سياحة في الوطن

حصرايل الجبيلية
إعداد: باسكال معوض بو مارون

حصن إيل وسكناه

وادي الدفلى والرياحين والآثار بات محطاً لأنظار الصناعيين


حصنٌ اختاره إيل وجعله سكناه منذ الأزل؛ مغاور نقشت الحياة على جدرانها، وينابيع تنضح مياهها بنكهة الصخور الدهرية... هذه هي حصرايل الجبيلية، القرية الوادعة، التي تآلفت ارضها مع اشجار الزيتون والكرمة والتين واللوز... وتطيّبت بالقصعين والرياحين، فيما تمنطق الملول والسنديان والعفص والصنوبر تلالها.

الزيتون والمعاصر ماضٍ لم يغب وأتون الكلس اسس نهضتها الصناعية الحديثة

 

«حصن الله»

حصرايل بلدة عميقة الجذور في التاريخ وهي بحكم موقعها المجاور  للشاطئ ومجاورتها لمدينة جبيل، كانت في ما مضى امتداداً طبيعياً لحضارة بيبلوس المتألقة في تلك الأزمان.
حصرايل باشتقاقها من اللغات القديمة تتكون من كلمتين «حصر إيل» ومعناها حصن الله او موقع الله حيث سكن الإله قديماً. ولهذه التسمية مغزى فينيقي ترجمته دلائل تاريخية وهي التربيعات المحفورة على بعض صخورها المشرفة على البحر والتي تشكل مذابح وثنية كانت تجري عليها الطقوس الدينية والتقديمات للآلهة.
وحصرايل ايضاً هي امتداد لبلدة عشتروت المسماة حالياً بعشتا، وقد نقّبت مديرية الآثار في الثمانينيات في منطقة على حدود حصرايل، حيث وجدت مقبرة قديمة في داخلها مجموعة من التماثيل الذهبية للإلهة عشتروت وحاشيتها.

 

زراعة وصناعة

اهالي حصرايل طيبون ومحبون لأهلهم وجوارهم ولضيوفهم، عاشوا بسلام في ما بينهم ومع جيرانهم. ويتميز اهل حصرايل باهتماماتهم الفكرية، والثقافية، ومن بينهم الكثير من رجالات الفكر والسياسة والدين.
في حصرايل التي تربض على بحيرة من المياه الجوفية والتي تزخر بالتربة الغنية، زراعات قديمة وأخرى حديثة. فمنها الكرمة واللوز، وشجرة الزيتون التي تأصّلت في البلدة منذ القديم، فامتلأت البلدة بمعاصر أنتجت الزيت الأطيب في المنطقة.
اما الزراعات الحديثة فهي نباتات وثمار وخضار قليلة في الاسواق منها البروكولي والفليفلة الملونة والبندورة الصغيرة الحجم ونباتات الزينة على أنواعها.
إضافة الى إنتاجها الزراعي فإن البلدة ناشطة صناعياً، ومن المصانع الكثيرة الموجودة فيها مصنع الانابيب الفولاذية ومصنع الحديد، ومعامل نشر الصخور، الى معامل لصناعة الادوية، والمفروشات، والبلاستيك، ومحطات الغاز، وأخرى لصناعة مواد البناء والصناعات الغذائية، ومزارع الدواجن والكيماويات.

 


الموقع والتاريخ

حصرايل بلدة تربّعت على هضبة ارتفعت على مهل بين واديين يحضنانها ليلتقيا مستسلمين على قدميها، ويشكلان دلتا صغيرة حرسها في ما مضى دير الفارس مار جرجس (دير أثري صليبي)، وجاورته عين بعشتا التي عايشت قوافل العابرين منذ آلاف السنين وروت ظمأ الذين أضنتهم المسافات.
تضيق بلدة حصرايل بمحاذاتها للاوتوستراد فيتراوح عرضها بين 100 متر بين الواديين اللذين يحدانها لتتّسع في وسطها الى مساحة 2 كلم. كما ترتفع صعوداً من مستوى 25 متراً عن سطح البحر الى علو يناهز الاربعمائة وخمسين متراً.
ويحدّها لجهة الجنوب وادٍ سحيق يشكل الحد الفاصل بين حصرايل وبلدة عمشيت. وقد اطلقت على هذا الوادي تسمية نهر حصرايل لأن مياه المطر ترفده ايام الشتاء، وكان دائم الجريان في ما مضى من الزمان، تدل على ذلك طبيعة حصاه، لكن شحاً أصاب الينابيع التي كانت تغذيه من حاقل وجاج ولحفد.
هذا الوادي الذي افترشته أزهار الدفلى وشجيرات الريحان يمتد شرقاً ليشكل الحدّ الفاصل مع قرية غرفين وبلدة حصارات. وهو كان يشكّل بكثافة أحراجه الرئة الخضراء للمنطقة المحيطة، ومرتعاً لمختلف أصناف الطيور والأعشاب النادرة والكروم وأشجار الزيتون، إضافة الى احتضانه معالم أثرية تعود الى آلاف السنين.

 

دير مار جرجس
كان هناك قبل الأوتوستراد

إفترش دير مار جرجس نقطة التقاء الواديين اللذين يحضنان هضبة حصرايل لجهة البحر، ويظهر من الآثار المحيطة به أنه قد شيد على أنقاض معبد فينيقي وثني قديم، وكان محاطاً في ما مضى بسلسلة من المغاور التي كانت تستخدم للسكن، والدليل على ذلك ان سقوف المغاور ما زالت ممهورة حتى اليوم بمادة الكربون الناتجة عن استخدام ساكنيها للنار بهدف التدفئة او طهي الطعام. وكان يعلو سقف هذه المغاور نحت قديم بشكل بيضة (رمز الحياة عند الفينيقيين).
يشكل هذا الدير خاتمة لتلة بعشتا الزاخرة بالمعالم الأثرية، كالآبار المحفورة بإتقان والمطلية بطبقات الكلس والفخار، والمدافن المنحوتة بدقة وعناية لتشكّل غرفاً مكعبة في أحشاء تلك التلة. وقد تحوّلت تلك المدافن وبعدما تمّ تفريغها (خلال حقبة غير معلومة) الى غرف كان يلجأ اليها الرعاة العابرون أثناء الشتاء.
ظلّت تلّة مار جرجس هدفاً لهواة الآثار حتى أيامها الأخيرة في الثمانينيات، حينما طمس الأوتوستراد الساحلي معالمها مع دير مار جرجس الذي ما يزال ماثلاً في مخيلة من عرفه وتشفّع بشفاعته، فقد بلغت مساحة سطحه حوالى الستين متراً مربعاً وارتفاعه حوالى الأربعة أمتار، له مدخل واحد من جهة البحر ونافذتان تطلاّن على حدائق الدفلى التي تفترش جنبات الوادي. اما أرض الدير فقد رصفت بالبلاط الصخري، ومذبحه يتصدر البهو لجهة الشرق وهو يشبه الى حد كبير مذبح دير مار تادروس في أعلى البلدة، كما يربض على سطحه جرس صغير.
اما مصطبة الدير فتحيط به من الجهات الثلاث وقد تمّ فرشها بالاسمنت في مطلع الستينيات. كما تم تأهيل الدير من الداخل وجهز بالمقاعد الخشبية ليصبح جاهزاً لإقامة القداديس والاحتفالات فيه.
موعد الأهالي في الدير وساحاته كان يتكرر أيام عيد شفيعه وعيد الرب وعيد مار يوحنا المعمدان. أما اليوم فكل ما بقي من تلك البقعة، مساحة صغيرة يحلم الجميع ببناء «مزار صغير» عليها للقديس جرجس.

 

اتون الكلس

صناعة الكلس قديمة العهد في لبنان، أتقنها الفينيقيون، فقد استخدموا الكلس في البناء وصناعة الطلاء الملون. وقد اقترن الكلس بثبات البناء ومقاومته لعناصر الطبيعة. ويتحدث أجدادنا عن أهمية الكلس في مدمكة البناء. فالكلس خاطب الحجر قائلاً: «احملني شهراً، فأحملك دهراً».
الأتون الذي أصبح مكاناً للذكريات في حصرايل، يتألف من بناء مخروطي الشكل يبتدئ بقاعدة دائرية وينتهي بدائرة أخرى وما بينهما بئر.
في قعر البئر بيت النار الذي يتم ادخال الحطب اليه من خلال دهليز يخترق قاعدة الأتون الخارجية. وينتهي الموقد ب «زغرين» هو عبارة عن كوة تسمح بمرور الاوكسيجين اللازم للاحتراق. اما الحجارة المزمع تحويلها الى كلس فترصف وتعقد فوق الموقد وحتى بلوغ قمة الأتون بطريقة تسمح بمرور النار واللهب بين الحجارة من الاسفل الى الاعلى.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأت حركة البناء بالنمو خصوصاً في بيروت، فازداد الطلب على مواد البناء ومن ضمنها الكلس الذي نشطت صناعته من جديد وبالطريقة التقليدية أي بواسطة الأتون. فانتشر بناؤه في مختلف المناطق اللبنانية، منها حصرايل، والتي بنى فيها بعض أبنائها العصاميين عدداً من هذه المصانع التقليدية لإنتاج الكلس مثل أتون «العربي» وأتون «زاير كور» وأتون «ضهر حصرايل» وأتون «القرقفي»، والتي تمّ استخدامها لسنوات متتالية وحتى أواسط الخمسينيات بالطرق التقليدية. كانت تلك اول تباشير الصناعة في البلدة والتي تحولت الى مجمع صناعي يشمل حقولاً انتاجية عدة.

 

نبع البلدة

وادي النبع سمي كذلك لاحتضانه النبع الوحيد في حصرايل والذي يجري في حضن الساقية بين غابات السنديان والبطم واشجار الغار ومحامل العنب.
وقبالة سفح جدايل قرب النبع مغارة صغيرة نصل اليها عبر «مسروب» ضيق ملتحفين الشير الشاهق. تنفتح المغارة بفوهة عرضها متران وارتفاعها حوالى ثلاثة أمتار وتمتد نحو أربعة أمتار بعمق يضيق مداه حيث تبلغ حوض النبع الذي يجمع ما رشح او تسرب من قطرات ماء من مآقي الصخر، والذي وضعت فوقه بلاطة غليظة لحماية هذا الجرن من التلوث وجعله في منأى عن عبث الحيوانات التي وضع لها مشرب آخر خاص بها. لذا تظل المياه داخل المغارة نقية تماماً وهي رغم شحّها تنضح باستمرار من عمق الصخر الشامخ فيرتشف الظامئ ماء زلالاً طيباً به نكهة الصخور ويحتفظ بمذاقه المميز ما دامت له الذاكرة.

 

دير مار تادروس
متربّع على التل الاعلى

يتربّع دير مار تادروس التل الاعلى في حصرايل والذي يبلغ ارتفاعه 385 م عن سطح البحر. وتشرف من على سطح الدير على معظم قمم جبال السلسلة الغربية ومعظم المدن الساحلية حتى بيروت. وعندما يكون الطقس صافياً، بمقدور الناظر بمنظار عادي رؤية جزيرة قبرص.
ويقول خبراء آثار إن دير مار تادروس بني على أنقاض معبد قديم، اما في شكله الحاضر فهو يعود الى الحقبة الصليبية. وتحيط بالدير عشرات الآبار المعدّة لجمع المياه مما يشير الى ان ذلك التلّ كان عامراً بالبيوت في الماضي السحيق. وتبلغ مساحة سطح الدير حوالى الاربعين متراً مربعاً وارتفاعه حوالى الاربعة امتار وتحيط به مصطبة ضيقة من جميع جوانبه.
وللدير مدخل واحد ونافذتان ضيقتان تسمحان بدخول النور والهواء، وجدرانه سميكة تتشكل من حجارة اختلفت في اشكالها وأحجامها وتبوتقت وانسجمت في بنائها. ظل الدير على حالته القديمة حتى مطلع الثمانينيات حيث قام المسؤول عنه في تلك الفترة بعملية ترميم، فظهرت معالمه الأثرية من الداخل وتجلّى بمذبحه الحجري وباتساق حجارته المعقودة. فقد قام الاهالي بإيصال الطريق الى ساحة الدير وتم فرشها بالاسفلت. وليلة عيد مار تادروس تغص ساحة الدير بالزائرين من القرية والجوار وتقام المآدب احتفالاً بالعيد.

 

حاجات البلدة الى المياه

رئيس بلدية حصرايل الاستاذ كمال الحلو حدّثنا عن المجلس البلدي ونشاطاته ومشاريعه المستقبلية قائلاً: قامت بلدية حصرايل المحدثة بتوسيع الطريق العام للبلدة من دون الإضرار ببيوت السكن، وقد تمّ ذلك بتعاضد جميع الأهالي وتقديم اراض محاذية للطريق في سبيل المصلحة العامة وتحسين مظهر البلدة.
كذلك قامت البلدية بإعادة بناء جدران الدعم المتصدعة حول الطرقات ودعمها بالباطون المسلّح، وتتم صيانة هذه الجدران بشكل دائم.
وتصب البلدية اهتمامها حالياً على توفير المياه للبلدة التي لا تزال محرومة من شبكة مياه الشفة، رغم وجود العديد من الآبار الارتوازية الصالحة للشرب. وقد حفرت مصلحة مياه الشفة منذ أكثر من خمسة عشر عاماً بئراً لكنه لم يزود بمضخة تتيح الاستفادة منه. وقد تقدمت البلدية من وزارة الموارد بطلب لتأهيل البئر وتوزيع مياهه على الاهالي كما أعلنت عن استعدادها لتحمل النفقات.

 

محط انظار الصناعيين

تشكل حصرايل بموقعها الجغرافي وجوّها الآمن محط انظار الصناعيين لأنها تقع وسط المسافة بين مرفأي طرابلس وبيروت، فهي تبعد عن كليهما 04 كلم، وهي أيضاً على مسافة قصيرة من الاوتوستراد الدولي. اما عن مشاريع البلدية للمستقبل القريب فيقول الاستاذ الحلو ان الوادي سوف يحتضن الطريق الخاصة بالمناطق الصناعية في حصرايل إذ اتخذت بشأنه البلدية قراراً رسمياً يقضي بتخطيطه وتنفيذه وبإلحاح، وقد أنجزت الدراسات والمخططات لهذا المشروع ليشكل الطريق الخاص بالمنطقتين الصناعيتين في حصرايل والمتاخمتين للوادي. ومن المقرر ان يواكب انشاء تجهيز هذا الطريق انشاء البنى التحتية من ماء وكهرباء ومجارير ومحطات لتكرير المياه المبتذلة.
وسيكون هذا المشروع الاول في بلاد جبيل، خصوصاً وإن بإمكان البلدات المحاذية للطريق الاستفادة منه حيث يمكن ان يستكمل لاحقاً فيصل الى بلدات غرزوز وشيخان ومعاد، ويشكّل حلاً جذرياً لمشكلة مرور الآليات والشاحنات في قلب البلدات، ويفصل المناطق الصناعية عن المناطق السكنية ويضمن السلامة العامة وسلامة البيئة.
ويختم رئيس البلدية حديثه قائلاً: على عاتق بلدية حصرايل ومن خلالها الاهالي واصحاب المعامل، واجب اساسي يقضي بوضع مخطط توجيهي يتعاضد في سبيل تحقيقه الجميع لوقف التمادي بالعبث بالبيئة ولإعادة الرئة الخضراء الى البلدة.

 

عائلات حصرايل

يبلغ عدد سكان بلدة حصرايل حوالى 1200 شخصاً، وقد ذكرت البلدة قديماً في أرشيف الاستانة ان عدد الملزمين بدفع الضريبة فيها وفي محلة «كور الهوا» تحديداً حوالى خمسة اشخاص.
وعائلات البلدة اليوم خمس أيضاً وهي: الحلو، سعاده، ابي سليمان، راشد، وعاصي. ويقال ان تاريخ عائلة الحلو يعود الى بداية القرن السابع عشر حيث أتى 5 أشقاء وتمركزوا في حصرايل ومن بعدها انتشرت هذه العائلة في مختلف المناطق اللبنانية.

 

 
تصوير: روبير مرقص
المرجع: «من زاوية امس الذي عبر»
كتاب قيد الاعداد للاستاذ كمال الحلو