قصة قصيرة

خلف المتراس
إعداد: العميد الركن إميل منذر


إنها ليلة الإثنين.
وفي مثل هذه الليلة كان على فادي أن يستقرّ أمام المدفأة يصطلي نارَها، ويفتح كتابه فيراجع دروسه استعدادًا ليوم دراسيّ جديد. لكنه في تلك الليلة الباردة من ليالي كانون لم يكن في بيته، هذا الذي فتحتْ إحدى القذائف، في آخر جولة قتال، شبّاكًا جديدًا في جدرانه العتيقة، وأسقطتْ أخرى جانبًا من شرفته؛ فبدتْ فيها قضبانُ الحديد الصدئة كالعروق الجافّة في ظاهر اليد المهزولة. لا، ولم يكن فادي قرب النار وفي يده كتابه.
ولماذا الكتاب! فالتكميلية الرسمية، الواقعة على خطّ التماس، موصَدَة الأبواب. أو بالأحرى، لم يعُد لها من أبواب لتوصد. ولون المراويل الأزرق قد اختفى من الصفوف والملاعب، ليحلّ محلّه الأسوَد الذي خلّفتْه النار فوق كلّ باب ونافذة. فادي كان، في تلك الليلة، خلف أكياس الرمل، وفي يده بندقية رشّاشة من نوع «كلاشينكوف».
هذه «اللعبة» كانت كبيرة عليه. عمره لم يتجاوز الحادية عشرة بعد. لكنه دخل لعبة الكبار مضطرًّا. ألم يقل الشاعر:
إذا لم يكنْ غيرُ الأسنّةِ مركبًا       فليسَ على المضطرِّ إلا ركوبُها!
فأبوه يعمل حتى يكسب ثمن زجاجة الخمر، وعلبة السجائر لخليلته. ولمّا كان فادي أكبر الأولاد، كان عليه أن يهجر المدرسة باكرًا، ويعمل ليأتي برغيف الخبز لأخوته؛ فعملَ وهو بعمر الرياحين في كاراج ميكانيك سيّارات، ثم في محلّ تلحيم إطارات. إلا أنّ أجره كان زهيدًا والأفواه من حوله كثيرة؛ لذلك قَبِلَ أن يعمل في ما يدرّ عليه أكثر ويستطيع أن يردّ غائلة الجوع عن أخوته.
يومَ أعطوه البندقية، علّموه كيف يضع الخرطوش في الممشط، ويلقّم، ويسدّد، ويضغط على الزناد، و... يقتل. زرعوا في قلبه الصغير العداء لكلّ ما هو حيّ يتنفّس في الجهة المقابلة من شارع سوريا الذي لا يتجاوز عرضه عشرة أمتار. وقالوا له إن الحياة الكريمة هي التي تُنتزَع من بين مخالب الموت. لكنه لم يفهم كثيرًا. كلّ ما فهمه هو أنه، كلّما قتلَ واحدًا من الذين يريدون قتله، زادت فرصته في الحياة قليلًا.
عقارب الساعة تشير الآن إلى ما بعد منتصف الليل بقليل. البرد في عاصمة الشمال قارس يخرق العظام. نهض فادي، وراح يمشي في مكانه نافخًا في كفَّيه. وإذ لمعَ سلاحه في ضوء القمر وقد انقشعتْ عنه الغيوم، رمى بنفسه إلى الأرض خلف المتراس بلمح البصر. لقد تذكّر وصيّة «قائد المحور». وهذه الوصية لا بدّ من احترامها للبقاء على قيد الحياة. أما صبْغ الوجه بالأسوَد، فلم يكن لفادي حاجة به، فالزيوت والشحوم والإطارات التي يعمل فيها وبينها، كفيلة بذلك.
المحور في قاموس حرب لبنان ليس اتّجاهًا عامًّا عرضه بضعة عشر كيلومترًا. إنه «زاروب» ضيّق قد لا يتّسع لمرور سيّارة. وقائده لا يأتمر فيلق من الجنود بأمره. لكن بضعة حَمَلَة سلاح معوَزِين. وخلف قادة الزواريب «رجال أعمال» يقبضون الأموال والأرواح، وينامون على أسرّة ناعمة، ويضبطون ساعاتهم على مواعيد جولات جديدة.
في ليلة البرد والخوف والجوع هذه، حضنَ فادي سلاحه كما كانت أمّه تحضنه. أمّه كانت تهمس في أذنه كلمات دافئة تزيّن له المستقبل، وتحيي في نفسه الأمل. أما هذه البندقية القاتلة فما عساه يقول لها! وأيّ أمل سيزهر له بين زنادها وفوهتها! في تلك اللحظة بكى فادي مثلما بكى منذ أربع سنوات عندما رأى أباه يضرب أمّه، ويطرها من البيت في ليلة اشتدّت فيها العاصفة واسْتَعَرَت نار الحرب. حتى إذا ما طلع الفجر، وجدوها في الطريق جثّة هامدة مضرّجة بالدم.
سكون مخيف يلفّ المكان. بإمكان فادي في مكمنه أن يسمع سعال أخيه الصغير المريض من غرفة النوم المطلّة على الشارع، وأن يسمع أيضًا وقْعَ أقدام غير منتظم، وغناءً غير مفهوم أخذ يعلو شيئًا فشيئًا. إذ ذاك أرهف فادي السمع، وأمعن النظر ليتبيّن القادمَ نحوه. إنه أبوه عائدًا إلى البيت سكرانَ مترنّح الخطى. في هذه اللحظة تمنّى فادي لو كانت له الشجاعة الكافية ليسدّد بندقيّته نحو أبيه، ويُفرغ في صدره ثلاثين طلقة دفعة واحدة. لكنّ يده لم تطاوعه. وكيف، وقد برّدت دموعُه نارَ غضبه!
رويدًا رويدًا أخذت السحابة السوداء، التي انتظرت فوق البحر طويلًا، تزحف باتّجاه الشرق. حتى إذا انقضت ساعة من الزمن، حَلِكَ الظلامُ وأطْبَق. ثم ما لبث البرق أن لمع لمعانًا شديدًا شاقًّا حجاب الليل؛ فبدا لفادي ما يشبه مقاتلًا عند زاوية متراس في الجهة المقابلة من الشارع. «لا. لا يمكن أن يكون هو». قال فادي في قرارة نفسه. ثم لمع البرق ثانيةً، فظهر الوجه أوضح. «بلى. إنه هو». ردّد فادي. ثم رفع رأسه فوق أكياس الرمل، وهتف: حارث. فلم يلقَ جوابًا. ولمّا نادى بصوت أعلى، سمع قائلًا يقول: مَن؟ مَن أنت؟ عقبَ ذلك تلقيمُ سلاح.


- أنا... أنا فادي. ألستَ حارثًا؟
- فادي!
- أجل. ألم تتبيّن صوتي؟
- فادي بن...
- إبن هدى. أجاب منتسبًا إلى أمّه لأنه لم يستطع التلفّظ باسم أبيه.
- رفيقي في الصفّ الرابع!
- أما زلتَ تذكر يوم تخرّجنا؟ قال فادي ضاحكًا؛ فأضحك حارثًا.
- ماذا تفعل هناك؟
- أقوم بنوبة حراسة. وأنت؟
- أحرس مثلك، و... أموت من النعاس والبرد.
- حتّامَ نوبتك؟
- الثالثة فجرًا.
- وأنا كذلك. أتريد أن آتي إليك فنسهر معًا؟
- وكيف تعرف أنني لن أطلق النار عليك؟
- الدم لا ينقلب ماءً يا حارثًا. أنت جاري ورفيقي مذ تفتّحت أعيننا على نور الحياة في هذا الحيّ. لهذا السبب لن تقتلني.
هذه الكلمات جعلت حارسًا يخفض سلاحه، ويطأطئ رأسه. لا، هو لم ينسَ، أيّام كان مريضًا، مجيء فادي إليه كلّ مساء ليعيد عليه ما علق في ذهنه من الشرح في الصفّ. ولا نسيَ أنه وفاديًا كانا يتقاسمان رغيف الخبز في البساتين التي عملا في قطف ثمارها صيفًا لتأمين ثمن الكتاب والدفتر. فادي رفيقه الذي طالما نام على وسادته، واستودعه أسراره، وحمل معه همومه. فهل يقتله الآن لأنه يقف خلف المتراس قبالته!
- أما زلتَ هناك! لمَ لمْ تجئ بعد! نادى حارث بصوت يشبه البكاء.
- ها أنذا. قال فادي، ومشى صوب حارث. وعندما وصل إليه، عانقه، وبكى فوق كتفه مثله.
- إنّ يديك لباردتان جدًّا. قال فادي.
- ما كان أغناني عن هذا العمل البشع الذي أقوم به وأنا مريض، لولا حاجتي إلى بعض المال أشتري به الدواء لأبي.
وبعدما أطلق حارث زفرةً حَرّى، تابع يقول: أُصيب أبي، في آخر جولة قتال، برصاصة قنّاص لعين وهو عائد من العمل، وما زال طريح الفراش حتى اليوم. أأترك والديَّ وأخوتي يجوعون!... إني أحمل السلاح، وأقوم بالحراسة ما داموا يدفعون لي ما يشتري لنا رغيف الخبز وحبّة الدواء.
- وماذا لو اندلع القتال وبدأ إطلاق الرصاص؟
- ساعتئذٍ لا أعرف ماذا أفعل. قد أقتل نفسي قبل أن أطلق رصاصة واحدة على جيراني وأهل مدينتي.
- إنك ترتجف بردًا. قال فادي وهو يخلع سترته ويُلبسها حارثًا.
- أفكّر في إشعال نار... يكاد دمي أن يتجمّد.
- ألم يعلّموك أنّ إشعال النار ممنوع على الخفير في أثناء نوبة الحرس!
- ليذهبوا وتعاليمهم وتعليماتهم إلى الجحيم.
- إلى الجحيم وبئسَ المصير... إنتبهْ لبندقيّتي. سأعود بعد قليل.
وترك فادي بندقيّته في عهدة حارث، وقصد المدرسة القريبة، وعاد بمقعد مكسور قطّع أخشابه، وجمعها فوق بعضها، وأعمَلَ فيها النارَ، وبسط وحارثًا أيديهما فوقها حتى دبّ الدفء في عروق جسديهما.
- أمعك شيء يؤكَل؟ إني أتضوّر جوعًا. قال حارث.
- لديّ رغيف وقليل من الزيتون... طعام فقراء. قال فادي، وأخرج كيسًا من جيب سرواله، وفتحه، وبسطه على الأرض بينه وبين حارث؛ فأخذ الأخير لقمة ودسّها في فمه: «وأنت؟ ألا تأكل؟».
- لا شهيّة لي لأن الحزن يملأ قلبي.
- ممَّ؟ سأل حارث مهتمًّا وقد توقّف عن مضغ لقمته.
- لقد أضعتُ ممشطًا مليئًا بالخرطوش. كيف أضعته، أين؟ لا أعلم. ومتى عرف قائد المحور بالأمر، عاقبني، وغرّمني الثمن.
- لا تغتمّ. خذْ هذا بدلًا منه.
ومدّ حارث يده بالممشط قبل أن يمدّ فادي يده بتردّد: «وأنت، ألا يعاقبونك إذا اكتشفوا أمرك!».
- قائد المحور قريبي، ولن ينالني منه أذى.
وبعدما أتيا على الرغيف، أحبّ فادي أن يلقي نظرة على سلاح حارث؛ فدفعه الأخير إليه. وعندما تناوله فادي، ظنّ أنه غير ملقّم. ضغط على الزناد، انطلق منه رشق ناريّ في الفضاء. وللحال اشتعلت الجبهة. وأكثرُ ما انهمر الرصاص، فعلى مصدر الرشق الأوّل حيث ألسنة النار لم تخمد بعد. وكان أن أصيب حارث إصابة بالغة في صدره؛ فسقط على الأرض مغتسلًا بدمه.
- يا ألله! لتساعدْنا يا ربّ. صرخ فادي، وانحنى فوق رفيقه محاولًا أن يتبيّن مكان الإصابة.
- فادي... لا تتركني، أرجوك.
- أنا هنا. معك... يا إلهي ماذا أفعل؟
- صدري يحترق... أنا أموت يا فادي... أموت.
- لا تقُلْ مثل هذا الكلام... تشجّعْ، وابقَ حيًّا، أرجوك. قال وبكى.
- أتركْني، وانجُ بنفسك.
- لا، لن أدعك تموت. سأحملك إلى مكان آمن حيث تلقى العناية اللازمة.
هكذا قال فادي، وانحنى إلى الأرض، ورفع حارثًا فوق كتفه، ثم نهض به وهمَّ مبتعدًا إلى الخلف. لكنْ ما خطا خطوتَين، حتى أُطلق باتّجاهه رشق ناريّ؛ فأصابته رصاصتان في ظهره وكتفه. «آه»! زَحَرَ فادي وهو يخرّ على ركبتَيه لا حول له ولا قوّة.
- هل أصابوك؟ سأل حارث قلقًا.
- لا بأس. هلمّ نزحف معًا إلى ما وراء البناء.
لكن فادي لم يستطع الزحف، ولا حارث استطاع. ساعتئذٍ شبكا أيديهما، وشدّ كلّ منهما رفيقَه نحوه، ولبثا ينتظران قضاء الله وقدَره.
في تلك اللحظة ذكر فادي أمّه، وتمنّى أن يلاقي وجهها بعدما يسلّم اللهَ أمانته. ثم نظر ناحية بيته، وطلب المغفرة من أخوته لأنه لن يستطيع أن يأتيهم هذا الصباح بالخبز والكعك والحليب كما كلّ صباح. وعندما نفذت أشعّة الشمس من بين الغيوم، وخرج الناس يتفقّدون متاجرهم، وجدوا طفلَين منطرحَين على التراب متعانقين، لكنهما كانا جثّتين باردتين لا حياة فيهما.