تاريخ معاصر

حلف وارسو في مواجهة حلف شمال الأطلسي
إعداد: الرائد باسم شعبان


نظرة الى نشأته وتنظيمه وكيفية نهايته!
بعد مؤتمر يالطا في العام 1945، شهدت الخارطة الدولية، العسكرية والسياسية، إنقسامات حادة بين معسكرين؛ الأول بقيادة الولايات المتحدة الأميركية حمل إسم حلف شمال الأطلسي، والثاني بقيادة الإتحاد السوفياتي سُمي حلف وارسو. وقد نتج عن هذه الإنقسامات بداية حرب باردة بين الطرفين.

 

مناخ إيجابي
في الخامس من آذار 1953 توفي جوزف ستالين، وبدأت مرحلة جمود نسبي في مناخ الحرب الباردة، فاتّجه مسار المفاوضات إلى الإنفراج. وفي 15 آذار 1953 صرَّح السكرتير الأول للحزب الشيوعي السوفياتي جورجي مالينكوف بأنه «لا يوجد، في ما يخص علاقاتنا مع الدول جميعًا، أي موضوع يُثير النزاع، أو غير قابل للحل بالوسائل السلمية، والإتفاق المتبادل مع الدول المعنية، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية».
عقب ذلك طلبت موسكو من الولايات المتحدة الأميركية الإسراع في المفاوضات حول الهدنة الكورية، وبعد أن تخلَّت عن مطالبها الإقليمية في تركيا ومدت يد الصداقة لها ولليونان، وتبادلت السفراء مع يوغوسلافيا واليونان، هدأت لهجة موسكو مع الهند، وتقاربت مع اليابان، وأثنت على الرأي العام البريطاني، مما مهَّد لتوقيع إتفاقية فيينا في 15 أيار 1953 بين كل من: الإتحاد السوفياتي، الولايات المتحدة الأميركية، إنكلترا، وفرنسا. وقد نصَّت الإتفاقية على سحب الجيوش السوفياتية من النمسا شرط أن تُعلن الأخيرة حيادها وعدم انضمامها إلى تحالف أوروبا الغربية ولا إلى أي حلف عسكري آخر.
في هذا الوقت كانت الدول الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا، تُتابع المفاوضات حول توسيع حلف الدول الأوروبية في بروكسل والتي انتهت بإعلان حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وقد نُشِرَ في تشرين الأول 1954 في باريس ولندن، مشروع معاهدة وحدة دول أوروبا الغربية الذي يدعو لإدخال المانيا الغربية في الوحدة والسماح لها بالتسلح، مما أثار حفيظة الإتحاد السوفياتي الذي اعتبر الأمر تهديدًا للدول المحبة للسلام.
وجّه الإتحاد السوفياتي دعوات لعقد مؤتمر في موسكو بين 29 تشرين الثاني و2 كانون الأول 1954 حول الأمن الأوروبي. شملت الدعوة فرنسا وإنكلترا وإيطاليا لكنها لم تحضر، فأعلنت دول أوروبا الشرقية أنه في حال إقرار معاهدة الوحدة الغربية ستَتَّخذ إجراءات مشتركة لتنظيم قيادة قواها العسكرية وتوحيدها.

 

وارسو مقابل الأطلسي
عقب إقرار معاهدة الوحدة في 9 أيار 1955 أعلن الإتحاد السوفياتي بطلان المعاهدات التي سبق أن ارتبط بها مع كل من إنكلترا (1942) وفرنسا (1944). أعقب ذلك (بين 11 و14 أيار) عقد مؤتمر في وارسو، عاصمة بولونيا، ضم كلًا من الإتحاد السوفياتي، بولونيا، تشيكوسلوفاكيا، ألمانيا الشرقية، رومانيا، بلغاريا، ألبانيا، والمجر. أقرّ المؤتمر اتفاق تعاون بين الدول المشاركة، وتوحيد القيادة العسكرية فيها، وبذلك تشكَّل حلف وارسو في مواجهة حلف شمال الأطلسي.
التسمية الرسمية للحلف هي «حلف الصداقة والمساعدة والتعاون». وقد كان مقررًا أن يستمر لمدة 20 عامًا، على أن تُمدد هذه الفترة عشرة أعوام أخرى بموافقة الدول الأعضاء. وينص الإتفاق على تشكيل قيادة عسكرية موحدة لقوات الدول المشتركة، وعلى مرابطة وحدات سوفياتية على أراضي الدول المشتركة.
إستمر الحلف زهاء ستة وثلاثين عامًا زخرت بالأحداث والتحديات الداخلية والخارجية والنشاطات والمواقف البالغة الحساسية، التي أثارت ولا تزال، جدلًا لم ولن ينتهي بين من يدافع عنه ومن يقف ضده. فالمدافعون اعتبروه رقمًا صعبًا لم يكن بالإمكان تجاوزه إذ أنه يمنع الأحادية القطبية ويفرض توازنًا في العلاقات الدولية، إضافة الى دوره الكبير في تقليص حجم الأسلحة التقليدية والنووية، بما يضع أُطُرًا وحدودًا لسباق التسلح المجنون. أما من كانوا ضد الحلف فاعتبروه رمزًا لحقبة مظلمة من تاريخ العالم عمومًا وشرق أوروبا خصوصًا، حيث مورس في ظلّه أبشع أنواع الديكتاتوريات، وجرى قمع الحريات خلف ستار حديدي محكم الإغلاق.
في العام 1968 انسحبت ألبانيا من الحلف وأصبح عدد أعضائه سبعة مقابل 15 دولة تُشَكّل حلف شمال الأطلسي وبقاء 13 دولة محايدة في أوروبا. إقتصرت مهمات حلف وارسو على الدفاع عن المناطق الأوروبية للدول الأعضاء باستثناء المناطق السوفياتية الآسيوية، التي شكلت دول أوروبا الشرقية خط دفاع متقدم عنها.
عزز قيام حلف وارسو المعاهدات الأمنية الثنائية بين الإتحاد السوفياتي من جهة وكل من بلغاريا، تشيكوسلوفاكيا، ألمانيا الشرقية، بولندا، المجر، ورومانيا من جهة أخرى، إضافة إلى معاهدات مُماثلة عقدت بين هذه الدول. وما تقدم يعني أن الإجراءات الدفاعية الأمنية في أوروبا الشرقية لم تقم فقط على نصوص حلف وارسو، بل على شبكة متكاملة من العلاقات الثنائية المترابطة، والتي شكَّلَت ركيزة أساسية في منظومة هذا التحالف، ما جعله نظامًا سياسيًا وأمنيًا لحماية الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية.
أعطى هذا الحلف الإتحاد السوفياتي الحق بالوجود العسكري على أراضي الدول الأعضاء، مُعززًا القدرات الدفاعية لهذه الدول بمواجهة الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبا الغربية بنُظُمها الرأسمالية والديمقراطية والتي مثَّلَت تهديدًا أمنيًا جديًا لدول الحلف.

 

هيكلية الحلف
ضمت الهيكلية التنظيمية لحلف وارسو هيئة سياسية عليا، لجنة لوزراء الدفاع، و قيادة عُليا مشتركة.


• الهيئة السياسية العليا:
هي اللجنة السياسية الإستشارية التي تضم أمناء سر الأحزاب الشيوعية في الدول الأعضاء ورؤساء حكوماتهم ووزراء الخارجية والدفاع فيها. وتُعَد هذه اللَّجنة بمثابة العقل المفكر والموجه لسياسة الحلف، والموكلة بوضع الخطط التي تُسهم في تحقيق الأهداف الإستراتيجية له، وهي لا تعقد إجتماعاتها إلا في الظروف غير العادية والملحّة لحل المشكلات التي تُهدد وجود هذا التحالف.

 

• لجنة وزراء الدفاع:
تشكَّلت في العام 1969 وهي تُمثّل السلطة العسكرية العُليا في الحلف التي تتولى مسؤولية تنفيذ السياسة العسكرية، وتضم وزير الدفاع السوفياتي ووزراء دفاع الدول الأوروبية الشرقية.

 

• القيادة العليا المشتركة:
 هدفها توثيق التعاون بين القوات المتحالفة وتقوية قُدراتها الدفاعية، والتخطيط العسكري في حالة الحرب، واتخاذ القرارات في شأن انتشار القوات المتحالفة ويتفرع منها:
1- هيئة الأركان.
2- مكتب القائد العام.
3- المجلس العسكري، ويضم: القائد العام ورئيس الأركان وممثلين دائمين في قوات التحالف. وهو يُمثل الجهاز العسكري الرئيس ويتولى توزيع المهمات والواجبات وقت السلم، كما أنه الموجه الرئيس لتبادل الآراء حول القرارات المشتركة في الظروف العادية. وقد اقتصرت مناصب القائد العام ونائبه ورئيس الأركان، على الضباط السوفيات وحدهم بما يُحقق الهيمنة على التحالف.

 

سقوط جدار برلين
في العام 1989، ونتيجة لانهيار الحكومات الشيوعية في أوروبا الشرقية ووصول حكومات غير خاضعة للإتحاد السوفياتي، بدأ التحول من مناخ الحرب الباردة إلى مناخ الوفاق والإنفراج، ما ولَّد تغييرات جذرية في دول أوروبا الشرقية. وفي ردّ فعل على سنوات الكبت وخنق الحريات، تطلّعت هذه الدول بشوق إلى تحقيق المجتمع الليبرالي على نسق ما يُعرف بالديموقراطية الغربية. وفي محاولاتها لإعادة صياغة أسلوب حياتها الجديد بعد التحرر من الشيوعية، أصبحت تتوق إلى تغيير واضح لنسيج المجتمع السائد.
شكَّل سقوط جدار برلين أولى علامات التفلّت من القبضة السوفياتية، إذ أصبحت دول أوروبا الشرقية أكثر إصرارًا على إلغاء كل التنظيمات المؤسسية التي كانت تنظم شؤونها السياسية، الدفاعية، الإقتصادية، التجارية، العلمية، والثقافية...، وكان في مقدّمها، على الصعيد الإقتصادي والتجارة الخارجية، منظّمة تبادل المساعدة والتعاون المشترك «الكوميكون».
ولم يكن مستغربًا بعد ساعات من توقيع بروتوكول بودابست في 28/6/1991، الذي وضع حدًا «للكوميكون»، أن تجتمع اللجنة السياسية الإستشارية لحلف وارسو في براغ (1/7/1991) للتوقيع على بروتوكول إلغاء حلف وارسو.
ومن المفارقات أن ينتهي الحلف في الجلسة التي رأسها رئيس تشيكوسلوفاكيا، إذ كانت أولوية مساعي التشيكوسلوفاك الحصول على وثيقة من الدول الأعضاء في الحلف، الذين تدخلوا ضدها في العام 1968، يعترفون فيها صراحة بخطأ عملهم ضدها، وبالضرر الجسيم الذي لحق بها ولم يكن له مبرر، ويعتذرون عن كل ذلك.
ولم تخفِ براغ بأي حال، سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي أو الإعلامي، أن حلف وارسو الذي سبق أن حرمها نعمة الإستمتاع بربيعها في العـام 1968، قد مات هو نفسه على أرضها في قيظ صيف 1991، أي بعد 23 عامًا، وقُيِّدَت شهادة وفاته على أراضيها. يضاف إلى ذلك أن المجريين شعروا بالألم ذاته بسبب التدخل السوفياتي في بلادهم في العام 1956 لإخماد انتفاضتهم بالقوة.

 

تعليقات على إلغاء حلف وارسو
• الرئيس التشيكوسلوفاكي فاتسلاف هافيل: «من المؤكد أن قرارنا اليوم هو قرار تاريخي ... إننا بذلك نقول وداعًا لتلك الحقبة التي عانت فيها أوروبا من الإنقسام والتجزئة بفعل التعصب الإيديولوجي، لترتفع الآن أمامنا رؤية أوروبا الموحدة الديموقراطية والآمنة التي يرفرف عليها السلام. إن الشيوعية ليست الكارثة الوحيدة في عالم اليوم. وإننا إذ حطَّمنا الشيوعية، فليس معناه أن عالمنا سيصبح جنة، فالمشكلة كبيرة وعميقة، وفي الغرب الكثير من الإنقسام والإحباط وانعدام الهدف».
• الرئيس البولندي ليش فاليسا: «إنني لا أهوى حضور جنازات الموتى».
• الرئيس البلغاري غيليور غيليف: «إن الثغرات العميقة التي حدثت وتحدث باستمرار في القارة الأوروبية هي السبب الرئيسي لأفول الحقبة الشيوعية... حلف وارسو أدى دورًا مشهودًا في المعسكر الإشتراكي والنظام الشيوعي، وبانتهائه يمكن القول إن الشيوعية قد رحلت ولن تعود».
• الرئيس الروماني بيتر رومان: «حلف وارسو ظهر نتيجة للحرب الباردة وحلّه يجيء متناسبًا مع تطوّر العلاقات الجديدة».
• رئيس الوفد السوفياتي في الإجتماعات غيناردي يانيف: «إن الحلف كانت له إيجابياته وكان صاحب المبادرة في تخفيض الأسلحة التقليدية وإتلاف الأسلحة النووية القصيرة والمتوسطة المدى وإنجاز عملية نزع السلاح. وإلغاء الحلف لا يعني إنتهاء العلاقات الوثيقة التي تربط دوله بعضها ببعض، والوضع السياسي الجديد في أوروبا يتطلَّب نمطًا جديدًا من العلاقات».

 

المراجع:
• وسائل إعلام:

1- صحيفـة الهيـرالـد تـريبيـون، تـاريـخ 2/7/1991.
2- وكالـة الأنبـاء التشـيكيـة (تشـيتكـا)، حـديـث صحفـي مـع الـرئيـس التشيـكوسلوفاكـي فـاتسليـف هافيـل بتاريخ 1/7/1991.


• مـواقـع على شـبكـة الإنترنـت:
1- التكتلات الـدولية فـي اوروبا.
2- اسـتراتيجية حلف وارسو.
3- Wikimedia.org/wikipedia