تحولات واتجاهات

حين يخفت ضوء الشاشة الكبيرة
إعداد: نور كيروز

السينما في لبنان  بين سحر التجربة الجماعية  وتحديات المنصات الرقمية

 

لطالما شكّلت دور السينما في لبنان ملتقى لعشاق الأفلام وهواة القصص الخيالية والدرامية والرومانسية وغيرها. فمن غُرفها المغلقة والمظلمة، تنفتح على العالم بأسره، لتنقل جمهورها من زوايا القاعات إلى عوالم لا حدود لها. لكن في ظلّ الأزمات المتلاحقة، التي قابلها تطوّرٌ رقمي سريع ومنافسة المنصات الرقمية، اقتحمت الصناعة السينمائية منازل المشاهدين وأُسَرهم، منتهكة تلك العلاقة القديمة الوطيدة بين الشاشة الكبرى وجمهورها. فهل ما زالت صالات السينما قادرة على جذب المشاهدين وسط زحف التحوّل الرقمي؟

 

 

منذ أواخر العام 2019، يعيش اللبنانيون حالة غير مسبوقة من القلق والاضطراب، في ظل أزمات متلاحقة في السياسة، والصحة، والاقتصاد، أقرب إلى سيناريوهات أفلام نهاية العالم منها إلى الواقع. فقد تصدّر رغيف الخبز الأولويات، وسط أزمة محروقات، وجائحة كورونا، فانفجار مرفأ بيروت، وأزمة المصارف وتدهور الليرة. شبح هذه الأزمات جال في شوارع بيروت ومختلف المناطق اللبنانية، مقتحمًا المؤسسات كافةً، بما فيها الترفيهية، وعلى رأسها دور السينما.

 

أزمات متتالية تُرهق الصالات

يصف مدير إحدى صالات السينما اللبنانية، سركيس نوبار كاجاجيان، الوضع الراهن بالسيّئ للغاية، مشيرًا إلى تدهورٍ واضح في عدد الروّاد، فبينما «كانت هذه الدار وحدها تستقبل نحو 7000 إلى 8000 مشاهد في عطلة نهاية الأسبوع، تراجع العدد اليوم إلى أقل من 2500، علمًا أن ثمن التذكرة لا يتجاوز التسعة دولارات بعد أن كان عشرة دولارات قبل الأزمة الاقتصادية». ويضيف أنّ جائحة كورونا زادت الطين بلّة، إذ فُرض على الصالات التزام قيود صحيّة مشدّدة من بينها خفض القدرة الاستيعابية إلى ربع عدد المقاعد (من 200 إلى 55)، إضافةً إلى التعقيم المتواصل الذي يترتّب عنه تكلفة مادية إضافية، وصولًا إلى إقفال العديد من القاعات لأكثر من عام ونصف.

إلى ذلك، يشير كاجاجيان إلى تغيّر المشهد بشكلٍ جذري بعد الأزمة، إذ تراجعت الأعمال اللبنانية إلى أن أصبحت شبه غائبة عن الشاشة الكبيرة، بعد «فترة ذهبية» كانت تزخر بالإنتاج المحلي، خصوصًا في شهر رمضان الذي كان يشهد إنتاجات محلية تضم ألمع ممثلي الكوميديا اللبنانية وتستقطب جمهورًا واسعًا.

 

عقبات وتحدّيات

في هذا السياق، أسفرت الأزمات المتعددة والمتفاقمة منذ مطلع عام 2020، عن تبدّل أولويات المواطن اللبناني. فالخروج من المنزل لحضور عرض سينمائي بات مجازفةً قد تُعرّض سائق السيارة لحوادث ومغامرةٍ شبيهة بمغامرات أفلام التشويق والحركة، دون احتساب الكلفة الباهظة لهذه الزيارة، بدءًا من ارتفاع صفيحة البنزين، مرورًا برسوم موقف السيارة، وصولًا إلى ثمن تذكرة السينما وما يرافقها من مأكولات ومشروبات.

في موازاة الأزمات المذكورة، ثمّة عقبات قانونية تتعلق بالرقابة المفروضة على الأفلام، إذ يتطلب عرض أي فيلم سينمائي الحصول على ترخيص من المديرية العامة للأمن العام بعد مراجعة محتواه والتأكد من مطابقته للمعايير الأخلاقية والقانونية، ما يشكّل عائقًا إضافيًا أمام المشاهدين وصالات العرض. وهكذا، بينما يترقّب الجمهور عبر وسائل التواصل الاجتماعي إطلاق فيلم جديد، قد يُلغى عرضه في اللحظة الأخيرة إذا تبيّن تعارض مضمونه مع قوانين الرقابة. وهنا، يلجأ الجمهور إلى المنصات الإلكترونية لمشاهدته، فتغدو أريكة المنزل بديلًا آمنًا وسهلًا عن مقعد السينما المخملي.

 

منافسة شرسة من المنصات الإلكترونية

مع التطوّر الرقمي، لم تعد المنصات الرقمية مثل «نتفلكس»، «شاهد» أو «أمازون برايم» مجرد بدائل، بل باتت الخيار الأول لكثيرين. فهي تتيح للأفراد مشاهدة الأفلام في أيّ زمانٍ ومكان، عبر الهاتف الخلوي أو الحاسوب المحمول أو حتى التلفاز الذكي، من دون الحاجة لزيارة دار العرض السينمائي.

كذلك، تتميّز الأفلام الرقمية بمرونةٍ في المشاهدة لا توفرّها قاعات السينما، إذ تتيح للمشاهد إيقاف العرض مؤقتًا وإعادة مشاهدته متى شاء، فضلًا عن إمكانيّة اختيار لغة الترجمة التي تناسبه، من غير الالتزام بمواعيد محددة كما هو الحال في صالات العرض. ومن مزاياها أيضًا، قدرة المُشاهد على التنقّل بين الأفلام خلال الجلسة الواحدة، وتناول الطعام والشراب والاسترخاء في أجواء منزله أثناء المشاهدة.

عدا عن ذلك، فإنّ صالات السينما ملزمة التقيد بالأعمار عند تصنيف الأفلام (مثل 13+ و 18+ أو PG) أي تحت إشراف الوالدين. وبما أنّ الفئة العمرية اليافعة تُشكّل الشريحة الأكبر من روّاد السينما، فإن التقيّد بهذه المعايير يُفقد الصالات جزءًا كبيرًا من جمهورها لمصلحة المنصّات الإلكترونية التي لا تمتلك القدرة على منع المراهقين من الوصول إلى محتويات محظورة داخل قاعات العرض.

جمهورٌ وَفي رغم الصّعاب

على الرغم من التحديات المتعددة، ما زالت السينما تحافظ على جزء من جمهورها. وفي هذا السياق، يوضح جاجاكيان أنّ الصالة التي يديرها تقع ضمن مجمّع تجاري مزدهر، مشيرًا إلى أنّه عند إعادة تشغيل الصالات في العام 2021، شكّل روّادها ما بين 45% و55% من إجمالي زوّار المركز التجاري. ويضيف أنّ ثمّة شريحة من اللبنانيين ما زالت وفيّة للشاشة الفضية وكوب الفوشار الشهي، ولا سيّما عند عرض عمل سينمائي لبناني، سواء كان كوميديًا أو دراميًا. ويَلفت أيضًا إلى أنّ الشاشة العريضة، إلى جانب نظام الصوت المحيطي والإضاءة الخاصة، تخلق تفاعلًا حسّيًا عميقًا مع الشخصيات والأحداث، تَفتقر إليه داخل جدران المنازل وشاشات التلفاز الذكية.

 

سينما حديثة متطورة

في الخارج، باتت التجربة السينمائية أكثر انغماسًا، كما في «السينما 360 درجة» التي تحيط بالمُشاهد من كل صوب، وتمنحه شعورًا بالاندماج الكامل وبالانغماس البصري والصوتي مع شخصيات الفيلم وأحداثه، مثل VR cinema في أمستردام-هولندا، أو 360 Arromanches في فرنسا، وKrugovaya kinopanorama في روسيا. وكذلك في الولايات المتحدة، يتوافر خيار استخدام نظارات الواقع الافتراضي. فالتقنية المعتمدة ضمن هذا النوع من السينما تقوم على دمج المَشاهد الملتقطة من عدّة كاميرات لإنشاء صورة بانورامية ضخمة، مبهرة، خارجة عن حدود القاعة نفسها.

هذه التجارب الحديثة، المنتشرة في أوروبا وأميركا، تُظهر أنّ السينما ما زالت تتطوّر وتبحث عن آفاق جديدة. أما في لبنان، فالتحدّي ليس فقط في استعادة الجمهور، بل في إيجاد حلول خلاقة تواكب العصر وتحافظ على خصوصية التجربة السينمائية.

 

ماذا تفضّل؟

بين الكرسي المخملي للسينما، وأريكة المنزل الحميمة، وشاشة الواقع الافتراضي…أي تجربة تستهويك أكثر؟

تجيب السيدة كاتيا عن السؤال مؤكدة أنّ مشاهدة الفيلم في صالة السينما هي تجربة توفّر المتعة والمغامرة وهو ما لا تختبره في المنزل. أما الشاب هادي فيعتبر أنّ تجربة السينما يصعب تكرارها في المنزل من الناحية التقنية نظرًا لحجم الشاشة السينمائية وجودتها، فضلًا عن الصوت المحيطي. فيما يفضّل مارك، الفتى اليافع، مشاهدة الأفلام في صالة السينما أيضًا، إذ يجد في ذلك فرصة للخروج مع أصدقائه واختبار متعة المشاهدة الجماعية.

في المقابل تشعر ألين بحريةٍ وراحة أكثر عندما تشاهد الأفلام في المنزل، خاصة مع توافر خدمة التحكّم بالفيلم من داخل غرفة الجلوس، إلى جانب رضيعها، من دون الحاجة للخروج خاصة في فصل الشتاء. أمّا مروان،  فيستمتع بانفراده بالفيلم من داخل غرفة النوم حيث السكينة والأمان. وهو يفضل العزلة إجمالًا خاصة وأنّه بات يميل إليها أكثر منذ انتشار وباء كورونا وما رافقه من تغيير في السلوكيات الاجتماعية وحتى المهنية، إذ اعتاد العمل عن بعد والابتعاد عن التجمعات.