «لو سلّم اليهود سلاحهم فسوف تختفي دولة إسرائيل». ويعلّق الكاتب الفرنسي على ذلك بالقول: «وماذا لو سلّم كلا الطرفين سلاحهما في وقت واحد؟».
أما الكاتب الإسرائيلي نحاميا شترسلر(30) فاعتبر أن الجيش الإسرائيلي «كان فاقداً لتوازنه، ما أظهره كجيش فاشل، متعب، متخبط، محبط». وكتب عموس هرئيل(31) في هآرتس: «تعلن إسرائيل بدهشة بالغة، عن المفاجأة، فقد فوجئنا بصواريخ الكاتيوشا وصواريخ الفجر وزلزال والصواريخ المضادّة للدروع، وفوجئنا بالملاجىء، وبأساليبهم التضليلية، وفوجئنا بإدارتهم المعركة، وبسيطرة قادتهم على أرض المعركة والتحكم التّام بميدان القتال، فوجئنا بالاستراتيجية التي اعتمدوها، وبجاهزيتهم القتالية وروحهم العالية أيضاً، فوجئنا بالقوة المزمجرة التي يملكها جيش صغير مميت معزز بقدرات تكنولوجية متواضعة وبدوافع إيمانية عالية».
في مقابل هذا الإعترافات، نجد أن الحرب قد هزّت بالفعل أركان المؤسسة العسكرية وكشفت عوراتها والفوضى السائدة فيها. فقد جرى تشكيل أكثر من خمسين لجنة تحقيق في التقصير (توّجتها لجنة فينوغراد بما توصّلت إليه من حقائق واستنتاجات كارثية بالنسبة إلى إسرائيل، إلى حدّ دفع بالسلطات إلى كتمان وعدم إعلان قسم كبير منها)، وثبت بطلان استراتيجية حرب الأزرار الإلكترونية مع المقاومة، وفشل القوات البرية وجيل علب الليل والبورصة (حالوتس)، وضرورة منح المزيد من الموارد والاهتمام لأجهزة الإستخبارات، بعد ثبوت عجز هذه الأجهزة عن اختراق جدران الحماية الأمنية التابعة لحزب الله، ومعالجة مشاكل الفرار من الخدمة الإلزامية وهبوط المعنويات والحوافز الوطنية والقتالية (العديد من رسائل الشكوى إلى قيادة الأركان)، وإعادة الاعتبار للجبهة الخلفية المدنية إثر انكشاف ضعفها وتشتتها.
المحلل الإستراتيجي زئيف شيف حاول إيجاد بعض الأعذار والتبريرات الموضوعية لكل هذا القصور والتقصير فقال: «في السنوات الأخيرة تبلور داخل المؤسسة الأمنية تصوّر يفيد بأن ثمّة احتمالاً ضعيفاً لنشوب الحرب البرية، استناداً إلى انهيار الجبهة الشرقية في العراق وضعف سوريا عسكرياً، واتفاق السلام مع مصر والأردن، وتشخيص التهديدات في الدوائر البعيدة مثل إيران. وعليه تمّ تزود السلاح الذي يتلاءم مع الحرب من مسافات بعيدة... لكن ما حصل هو أننا نحن من شنّ الحرب من دون تفكير مسبق وجررنا أنفسنا إلى المكان الذي أهملناه، والذي لم نتهيّأ له»(32). وأدان وزير الحرب السابق شاؤول موفاز الأداء الحكومي وقال: «نحن ملزمون بناء برنامج يغيّر جدول الأعمال السياسي الوطني لدولة إسرائيل. فالقضايا التي كانت على جدول الأعمال قبل ستة أشهر، تغيرت ولا بدّ من إحداث تحولات تتلاءم مع الذي نعيش فيه الآن»(33). وحمّل حالوتس بدوره القرار السياسي الذي فُرض على الجيش، تبعات الحذر والفشل، الأمر الذي منع تنفيذ هجوم شامل للقوات البرية. وفي لقاء ضمّ حالوتس و150 ضابطاً كبيراً في قوات الإحتياط، وصف أحدهم الفارق بين مفهومه ومفهومهم للحرب بأنه مثل الفارق بين الأرض والسماء، منتقداً التقصير في المجالات القيادية واللوجستية، مع ملاحظة أنه بخلاف الحروب الماضية، لم يكن القادة هذه المرة على رأس قواتهم، وإنما في غرف الكمبيوتر وأمام شاشات المراقبة، الأمر الذي جعل الجنرال يومطوف ساميا يقول: «إن دور جنود الجيش الإسرائيلي هو حماية مواطني الدولة وليس العكس»(34). واعترف ضباط آخرون بأن «مستودعات الأسلحة لم تزوّد مخزونات كافية، ولا بدّ من المزيد من الأموال لإعادة بناء الفروع العسكرية المختلفة». وقد طالبت وزارة الدفاع بأكثر من 6 مليارات دولار لنفقات على الإستخبارات والجيش، واقترح نائب رئيس الحكومة شمعون بيريس التركيز بشكل خاص على تكنولوجيا الرجل الآلي. وهكذا عقدت إسرائيل صفقات أسلحة متنوعة ظناً منها أن الحرب المقبلة ستكون أشد عنفاً وتحتاج إلى تحضير مسبق، لذلك اشترت طائرات «سوفا» بكلفة 5.4 مليار دولار. وتمّ بناء قواعد تدريب خاصة باللواء غولاني والمظليين. وطلبت حكومة أولمرت من شركة «لوكهيد مارتن» الأميركية إجراء تعديلات على مدفع «سكاي شيلد» للدفاع الجوّي لاعتراض صواريخ الكاتيوشا القصيرة المدى. ووقّعت إسرائيل عقداً مع ألمانيا لشراء غواصتين إضافيتين من طراز «دولفين» بكلفة 27.1 بليون دولار. في المقابل يعتقد الإسرائيليون بأن السلاح الأكثر فعالية لدى حزب الله كان الصواريخ المضادّة للدروع (الروسية الصنع) كما وتبين أن في ترسانته أنواع من آر بي جي 29 التي تطلق من على الكتف، هذا بالإضافة إلى نظام ساكلوس للاتصالات الذي تمكن من إحباط محاولات التشويش الإسرائيلية، كما استخدم الحزب ضد البوارج صواريخ صينية الصنع وطائرات إيرانية من نوع «أبابيل-3» من دون طيار وهي قادرة على حمل 40 كلغ من المتفجرات وأيضاً صواريخ كاتيوشا 122 ملم. وغراد 107ملم. يصل مداها إلى أكثر من 20 كلم، وكذلك صواريخ فجر -3 وفجر -5 الإيرانية الصنع والتي يصل مداها إلى 70 كلم، ثمّ صواريخ خيبر ويصل مداها إلى 100 كلم، وصواريخ زلزال1و2و3 التي هي صواريخ باليستية بالغة الدّقة (تتوقف زنة حمولتها على عوامل مختلفة)، وصواريخ سطح - جو قصيرة المدى من نوع سام -7 وسام-14 وسام-18 وسام-8 وصواريخ ساغر الروسية الصنع.
باختصار يمكن القول إن سوء الحسابات وغرور القوة والتصلّف كانت كلها وراء قرار المؤسسة العسكرية الصهيونية بالهجوم على لبنان. وقد بلغ ذلك حداً جعل المؤسسة العسكرية تسقط في حقل المفاجآت غير السارة. وبدا أنها لم تحسن التخطيط لكيفية إنهاء الحرب لظنها أنها ستحسمها حتماً لصالحها، الأمر الذي جعلها ترتكب خطأً استراتيجياً في عملية رسم السياسات على مستوى الأمن القومي حيث لم يُطلب مُسبقاً من سكان المستعمرات الشمالية إعداد الملاجىء والتزود المؤن، ما أجبر نحو مليون إسرائيلي على أن يعيشوا مدة شهر كامل في ظروف معيشية قاسية، مادياً ونفسياً.
وعلى الصعيد العسكري الصرف تبيّن أن الحرب الأخيرة كانت بمثابة نقطة تحول أساسية. وفي هذا المجال يقول الصحافي أليكس فيشمان: «في بنت جبيل ومارون الراس عدنا إلى الشرق الأوسط القديم. هناك لم يتبين فقط أن المناورات البرية لم تنه دورها، بل إن المعركة لا يمكن أن تتم من دونها... حرب لبنان الثانية ضبطت الجيش الإسرائيلي وهو يوشك على اتخاذ قرارات غير قابلة للتغيير بشأن تركيبته»(35). وفي السياق نفسه يقول زئيف شترنهيل: «لم يكن سراً أن الجيش قد توقف عن التدريب تقريباً في وحدات كبيرة وعلى عمليات معقدة، وغرق كله في الصراع ضد الإنتفاضة الفلسطينية. عندما تتحول ألوية سلاح المشاة إلى قوة بوليسية متمرسة في حراسة الجدران واقتحام مخيمات اللاجئين أو ملاحقة الخلايا التخريبية بين أغراس الزيتون، وعندما يصبح عدد المطلوبين الذين يتم ضبطهم واحتجازهم، مقياساً لمدى نجاح الضابط المسؤول، وليس رؤيته القتالية وقدرته على قيادة وحدات كبيرة، يبدأ الجيش في التعفن... الحرب الحالية هي أكثر الحروب التي خضناها فشلاً»(36).
خلاصة واستنتاجات
إن فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها الاستراتيجية الكبرى وأساسها استرداد القدرة الردعية للمؤسسة العسكرية، قد خلّف آثاراً وتداعيات بالغة الأهمية والخطورة على طرفي القتال: الجيش الإسرائيلي والمقاومة. فبالنسبة إلى الجيش الإسرائيلي تبيّن وجود أفكار ومشاريع متعدّدة لتطوير هيكلياته وبناه التنظيمية، وتبيّن - مجدداً- أن الفشل يعني نهاية إسرائيل بحسب العديد من الكتاب والباحثين والمسؤولين ومن ضمنهم نائب رئيس الحكومة شمعون بيريس الذي قال عن الحرب إنها «حرب وجود»، والكاتب عوزي أراد(37) الذي قال: «لقد هدفت المعركة في لبنان، من جملة ما هدفت إليه، إلى إعادة بناء الردع الإسرائيلي، وقد حدّد الجيش هذا الهدف، لأنه في السنين الأخيرة تبيّن بوضوح وجود (عجز ردعي) متراكم من قبل إسرائيل». كما وإن عدم استرداد قوة الردع سيتيح استمرار المقاومة في النمو والإستقواء، في مقابل ضمور ثقة الجبهة الداخلية الإسرائيلية بجيشها، الأمر الذي يعني انكماش المشروع الصهيوني برمته وضموره مع ما يعني ذلك من تصاعد نسبة المهاجرين المغادرين لإسرائيل على نسبة المهاجرين الوافدين، وذلك في بحر معادلة قاسية تتشكّل من فجوة نوعية تضيق تدريجاً لصالح العرب، وفجوة كمية تتسع باستمرار لصالحهم.
وفي ما يتعلق بالمؤسسة العسكرية بالذات فإنها منيت بمجموعة من الإخفاقات في المستوى الإستراتيجي ومن أهمها:
1- إنهيار نظرية العمق الإستراتيجي التي حاولت إسرائيل التسويق لها للإبقاء على احتلالها لأجزاء من الأراضي العربية وخصوصاً في فلسطين ولبنان. وقد ثبت بعد الحرب بأن هذا العمق المطلوب لا يكون في تجاوز الشرعية الدّولية وتكريس الإحتلال بل في إتفاقات سياسية تعيد الحق إلى أصحابه.
2- فشل استخباري أدى إلى ارتكاب القيادتين العسكرية والسياسية أخطاء فادحة في تقويمهما قدرة المقاومة واستعدادها لإدارة معركة واسعة النطاق.
3- فشل تكنولوجيا السلاح، ولا سيما في القوات الجوّية، في حسم الحرب، وفي تحقيق عدد من الأهداف المحددة سلفاً. كما فشلت دبابة الميركافا في حسم الحرب البرية، الأمر الذي أدى إلى انهيار الجهد والمال المبذولين لتطويرها على مدى أعوام طويلة مع ما رافقه من إلغاء عقود شراء واستثمار تساوي مئات الملايين من الدولارات (كما حصل مع تركيا التي ألغت صفقات كبرى في هذا المجال).
4- الفشل في إبقاء المعارك الطاحنة بعيداً عن الجبهة الداخلية وعن العمق الاستراتيجي حيث الصناعات الحساسة، والفشل أيضاً في إنهاء الحرب في وقت قصير وبأقل الخسائر الممكنة.
5- إرتباك في إدارة المعركة، حيث تبين أن تخبط القيادة السياسية كان ناجماً عن حقيقة كونها أسيرة تجاذبات الجيش وإملاءات البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأميركية من ناحية أخرى (38).
أمّا بالنسبة إلى المقاومة فإن الحرب قد أفضت إلى عدّة إستنتاجات من أبرزها ما ذكره مدير المنتدى البريطاني للنزاعات مارك بيري وألستير كروك(39):
1- إن نتيجة الحرب أثبتت إمكان إلحاق الهزيمة بإسرائيل في معركة مفتوحة إذا ما استخدمت تكتيكات عسكرية مناسبة على مدى طويل من قبل مقاومة مصممة ومدربة.
2- أثبتت هذه النتيجة كذلك أن سياسة النعامة واسترضاء الولايات المتحدة من أجل الوصول إلى مكافآت سياسية تحمي الأنظمة «المعتدلة» في الصراع، ليست دائماً هي السياسة الأنجع والأفضل في تفادي المقاومة أو التصدّي لها، لأن مثل هذه السياسة، مع صمود المقاومة، تؤدي إلى وضع هذه الأنظمة في أوضاع محرجة من فقدان الشعبية وعدم الإستقرار.
3- أثبتت نتيجة الحرب وجود حالة من العمى المزمن لدى القيادة السياسية الإسرائيلية إزاء وضع إسرائيل الجيوستراتيجي وذلك من خلال حملة الإنتقادات اللاذعة الموجهة إلى القيادات السياسية والعسكرية التي فشلت في إعداد الجيش الإعداد المناسب على مستوى التدريب والتسليح على مدى السنوات العديدة الماضية على الرغم من توافر الإمكانات المطلوبة.
لقد خسرت إسرائيل 5.7 مليار دولار، أي ما نسبته 10% من ميزانية العام 2006 وبلغ الإنفاق العسكري اليومي على الحرب 22 مليون دولار، وخسرت دبابات وطائرات وقطع بحرية بالإضافة إلى 158 عسكرياً (حسب الأرقام الإسرائيلية) معظمهم من الوحدات الخاصة إلى جانب 4119 جريحاً(40).
ومن الممكن إدراك حجم خسارة إسرائيل في الحرب من خلال إعادة النظر في المساعدات الطائلة التي تلقتها في المجالات شتى، من دون أن تكسبها النصر، ومنها القنابل الذكية وقنابل الأنفاق والقنابل العنقودية والفراغية والتمويل والدعم السياسي والمعنوي والإعلامي والدبلوماسي وصولاً إلى القرار الدّولي 1701 وقد حاول الصحافي الإسرائيلي يوئيل ماركوس(41) إيجاد ذرائع وتبريرات لما حصل فكتب يقول: «إن إسرائيل لا تدافع عن كريات شمونة والخضيرة وتل أبيب فقط، لقد تحولت رغماً عنها إلى شريكة في الحرب ضد الأصولية الإسلامية المتعصبة، التي يطلق عليها بوش لقب «محور الشر» في هذا الجزء من العالم. لذلك على إسرائيل مواجهة الواقع، بحيث تلتقط نفساً عميقاً، ثمّ تبادر إلى القتال بكل القوة الجوّية والبرّية ضد حزب الله، إلى أن تشل قدراته كميليشيا عسكرية منتشرة على حدودها، حتى تبرهن له أن الشيطان الأصغر يمتلك أنياباً أيضا». أما البروفسور يارون إزراحي من الجامعة العبرية في القدس، فطرح حلاً جذرياً آخر يقوم على المصالحة الحقيقية والتعاون إذ قال :«لقد آن الأوان لإسرائيل، لا سيما بعد حرب غير حاسمة، أن تفكّر في إجراء انعطافة شجاعة في توجهها العام وسياستها حيال الشرق الأوسط المسلم. فصواريخ سكود فوق تل أبيب وصواريخ القسّام فوق الجنوب، والآن الأربعة آلاف صاروخ إيراني وسوري التي أطلقها حزب الله على شمال إسرائيل، ينبغي ألا تجعلنا نعتمد على دبلوماسية لا يدعمها الردع. لكن هذه الصواريخ في وسعها إقناع الإسرائيليين أن يحاولوا اعتماد نهج بديل جذرياً. فالآن خصوصاً، إذ يحسّ العالم الإسلامي انه مُهان، وفيما تدفع الأكثرية المعتدلة في هذا العالم ثمناً فادحاً للإرهاب المشهدي الذي تمارسه أقلية من الأصوليين العنفيين، على إسرائيل أن تستثمر ميزتها الخاصة كمجتمع مؤلف من يهود شرقيين وغربيين ومن أقلية مسلمة كبرى، وكمجتمع تربطه روابط ثقافية وتاريخية متعادلة مع كل من الغرب والشرق، من أجل أن تقف كجسر بين العالمين بدل أن تكون الجبهة الأمامية للغرب مقابل العالم الإسلامي.
فالتحدي الذي على إسرائيل ان تواجهه ليس مدى ارتفاع صوتنا داخل الجوقة الغربية التي يحاول الرئيس بوش تشكيلها، بل مدى تطويرنا صوتاً أصيلاً في منطقة الشرق الاوسط . كذلك في وسعنا العمل من أجل تعاون اقتصادي إقليمي متبادل المنفعة، ينهض على المزايا المتبادلة لا المزايا الأحاديّة. فالتزام وطني إسرائيلي إحياء مشروع قناة البحرين، البحر الميت و البحر الأحمر، الذي يعني الفلسطينيين والأردنيين والإسرائيليين، قد يكون علامة على توجه جديد. وعلامة أخرى من هذا القبيل قد يجسدها الإحياء الصارم لتعليم اللغة العربية في المدارس الإسرائيلية كشرط لتربية أجيال جديدة من إسرائيليين يكونون أقدر على تثمين الغنى العظيم لحضارة جيرانهم والمساهمة فيها. وإسرائيل كهذه ستكون حليفاً أفضل لأميركا وشريكاً أكثر عوناً في تغيير السياسات الغربيّة الحاليّة وغير المجدية في المنطقة.»
لقد تركت الحرب الأطول في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي ندوباً عميقة في الجسد والروح الإسرائيليين وعززت مظاهر الإحباط والإستقطاب والصراعات الداخلية، وأثارت علامات استفهام كبيرة، ليس حول الأداء الميداني فحسب، وإنما أيضاً حول التوازن المطلوب بين المستويين السياسي والعسكري بشأن إتخاذ قرار الحرب. ومن بين الندوب التي خلفتها الحرب ما أصاب العلاقة الأميركية -الإسرائيلية من خدوش وسوء ظن. فللمرة الأولى تعجز إسرائيل عن توفير البضاعة المطلوبة أميركياً وفي ظروف جيوسياسية قاسية ومريرة على الطرف الأميركي المتورط في العراق. وفي هذا السياق طرح العديد من المحللين الإسرائيلين ضرورة إعادة النظر بهذه العلاقات الثنائية وفي جدوى شن الحرب في الأساس خدمة للمصالح الأميركية (حرب بالوكالة). كما وان صورة إسرائيل لدى المتبرعين الكبار من يهود العالم، وخصوصاً في أميركا، قد تضررت بشكل كبير، الأمر الذي يترافق مع التدهور الاقتصادي والاجتماعي والأمني في إسرائيل. وهذا لا يقود إلاّ إلى تراجع جاذبية إسرائيل لناحية الرغبة في الهجرة إليها. وثمّة نقطة هامة لا بدّ من الإشارة إليها أيضاً وهي أن إسرائيل عندما دخلت الحرب، دخلتها باستعلاء واستهزاء بكل العرب، ولاسيما منهم الفلسطينيين واللبنانيين، وهي ما لبثت ان سقطت في مفارقة صعبة لأنها كانت ترى أنّ أي شيء أقلّ من الإنتصار الساحق والحاسم على حزب الله، بمثابة هزيمة، فيما كان حزب الله يرى في منع إسرائيل من تحقيق الانتصار عليه بمثابة انتصار له ويصبّ في مصلحته، لأن الجيش الذي كان عنوان التقدم والمجد للإسرائيليين صار موضع شك وتساؤل وانتقاد ومساءلة من قبل لجان التحقيق. وقد حذر مجلس الأمن والسلام الإسرائيلي من أن «استعادة الجيش لقوته الردعية والتسوية التي ستحقق في الشمال، سوف تؤثران بصورة ملموسة على دوائر الصراع الأخرى»(42).
ملحق
من تقرير لجنة فينوغراد
- يمكن إجمال أساس الإخفاقات في القرارات وفي اتخاذها على النحو التالي:
أ- القرار بالرد رداً عسكرياً فورياً وحاداً لم يستند إلى خطة مفصلة في أساسها - دراسة دقيقة للطبيعة المعقدة للساحة اللبنانية. كان يمكن من خلال معرفة هذه الطبيعة الإدراك بأن القدرة على تحقيق انجازات عسكرية ذات تأثير سياسي كانت محدودة، إذ أن الرد العسكري سيؤدي إلى نار مكثفة على الجبهة الداخلية، وأنه لم يكن هناك جواب عسكري على هذه النار دون خطوة برية واسعة وطويلة «ثمنها» غالٍ والتأييد لها قليل. هذه المصاعب لم تطرح أمام القيادة السياسية.
ب- لم تدرس القرارات لشنّ المعركة العسكرية وكل الاحتمالات الكاملة، وعلى رأسها مسألة إذا كان من الصحيح مواصلة سياسة التجلد في الحدود الشمالية، أو إدراج خطوات سياسية مع خطوات عسكرية قبل حد التصعيد أو استعداد عسكري دون خطوات عسكرية فورية، لإبقاء كامل إمكانات الرد على حدث الاختطاف في يد إسرائيل. وبذلك كان هناك ضعف في التفكير الاستراتيجي، الذي يقتطع الرد على الحدث عن الصورة العامة والشاملة.
ج- تحقق التأييد في الحكومة ضمن أمور أخرى استناداً إلى عرض غامض للأهداف وسبل العمل، ما أتاح للوزراء الذين كانوا ذوي مناهج مختلفة أو متعارضة تأييد الخطوة. فقد صوّت الوزراء لصالح قرار لم يعرفوا ولم يفهموا طبيعته والى أين يؤدي. قرروا الدخول في معركة دون أن يفكروا كيف سيتمّ الخروج منها.
د- لم يتم إيضاح جزء من الأهداف المعلنة للعملية، ولم يكن ذلك قابلاً للتحقيق، وفي جزء منها لم يكن هناك إمكان للتحقق بالوسائل التي صودق عليها للعمليات العسكرية.
ه- لم يبدِ الجيش إبداعية في اقتراح البدائل، لم يحذر من أنه لم يكن هناك تطابق بين سيناريوهات التطور وسبل العمل المصادق عليها، ولم يطلب تجنيد الاحتياط الذي سيسمح بتدريبه لمعركة برية، عند الحاجة.
و- حتى بعد وضوح هذه الحقائق للقيادة السياسية، لم تطابق العملية العسكرية أهدافها مع طبيعة الساحة. وعلى النقيض، فإن الأهداف التي أعلن عنها كانت طموحة أكثر مما ينبغي، وقيل إن القتال سيستمر حتى تحقيقها، ولكن سبل العمل التي صودق عليها واستخدمت، لم تتطابق وتحقيقها.
11- مسؤولية أساسية عن هذه الإخفاقات الخطيرة ملقاة على رئيس الوزراء ووزير الدفاع ورئيس الأركان المنصرف. ونحن نولي أهمية لهؤلاء الثلاثة، ذلك لأنه من المعقول الافتراض أنه لو كان كل واحد منهم عمل بشكل أفضل، فإن القرارات وطريقة اتخاذها في الفترة المدروسة، وكذا نتائج المعركة، ستكون أفضل.
المصدر: موقع الخليج
02/05/2007