رحلة في الإنسان

خفّة الظل
إعداد: غريس فرح

هل هي صفة موروثة أم تكتسب بالتدريب؟

 

لا أحد يعلم كيف يحصل الإختلاف في خطوط الشخصية بين إنسان وآخر، وخصوصاً عندما يتعلّق الأمر بالحضور ودماثة الخلق وخفة الظل، وتجاربنا الخاصة مع الغير في هذا الصدد تطرح ألف سؤال وسؤال.
فمن منّا لم يختبر الفرق في ردّات فعله أو مشاعره تجاه من يلتقيهم للمرّة الأولى؟ فمن هؤلاء من يستحوز على ارتياحنا ولهفتنا، ومنهم من لا يثير في نفوسنا سوى الضيق والنفور.
والسؤال المطروح:
هل خفّة الظل صفة خلقية موروثة، أم إتّجاه يكتسب بالإعداد والتدريب الذاتي؟
خفّة الظل، هذه الصفة الإنسانية اللاّفتة التي تميّز البعض، والتي تؤثر ايجاباً في توطيد العلاقات وتنمية روح التعاون والإنتاج، كانت محور دراسات تولاّها اختصاصيون بالعلاج النفسي، وأكدوا بنتيجتها وجود معطيات ومعايير فردية ثابتة تشكل أرضية صحيحة لنشوء الشخصية الدمثة أو الخفيفة الظل، والتي تعكس ارتياحاً في نفوس المحيطين بها. كما ربطوا بين هذه المعطيات والمشاعر الداخلية للمعنيين بهذه الشخصية، وفي مقدّمها الإرتياح الداخلي والثقة العالية بالنفس.

 

خفّة الظل والمقدرة على إضحاك الغير

أكدت نتائج دراسة أجراها إختصاصيون في جامعة مكسيكو الأميركية، على أن خفة الظل لا ترتبط قسراً بالمقدرة على إشاعة روح المرح أو إضحاك الغير، علماً أن العرف الإجتماعي الشائع يجمع عموماً بينهما.
فخفة الظل، كما تؤكد الأبحاث والتحاليل النفسية هي طاقة داخلية كامنة تنبع من معايير مختلفة ومتشابكة تمنح أصحابها وجوداً مميزاً وقوة تأثير إيجابية في محيطهم الإجتماعي، وذلك بأشكال نسبية وفق الأنماط الفكرية والتقاليد الشائعة في هذا المحيط. وهنا تشير الدراسة إلى أن الفرق بين خفّة الظل والمقدرة على الإضحاك هي أن الثانية تندرج عموماً وليس تحديداً، في إطار الشخصية المنطوية على خبث مبطّن، يدفع أصحابها الى استقطاب الأنظار عن طريق تسليط الضوء على أخطاء الغير لإثارة السخرية. وهؤلاء كما ثبت يفتقرون الى دماثة الخلق وخفة الظل المطلوبة لإشاعة روح الطمأنينة واستقطاب التعاطف. وهذا يعني أنهم يفتقرون بعمق الى الهدوء الداخلي، ويعوّضون عنه بتقمص الشخصية الساخرة.

 

ما هي معايير خفة الظل؟

كما سبق وذكرنا، ترتبط خفّة الظل بالارتياح الداخلي والانسجام التام مع النفس، الأمر الذي يميّز المتصفين بها بالحضور الواثق ولباقة التعبير وقوة التأثير إضافة إلى الروح القيادية، أما بالنسبة الى كيفية توطّد هذه المعايير في الذات، فالأجوبة كثيرة ومتشعبة.
لقد تناول العلم الحديث خصائص هذه الشخصية في محاولة لتعميم مواصفاتها والإفادة منها على المستوى الفردي والجماعي. ومن هذا المنطلق، قسّم المتميّزين بها الى فئات تجمع في ما بينها خلفيات بيولوجية وقواعد تربوية تغذيها الظروف والبيئة الإجتماعية.
ومن هنا الإختلاف الذي ينشأ على مستوى قوة التأثير لدى الأفراد بين بيئة وأخرى، ويربط التأثير الشخصي بالبيئة الإجتماعية.
فلكل بيئة اتجاهات معينة تنبع من العادات والتقاليد والاعتقادات وطرق العيش، وتتحوّل مع الوقت الى معايير ثابتة تبعث بإيحاءاتها الى الناشئين في إطارها، وهذا يجعل المتّسمين بأعلى نسبة من هذه المعايير، أكثر المقبولين أو المؤثرين في مجتمعهم، علماً أنهم قد يرفضون في مجتمع آخر.
إلى ذلك، فهنالك المؤشرات البيولوجية المدعومة بظروف التربية التي تمنح الأشخاص المعنيين الهدوء والسيطرة على النفس والبساطة المؤثرة التي تبث الإرتياح وتأسر القلوب وتجعل من الحضور متعة. أما بالنسبة الى كيفية ترسّخ هذه المعايير وتبلورها عند البعض، فيعود الى الاستعداد الفردي والى إدراك أبعاد ايجابيات العلاقات الإجتماعية الناجحة، إضافة الى الرغبة بالاستئثار بالتعاطف والحب.

 

كيف نكتسب هذه المعايير؟

باعتبار أن خفّة الظل المرتبطة بقوة التأثير واجتذاب التعاطف الإجتماعي ترتوي من المعايير المذكورة آنفاً، والتي تشكل طاقة بشرية كامنة، وباعتبار أن الإنسجام التام مع النفس، أو السلام الداخلي يشكل الأرضية الثابتة لمجمل هذه المعايير، يصبح من الممكن إتباع منهج سلوكي يعتمد على الاقتناع الذاتي بضرورة إكتساب شخصية محبّبة، ومن ثمّ تطبيق أساليب حياتية مبرمجة لتبديل القناعات القديمة المكتسبة، وإحداث التغيير المطلوب بالطرق الآتية:
- إعادة تقييم الذات لمعرفة نسبة تقبّل الغير لوجودنا في المجتمع ودرجة تأقلمنا مع أجوائه.
- في حال الشعور بوجود هوة تفصلنا عن الآخرين، علينا العودة الى دراسة مراحل نمو الشخصية للتعرّف الى الأخطار المؤثرة من نمو العلاقات الخارجية، والعمل على تعديلها، وخصوصاً لجهة الالتزام باللياقة والعادات والمعتقدات الحسّاسة.
- تقييم إنعكاسات المشاعر الداخلية على تعابير الوجه وردات الفعل الآلية تجاه الأحداث الطارئة مع المحاولة الدؤوبة لإكتساب الهدوء النفسي وإجراء المصالحة مع الذات، وهذا يتم بالمصالحة مع أخطاء الماضي وإعادة تطوير المعارف والمهارات لإكتساب الثقة، وإبعاد شبح الشعور بالنقص وانعكاساته غير المحببة.
- المصالحة مع الذات، وإقصاء الشعور بالنقص يؤديان الى دحر الخوف الدائم من الفشل وبالتالي إلى شعور دائم بالإطمئنان بعيداً عن عذاب الشك بالغير والخوف من أذيته، الأمر الذي يمهّد لثقة متبادلة.
- العودة الى الواقع بالتخفيف من حدة خطوط الشخصية المثالية الهدّامة.
- الحرص على إكتساب البساطة والتعامل مع الغير بالطريقة نفسها التي نتمنى أن نُعامل بها من قبله.
- الإبتعاد قدر الإمكان عن الغرور، مع تجنّب الوقوع في خطأ انتقاد الغير بهدف البروز.