متاحف في بلادي

حكايات الأعماق يكتنزها جورج العيناتي رسالة جديدة للإنسانية
إعداد: جان درك ابي ياغي

الحفاظ على نظافة وسلامة بحرنا هو جزء من إيماننا بهذا الوطن

نشأت بين جورج قسطنطين العيناتي وبين محيطات العالم علاقة حب مميزة: فخـلال رحلاتـه الى عالم الأعماق, كان دائم الحرص على خوض أدق تفاصيل حياة المحيط والإهتمام بكل ما من شأنه إنقاذ الحياة البحرية ومساعدتها على الإستمرار ونقل جمال وروعة عالم تحت الماء الى عالم أحياء البر.
مجلة “الجيش” أبحرت في منزل جورج العيناتي في كفر حزير, فغاصت في عالم الخلق والإبداع والسحر والجمال.


حكاية عشق وغرام

فور انتهائه في العام 1984 من متابعة دورات الغوص في “رابطة مدربي الغوص المحترفين العالميين”  (PADI - PROFESSIONAL ASSOCIATION OF DIVING INSTRUCTORS)  بدأ الشاعر العاشق للطبيعة رحلات غوص هدفها اكتشاف بحار العالم, بدءاً بالبحر الأحمر من جزره العذراء ومن السودان واليمن, مروراً بجدة وصولاً الى مناطقه الشمالية التي لم تشهد قدوم أي إنسان من قبله, تلك الأعماق التي يقول فيها إنه كان يتركها الى وعد لقاء جديد: “وأعيش حياتي حلماً بلقاء البحر, بتقبيل الأعماق, بضم حُنُوِ المرجان”.
بعد ما يزيد عن ألف غوصة في فردوس شعاب البحر الأحمر المرجانية, وعشرات أخرى على حطام السفن الغارقة فيه, وبعد أكثر من مئة غوصة في الليل, بنى جورج العيناتي صداقات وطيدة مع عدد كبير من مخلوقاته البريئة التي كانت دائماً تنتظر قدومه ورفقته. في هذا العالم, عالم الأعماق, الذي يضم في أرجائه السلام والحنان والجمال الى جانب صراع البقاء, والذي يتسم بالهدوء والصفاء, أمضى العيناتي أجمل ساعات حياته وشعر بسعادة لا توصف بعيداً عن هموم الحياة اليومية وما يقيدها من قشور ومظاهر خارجية مزيفة. لم يكتف العيناتي بهذا القدر, إنما تابع رحلاته المكوكية فجاب بحار العالم كالمحيط الباسيفيكي وبحيرات سالزبورغ والبراكين الخامدة, حتى التقى رفيقاً جديداً حلّ بقربه الترحال هو المحيط الهندي حيث تعرّف الى نوع جديد من طرافة الحياة: ففي مالديف راقب ولادة الجزر من الشُعَب المرجانية المتصخرة ورافق أحياء هذا المحيط, فها هي سمكة “القرش” تنتظر طعاماً يقدّم لها وتلتقطه من فم الغواص أو من يغمرها ويسبحان معاً لفترات طويلة, واذا بـ”المانتاراي” (MANTARAY) لا تخاف من ركوب غواص على ظهرها, وكذلك “الموراي إيل” (MORAI EEL) العملاق الذي أَلِفَ التقاط سمكة صغيرة من الزائر الجديد, أما أسماك التيار فتبدي حفاوة كأنها في حفلة عرس طبيعية. إلا أن هذا لا يعني أن الأحزان والنكبات ولوعة الفراق غائبة عن حياة المحيط, كما وأنه لا يخلو من وجود بعض الأسماك والأصداف السامة أو الأفاعي كأفعى المرجان التي تلدغ فقط دفاعاً عن النفس.

 

حكاية من نوع آخر

كان للخليج العربي بعد المحيط الهندي حصة من نشاطات جورج العيناتي البحرية, مراقباً مغاصات اللؤلؤ وغابات الأعشاب البحرية ومختلف فصائل الحياة البحرية السريعة التجدد, نظراً لما يحمله نهرا دجلة والفرات الى هذا الخليج من البلانكتون مع الطمي, كما أن التيار السريع الناتج عن حركة المد والجزر يساهم في نشر الغذاء في أرجاء الخليج العربي تماماً كما يساهم في نشر الطمي ودفن العديد من الأنواع, وفي هذا الصدد يقول: “دجلة والفرات يهبان الموت لأنواع الخليج القريبة بقدر ما يهبان الحياة لأحيائه المائية”. ونظراً لصغر مساحة الخليج العربي وما يأتيه من البلانكتون يومياً, تشهد الحياة البحرية فيه تجدداً رائعاً ونمواً مطرداً قلّ نظيره في بحر آخر, وهكذا تتكاثر الأعشاب البحرية التي تنمو في الشتاء لتصل الى إرتفاع يزيد عن المتر الواحد لتعوّض كميات الأوكسيجين الهائلة التي تفقد نتيجة التلوث الحاصل عند إستخراج النفط, وما تتسبب به الحياة المدنية وزحمتها. وفي أوائل الصيف تقتلع الرياح هذه الأعشاب لتبدو بوضوح مغاصات اللؤلؤ حيث تتكاثر صدفة المحار وهي من أكبر الأصداف عمراً, وقد أدّى إكتشاف اللؤلؤ في هذه الصدفة (وهو عبارة عن حبة رمل أو حصاة صغيرة تدخل الى داخل الصدفة فتنسج عليها لحماية نفسها) الى تعرّضها لـ”مجزرة جماعية” عبر التاريخ. فأصداف المحار (أم اللؤلؤ) تُجمع عن طريق الغوص وتفتح عن طريق قطع الحيوان في داخلها ثم ترمى, وهي في معظمها لا تحمل اللؤلؤ في داخلها, ويتساءل العيناتي: “أما آن للإنسان أن يدرك بأن مخلوقات البحر هي أيضاً جديرة بالحياة, وعليه أن يساعدها على العيش بسلام, فيشعر حينها بسعادة هي أثمن من كل لآلئ العالم مجتمعة؟”.

 

سفيرة الحب والسلام!

في رحلة أخرى الى بحر جديد, تعرّف العيناتي الى المرجان الأسود, هذا الحيوان المرجاني الذي يكتسب شكل شجرة كاملة المعالم وتعيش على عمق يتراوح بين الثلاثين متراً وصولاً الى ستة آلاف متر وتعمّر قروناً عديدة, هذه الشجرة يسميها جورج سفيرة الحب والسلام الى المحيط أو أميرة الأعماق. وقد أنشد لها الكثيرمن القصائد حتى أصبحت جزءاً من حياته, هو الذي أمضى ساعات طويلة تحت الماء لمساعدة أشجار المرجان الأسود للتخلص من أعدائها, خصوصاً تلك الصدفة التي تحفر في جذعها وتسبب لها الهلاك. ولم ينسَ العيناتي أن يضع على جذع كل شجرة التقاها رسالة تهيب, بمن يقدّر له أن يراها, الحفاظ عليها كشاهدة على مئات السنين من حياة المحيط.
أما ما تراه في متحفه البحري في كفرحزير فهو قسم من أشجار المرجان والأصداف التي عثر عليها ميتة إثر تعرضها لأحد حوادث المحيط. من هنا, يمكن تسمية متحف العيناتي بمتحف “تقديس الحياة البحرية”. هذه الحياة التي تتعرّض للفناء السريع حيناً والبطيء حيناً آخر في أبشع هجوم بربري, ولعل أوضح ظاهرة لموت الحياة البحرية هو ما يشهده هذا الحوض من البحر المتوسط من إنقراض الأعشاب فيه (التي بفضلها كان الأوكسيجين الذي شكّل طبقة الأوزون), الى انقراض صدفة “الميوركس” و”الإسفنج” ومئات فصائل الحياة البحرية الأخرى... ونظراً الى أن حوض البحر المتوسط هو أقل البحار عمقاً في العالم (بعد الخلجان), لهذا يسهل إنتشار التلوث في مياهه ويصعب التخلص منه. “فما تشهده منطقة سلعاتا وشكا من أضرار بيئية ناتجة عن المواد السامة العائدة لبعض الشركات والمصانع والتي تصب في أجمل شاطئ سياحي في لبنان, يتساوى مع إعتداء إسرائيل على مياهنا وما تنشره في هذا البحر”, من هنا, وجّه العيناتي رسالة بيئية دعا فيها “الى الحفاظ على نظافة وسلامة بحرنا لأنه جزء من إيماننا بهذا الوطن وجزء من إنتصار الوعي الحضاري في كل إنسان”. وتابع قائلاً: “إن الغوص في بحرنا الرائع هو غوص في أعماق حضارتنا. فإلى متى سنسمح بتشويه معالم هذه الحضارة؟ والى متى سيستمر هذا الدمار البيئي في بحرنـا وبرنــا؟ فهـل المطـلـوب أن يتحــول هذا البحر الى بحر ميت, وهذه الأرض الى أرض جرداء؟”.

 

رحلة بحرية في البرّ

عندما وصلنا كفرحزير, وهي أولى قرى الكورة على طريق الأرز, بادرنا جورج العيناتي بالسؤال عما إذا كنا قد جلبنا معنا ثياب البحر ليصحبنا في رحلة غوص على أحد ينابيع المياه العذبة في البحر (فشرح أن 50 ألف م3 منها يذهب يومياً هدراً في البحر في حين يشكو أبناء الكورة الظمأ المزمن), ولدى عدم توفر ثياب السباحة لدينا اكتفى باصطحابنا في رحلة غوص بين مجموعته الفريدة, فإذا بك تشعر وكأنك في أعماق المحيط بين مخلوقات رائعة ونادرة لكل منها سحره الخاص. فكلما أمعنت النظر إليها تروي لك ذكرى مغامرة فريدة للقائها وقصة من قصص حياة الأعماق الخالدة:
- تتصدر المجموعة عائلة صدفة قبرص (Cypraea) بأنواعها المختلفة من صدفة دجلة الى أغاس وصولاً الى البيضة, وهي أصداف تعيش في معظم بحار العالم بين شقوق الصخور أو الشُعب المرجانية.
- مجموعة المحار (أم اللؤلؤ) التي تعيش في الخلجان والأقواع المستوية, وفي المجموعة أنثى أم اللؤلؤ التي تلتصق بالصخر بخيوط كالحرير, والذكر الذي يصبح جزءاً من الصخر. وهذه المجموعة تصوّر حياة المحار وتشمل أصدافاً صغيرة حديثة التكوّن ومراحل نموّها وأنواعها المختلفة وأشكالها المتعددة من المقعرة الى المصقولة الى ما هنالك, كما تضم صدفة الصديفي ونوعاً من المحار الكبير ينمو على الأشجار المرجانية.
- مجموعة ثانية من الأصداف السامة (Textiles) التي تحوي سماً من أفتك السموم.
- مجموعة من الإسفنج البحري على إختلاف أنواعه: إسفنج الأصابع (Fingers) الذي نجا من الهلاك الذي تعرّضت له باقي أنواع الإسفنج في لبنان, الى جانب ما يسمى الإسفنج الذكر (الأسود).
- مجموعة من قشر السلحفاة البحرية.
- حديقة المرجان, وتضم مراحل نموّ تطوّر المرجان, فإلى جانب المرجان الأحمر والشُعب المرجانية تحوي نماذج لحياة مرجانية أخرى كمرجان الفنجان ومرجان الدماغ والأعواد والمراوح المرجانية.
- مجموعة اللؤلؤ الطبيعي, وتضم عدداً من الحبات النادرة من مختلف خلجان العالم, ومنها ما وجد داخل صدفة محار كبيرة ملتصقة على شجرة مرجان أسود.
- مجموعة من حصان البحر.
- المرجان الأسود على إختلاف أنواعه: الشوكي, العودي, الصنوبري, شجرة عيد الميلاد.
- صدفة الخوذة والخوذة الملكة.
- مجموعة من حطام البواخر وقطع من طائرات الكاميكازي.
- مجموعة المراوح المرجانية.
- تماثيل مصنوعة من المرجان الأحمر والأسود: تمثال الفينيق, حورية البحر, ملكة قديمة...
أما الملفت في هذه المجموعة, أن عدداً كبيراً منها ما زال على اسم منطقة المشرق العربي القديم, أي أسماء بلغة حضارتنا القديمة.
بعد هذه الجولة في “محيط” جورج العيناتي, هذا الشاعر القادم من عالم الأعماق والذي يحمل في رقته ونبله, تحدياً كبيراً للأهوال, وحكايات من عالم الحب الحافل بالمفاجآت والعشق والتجدد, عدنا الى عالم الواقع واعدين باصطحاب عدة الغوص في المرة المقبلة.

 

“حفاظاً على لبنان الأخضر”

وجّه الناشط البيئي جورج العيناتي, عبر مجلة “الجيش”, رسالة بيئية, الى قائد الجيش العماد ميشال سليمان, حيّا فيها “جنود المؤسسة العسكرية, هذه المؤسسة التي تمثل الأصالة في لبنان وعلى رأسها العماد ميشال سليمان. نحيي ما نلمس عند سيادة العماد من صدق العزيمة الماضية في إعادة لبنان الأخضر عن طريق إعطاء الأوامر لعناصر الجيش بزراعة آلاف الأشجار سنوياً, والمساهمة في إطفاء الحرائق وفي تنظيف الأحراج, وهنا لا بد من وقفة تهنئة لقيادة وعناصر الجيش على الجهد الذي بذلوه لاستصلاح وغرس 10452 شجرة في منطقة بشري, على أمل أن يعمم هذا النموذج على كل الأراضي اللبنانية للحفاظ على لبنان الأخضر”.

 

قصيدة من تحت الماء

خلال وجودنا في ضيافة الشاعر البحري جورج العيناتي, أتحفنا بسماع بعض من قصائده البحرية التي نظم أغلبها تحت الماء, نورد مقطعاً منها:
وتنام الريح ويغفو الموج
وبركان القدر الثائر ليس ينام
في هديه تختبئ الأحلام
يهدهد للريح فتغفو
يحضن عنف الموج تحدي عينيه
ينام الموج مدى عينيه
تنام الريح
صدى صوت الجبار
القادم من أعماق اليم
يحمل للبر حياة العمق
ينثرها حنين حياة وتحدي شراع
الموج له قد صار يراع
والحبر له قد صار ذراع
في صوته صوت الريح تلاشى وضاع.

 

قصة المرجان الأسود

المرجان الأسود هو شجرة تمثل التحدي بقدر ما تمثل الجمال في المحيط. هناك في الأعماق حيث تنعدم الألوان ويخفت الضوء ويجف نبض الحياة, هناك تولد شجرة المرجان الأسود وتتشبث بالصخر تشبث عاشق ولهان وتحتضن الأعماق احتضان أم لابنها, وتتابع طريقها الى صفحة المحيط للقاء الضوء. وعبر نموّها من قاع المحيط الى إرتفاع عشرة أقدام, تعمّر شجرة المرجان الأسود آلاف السنين ويأخذ الحيوان المرجاني عدة أشكال منها: المرجان الأسود الصنوبري والعودي والشوكي والمروحي وشجرة عيد الميلاد. إن قدرته على إجتذاب الضوء تمكّنه من الحياة في أعماق تصل الى ستة آلاف متر وتكسبه ألواناً زاهية في عالم انعدام النور.
يتعـرّض المرجـان الأسود لعـدة إعتداءات من صدفة تحفر في جذعه ومـن أصداف أخرى تنمو على أغصانه, كما أن له أصدقاء كثـراً لعلّ في مقدمتـهم صديـق نذر حياته تحت الماء لاكتشاف جمالها والوفاء لمساعدتها في أوقات الخطر.
أما سبـب إرتفـاع ثمن المرجـان الأسود فهو طبعاً ندرته وصعوبة الحصول عليه, عدا عمّا كان الأقدمون ينسجون حوله من القصص والأساطيـر, فهو رمز النبل والحظ عند الأوروبيـين والتسامـح عـند اليابانيـين والـثروة عند الصيـنيين.
وكل واحدة من هذه الشجرات هي سفيرة تحمل في نبلها وجمالها وقوتها الهادئة تاريخاً من حياة الأعماق.