بيئتنا ثروتنا

حرج بكاسين
إعداد: باسكال معوض

يعتبر أهم حرج مثمر في الشرق الأوسط ولصنوبراته تدين التلال بجمالها الساحر
أهداه المجندون عرقهم والتعب ليظل رائعاً ظليلاً

 

أياد كثيرة شوّهت وعبثت بالطبيعة؛ جيش الوطن بيسراه أطفأ النيران قبل أن تندلع, وبيمناه جمّل وحسّن ونظّف.. إنه جيش البيئة والطبيعة والخيرات...
وهذه المرة كان حرج بكاسين الصنوبري الذي تدين له تلال المنطقة بجمالها الساحر, محطة عمل جديدة للعسكريين.


إهتمام القيادة بالشأن البيئي

إنطلاقاً من الدور التنموي والإنقاذي الذي يؤديه الجيش اللبناني الى جانب أدواره الأخرى من عسكرية وأمنية, تفرد القيادة جانباً أساسياً من إهتماماتها للشأن البيئي, وتوجّه الوحدات في مهام إنقاذية كلما لزم الأمر. وبالنظر الى الخطورة التي تسببها إحتمالات إندلاع الحرائق ونحن في مطلع الصيف, توفر القيادة جهداً للقيام بمختلف الإجراءات وتنفيذ شتى المهام التي من شأنها, ليس محاصرة الحرائق وإخمادها وإنقاذ الثروة الحرجية والإنسان والمواسم والبيئة فقط, بل أيضاً الحيلولة دون إندلاع الحرائق ومحاصرة أسباب إندلاعها ما أمكن, والعمل على تيسير الحركة داخل الغابات أمام آليات الدفاع المدني في حال وقع المحظور.
ومثل هذه المهام تحقق, الى فوائدها المباشرة على المستويات الإنسانية والزراعية عموماً, وفراً هائلاً على خزينة الدولة ما يتيح إنقاذ الإنسان والثروة الوطنية من دون التكلّف على ذلك بالمال الذي يتجه لتلبية وتنفيذ مشاريع أخرى حيوية.
وفي هذا الإطار, باشرت وحدات الجيش من منطقة الجنوب العسكرية, معسكر خدمة العلم الأول, فوج الهندسة, فوج الأشغال المستقل إضافة الى الدفاع المدني وبلدية بكاسين, العمل على الإنقاذ المسبق لغابة بكاسين الصنوبرية, بتنظيف الجذوع والأغصان اليابسة المعروفة بأنها تشكل الوقود المثالي للحرائق؛ فضلاً عن تخطيط وشق طرقات داخل حرج يسهل لآليات الدفاع المدني التحرك عليها إذا دعت الحاجة. وتتضمن المهام الجاري العمل على تنفيذها, تنظيف الحرج ومنطقته من أي مواد حربية يمكن أن تكون مخلّفة في المنطقة, وقد تشكل خطراً على الإنسان والحيوان والنبات والبيئة.
ومع تواصل المهمة المخضّبة بجهد العسكريين ومجندي خدمة العلم وعرقهم, يتكامل العمل على محاصرة إحتمالات إندلاع الحرائق في أضيق إطار ممكن, مع تيسير مهام الإطفائي في عمق المناطق الحرجية حين يلزم الأمر بفضل الطرقات التي يجري العمل على شقّها.

 

حصاد الأحاسيس

مجلة “الجيش” زارت المنطقة وحادثت بعـض الناشطين من عسكريين ومجندين خـلال لحظـات راحتـهم, فكان هذا الحصاد.
عن يوميات العمل وطرق تنفيذه والصعوبات المحيطة حدّثنا العقيد ياسر الخطيب قائلاً: بالنظر الى صعوبة العمل ارتأت القيادة أن يتم بمعدل أربعة أيام بالأسبوع, من السابعة صباحاً وحتى الأولى ظهراً. وقد نشط في كل يوم مئتان من المجندين للقيام بما ينبغي القيام به في إطار المهمة التي إستمرت على مدى عشرة أيام, وكانت البلدية في وقت سابق قد عملت على تشذيب الأشجار التي كانت العواصف والثلوج قد شلّعت أغصانها. وأمكن تنظيف حوالى 20 ألف متر مربع في هذه المهمة, على أن يستكمل العمل عبر مهام أخرى لاحقة.
وعن شعورهم وإنفعالاتهم وجهودهم, تحدّث المجندون العاملون بدورهم:
- المجند آلان تابت رأى أن هذه المهمة اكسبت المجندين المعلومات والخبرة وعززت ارتباطهم بلبنان من خلال الحفاظ على الثروة النباتية والحيوانية التي يمثلها هذا الحرج الجميل والمهم.
- المجند عمر شكر قال: إنها المرة الأولى التي أزور بها هذه المنطقة, وفي زيارتي الأولى أهديتها عرقي وتعبي لتبقى جميلة كما هي اليوم, بعد إنجاز قسم كبير من العمل. أحترم كثيراً مؤسسة الجيش لأنني لاحظت كم أنها تعمل على راحة المواطنين من مختلف النواحي, فهي تسبقهم لتسهل الطريق أمامهم؛ كما أنها تسهم بتنظيف بيئة الوطن التي تدهورت أحوالها خلال الحرب القاسية.
- المجند حسن عباس رأى أن مهمة الجيش الإنمائية أصبحت مهمة جداً وهي اليوم قد شملت مؤازرة البلدية لتخفيف العبء المادي عن الخزينة. أنا فخور لأن مبادئ المؤسسة العسكرية التي أؤمن جداً بها قد طبقتها اليوم على الأرض: بند التضحية في ما نبذله من عرق وجهد في هذه المنطقة الجنوبية, وبند الشرف الذي استحقه عن جدارة عندما أسهم في المحافظة على خيرات وطني, والوفاء مني لهذا الوطن الحبيب الذي أعطتني أرضه كل خيراتها.
- المجنّد علي مطر: كان لبنان رمز الإخضرار الدائم وأرزته خير شاهد على ذلك؛ لكننا نرى اليوم, أنه وبسبب أشياء وأمور تافهة تتدمّر الجمالات الطبيعية وتضيع هباء في لحظة من التخلي. عملنا اليوم هو نذر نقطعه لتراب الوطن وغاباته بأن تبقى بسواعد وهمّة الجيش خضراء صامدة على الدوام.

 

تحرير الحرج من مخلفات الحرب

غير بعيد عن المجندين التقينا الجندي محمد شرمان من فوج الأشغال المستقل (سائق الجرافة), سألناه عن مهمته فقال: كانت مهمتنا فتح الطرقات داخل الحرج كي نستطيع الوصول الى كل الأشجار وإزالة الأغصان المكسرة, ونقل الجذوع الكبيرة التي لا قبل للأيدي بحملها. والعمل الذي نقوم به يفتح الباب أمام الدفاع المدني إذا دعت الحاجة (الحرائق) لدخوله بآلياته الى الغابة بهدف مكافحة النيران.
ولفوج الهندسة أيضاً حديث عن الموضوع أثاره الملازم الأول عماد طربيه الذي شرح لنا قطاع عمل فوج الهندسة في هذه الحملة, فأخبرنا أن المنطقة خالية كلياً من الألغام لأنها لم تكن يوماً ساحة معركة أو قريبة كفاية من المواقع العسكرية ليتم تفخيخها وزرعها بالألغام. لكن حدوث معارك في بلدة جزين وقضائها جعلها أحياناً هدفاً لسقوط قنابل أو قذائف أو رصاص على أرضها. لذا فقد كُلّفنا من القيادة وبالتنسيق مع معسكر خدمة العلم الأول الكشف على الأجسام المشبوهة المحتمل العثور عليها أثناء عملية التنظيف وإجراء اللازم بشأنها. ونقوم أولاً بعملية تحسس لإيجاد أي نوع من الأجسام المشبوهة, كالقذائف المدفعية غير المنفجرة أو القنابل العنقودية أو الرصاص الخالي أو المليء بالبارود والذي يمكن أن ينفجر عند تعرّضه لحرارة عالية.
لقد قمنا بداية بشرح سهل للمجندين عن أنواع وأشكال الأجسام التي قد يجدونها في الغابة, مع العلم أن عملنا يسبق عمل المجندين فنحن ننظف بقعة داخل الحرج أولاً ثم يدخلها المجندون لإزالة الأغصان اليابسة منها. لكن الحرص واجب لذا فهم الآن يملكون فكرة عن الأجسام المشبوهة يمكن أن تفيدهم في توعية أنفسهم والآخرين عند عودتهم الى الحياة المدنية.

 

الأيادي الخضراء

تبدأ قصة تنظيف الحرج وتأهيله من مكاتب بلدية بكاسين برئاسة المحامي عبدالله سعد, إذ بعد أن لاحظت الهيئات البلدية مقدار الضرر الذي ألحقته العواصف بحرجها الجميل وقدّرت مقدار الخطورة المحتملة, حرائق ودماراً وتشويهاً في موسم الصيف, سارعت الى رفع الصوت رسمياً للمطالبة بتأهيل الحرج ورفع سيف الإحتمالات النارية عنه. وبوصول الطلب الى وزارة البيئة المعنية بمثل هذه الأمور, استنجدت بقيادة الجيش إذ اعتادت البيئة اللبنانية على أيادي العسكريين الخضراء, سيما وأن الجيش اللبناني كان قد عمل على رفع عشرات السيارات الخربة والمهملة التي كانت متناثرة في أرجاء الحرج والبلدة.
وكانت البلدية تدرك مقدار التكلفة العالية لتنفيذ ما ينبغي تنفيذه في الحرج ومنطقته, لذلك رحبت بإندفاع الجيش للقيام بالمهمة بمجنديه وعسكرييه تحقيقاً للغاية الوطنية والبيئية.

 

بطاقة هوية

يتضمن حرج بكاسـين نحـو 75 ملـيون شجـرة معمـرة تتـوزع في غالبيـتها على الصنوبر, ومنها أيضاً السنـديان والحـور واللك. وقد تمت زراعة هذه الأشجـار المثـمرة (الصنوبر) على عهد فخر الدين المعني.
وفي داخـل الحرج الذي تبلـغ مساحته مليونين و250 ألف متر مربع حوالى 13 نبعاً تشرب منها بلدة بكاسين وتعتبر مصدر مياهها الرسمي.
وقد أعلن الحرج بقرار وزاري محمية بيئية على عهد وزير البيئة شوقي فاخوري في العام 1996.
وهو اليوم يعتبر أكبر حرج مثمر في الشرق الأوسط.


دفعوا “الميري” واستملكوا الحرج

في أيام الأتراك كان الحرج ملكاً لأهالي جزين, إلا أن البلدة أبت أن تدفع ضريبته للدولة التركية أي “الميري” كما كانت تسمى في ذاك الوقت, فتطوعت بلدة بكاسين, بمجموعة من عائداتها, فدفعت الميري وبالتالي استملكت الحرج. وهكذا أصبح الحرج في العام 1899 ملكاً لـ12 عائلة من بكاسين قاموا بتقديمه في وقت لاحق للبلدية التي أنشئت في البلدة, فأصبح ملكاً للبلدية منذ ذلك الوقت, ولها الحق باستغلال موارده وإستثماره.