قصة

حضارة تزول
إعداد: العميد الركن إميل منذر

ألقتْ ابنتي الريموت كونترول من يدها بعدما جالت على كلّ محطّات التلفزيون ولم يعجبها منها شيء، وقامت من مكانها، وحشرت نفسها على المقعد الضيّق إلى جانبي، وأخذتْ الكتاب بلباقة من يدي، وقالت بغنج: هلاّ حكيتَ لي حكاية جديدة علّها تكون أكثر تسليةً من هذه البرامج المملّة.
- سمْعًا وطاعةً... هل أحدّثكِ هذه المرّة عن القرية؟
- أليس لكَ يا أبي من حديث سوى القرية؟ لقد قصصتَ عليّ حكاية مريم والمعلّمة سلام، وحكاية تلفزيون العمّ فيليب، ورويتَ لي أكثر من مرّة قصّة الهرّ الافرنجيّ، والرعيان الذين قُتلوا في القاطع، وكرْم الزيتون الذي بعتَه وذهب قلبك معه، وقصّة شجرة الليمون في حرج السنديان. فهل بقي شيء في ضيعتكم لم تحكِ لي حكايته بعد!
- أقلتِ ضيعتكم! أليست هي ضيعتكِ أيضاً يا ابنتي!
- إني أحمل اسمها في بطاقة هويّتي فحسْب. لكنني لا أعرفها، ولم أعشْ فيها. لذلك تراني لا يربطني بها سوى أنها مسقط رأس أبي.
- حسنًا. أعِدُكِ أنك لن تسمعي ذِكْرها على لساني بعد اليوم.
وعندما رأتني قد أطرقْتُ ولذْتُ بالصمت الحزين، أحاطت ابنة الثلاثة عشر ربيعًا عنقي بذراعيها النحيلتين، وقالت: لا تزعل يا أبي. تستطيع أن تحكي لي عن القرية قدر ما شئت.
وقبل أن أفتح فمي بكلمة، استعجلتْ ابنتي إلى القول: أتعرف يا أبي؟ أنت تحبّ القرية حبّاً جمّاً. وربما كنتَ تحرم نفسك رؤيتها لأننا لا نحبّ الصعود إليها لقضاء بعض الوقت فيها. لكن هذه المرّة سأرافقك بطيبة خاطر إذا كنتَ راغباً في زيارتها... أنا لا أستطيع أن أراك حزيناً.
- أصدْقًا تقولين! إني أكاد لا أصدّق ما سمعت.
- أجل يا أبي. وسنصعد كلّنا برفقتك. أليس كذلك يا أمّي؟
- كما تشائين يا حبيبتي.
قلت: كنت سأقصّ عليك حكاية حضارة أخذت طريقها إلى الزوال. أما وأنكم سترافقونني إلى فوق، فقد كفيتموني مؤونة الكلام، لأنكم ستشاهدون بأمّ العين ما كنتُ سأحدّثكم الليلة عنه.
- وهل في القرية حضارة تحدّثنا عنها يا أبي! سأل أحد الأولاد، وكادت الضحكة أن تفلت من بين شفتيه.
- لعلّهم فوقُ قد توقّفوا عن حدْل الأسطح الترابية بالمحادل أيّام الشتاء، واستبدلوا جرن الكبّة بمطاحن كهربائية، قال الآخر، وأضاف سائلاً: وهل وصلتْ إلى الجرْد العالي الكهرباء، والصحون اللاقطة، وشبكات الأنترنت، والجرّارات الزراعية، والحصّادات الآلية؟ والنَوْل؟ سأل وضحك، وتابع: سمعتُ أنهم كانوا يحوكون الثياب عليه. فهل ما زالوا يفعلون؟
- لقد تغيّرت القرية يا ولدي. المدنية غزتْها بأسلاكها الكهربائية وعجلاتها المطّاطية؛ فشُقّت الطرقات وعُبّدت، وارتفعت العمائر، وقامت المعامل، وشُيّدت المدارس والمتاجر والمستشفيات. لكن كلّ هذا كان على حساب حضارة بقيتْ تكافح دهوراً طويلة. إلاّ أنها اليومَ باتت مهدّدة بالزوال تهديدًا حقيقيًا.
- إنها سُنّة الحياة يا أبي. قديمٌ يفنى وجديدٌ يولد.
- صحيح. ولكن السؤال هو: هل أصبح الإنسان اليومَ أكثر راحة وسعادة من ذي قبل؟... ربما ارتاح الجسد، أما الفكر فلا أظنّه إلاّ ازداد تعبًا.
- متى سنصعد يا أبي؟
- غدًا. ونبيتُ ليلتنا فوق.
- على فكرة، قالت ابنتي كأنها تذكّرتْ أمرًا كان قد غاب عن بالها: لماذا لا ننزع هذا الطبق من القشّ المعلّق في صدر الحائط ونستبدله بلوحة مثل التي في بيوت الناس! لقد أصبحتُ أشعر بالخجل كلّما زارني أصدقائي ونظروا إليه.
إذ ذاك ضحكتْ زوجتي، وقالت: لو عاد الأمر لأبيكِ وحده لجاء أيضاً بسروال جدّه المعلّق على التوتة في الضيعة، و«زيّن» الحائط به مثلما يزيّنه بهذا الطبق العتيق. عندئذٍ التفتُ إليها وقلتُ بين الجدّ والمزاح: دعينا من السروال وطبق القشّ. أحبّ أن أسألك إن كنتِ قد أنهيتِ كنزة الصوف التي وعدتِني أنك ستصنعينها لي بالصنّارتَين مثلما علّمتك أمّي. فابتسمتْ طويلاً وقالت: وهل صدّقتَ أنني تعلّمت! ليرحمِ الله أمّك، ويرحم الحياكة بالصنّارتين.
* * *
وكان صباح اليوم التالي جميلاً بشمسه الدافئة، منعشًا بنسيمه العليل؛ فركبنا السيّارة، وأخذنا طريقنا إلى الجبل صعودًا بين أحراج الصنوبر والسنديان الممتدّة على الجانبين. وما مضت ساعة من الزمن حتى وصلنا إلى القرية، وترجّلنا في باحة بيتنا الحجريّ الواسعة، وقد ألقتْ عليها شجرة الجوز بظلالها الوارفة، وعبقت فيها رائحة شجرة الياسمين التي رأيتها تغالب العطش في هذا الفصل القائظ ولم تبخل بعطرها. وإذ حانت من ابنتي التفاتة إلى شجرة التوت القائمة في ركن قريب، مدّت إصبعها نحوها، وسألتْ: ما هذا الشيء الأسوَد المعلّق بالشجرة هناك؟ فضحكتْ زوجتي، وأجابتها: إنه السروال الذي حدّثتُكِ عنه أمس في بيروت. فقلتُ وابتسامة حزينة تعلو شفتيّ: هذا السروال، إلى جانب الكوفيّة، كانا زِيّ آبائنا وأجدادنا الذين فتّتوا الصخر بسواعدهم، واقتلعوا البطم والعرعر من الوعر بمعاولهم، وحوّلوه جلولاً زرعوها توتاً ربّوا على ورقه دودة القزّ، وقطفوا الشرانق التي غزلتْ أمّهاتنا وجدّاتنا خيطانها حريراً فاخرًا... صدقًا أقول لكم إنّ الأيّام انقلبت والدنيا فسدت يوم بدّلنا زيّنا، وأصبحت النساء يرتدين البنطلون مثل الرجال، والبنات يقصّرن شَعرهنّ كما الصبيان. ألا رحم الله زمن الكوفيّة والسروال.
- وما هذا هناك يا أبي؟ سأل أصغر أولادي وهو يشير بيده.
- إنها المحدلة التي كنا في أيّام الشتاء نحدل بها سطح البيت الترابيّ لئلاّ تتسرّب عبره مياه المطر. وهذا هناك جرن الكبّة، وتلك مدقّة الخشب التي كان لها معه أيّام الأعياد صولات وجولات... نحن اليوم نأتي باللحمة جاهزة من عند اللحّام. لكن طعمها في القرية كان أطيب لأن الجرن الحجريّ ومدقّة الخشب كانا يمنحانها نكهة مختلفة.
ودخلنا، وكانت مدفأة الحديد ما تزال متربّعة في صحن البيت؛ فقلت: حول هذه المدفأة كنا نتحلّق في ليالي الشتاء حيث يشتدّ البرد وتسدّ الثلوج الطرقات. وعليها كانت أمّي تطهو الطعام وتسخّن المياه. صدّقوني أنْ ليس أجمل من رؤية ألسنة النار ترقص خلف نافذة المدفأة، ولا أوقع في الأذُن من فرقعة عيدان الحطب فيما الرياح في الخارج تصفُر وتُعْوِل.
وتبعَني ابني إلى القبو العَقْد؛ فرأى لوحاً خشبيًا عريضًا مغروزةً فيه حجارة صغيرة خشنة سوداء اللون؛ فنظر إليّ نظرة مستغربة متسائلة؛ فقلت: هذا يسمّونه النَوْرَج. وللنورج مع البيدر وأغمار الحنطة حكاية جميلة تتجدّد كلّ سنة... كنا أولادًا نجلس عليه، وثَوْران لجدّك - رحمه الله - يجرّان النورج لساعات طويلة حتى تنطحن تحته سيقان السنابل وتتحوّل تبناً ناعماً... لَعَمْري إن الركوب على النورج لأمتعُ من ركوب أفخم سيّارات اليوم وأحدثها طرازاً... وتلك المعلّقة هناك، مذْراة، وظيفتها فصل الحَبّ عن التبن. هذه الرحلة التي كانت تستغرق أيّامًا مضنية، اختصرتها الآلة اليوم بساعات قليلة.
وأخرج ابني بندقيّة صيد قديمة، وطلب مني مرافقته إلى الحرج ففعلتْ. وما كدنا نبتعد عن البيت بضع مئات من الأمتار حتى صادفْنا بقعةً من الأرض مسوّرة بحجارة متساوية الأحجام على شكل دائرة لا يتجاوز قطرها العشرين مترًا، وقد نبت فيها العشب، واختفى من الدائرة حجر هنا وآخر هناك. فسأل ابني عن سرّ هذا الملعب الصغير؛ فأجبته ضاحكًا: هذا ليس بملعب. إنه البيدر الذي ذكرته لك منذ بعض الوقت.
وانحدرنا نحو الوادي في طريق ضيّق وعر سدّه الشوك وتطاولتْ فوقه أغصان الشجر. وما عتّمنا أن مررنا بما يشبه جلولاً ضيّقة نبتَ فيها الوزّال والقندول، وسقط بعض جدرانها العالية. ثم بدَتْ لابني بعض الأجران الحجرية وقد امتلأ قعرها بالتراب والحصى والأوراق اليابسة؛ فسأل عن تاريخ هذه «الآثار». فقلت: ليست هذه آثارًا كما تظنّ. إنما هي أجران نحتَها أجدادنا في الصخر ليعصروا فيها عنب الدوالي التي كانت تضجّ بها هذه الجلول، كي لا يحملوا العناقيد لعصْرها في القرية... لتعرفْ يا ولدي أن هذه الجلول الوعرة كانت بالأمس تكفي أهلها، وتكفي الجيوش الغريبة الغازية حتى في سنوات الحروب والحصار والجوع. وها هي سهول لبنان كلّها اليوم لا تكفي شعبه وحده.
- كيف يكون هذا يا أبي!
- لا تظنّنّ أن السببَ ازديادُ عدد السكّان. إنما السبب ضعف الهمّة، وهجر الأرض، والنزوح إلى المدينة سعيًا وراء الحياة الهيّنة... لنكملْ مشوارنا الآن. وسأحدّثك عن هذا الموضوع في فرصة أخرى.
- أنظرْ يا أبي، أنظر. أليست هذه هنا بقيّة من دالية هرِمة؟
- إنها لكذلك. لقد بقيتْ تجالد في هذه الأرض لتشهد أن أجدادنا كانوا هنا.
ومضينا في الدرب نزولاً حتى أشرفنا على سهل ترتفع فيه السنابل الذهبية ملزوزةً إلى بعضها، ورؤوسها المثقَلة بأحمالها منحنية انحناءة المتعبّدين يصلّون في هيكل الربّ. فسبّحتُ الله، وأخذت أتأمّل هذا المشهد البديع في ذاك السهل المبارك. وقلت لابني: في مثل هذا السهل تبلغ حبّة القمح منتصف الطريق بين المحراث والمطحنة. غداً تأتي الآلة بنتُ الحضارة الحديثة فتحصد السنابل وتجمع الغلال. لقد تقاعدت يا ابني المناجل التي كان لها على حصباء الحقول رنّات جميلة وتحت أشعّة شمس حزيران لمعات برّاقة. الآن لم يعُد لها من دور سوى أن ترقد في ظلام الأقبية ليأكلها الضجر والصدأ.
- أليس الطبق المعلّق في بيتنا مصنوعاً من قشّ هذه السنابل؟
- بلى. إنه لكذلك. لكن هذه الصنعة - مع الأسف - ما عاد أحد من أهل القرية يجيدها. العجائز ماتوا. وأبناء اليوم لا معرفة لهم بها... ذاك الجيل، جيل الجبابرة والأيدي المباركة، لم يبقَ منه في قريتنا سوى امرأة واحدة هي أمّ مخايل، أطال الله بعمرها. لكنها ناهزت الخامسة والتسعين. ما عُرف عنها أنها ذهبت مرّة إلى طبيب. ولم تقعد يوماً عن العمل لا في البيت ولا في الحقل. لكن المسكينة اليوم هي طريحة الفراش. لا تشكو علّة، لكنها تنطفئ مثل شعلة سراج نضب من الزيت.
وكان أن حطّ عصفور على غصن شجرة غضّة يحتمي بأوراقها من شدّة القيظ؛ فصوّب ابني البندقية نحوه وأطلق النار؛ فما صدّق أن العصفور سقط ولا أنا صدّقت. ثم أكملنا الدرب نزولاً حتى بلغْنا ضفّة نهر ينحدر بين الجبال هادرًا زارعًا الحياة عن جانبَيه بساتين ترفل أشجارها بالخُضرة والنضارة. ولمّا كان العطش قد بلغ منّا مبلغاً عظيماً، انحنيتُ وعببت من تلك المياه الباردة حتى ارتويت، ومثلي فعل ابني. ثم جلسنا نلتقط أنفاسنا بعد أن أنهكنا التعب، ونتأمّل صفاء تلك المياه التي ما كانت لتبقى كذلك لولا بُعدُها عن تأثيرات الحضارة الحديثة، ونأيُها عن يد الإنسان التي ما امتدّت لشيء إلاّ أفسدته. وإننا لكذلك، التفت ابني جانباً؛ فرأى بناء قديماً تداعى بعض جدرانه الحجرية، يدخله النهر من جهة ويخرج من جهة ثانية؛ فسألني عمّا يكون هذا البناء في هذه الأرض التي لا يطأها خفّ ولا ظلف. فقلت إنه كان مطحنة يُحمَل إليها القمح على الدوابّ من البيادر لتدور فوقها حجارة الرَحى مدفوعةً بقوّة المياه، ثم تُنقَل بعد ذلك إلى القرية طحينًا يؤمّن مؤونة الفلاّحين حتى حلول الموسم الجديد.
- يا لهذه الرحلة ما أطولها وما أشقاها! فمِن بيت الفلاّح إلى الحقل في الخريف. ومن الحقل إلى البيدر في الصيف. ثم إلى المطحنة. ومنها إلى الفرن حيث تصبح خبزاً يقيت الناس.
- عن أيّ فرن تتحدّث يا ابني! قلت ضاحكًا. الصاج أو التنّور هو فرن كلّ بيت في القرية. حبّذا لو شاهدتَ جدّتك مرّة وهي تعجن الطحين في المساء، حتى إذا ما لاح الفجر وأصبح بالإمكان تمييز الخيط الأسوَد من الأبيض، كانت عند الصاج توقد النار تحته وتمدّ العجين فوقه لتسلخه بعد لحظات أرغفةً شقراء تثير الشهية! إنه بحقّ لعمل شاقّ. ولا تنسَ غربلة القمح بالغربال قبل طحنه، ونخْله بالمنخل قبل عجنه. أرأيتَ غربالاً أو منخلاً أو صاجًا من قبل؟
- لا.
وعدنا إلى البيت قبل أن يدهمنا الظلام. ثم تناولنا طعام العشاء، وجلستُ أقصّ على أولادي أحاديث الضيعة وحكاياتها لرغبة تجتاحني في الحديث عنها، ولمحاولة مني، قد تكون يائسة، في إبقائها حيّة في ذاكرة جيل لا يعرف عنها إلاّ القليل. هكذا يصبح المرء ضنيناً بما كان يؤلمه ويُبكيه عندما يبتعد عنه ويشعر أنه عمّا قريب سيفقده.
ثم أوى أولادي إلى الفراش باكراً لأن الكهرباء كانت مقطوعة، والحمد لله. فأكملتُ وزوجتي السهرة تحت شجرة الجوز في ضوء القمر المتسلّل من بين أغصانها. وبقينا نتجاذب أطراف الحديث حتى سمعنا من ناحية الكنيسة في الطرف الآخر للقرية دقّات جرس حزينة؛ فحلّ الصمت محلّ الكلام حتى جاء جار لنا وأنبأنا أن أمّ مخايل ماتت.
لقد ماتت أمّ مخايل. ورحلت آخر امرأة في القرية عاصرت الصاج وجرن الكبّة والمنخل والغربال، وشهدت في بيتها المحراث والمنجل والنورج والمحدلة. هذه الأدوات ستصبح بعد أمّ مخايل باردة صامتة منسيّة، لأن لا يد ستمسّها ولا عين ستلتفت إليها.
في الصباح الباكر ذهبنا لوداع المرأة في بيتها فكانت مسجّاة في غرفة ضيّقة بين الشموع المضاءة، وقد انعكس النور على جبينها الشاحب، فقرأتُ بين تجاعيده كلّ حكايات قريتي المحزنة والمفرحة، لكن الحكاية الأخيرة التي قرأتها كانت حزينة. ونظرتُ إلى يديها المضمومتين إلى بعضهما فوق صدرها، فرأيتُ في عروقهما اليابسة بقايا الدوالي الجافّة في الكروم المهجورة. لكن الكرْم الأخير الذي نظرتُ إليه لم أرَ أثراً للدوالي فيه.
في ما مضى شاركتُ أبناء قريتي والجوار كلّ أحزانهم، وكنت أتحدّث إلى كلّ الموجودين حولي منهم وأسألهم عن أحوالهم. لكن هذه المرّة لم أستطع رفع رأسي المنحني فوق صدري، ولا سألتُ أحداً عن حاله لأن الحاضر لم يعُد يشغل بالي كما المستقبل، ومستقبل الأيّام الآتية صرت الآن أعرفه.
كانت المقاعد حول نعش أمّ مخايل من خشب عتيق، لكن قماشها الذي هو من عمر خشبها لم يبلَ بعد، لأن المرأة غطّته بمطرّزات من شغل صنّارتها. وفي الجدار قبالتي كانت هناك طاقة تستريح فيها مكواة على الفحم ذكّرتني بمكواة أمّي، ومطحنة يدوية للبنّ أحسستُ عندما رأيتها بوخْز قبضتها في راحة يدي أيّام كنت أطحن البنّ لأمّي بواحدة مثلها. وفي الجهة المقابلة عُلّق قنديل كاز ملمّع الزجاجة. آه يا هذا القنديل كم سهرتُ وإيّاك في ليالي الدراسة قبل أن تغزو الكهرباء البيوت بمصابيحها العجيبة!
وفيما كنت أستعرض في خيالي صوَر الماضي الهاربة نحو غياهب النسيان، جاء أحد الخدم بالقهوة وأكواب الماء على صينيّة قديمة ودفع بها نحوي. لكنني شكرته ودعوت للمرأة بالرحمة فتجاوزني إلى غيري. ثم نهضتُ وخرجت إلى إبريق من الفخّار معلّق بالجدار في ظلّ الدالية. وإذ ألفيتُه بارداً والماء يرشح منه، رفعته وشربت. حقّاً إن للماء في إبريق الفخّار طعماً ألذّ.
بعد انتهاء الصلوات والترانيم، غُطّيَ النعش ورُفع ليُحمَل إلى الكنيسة؛ فاقتربتُ ودسست كتفي بين أكتاف الرجال، ومشيتُ حزين النفس منسحق الفؤاد لأنني أحسستُ أنني أحمل في هذا النعش إلى القبر آخر امرأة مكافحة من قريتي، ومعها حضارة لم يعُد لها من وجود.