استعادة الوطن

حين استفاق اللبنانيون على هدير آليات الجيش تبشرهم بانتهاء عهد الدويلات...
إعداد: ندين البلعة خيرالله

خرج مخايل إلى الشرفة راكضًا. كان كمن يريد أن ينفض عن جسده غبار سنوات طويلة، رفع نظره إلى الأعلى صارخًا: «نشكر الله راحوا، إجا الجيش». راحت زوجته ترش الأرزّ والورد مزغردة. للحظةٍ، بدا لمن رآها أنّها ترش مادة سحرية تمحو معالم الدمار الأسود وأكياس الرمل، وكل ما أفرزته الحرب من وجع وقهر...

مخايل وزوجته كانا يقطنان في منطقة المتحف. ذات يوم أواخر العام 1990، استفاقا على هدير آليات الجيش، أدركا أنّ ما سمعاه في الأخبار بات حقيقة هذه المرة.
على خطوط تماس أخرى كان المشهد نفسه يتكرّر: وحدات الجيش تعلن عبر نزع الألغام وإزالة السواتر والمظاهر المسلّحة، أنّ الصفحة طُويت، وأنّ مسيرة الأمن انطلقت، وعقارب الساعة لن تعود إلى الوراء. مشهد كان أقرب إلى الحلم منه إلى الواقع في ذلك الوقت، لكنّه أصبح واقعًا.
استردّ الجيش الوطن من براثن الحرب، فبسط سلطة الدولة على أراضيها ومرافقها واستردّ أملاكها وسيادتها، وصولًا إلى تأمين الاستقرار وانطلاق عجلة الحياة.

 

باشر فوج الهندسة في الجيش العمل على خطوط التماس التي قسّمت المناطق وجعلتها أجزاء مشلّعة. كانت حقول الألغام بالمئات، المخاطر كبيرة، وكذلك الصعوبات، خصوصًا أن لا خرائط تسهّل مهمة ما زرعه المسلّحون من ألغام وعبوات متفجرة. نُفّذت المهمة، شجاعة العسكريين وإتقانهم لعملهم عوّضا النقص الكبير في الوسائل.
تلك كانت الخطوة الأولى التي أعقبها في مطلع العام 1991 تكليف الجيش حفظ الأمن في بيروت الكبرى. قضت المهمة بـ: منع الظهور المسلّح، منع تخزين وحيازة الأسلحة الحربية والذخائر على أنواعها ومداهمة أماكن وجودها، إلغاء جميع تراخيص وإجازات نقل الأسلحة أو حملها أو اقتنائها، منع إقامة حواجز وإزالة الموجود منها، مداهمة أي مخلّ بالأمن وتوقيفه، استعادة كامل عتاد الجيش وقوى الأمن الداخلي وذخائرها وأسلحتها المغتصبة، منع الجبايات غير الشرعية وفرض الخوات وعمليات تحصيل رسوم الأمر الواقع والضرائب من المواطنين، مكافحة كل الأعمال التي تقيّد حريات المواطنين وتخرق حرمات المنازل، أو تشكّل اعتداءً على سلامة الطرقات والمواصلات والمنشآت العامة...
في 27/ 1 /1991 بدأت وحدات الجيش تنفيذ الإجراءات التي أقرّها مجلس الوزراء (جلسة 15/ 1/ 1991)، وذلك على الرغم من الحملات المغرضة التي استهدفت الجيش والتي خاضتها بعض الأطراف المتضررة من الخطة.

 

سقوط المعابر
قيادة الجيش التي أوضحت للرأي العام حقيقة الأمور، راهنت على ثقة المواطن بجيشه وإيمانه به كمؤسسةٍ حاضنة لجميع اللبنانيين. ومنذ اليوم الأول لنزول قوى الجيش إلى شوارع بيروت، سقطت فكرة «المعابر»، شعر المواطنون بالطمأنينة: انتهى عهد الدويلات ومناطق النفوذ المسلّح والتعديات والسطو...
كان الانتشار في المناطق المحيطة ببيروت امتحانًا آخر اجتازه الجيش من دون صعوبات، لينصرف إلى جمع السلاح من الميليشيات، ويتابع تنفيذ القرار القاضي ببسط سلطة الدولة على جميع الأراضي اللبنانية، وينتشر في مناطق كسروان وجبيل والبترون والكورة والشوف وعاليه، وصولًا إلى الأوّلي جنوبًا. تزامنت هذه الخطوة مع تسليم الميليشيات الأسلحة والمعدات الحربية العائدة للجيش، وإقفال المرافئ غير الشرعية وتحرير المواطنين من الجبايات غير الشرعية، وسوى ذلك من ممارسات مقيتة.
وفي 27 /2/ 1991، انتشر الجيش على مداخل مرفأ بيروت وفي محيطه، فأعاده إلى عهدة الشرعية، ومع إنشاء غرفة العمليات البحرية انتظم العمل، وسرعان ما ظهرت النتائج الإيجابية، إذ بلغت عائدات المرفأ خلال 34 يوم عمل مليارًا و600 مليون ليرة.

 

من دون نقطة دم
بحلول آذار كانت قوى الجيش قد ألغت كل الجزر الأمنية في بيروت الكبرى، فدخل الأمن الشرعي مرحّبًا به إلى كل حي وشارع ومنزل، ومن دون إراقة نقطة دم واحدة.
في 7/ 2/ 1991، بعد 15 عامًا من الانتظار، كان الجنوب كما البقاع الغربي، يحتفل بقدوم الجيش حاملًا إلى أهله الأمان. ويومًا بعد يوم، ترسّخ الاستقرار مع تعزيز وحدات الجيش لانتشارها. مع حلول فجر اليوم الأول من تموز 1991، كانت الأنظار مشدودة إلى منطقة صيدا، حيث كان الجيش في اللحظات الأولى لخطوة الانتشار في المدينة ومحيطها.
شاركت معظم الألوية في عملية الانتشار التي بدأت من جسر نهر الأوّلي. تعرّض الجيش خلال العملية للاعتداء فكان حازمًا حاسمًا في ردّه، وتابع انتشاره وصولًا إلى التمركز في مواقع مواجهة لمواقع الاحتلال الإسرائيلي في كفرفالوس. وعندما فُرض عليه القتال في شرقي صيدا، قاتل بشجاعةٍ ومناقبية، ستة آلاف جندي من مختلف الألوية والقطع نفّذوا الانتشار في منطقة صيدا في غضون ثلاثة أيام. واجهوا خلالها مسلّحين حاولوا إعاقة عملية الانتشار، واصطدموا بمجموعاتٍ مسلّحة. وفي بيصور، اصطدم فوج المغاوير بحقل ألغام عالجته سرية من فوج الهندسة.
على تلة الأشرفية كان للمسلّحين غرفة عمليات إلكترونية متطورة استعملوها لإدارة عملياتهم ضدّ الجيش. وعند تنفيذ عملية الدخول إلى قلب مدينة صيدا، تعرّضت القوى لنيران المسلحين من المخيمات الفلسطينية. على الرغم من ممارسات المسلحين، ترك الجيش طريق الانسحاب مفتوحة أمامهم تأكيدًا على أنّ الهدف من العملية هو الانتشار وليس القتال. بيد أنّ المسلّحين حاولوا تأجيج الوضع من خلال تعرّضهم لمراكز الجيش ومحاولة شنّ هجوم على مبنى نادي الضباط قرب «المية ومية» فتمّ احتواء هذا الهجوم وإفشاله.
ظهرت النتائج الإيجابية لانتشار الجيش بسرعةٍ، فمن صور إلى عكار فُتحت الطرقات، فبات المواطنون قادرين على التنقل، وشهدت الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية مزيدًا من الانفراجات، مع توطيد الأمن وبدء عودة المهجرين وعودة الخدمات العامة. تحرّكت معظم القطاعات الصناعية والتجارية والسياحية، وبدأت ردهات قاعة الوصول في مطار بيروت تعجّ بوفود السياح والعائدين إلى لبنان.

 

استحقاق الانتخابات وهدية العام 1993
الاستحقاق الأكبر في العام 1992 كان الانتخابات النيابية التي واكبها الجيش بالإجراءات الأمنية المشدّدة في كل المناطق، موفّرًا السلامة والاطمئنان للمرشحين والناخبين ومراكز الاقتراع، على الرغم من الأجواء السياسية الضاغطة التي رافقتها. تجلّت جدّية الجيش خلال العمليات الانتخابية في ضخامة القوى المشاركة في حفظ الأمن، وفي التنفيذ الدقيق الواعي والحازم للمهمات المطلوبة، فأُنجزت العملية من دون حصول أي خرق أمني.
وفي مطلع العام 1993 قدّم الجيش للوطن هدية العام الجديد، حين شنَّ حملة على أوكار مروّجين وتجار مخدرات واعتقلهم. كذلك، عدّل خط انتشاره في العاصمة بيروت مزيلًا نهائيًا عن الأرض كل ما بقي عالقًا من مرحلة «تقسيم بيروت». وتابع حملة جمع السلاح واستيعاب الميليشيات في مؤسسات الدولة، لينصرف إلى مهمات أخرى.

 

في طليعة القافلة
على تلال شرقي صيدا خاض الجيش معركة شرسة مع المسلحين استشهد خلالها النقيب ريمون الندّاف، النقيب جرجس أبو عبّود، والرقيب مصطفى حوّا، وأصيب عدد من العسكريين بجروحٍ.
وفي 25 تشرين الثاني 1991 تعرّضت دورية للجيش اللبناني على طريق اللويزة - مليخ في إقليم التفاح، لإطلاق صاروخ من مواقع العدو الإسرائيلي على تلة سجد، أدّى إلى استشهاد ثلاثة عسكريين (الرقيب أول الشهيد إبراهيم فقيه، العريف محمد القرصيني، والجندي نعيم زعرور) وإصابة اثنين بجروحٍ خطرة. أتت هذه الحادثة في إطار التعديات المتكررة التي كان يمارسها الإسرائيليون والميليشيات التابعة لهم على وحدات الجيش المكلّفة حفظ الأمن في جنوب لبنان، لإفشال انتشارها وعرقلة تنفيذ القرار 425.
وفي أثناء إحدى المداهمات التي نفّذها الجيش في العام 1993 ضدّ المجرمين والمسلّحين، اشتبك في بلدة فنيدق مع مخلّين بالأمن فنتج عن هذا الاشتباك استشهاد الرقيب أول محمد النشار والرقيب أول سمير العلي، وإصابة عدد آخر بجروحٍ.