- En
- Fr
- عربي
في كل بيت
يشكل تيار الرفض من قبل شريحــة لا بأس بهــا من أولادنا, ظاهرة ملموسة في مجتمـع التعليم. وبمعنـى أدق, تواجـه العديــد مـن الأسـر مشكلة مقلقة تتمثل في جنـوح بعض الطـلاب عن المضي في متابعة تحصيلهم الدراسي, خصوصاً, طلاب المرحلتين المتوسطة والثانوية وطلاب المرحلة الجامعية؛ بعد أن أنهوا المرحلة الإبتدائية بتفوّق وتميّز.
التعليم هو من أهم الركائز التي تعمل على ترسيخ القاعدة الإجتماعية والإرتقاء بها. والمسألة الجوهرية في هذه الظاهرة التي تسرّبت الى مجتمع المدرسة والجامعة وحجّمت حماسة الطــلاب نحو التعلّم, مردّهـا الى عوامـل نفسيـة وبيئيـة متداخلـة ومثيـرة للقلق بحيث أنها تسجّل تهديداً ولو غير مباشر لمستقبل الجيل الراشد.
نعـرف إن الجهاز التعليمي على اختلاف ضروبه وفنونه واجتهاداته معنيّ بخلق جيل صالح ومنتج, ونعرف أيضاً أهميـة الدور الذي يلعبـه في بناء المجتمعـات, ولكن الذي نجهلـه ويُقلقـنا هو الأسباب الحقيقية التي حدت بشريحة من الطلاّب الى التحوّل عن متابعة الدراسة. فالبعض نجده عاجزاً عن بلوغ مستوى الأداء المتوقّع منه منذ التحاقه بالمرحلة المتوسطة, لدرجة أنه صار يرى في المدرسة سجناً يحسب له حساباً كما السجين الذي يرى خارج القضبان حريته, والبعض من الطلاب حدث جفاء مفاجئ بينه وبين المدرسة وتولّد لديه شعور بالنفور من صروح العلم.
هذه النظرة العدائية المفاجئة تتطلّب تدخلاً سريعاً للحد من خطورة أبعادها وخلفياتها, والتدخل مطلوب من الأهل وأرباب الهيئة التعليمية على حد سواء؛ لأن مسألة الجفاء بين التلميذ والمدرسة تؤدي الى انعكاسات سلبية في مسلك الطالب وشخصيته. وهنا, تصبح المسؤولية مضاعفة في تقويم هذا التوجه السلبي من الطلاب وإيجاد الحلول المعالجة للحد من مخاطر هذه الظاهرة التي لا تقتصر على أعمار محددة أو مراحل دراسية معينة, لكنها تظهر بشكل جلّي بين طلاب المرحلتين الثانوية والجامعية.
لكـل ذلـك ولأن التعليـم مفـتاح السـلام في المجتمعـات الناجحة لا بد أن نولي هذه الظاهرة السلبية إهتماماً زائداً, ونُلقـي الضوء على الدوافـع التي تسبـبت في إنتشـارها, والحـلول التي تسـاعـد على التصـدي لها؛ وهـذا يفـرض التعـاون والمشاركة الفعّالة من قبل الجميع.
إحتياجات الطالب
يُشكّل غياب الحافز الى التعلم أبرز الدوافع الى القطيعة بين التلميذ والمدرسة وبين طلاب المرحلة الثانوية والجامعة, فللطالب احتياجاته النفسية والذهنية التي تعزّز عنده الرغبة في متابعة الدراسة حتى مراحل متقدمة. ولا شك في أن المسؤولية تقع على الأهل باعتماد مبدأ التعاون الى أقصى حد مع أولادهم وتوفير الأجواء التي تفي باحتياجاتهم المعنوية والذاتية والمادية وتدفعهم الى التعلق بالدراسة. وأيضاً تعود المسؤولية في جزء كبير منها الى أمانة وكفاءة قطاعات التعليم التي يتعين عليها إتباع سياسة تربوية تقوم على أسس ومناهج هادفة ومقرونة بالحكمة والمرونة والمبادئ التي ينتج عنها ترسيخ النظرة المثالية عند الطلاب حول دور التعليم وأهميته في الحياة الشخصية والإجتماعية.
دور التربية ومسؤولية المناهج
في الواقع نحن لا نجهل أن مسؤولية الهيئة التعليمية مسألة شائكة ولها مضاعفات نفسية وذهنية على الطلاب, ونفهم أيضاً مدى المسؤولية المترتبة على المناهج التربوية للنهوض بمستوى الطلاب, كما نعرف أنها يجب أن ترتكز على قواعد علمية متينة ومترابطة ومشوّقة تتماشى مع إحتياجات كل طالــب.
ونشير هنا, الى أن المفيد والمطلـوب هو ليس في إقــرار أهمية التعليم في التنـمية الإجتمـاعيـة, بل في كيفـية إعطـاء هـذا الدور أهمـيته وإبـرازه بالشكـل الصحيـح, وفـي توضيـح الشـروط التي تساهـم في إيصـالـه الى أكبـر درجـة من الكفايـة الإنتاجية... لذلك, يجب على المؤسسات التربوية أن تجهد للفوز بودّ طلابها, وعليه يقتضي أن توفّر أجواء إيجابية صافية لإبعاد شبح الملل من طبيعة الساعات الطويلة التي يمضيـهـا الطلاب في أرجائهـا؛ فهـذا يتولّى صقـل العلاقـة الإيجابية بين الطالب ومدرسته.. فالطـالب حين يجـد أنه فــي إطــار منـاخــــات مشوّقـة يسودها الإنسجـــام والحـوافز المشجعة يصير متجاوباً وقادراً على التكيّف والإستمرار.
تعددت الأسباب...
إن التعليم عمل تربوي هادف, وهو من الدقة بحيث أن كل مساس يطاله يشكل تهديداً ولو غير مباشر لمستقبل الجيل. ولكن هذا لا يعني, أن عبء المسؤولية في مشكلة الجفاء بين الطالب والمدرسة يقع على المؤسسة التربوية فقط, فقد يتمنّع التلميذ عن الإلتزام بمتابعة التعلّم لأسباب شخصية أو بيئية, منها مثلاً: سوء علاقته ببعض زملائه أو عدم إنسجامه مع أحد مدرسيه أو قد تكون المشكلة ذاتية مردّها الى أسباب خاصة محورها أسرته؛ وتعود الى تردي الوضع المادّي للعائلة مثلاً, وإحساسه بعجز والديه عن دفع القسط المدرسي, فيتأثر من هذا الموضوع وتتأذى معنوياته ويفقد رغبته في التواصل مع حياته المدرسية لشعوره بالذنب, حيث يرى في ضيق والديه وأزمتهم المادية ضغطاً مرهقاً هو أحد أسبابه...
وبالتالي, هناك عوامل أخرى تخلق فيه إصراراً على رفض التعلّم, والمشكلة الأكثر خطورة تكمن في المعاناة التي يعيشها طلاب الجامعات بسبب الوضع المادي المتأزم الذي يعزز مشاعر الإضطراب وعدم الإستقرار الإنفعالي لديهم. فالعجز المادي كثيراً ما يكون عائقاً يقف بين الطالب وبين تحصيله الجامعي, فقد يجد الطالب نفسه وسط جماعة من الزملاء ينفقون عن سعة, في الوقت الذي يكون هو فيه عاجزاً عن تأمين القسط الجامعي ولا يملك حتى مصروف جيبه, أو على الأقل الظهور بمظهر أنيق يلتقي مع أناقتهم؛ وأمام عجزه عن مجاراتهم يميل الى التمرّد والإعتراض... وهذا طبيعي, لأن ذلك يسبب له الضيق والحرج والخجل من حالته المادية. ولأنه قاصر مادياً وأسرته عاجزة عن تأمين وتحقيق مطالب دراسته الجامعية, تزيد حـدّة التوتـر لديـه, فيبـحث عن مجتمع آخر غير مجتمع الجامعة وأيضـاً خارج حدود أسرته, علّه يجد فيـه متنفسـاً عن طموحاته المكبوتـة. فالتعليم يفـرض عليه قيوداً وهو يرى في أسرته مصدر ضيق له, ونتيجة لهذا السبب أو ذاك يُظهـر اعتراضـه في صـور عـدّة, كالعناد والسلبية ورفض الدراسة.
وقـد تزداد حدة التوتـر لديه إلا إذا وجّـه المدرســـون نشـاطـه بإتجاه مفيد لا سلطة للمال فيه أو التباهي, كممارسة هواية هادفة, كالرياضـة, والرسم, وغيرها من الهوايات الناشطـة والمفيدة.
ويؤكد علم النفس والإجتماع أن ظاهـرة الرفــض والجفـاء التي تعـود أسبابهــا الى القصـــور والعجز المادي تظلّ لحسن الحظ قابلة للمعالجة, بشرط أن يحدث تدخل إيجابي من قبل المدرّس والأهل لحلّ هذه المعضلة واستدراكها, حتى لا يتحول “الجفاء” الى حالة عدائية مطلقة متجذرة في ذهنية الطالب.
خطوات... داخل حرم الجامعة
إن المسؤولية الملقاة على عاتق المدرّسين الجامعيين مشروطة بمجموعة معايير تخدم مصالح الطلاب وأهداف التربية.
إن ما يترتب على المدرسين هو اللوذ الى أهم الخطوات التربوية التمهيدية, ذات الإيجابيات المساعدة للطلاب, والخطوة الأولى هي في مساعدة الطلاب لاكتساب المهارات التي سوف يحتاجونها في ما بعد: الثقة بالنفس, القدرة على الإلتزام, الإرادة المنضبطة, التفاؤل, التسلّح بالتواضع, والتحلّي بالرضى والقناعة, فهذه المعايير تشجعهم على تحدّي الأزمات العارضة, إضافة الى أن هذه المكتسبات تساعد الطلاب على التكيف والتأقلم مع المواقع والمشاركة البنّاءة... قد يبدو للوهلة الأولى أن هذه الخطوة وما يليها ليست بالأمر اليسير نظراً لما تتطلبه من حكمة ووعي وجهد ولكن مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة, ومن المفروض أن يمارس كل فرد وقطاع دوره بصورة متكاملة كي ننهض بالهرم الإجتماعي نهضة ثابتة وشجاعة.
أزمة رأي وقرار
في سياق المسؤولية المترتبة على المدرّس الجامعي لجهة تعاطفه مع مشكلات الجيل الراشد, نلفت الى أن بعض الشباب الجامــــــعي, يعاني من أزمة رأي وقرار, وهذه المشكلة تكاد تكون قاسماً مشتركاً تلتقي حوله شريحة عريضة من طلاب الجامعات الذين يفرض عليهم فرضاً التخصص في مجال محدد اختير لهم قسراً, لأن الآباء يرون أنه الأنسب. فنجد أن والد هذا الطالب يُلزمه أن يتخصص في الطبّ مثلاً, بينما يميل الإبن الى التخصص في مجال القضاء, أو في حقل مهني يرى أنه كفوء له.. ناهيك عن العديد من الأمور التي لا يكون للإبن ورأيه الخاص فيها أي أهمية.. فنجده حاضراً في الفصل ولكنه شارد وعاجز عن المشاركة أو الإدلاء برأي, وهنا تظهر صعوبة دور المدرّس في أن يكون واسطة لإصلاح العلاقة بين الطالب المغلوب على أمره وبين الجامعة.. فالمفروض أن يكون هناك نمط من الإستعداد الشخصي الذي يضمن تحقيق النجاح في الحياة المقبلة, ولكن حين تشتد المعاناة النفسية يصير الفرد مشلول الإرادة ومن دون هدف واضح يسعى لتحقيقه, وهذا شيء خطير إذا ما نُظر إليه من ناحية المستوى العلمي والثقافي والإجتماعي.
والمطلوب من كلّ مدرّس أن ينظر الى المواهب الشابة والى الكفاءة الشخصية لدى كل طالب, ويعمل على تقديم الدعم الذي يساعد كل طالب على التخصص في المجال الذي يراه مناسباً لاستعداداته حتى ولو اضطر أن يُناقش الأمر مع والديه, لأن معرفة المشكلة هي نصف الحل, ومن يضع يده على الجرح يجد له الدواء الشافي.. وبالتالي إن المعاملة القائمة على الفهم النفسي هي المقياس لكل خطوة صائبة وحكيمة. ونذكّر, أن الإنسان حين يكون واثقاً مما يفعل, ومدركاً لما يُريد, يتوصّل الى إتخاذ قراراته بنفسية صافية وذهنية متوثبة وتكون فرص النجاح عنده أكبر.
مسؤولية الأهل
إن العائلة هي خلية المجتمع والبيئة الأولى التي يستقي منها النشء مفاهيمه وخبراته على اختلافها. ونظرة التلميذ الى مدرسته إيجاباً أو سلباً إنما تعود دوافعها الى المعطيات التي يتلقّاها في نطاق أسرته؛ فالتربية والتوجيه الأسري لهما تأثير مباشر على توجّه الأبناء, فإما يساعدانهم على النجاح وإما يدفعان بهم الى الفشل؛ منذ الصغر وفي مراحل الدراسة الأولى وحتى سنّ متقدمة وفي المرحلة الثانوية وصولاً الى الجامعة.. وأشد ما تمسّ الحاجة إليه في دور الأهل هو توجيه أولادهم وتشجيعهم على التعلّم, ومساعدتهم على النجاح والتقدّم.
لماذا يرفض الطالب متابعة الدراسة معبّراً عن رغبته بإصرار وعناد؟ ماذا وراء هذه الظاهرة التي توسّعت إنتشاراً خصوصاً بين طلاب المرحلة الثانوية؟ الأسئلة كثيرة, ولكن وراءها أسباب ودوافع, ومنها أن الطالب يواجه خلال كل مرحلة دراسية إنتقالية ضغوطاً إضافية وأعباء متزايدة تجعله مرتبكاً وكأنه أمام حالة معقدة, فينظر الى الواجبات المترتبة عليه نظرة ضعيفة وقلقة, ولا شك أن السبب يكمن في عدم إستعداد الطالب إستعداداً كافياً للمرحلة الجديدة بكل ما فيها من جدية ومن واجبات.. فنجد أحياناً أن البعض يلجأ الى مساعدة الأهل, والبعض ينجرف في متاهة التقاعس والإهمال, والبعض الآخر يجد في القطيعة أفضل الحلول...
وهنا يبرز دور الأهل, والمسؤولية المباشرة تقع على الأم لأن دورها يشبه الدور الذي يقوم به المدرّب الرياضي خارج الملعب.. والمطلوب من كل أم أن تقوم بتشجيع أولادها ودعم معنوياتهم, وملاحظة أخطائهم ومساعدتهم على تجنّب الوقوع بمثلها في المرات اللاحقة.. والتركيز على إعطاء الأولوية للدراسة والإنتباه أثناء شرح الدروس, والإفادة من ملاحظات الشرح.
وعلى كل أم أن تساعد أولادها على تنظيم وقتهم, لأن عدم القدرة على الإنجاز يعود أساساً الى عدم القدرة على التنظيم, فأحياناً ينسى الطالب مثلاً تسجيل ما يمليه عليه المدرّس من واجبات عليه القيام بها نتيجة الضغط الواقع عليه.. وهنا يجب على الأم أن تتحقق من أنه قد أنجز واجباته ولم يهملها.
كذلك, ينبغي أن تناقش الأم أولادها حول مستواهم الدراسي وأحوالهم في المدرسة. وتثني عليهم حين تلمس وجود أي دلائل أو مؤشرات تؤكد على نجاحهم وتفوّقهم.
وإذا كان التلميذ يشعر بالإرتباك حيال إحدى المواد فهذا يعني أنه يواجه صعوبة في الفهم والإستيعاب, وفي هذه الحالة, حريّ بالأم أن تتحدث الى مدرّس المادة التي يرفضها إبنها, لوضعه في الصورة ومشاركته في إيجاد الحل المناسب, لعلّ هذه المشاركة بين الطرفين تؤدي الى التوصل الى حل مثالي لمساعدة التلميذ على تلافي هذه المشكلة..
الزائد والناقص
من أسباب الجفاء أيضاً ما يتصل ببعض جوانب التربية الأسرية, ويشكّل الدلال الزائد أحد هذه المظاهر إذ يحجم الأبناء عن هجرة نعيم “الدلال الأسري”, الى جحيم المسؤوليات المدرسية.. فالإستجابة التامّة لرغبات الأبناء تجعـلهم إتـكاليين يعتـمدون على الغير للقيام بما يتوجب عليهم, وهو أمر يتناقض مع سياسة التحصيل المدرسي الذي يقوم أساساً على الجهد الذاتي, صحيح أن الدلال الزائد للأبناء تعبير عن الحب الخالص الذي يكنّـه الآباء لأولادهـم, وقد يكون من الإجحاف أن ننـكر عليهم هذا الحـق, غير أنـه ينبغي في المقابل أن يُدرك الآباء أن الإفراط في الـدلال يترك بصمات سلبية في نفوس الأبناء وسلوكهـم مثـله مـثل الحـرمان والإهـمال.
لكل طالب إحتياجات مختلفة ومتعددة وما من وسيلة ممكن تعميمها على جميع الحالات, خصوصاً, في زمن تزايدت فيه متطلبات الحياة. ولا ريب في أن المجتمع أي مجتمع يستعين بخبرة الأهل وحكمتهم في حلّ كل مشكلة يعيشها النشء, خاصة حين تلفّه موجة من التردد والإحباط, ولا ريب أن المهم هو أن نعرف كيف نتعاطى مع مشكلات أولادنا في إطار إيجابي يخدم مصالحهم.
ودور الأهـل لا ينحصـر في إطـار محـدد بل يتحـقق عبر سلسـلة إجتهادات متكاملـة, وأكثر الأخطـاء التي يرتكـبها الأبناء سبـبها جهـل الأهل لسياسة الدور المطـلوب منهم في تربية الأبناء وإعدادهم للمستقبل, من هـنا تبرز أهمية وجـود علاقـة مثـالية بـين الآباء والأبـناء, علاقـة لا يشوبـها أي تعثّر لأن كل تأزم في العلاقة يدفـع بالأبناء الى التمسك بقراراتهم وارتكاب الأخطاء ولو على حساب مستقبلهم. وما نريده هو أن نعرف كيف نربّي جيلاً متعلماً ناجحاً يُثبت جدارته وشخصيته بكفاءة, ويواجه نفسه ومجتمعه بصدق والتزام وأمانة.