كلّنا للوطن

خدمة العلم تجربة فريدة في العطاء المتبادل بين الجيش والشباب
إعداد: ريما سليم ضوميط

مرّت سنوات على توقف تجربة خدمة العلم، التي تعاقب بموجبها آلاف المجندين على قطع الجيش ووحداته، فكانت محطة فريدة في حياة كل منهم، إذ تعرفوا إلى حياة مختلفة رائدها النظام والانضباط، وحظوا بفرصة بناء صداقات متينة دامت حتى ما بعد نهاية الخدمة. وفيما ترك البعض بصماتٍ واضحة داخل المؤسسة، فقد حمل معظمهم قيمًا ومبادىء ما زالت تحكم قراراتهم وتصرفاتهم حتى اليوم.
من خلال خدمة العلم، أُتيح للشبان القادمين من مختلف المناطق والانتماءات والطبقــات الانصهار في بوتقــة واحدة، واختبار مشاعر الألفة والأخوّة التي يولّدها العيش ضمن الخندق الواحد...
خدمة العلم، تجربة فريدة، تستحق التوقف عندها للتقييم والعبرة..

 

تُعتبر خدمة العلم مرتكزًا أساسيًا لسياسات الدول الوطنية ومن أهدافها خلق احتياط عسكري لمواجهة الأخطار الطارئة التي تهدد الوطن، بالإضافة الى تعزيز القدرات العسكرية بتكاليف منخفضة نسبيًا، وتعزيز الروح الوطنية من خلال التفاعل بين المجتمعَين العسكري والمدني.
صدر أول قانون لخدمة العلم في لبنان في 8 كانون الأول 1953، وبموجبه أدخلت وزارة التربية التدريب العسكري في مناهج طلاب المرحلة الثانوية، وقد استمر حتى العام 1975.
في العام 1993، أُعيد تطبيق خدمة العلم وفق المرسوم الاشتراعي رقم 102 تاريخ 16/9/1983، وتمّ إنشاء معسكرَي الوروار وعرمان لاستيعاب دفعات المجندين.

 

بين 1993 و2007
250 ألف شاب أدّوا الخدمة
استقبل معسكر الوروار الدفعة الأولى من المدعوين إلى خدمة العلم على ثلاث مراحل (في ٢ و٤ و٦ آب ١٩٩٣) بمعدل خمسمئة مجند في كل مرحلة. هناك، تابع المجندون دورة التنشئة الأساسية - القسم المشترك قبل أن يتمّ توزيعهم على القطع والوحدات، وبعدها توالت الدفعات التي بلغ مجموعها حوالى ٨٨ دفعة راوح عديد كل منها ما بين سبعة آلاف وعشرة آلاف مجند. وقد بلغ عدد الشبان الذين أدوا خدمة العلم لحين إلغائها في العام ٢٠٠٧ حوالى ٢٥٠،٠٠٠ مجند، بينهم حوالى ٥٠٠٠ ملازم مجند، وما يقارب الـ١٢٠٠٠ رتيب، علمًا أنّ حوالى ١٢٠٠٠ مجند تطوّعوا في الجيش بعد انتهاء الخدمة الإلزامية.
قُسّمت مهمة خدمة العلم الى شقَّين، الأول إعداد المجندين كمقاتلين في الجيش، والثاني تزويدهم التنشئة الوطنية. خلال المرحلة الأولى عمل المدربون على غرس روح النظام والانضباط في نفوس المجندين، بالإضافة إلى تنمية لياقتهم البدنية وتدريبهم لاكتساب المهارات العسكرية واستخدام الأسلحة في المعارك.

 

جورج خباز: في التدريب العسكري اكتشفنا قدراتنا الجسدية
لم تكن تلك المرحلة بالسهلة، كما يؤكد معظم الشبان الذين أدّوا الخدمة الإلزامية، ومن بينهم الفنان جورج خباز الذي أوضح أن «التدريب العسكري كان شاقًا للغاية، وفيه الكثير من الإرهاق الجسدي (ركض، تمارين سواعد، تمارين سير، ودروس في استخدام الأسلحة وتفكيكها وتركيبها، إلخ) ولكنّه في المقابل جعلنا نكتشف قدراتنا الجسدية ونستفيد من التمارين الرياضية لإعداد بنية جسدية قوية أسوة بالعسكريين في الخدمة الفعلية».
لم تقتصر الصعوبات في ذلك الحين على التدريب العسكري وإنما شملت أيضًا الهواجس التي كان يحملها الشبان لجهة إهدار سنة من العمر، في وقتٍ كان عدد كبير منهم بأمسّ الحاجة إلى العمل لمواجهة الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، خصوصًا وأنّ الخدمة العسكرية لم تؤمّن لهم حوافز مادية مشجعة. كما برزت حينذاك مشكلة العمر المحدّد للتأجيل الذي لم يكن مناسبًا لطلاب الدراسات العليا لا سيما في مجالي الطب والهندسة.

 

د. حرفوش: تعلّمت في سنة ما لم تعلّمني إياه الجامعات
كذلك، فإنّ الانتقال من نمط حياة مريح إلى أجواء الانضباط الكلّي والتزام التعليمات لم يكن بالأمر السهل بالنسبة إلى المجندين الجدد، لكنّه علمهم شيئًا فشيئًا تحمّل المسؤولية والاتكال على الذات. في هذا الإطار، يقول الضابط المجند السابق، الدكتور أنطوان حرفوش (أستاذ جامعي): في أثناء الدورة التدريبية، اكتسبت عادات يومية بسيطة، تعلمت من خلالها أهمية النظام والانضباط واحترام الوقت، وهي ساعدتني لاحقًا في النجاح في حياتي العملية. والواقع أنّ المؤسسة العسكرية علّمتني في سنة، ما لم تعلمني إياه جامعات فرنسا في سنوات».
خلال تنفيذ الشِقّ الثاني من المهمة والذي يشمل التنشئة الوطنية الصحيحة، سكنت معظم مخاوف المجندين، الذين بدأوا ينظرون إلى واقعهم العسكري من زاوية مختلفة. فخلال تلك الفترة، كانت عملية الدمج بين الشبان القادمين من مختلف المناطق بذهنياتٍ مختلفة وأفكارٍ مسبقة، قد بدأت تؤتي ثمارها، إذ إنّ الاختلاط في ما بينهم كان يؤدي إلى نشوء صداقاتٍ متينة تترجِم عمليًا ما يتعلمونه من دروسٍ نظرية حول التآلف مع الآخر وإلغاء الفوارق بين أبناء الوطن الواحد أيًّا كان نوعها، طبقية، مذهبية، أو حزبية... في هذا الإطار، يقول الدكتور حرفوش: «التحقت بمعسكر التدريب بذهنية خريج جامعة فرنسية، وكنت أعتقد أنّني أقرب إلى الفرنسيين في التفكير والسلوك، لأكتشف من خلال اختلاطي بزملائي المجندين القادمين من مناطق لبنانية مختلفة، أنّ من يشبهني حقًا في أفكاره وتطلعاته وأهدافه الوطنية، هو ابن طرابلس لا الفرنسي!».

 

 ... في الخدمة الفعلية
بعد انتهاء مرحلة الإعداد الجسدي والمعنوي، تمّ توزيع المجندين على قطع الجيش ووحداته. هناك، تسنّى لهم عيش الحياة العسكرية بأدقّ تفاصيلها جنبًا إلى جنب مع عسكريي الخدمة الفعلية، بدءًا من خدمة الحرس تحت أشعة الشمس الحارقة، وصولًا إلى خوض المعارك ضد الإرهاب والعدو الإسرائيلي. في هذه المرحلة، تبلورت الصورة تمامًا بالنسبة إلى المجندين، لقد تعرفوا إلى الحياة العسكرية عن كثب ولمسوا لمس اليد مدى التضحيات التي يبذلها العسكريون في سبيل الدفاع عن الوطن وأبنائه. كذلك، فقد شعروا بما يشعر به كل عسكري، وهو أنّه ورفاقه العسكريين يشكلون عائلة كبيرة أفرادها مصير واحد وهدف واحد.
حول هذا الموضوع يقول الفنان جورج خباز: عندما تكون داخل المؤسسة العسكرية، فإنّك ترى الصورة الحقيقية للعسكريين، تلك التي لا يدركها سوى من عاش بينهم. ترى صورة الشاب الذي يقدّم ذاته دفاعًا عن مبادئه. كذلك، ترى العلاقة المتينة بين الجيش والمعرفة والثقافة، وهذا ما لا يدركه الكثيرون. ويضيف: عندما تكون داخل المؤسسة العسكرية، تتعلم أن تتقبّل الآخر بصرف النظر عن انتماءاته وميوله. في الجيش، تتعلم ببساطةٍ، أن تحب الوطن من زاوية مختلفة، هي زاوية الخدمة والتضحية.
لم تمضِ أشهر الخدمة في قطع الجيش عبثًا بالنسبة إلى المجندين. إذ وظّفوا طاقاتهم في مختلف المجالات ضمن مؤسسات الدولة وأسهموا في تخفيف جزء من الأعباء الاقتصادية الملقاة على عاتق الأجهزة الحكومية. فهم على سبيل المثال، شاركوا بشكلٍ فعّال في تنفيذ البرامج الإنمائية في مختلف المناطق إلى جانب العسكريين في الخدمة الفعلية، وكان من بينها تأهيل بنى تحتية، المساعدة في عودة المهجرين إلى قراهم، تأهيل الآثار والمرافق العامة وإخماد الحرائق، بالإضافة إلى المساعدة في عمليات الإغاثة والإنقاذ، والمشاركة في نشاطات رياضية بارزة.

 

... وإنجازات فردية
بالإضافة إلى ذلك، أسهم بعض المجندين بخبرتهم الشخصية في عدّة إنجازاتٍ فردية، بدعمٍ من رؤسائهم المباشرين. يُذكر في هذا الإطار ما قام به الدكتور حرفوش من أعمالٍ بارزة على غير صعيد، من بينها إكمال عملية تأليل اللواء اللوجستي من خلال برنامج Foxpro والتي كانت قد بدأت في مرحلة سابقة بالتعاون مع خبراء أميركيين. ويوضح الدكتور حرفوش أنّ هذه الخطوة سهّلت عملية تشكيل العسكريين بين السرايا والقطع لأنّها شملت تأليل مختلف المعدات العسكرية والعتاد الشخصي. كذلك، فقد كان الجيش سباقًا في هذا المجال،لأنّه في العام 2001، لم تكن عملية التأليل منتشرة في المؤسسات الخاصة، وإنما انتشرت في السنوات اللاحقة.
كذلك، أدى الضابط المجند حرفوش دورًا مهمًا مع رفاقه في تصحيح ترسيم الحدود عند الخط الأزرق. وفي شرحه للموضوع يقول: بعد الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب، وجدت مشكلة في ترسيم الحدود سببها الفارق بين الحسابات اللبنانية والأخرى الإسرائيلية، بحسب الـGPS أعطت مجالًا للخطأ بمسافة 200 متر استغلها العدو لمصلحته. حينذاك، كُلّفت مع رفاقٍ لي بتصحيح الخطأ التقني، فقمنا بوضع لواقط هوائية وإجراء التعديلات التقنية اللازمة.
في إطار مماثل، تمكن الملازم المجند سيزار الحداد (ماجستير في هندسة الاتصالات والالكترونيك)، وبعد تشجيعٍ من رؤسائه العسكريين ورفاقه المجندين من ابتكار فواش الكتروني Aqua-Box يُستخدم في خزانات المنازل ويتيح تجنّب خطر الصدمة الكهربائية التي يمكن أن تنجم عن الفواش التقليدي.

 

زادٌ وذكريات
ما بين المهمات العسكرية والخدمات الإنمائية، مضت شهور الخدمة بسرعة بالنسبة إلى المجندين. وفي ختامها، أصبح الكثيرون ممّن كانوا ناقمين على فكرة خدمة العلم، من أشدّ المؤيدين لها والمدافعين عن البزّة العسكرية. في هذا الإطار يقول الدكتور حرفوش: «دخلت الكلية الحربية ثائرًا على إضاعة سنة من عمري في خدمة العلم، وحين انتهت هذه السنة، تقدمت بطلبٍ للالتحاق بالمؤسسة العسكرية، ولولا أطروحة الدكتوراه التي أجبرتني على مغادرة لبنان إلى فرنسا، لكنت اليوم من عداد أبناء المؤسسة العسكرية».
لدى مغادرة القطع والوحدات، لم يحمل المجندون أمتعتهم الشخصية وذكرياتهم الجميلة وحسب، بل حملوا أيضًا مما تعلموه زادًا كافيًا في الوطنية والمواطنية الصالحة. في هذا الإطار يقول الفنان جورج خباز: «أنا أنتمي إلى بيتٍ يقدّر البزّة العسكرية، وقد تربيت على الفخر بجيش بلادي. حين كنت صغيرًا، كنت وإخوتي نؤدي التحية للعسكريين الواقفين على الحواجز. وحين التحقت بخدمة العلم، دخلت المعسكر بهذه الذهنية، وما عشته خلال هذه التجربة عزّز مشاعري تجاه جيش الوطن بعد أن أدركت قيمة التضحيات التي يقدمها العسكريون». ويضيف: فضلًا عن الخبرات العسكرية والعادات المفيدة التي اكتسبتها في الجيش، فقد خرجت من هذه التجربة بأصدقاء من مختلف المناطق ما زالت تربطني بهم صداقة متينة، لم تكن لتوجد لولا خدمة العلم. ويختم الفنان اللبناني قائلًا: دخلت معسكر التجنيد فخورًا بجيش بلادي، وما زلت، لأنّ هذه المؤسسة هي الوحيدة التي لا يُستغنى عنها في الحفاظ على الوطن وتماسك أبنائه.
في إطار مماثل، يقول الدكتور حرفوش: لبنان الحقيقي هو ما اكتشفه كل مجند خلال خدمته العسكرية، هو هذا التلاحم بين أبناء الوطن وجيشه، وهذه التضحية التي لا تعرف حدودًا.

 

هل تُستعاد؟
في الرابع من شباط ٢٠٠٥، صدر القانون رقم ٦٦٥ الذي ينص على إلغاء خدمة العلم بصورةٍ نهائية بعد مرور سنتين على نشر هذا القانون في الجريدة الرسمية، وبالتالي فقد توقف تطويع شبان لخدمة العلم في العام 2007. ولكن السؤال المطروح: هل خدم التجنيد الالزامي أهدافه؟ وبماذا استفاد المجندون الذين أضاعوا عامًا من عمرهم في خدمة الوطن؟
يفيد مرجع مختص في قيادة الجيش بأنّ تجربة خدمة العلم حققت أهم أهدافها وهو الانصهار الوطني بين مختلف شرائح المجتمع اللبناني، من خلال تعزيز الروح الوطنية وإلغاء الفوارق الطبقية بين المجندين، بالإضافة إلى تغليـب فكرة الانتمـاء الوطنـي والقـومي على الانتمـاءات الطائفيـة والمذهبيـة والحزبيـة الضيقـة.
كذلك، أسهم التجنيد الإلزامي في تأمين الاحتياط للجيش، لأنّ النقص الحاصل في بعض الوحدات العسكرية والكلفة العالية لبعض الخدمات في الظروف الاقتصادية الصعبة يفرض الاستفادة من خدمات المجندين وخصوصًا الاحتياطيين في المجالات كافة، فهم يشكلون رصيدًا ماديًا ومعنويًا كبيرًا للجيش في زمنَي الحرب والسلم، والجيش بحاجة لمدعوي خدمة العلم من أجل استكمال عديد وحدات، فهو ينتشر على الحدود كافة وفي الداخل اللبناني.
ويضيف: في حال تعرّض لبنان لاعتداء خارجي، سيحتاج إلى كل وحداته القتالية في مهمة ردّ العدوان، بحيث تصبح مهمات الجبهة الداخلية بحاجةٍ لوحداتٍ عسكرية احتياطية. ففي ظل التقييدات المالية للتطويع في الجيش يمكن من خلال قانون خدمة العلم، التحكم بعديد الجيش زيادة أو نقصانًا وفق ما تقتضيه الظروف الميدانية وأعداد العسكريين المسرّحين. فالتجنيد هو بمنزلة تعاقد سنوي مؤقت لا يلزم الجيش أو المالية العامة على المدى البعيد، كما هو الحال بالنسبة إلى التطويع. فقد أظهرت حرب إسرائيل على لبنان في العام 2006 الحاجة إلى قوى كبيرة. كما أظهرت معركتا «نهر البارد» و«فجر الجرود» وجود اندفاع قوي لدى المواطنين للتطوع من أجل مساعدة الجيش في العمليات اللوجستية، ما يفرض تدريبًا عسكريًا يمكن الاستفادة منه عند الحاجة.
إلى ذلك، يوضح المرجع أنّ استمرارية خدمة العلم ضرورية لتحقيق التوازن الاجتماعي والثقافي والمناطقي ضمن الجيش، كما أنّ سنة التجنيد ليست خسارة فإيجابياتها كثيرة بالنسبة إلى المجندين والجيش على السواء.