تربية وطفولة

خذوا أسرارهم من رسوماتهم
إعداد: ماري الأشقر
اختصاصية في علم النفس

سواء كانت رسومه في نظرنا «تحفًا فنية»، أم مجرد «خربشة»، فالطفل لا يرسم ليؤدي رسالة فنية، بل يعبّر عما في نفسه، متيحًا لنا الفرصة الثمينة لاستشراف كوامنه واستكشاف معاناته. وكلما أحسنّا تفهُّم رسومات الطفل، كلما أُتيحت لنا الفرصة للدخول إلى عالمه والوقوف على مشاكله العاطفية – الانفعالية ما يمكّننا معالجتها. هذا ما يقوله علم النفس الذي يركّز على رسومات الأطفال.


عندما يقدم الطفل لنا «لوحة» رسمها ولوّنها بنفسه، فهو في الحقيقة يقدم هدية ثمينة وحقيقية، ويتيح لنا الدخول السهل إلى عالمه الخاص والكشف عن الكثير من أبعاد شخصيته، إنما يبقى علينا لكي نستحق هذه «الهدية» وننجح فعلًا في «قراءتها» واستشراف معانيها، أن نحسن فك رموزها واستخراج الاستدلالات الصائبة منها، وهذا لا يتم إلا إذا اندفعنا، نحن الكبار، إلى تفسير ما أبدعه الطفل بالاعتماد على قاموسنا الواعي والناضج. وبمعنى آخر فإنّ فهم رسوم الأطفال يتطلب مقدرة من قبل الكبار على «النزول» إلى عالم الطفل، وتفسير رموزه انطلاقًا من فهم عميق لهذا العالم الخاص، وليس بالاعتماد على «المنطق المعقد الذي يحكم تفكيرنا وفلسفاتنا الواعية للأمور». ولعل هذه النقطة الحساسة هي ما يعجز الكثيرون عن استيعابها وتأدية موجباتها، مما يجعل كتّابًا كبارًا في موضع العجز التام عن كتابة قصص مناسبة للأطفال.
حين يرسم الطفل يعبّر بالأشكال والخطوط والألوان و«الخربشات» عن حالات يحسّها ويعيشها ويعانيها ويكون عاجزًا عن التعبير عنها بالكلمات واللغة. ولا يجدر بنا أبدًا، حين نعاين ما رسمه الطفل، أن نحكّم المنطق المركّب المترابط ولا أن نستنفر ملكة النقد الفظ. وبالتالي فإنّ فهم ما يرسمه الطفل يرتكز على تفسير ما هو ظاهر في الرسم، من دون التركيز على ما هو ناقص فيه.
ولنأخذ مثلًا الطفل الذي يرسم شكل رجل بيد واحدة. إنّ القراءة المجدية لهذا الرسم لا ينبغي أن تقوم على تفسير المغزى المفترض والكامن في «اليد الناقصة»، بقدر ما ينبغي أن تقوم على ما هو ظاهر ومرئي في الرسم. أما إذا طلبنا من الطفل أن يرسم نفسه، وحصلنا منه على رسم «طفل بلا فم»، فهذا النقص يمكننا تفسيره على أنّه معاناة الطفل «صعوبة في استخدام فمه، أي صعوبة في التعبير بالكلمات». وبدلًا من أن نندفع في هذه الحالة إلى شرح أهمية الفم وضرورة إضافته إلى الرسم، فالأفضل أن نلتقط الإشارة وأن نعمل على تدريب الطفل على حسن استخدام فمه وتوسيع مقدرته على النطق والكلام. وسنلاحظ بالتكرار أنّ اندفاعنا الواعي بهذا الاتجاه، سوف يؤهل الطفل بعد حين إلى استعادة «ثقته بفمه» بحيث أنّ الرسم الذي يرسمه بعدها، سيكون محتويًا على الفم.
ولعل من المناسب أن نشجع الطفل على أن يرسم أفراد عائلته في «لوحة» واحدة. وقد نلاحظ أنّ الرسم الذي ينفّذه، ناقص، بمعنى أنّ الصغير قد يستثني أحد أفراد عائلته فلا يرسمه، وحين نسأله عنه، قد يتذرّع بأنّ الورقة لم تكفِ... هنا ينبغي علينا أن نلتقط الإشارة: فالشخص الذي اختزله الطفل في «لوحته» إنما هو الشخص الذي يجده ثقيلًا أو يجد فيه منافسًا له داخل العائلة، وغالبًا ما يكون شقيقه الصغير الذي يغار منه.


مؤشر لنمو الطفل
إذا كان رسم الطفل يتيح لنا اكتشاف كوامنه العاطفية والانفعالية، فإنّه في الوقت نفسه يساعدنا على استكشاف مقدار نموه العقلي والمهاراتي.
فالطفل في بواكير العمر يعتمد وسيلة «التلطيخ» مستخدمًا ما يقع تحت يده، سواء كان أنبوب معجون الأسنان أو قلم أحمر الشفاه أو قلم الكتابة.. بعد ذلك يدخل مرحلة «الخربشة» بالقلم والأدوات المشابهة. وفي الثالثة من عمره تقريبًا يصبح بإمكانه أن يرسم شكل دائرة غير مكتملة، وينتقل بعدها إلى رسم شكل الدائرة المقفلة وغير المنتظمة، وفي هذه المرحلة يباشر رسم الأشخاص، أي أشكال الوجوه البشرية، انطلاقًا من الشكل الدائري. وحين يلاحظ الأهل أنّ الطفل ابن الأربع سنوات لا يحسن رسم شكل الدائرة غير المقفلة، أي الخط المقوّس بشكل هلال غير منتظم، فالأجدى بهم أن يولوا الأمر المزيد من الاهتمام، لأنّ هذا التقصير يشير إلى وجود مشكلة ما على المستوى اليقيني والأدائي لدى الطفل.
مرحلة التلوين
عند محاولة قراءة «اللوحة» التي يرسمها الطفل، لا بد من الانتباه لنوعية الألوان التي يختارها. وغالبًا ما يميل الأطفال إلى استخدام الألوان النارية والصارخة، لكن هذا ليس حالة عامة ومشتركة لديهم جميعًا. فقد يميل الطفل إلى استخدام الألوان القاتمة أو الباهتة أيضًا. وهذا ينمّ عن «حالة فراغ عاطفي» يعانيها، في حين أنّ اعتماده الألوان الصارخة يُظهر ميله الانفتاحي على الحياة وعلى أفراد المجتمع الـذي يعيش فيه.
ولا بد من أخذ أمر آخر في الحسبان، فاللوحة التي يرسمها الطفل وتكثر فيها عمليات الشطب والمحو، تنمّ عن نفسية غير مستقرة، ومعاناة من مشاكل على المستوى الانفعالي- العاطفي، ويمكن استشراف الميول الانطوائية لدى الطفل مبكرًا، بمراقبة الرسوم التي ينفّذها في مطلع عمره. فإذا كان يميل إلى استخدام الألوان الهادئة والمتحفّظة (غير النارية الصارخة) فهذا دليل على ميوله الانطوائية، مما يجب إيلاؤه الاهتمام.


الهدف التربوي
إنّ دراسة رسوم الأطفال ومحاولة فهمها ليست من النشاطات التي يتوجب على الأهل ممارستها والاهتمام بها لأهداف فنية بحتة، بل إنّ الهدف الرئيسي من محاولة فهم هذه الرسوم هو هدف تربوي أساسًا. فحين نكتشف مبكرًا اضطرابًا أو «عقدة» نفسية لدى الطفل، يكون بإمكاننا حلّ المشاكل التي يعانيها، وهذه هي نقطة الاهتمام الأساسية في رسوم الأطفال. لذلك ينبغي تشجيع الطفل على الرسم، ووضع الأدوات المناسبة تحت تصرفه، فتفهّم رسومه يُعتبر الطريقة المناسبة لتفهّم شخصيته ومشاكله، كمقدمة لتوجيهه في الوجهة السليمة. ولا بأس إن تلطّخت الجدران وقطع الأثاث برسومات الطفل، فهذه سمة مشتركة لكل البيوت التي تضم أطفالًا.